يبدو أننا صرنا نتكلم لغتين، ونصوغ خطابين، ونرقص بالتالي على حبلين..
الحديث تحديداً عن ما يمكن ان يعرف بسياسات نفي المشكلات في الوعي العام، عبر تعمية المشكلات، او التهوين منها، او التقليل من شأنها، او عدم الاعتراف بوجودها أصلاً، الأمر الذي يؤدي الى استمرارها وتفاقمها، ويمكن ان نسترسل في ضرب عشرات الأمثلة، في كل مجال وميدان.
نتوقف تحديداً هذه المرة عند أمرين، الاول عند كل الكلام الجميل المكرر والشعارات المنمقة التي بتنا نحفظها عن ظهر قلب حول متانة الوضع الاقتصادي وبيئة الاعمال الميسرة، والإجراءات المحفزة للمستثمرين، والأمر الثاني حول حالة الترقب والقلق التي تنتاب المواطن جراء ما هو منتظر من اجراءات تقشفية، ونتمعن بعد ذلك فيما يربط بين هذا الأمر وذاك..
فيما يخص الأمر الاول، لغة وخطاب مسؤولين كثر، إن لم يكن كل المسؤولين، فانهم لا ينفكون بمناسبة ومن دون مناسبة من ترديد الكلام عن اقتصادنا المتين، وبيئة الاعمال المحفزة، ومناخ الاستثمار الجاذب، والإجراءات الهادفة لتعزيز ثقة المستثمرين، وكيف اننا أصبحنا من اكثر البيئات جذبا للاستثمار فى المنطقة فى ظل توافر البيئة القانونية المتطورة المتسمة بالوضوح والبعد عن التعقيد، ووجود نظام قضائي يتسم بسرعة البت في المنازعات.
هذا الفريق من المسؤولين وجدناهم أيضا يتحدثون عن القطاع الخاص كما لو انه يعمل في بيئة عمل مثالية، تخلو من الشوائب، ويؤكدون على تشجيع القطاع الخاص، وإزالة العقبات التي قد تواجهه، ويذهبون الى تأكيد الشراكة بين الحكومة وهذا القطاع، من زاوية الإدراك بصلاحية هذه الشراكة وتأثيراتها على الوضع الاقتصادي والتنمية، وغير لك من الكلام الطيب والشعارات التي لسنا في وارد استعادتها بل التذكير بها، لعل الذكرى تنفع المؤمنين..!!
ولكن، قبال هذه اللغة، وهذا الخطاب، لا نستشعر نحن المواطنين العاديين بان كثيراً مما هو متداول، مما سمعناه وقرأناه في سياق تلك اللغة، وذاك الخطاب، له صلة بالواقع، يكفي تلك التصريحات التي نشرت في الآونة الأخيرة في صحافتنا المحلية والتي توالت على ألسنة بعض من كبار رجال الاعمال والمستثمرين، والتي لم تصدر الجهات الرسمية المعنية توضيحاً او تصحيحاً او نفياً حيال ما تضمنته، وإنما التزمت الصمت وكأنها لم تقرأ ولم تسمع رغم ان ثمة إشارات الى بيروقراطية، بل والى انحرافات، وكل ما لا يجب ان يمر مرور الكرام..!!
عندما يظهر مستثمر من المملكة العربية السعودية ليكشف على الملأ وبالتفاصيل عن مضايقات وعقبات وقيود بالجملة وهو في منتصف طريق مزاولته مشروع مركز صحي ومن مختلف مؤسسات الدولة المعنية بتقديم كل التسهيلات الضرورية للمستثمرين، ويحذر من مغبة صرف أنظار المستثمرين عن توجيه أموالهم الى الأسواق البحرينية جراء إعاقات مفتعلة، وعندما ظهر رجل اعمال بحريني محذراً من ان القطاع الخاص البحريني لا يتحمل تزايد الضغوط عليه، ويلفت الانتباه الى ان صغار التجار منهكون، وان المؤسسات الصغيرة تمر بظروف صعبة وقاسية، وحين يكشف رئيس لجنة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة عن إغلاق كثير من هذه الشركات في هذا العام، ويتوقع المزيد من تصفية هذه النوعية من الشركات في العام المقبل الذي يطل علينا بعد ايام، وعندما يعلن رئيس جمعية البحرين لتنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بان مركز المتعثرين التابع للجمعية تلقى اتصالات بإغلاق 700 شركة، وعندما يطالب مستثمر بحريني بتقليل القيود على الاستثمارات ويحذر من إفلاس وموت الكثير من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ويبدي استياءً من زيادة عبء البيروقراطية الحكومية، وهذا بحسب المستثمر البحريني يجعل المستثمرين في حالة حذر وترقب وإحجام، وعندما يتحدث تجار ومستثمرون ومحامون عن قضايا منازعات معطلة في المحاكم منذ سنوات، وذلك كله وغيره موثق ومنشور لم ترد عليه اي جهة رسمية معنية بأي شكل من الأشكال، فان ذلك يعني بان ثمة خلل قائم وان هناك ما يستوجب التوقف والمراجعة وقياس الفاعلية والمحاسبة وعقاب المقصرين واعادة النظر في الكثير من الأمور..
أستطيع ان أتخيل كم التساؤلات وعلامات التعجب التي تطرح تباعاً والتي احسب انها تعبر في أدنى التوصيفات عن قلق ودهشة إزاء هذا الذي يقال بالمقارنة مع هذا الذي يلمس على ارض الواقع، واذا كنا لا نجد غضاضة في ان يكون لأي مسؤول، او ان تكون لأي جهة من جهات القرار حساباتها في التعامل مع اي شأن او ملف، ولكن يحق لنا ولغيرنا التساؤل عن طبيعة المعايير التي تقوم عليها تلك الحسابات والاجتهادات، وما اتخذ من اجراءات وقرارات، وما لم يتخذ، وهل الأطراف المعنية قد أدت دورها من دون تقييم او تقويم او مساءلة او شفافية حتى وإن كانت مثيرة لشيء من الإرباك او البلبلة والمراوحة، وان كل ما علينا ان نظل نمارس تفخيم الذات ونداوم على التغني بالإنجازات، ولا نقول اكثر من ذلك..!!
الأمر الثاني لعله يكمل الصورة، كل ما علينا فقط إلا ان نتابع هذه الأيام تصريحات وزراء ومسؤولين تفاقم من حالة من القلق التي يعيشها المواطن، هذا القلق الذي لا يتوقف إلا ليبدأ من جديد، فهم يتحدثون تارة بلغة خلاصتها بان وضع المواطن لن يمس، وان حاله سيكون على خير ما يرام، وتارة يتحدثون بلغة تبشره بضرائب ورسوم وتقشف ودمج وتسريحات، ووجدنا أطرافاً رسمية تتفنن في البحث عن مشاريع رسوم جديدة تفرض على الناس، تجاراً ومواطنين، فقد قرأنا عن رسوم تبحث او ستفرض على رسوم الترخيص للبائع الجائل، ورسوماً لخدمات الصرف الصحي، حتى أكياس القمامة المفروضة من البلدية والتي تحتسب جبراً ضمن فاتورة الكهرباء والماء ستتضاعف قيمتها، ناهيك عن رسوم اخرى ينظر في أمرها وهذا أمر لم يعد بحاجة الى شرح او إثبات..!!
يبقى ان نقول، اذا كانت الطموحات العالية مشكلة، فان الإحباطات الشديدة مشكلة اكبر، ولم يعد من المصلحة في هذا الوقت، وهذا الظرف بالذات، ان نظل نمارس تمويه المشكلات، والمشهد برمته يوضح الى اي مدى نحن بحاجة الى إعادة النظر في كافة أمورنا ومشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية، ولابد من الاعتراف بهذه المشكلات وتحديدها على وجه الدقة للبدء في المعالجات والحلول الحصيفة والحاسمة ذات القيمة والوزن والتأثير والتي يحسب لها ألف حساب، بعيداً عن (لا) النافية ولا الناهية التي يتسلح بها بعض المسؤولين إزاء اي مصارحات حول حقيقة أوضاعنا الاقتصادية، هؤلاء لا يهمهم سوى المسكنات الوقتية التي لا تبني «الروافع» اللازمة للانطلاق الاقتصادي والمالي المدروس.. المهم ان نكون جادين.. والجدية وعدم محاصرة وعي الناس هما القاسم المشترك الذي يربط بين الأمرين المذكورين، فرفقاً بعقولنا..!!
29 ديسمبر 2015