( نص
المحاضرة التي قدمت في التجمع القومي الديمقراطي مساء 24/ 11/2015
(
حسن مدن
سأقدم تحت هذا العنوان مجموعة
من الأطروحات، التي آمل أن تغطي بعض أوجهه، برغبة تسليط الضوء على التعقيدات
الناشئة عن الوضع العربي الراهن، وانعكاسات هذا على الأزمة السياسية في البحرين.
الأطروحة ألأولى: الربيع العربي
كان مصطلح “الربيع
العربي” محاكاة لتجارب مشابهة حدثت في العالم، كربيع باريس أو ربيع براغ،
وسرعان ما شاع هذا المصطلح في الأرجاء العربية، كتعبير عن توق الشعوب إلى إنهاء الاستبداد والإستغلال والظفر
بالديمقراطية والحرية. فعلياً ما من بلد عربي لم تطله موجات ونسائم ذلك التحرك في
بداياته، منذ انتفاضة البوعزيزي في تونس، التي ألهمت الشعوب العربية، فتتلت الانتفاضات والهبات في
مصر واليمن والبحرين والمغرب والجزائر وسلطنة عمان وليبيا وسوريا وغيرها.
كان ذلك رداً على ما بلغته
الأوضاع في البلدان العربية من تردٍ على غير صعيد. لعل عالم الاجتماع السويدي جنار
ميردال هو أول من استخدم مصطلح “الدولة الرخوة” في كتابه “بحث في
أسباب فقر الأمم”، ومنه إستوحى الكاتب المعروف جلال أمين عنوان كتابه الذي
حمل عنوان “الدولة الرخوة”، حين رأى أن الكثير من السمات التي شخَّصها
ميردال تنطبق على أحوال الدولة في العالم العربي، من أوجه عديدة بينها السياسي
والاجتماعي والاقتصادي والديني.
البعض يفضل مصطلح الدولة الهشة،
وهو التعبير الذي استخدمته مجلة “فورين بوليسي” الأميركية التي دأبت على
إعداد مقياس لمدى سوء أوضاع بلدان العالم المختلفة وذلك حسب معايير، منها شرعية
الدولة، واحترام حقوق الإنسان، وسيادة حكم القانون، ومظالم المجموعات، والتنمية
غير المتوازنة، ومن بين 187 دولة في
العالم شملها تقرير المجلة منذ عامين وردت أسماء عدد كبير من الدول العربية
والإسلامية على رأس قائمة الدول الهشة، وتضم المؤشرات الاجتماعية الدالة على فشل
الدولة تصاعد الضغوط الديمغرافية والحركة السلبية والعشوائية للاجئين والأفراد، في
حين تتمثل المؤشرات الاقتصادية في غياب التنمية الاقتصادية لدى الجماعات المتباينة
وتراجع المؤشرات الكبرى كالدخل القومي وسعر الصرف والميزان التجاري.
أما المؤشرات السياسية فتتمثل في فقدان شرعية
الدولة بسبب فساد النخبة الحاكمة وغياب الشفافية والمحاسبة السياسية وضعف الثقة في
المؤسسات، إضافة إلى عدم التطبيق العادل لحكم القانون وانتشار انتهاكات حقوق
الإنسان وغياب الأمن.
لذلك لم يكن مفاجئاً أن
الجماهير العربية، والشبيبة العربية بشكل خاص، إنتفضت على حكوماتها آنذاك. ليست
مؤامرة أمريكية أو صهيونية أو إيرانية هي
من أخرجت الجماهير الغاضبة الناقمة على أوضاعها في كل هذه البلدان، وإنما لأن مرجل
الغضب بلغ حد الغليان، وتفاوتت ردود فعل
السلطات من بلد إلى آخر، بين من اختارت القمع الدموي الذي لم يفلح في تحجيم هذه
الهبات أو القضاء عليها، بل أن بعض هذه الانتفاضات نجحت في إسقاط رؤوس الهرم
السياسي الحاكم كما حدث في تونس ومصر
واليمن، فيما اتبعت حكومات أخرى المرونة السياسية التي نمت عن حكمة، على نحو ما
جرى في المغرب، فبعد إسبوعين أو ثلاثة أسابيع من الاحتجاجات الشعبية أعلن الملك
محمد السادس عن تشكيل لجنة لتعديل الدستور والسماح بانتخابات تعددية تتيح للحزب
صاحب الأغلبية تشكيل الحكومة. يومها صدرت صحيفة مغربية بمانشيت عريض: “الملك
يسقط النظام”، في تنويع على الشعار الذي إنطلق من تونس وعمَّ العالم العربي:
الشعب يريد إسقاط النظام.
الحق أن الملك المغربي لم يسقط
النظام، وإنما قوَاه وحصنه بهذا التدبير، بتأمين دعم شعبي وسياسي له، وأنقذ البلاد
من أزمة سياسية كان يمكن أن تمتد على نحو ما جرى في بلدان عربية أخرى عديدة،
وأمَّن عبوراً آمناً من تداعياتها، باطلاق دينامية سياسية جديدة فيها الكثير من
الإيجابيات حتى لو لم تكن مثالية وخالية من النواقص.
الأطروحة الثانية: ما الذي حوَّل
الربيع العربي إلى خريف؟
برأينا هناك ثلاثة عوامل تضافرت
ليحصل ما حصل. أولاً: متانة مواقع الاستبداد في العالم العربي وخبرتها الطويلة، ثانياً:
ضعف مؤسسات المجتمع المدني الحديثة وضآلة دور القوى الوطنية والتقدمية وهامشية
دورها ما عنى غياب الحاضنة الديمقراطية القادرة على توجيه هذه التحركات في وجهة
وطنية جامعة، وتجنيبها الانزلاق نحو شعارات وممارسات خاطئة، ما مكَّن قوى الإسلام
السياسي من الهيمنة على الشارع ومصادرة الإنتفاضات مع أن القوى الإسلامية في
الكثير من الحالات لم تلتحق بالتحركات إلا لاحقاً
كما حدث في مصر وتونس واليمن وغيرها، ثالثاً وأخيراً: الدور المشبوه الذي لعبه
الغرب ودول الناتو من جهة، والقوى الإقليميىة صاحبة المصلحة في عسكرة الانتفاضات
والدفع بها نحو الحرب الأهلية من جهة أخرى، سواء بالتوافق فيما بينها، أو بالتواطؤ
الضمني.
وسوف آتي على بعض الشرح لكل
عامل من هذه العوامل الثلاثة:
1-فيما يتصل بمتانة مواقع
الاستبداد وجدنا كيف وُظفت آلة القمع الضاربة في البلدان العربية في التصدي للهبات
الشعبية، وتشمل هذه الآلة ليس فقط التدابير الزجرية كاستخدام القوة في مواجهة
المحتجين العزل والتنكيل بهم، وإنما أيضأً منظومة التشريعات والقوانين والتدابير
التي تقيد الحريات وتضيق على ما هو متاح من هوامش للمجتمع المدني أو حتى مصادرتها
بالكامل، وتوظيف الأجهزة الإعلامية في محاربة المعارضين، فضلأً عن إشعال الفتن
والانقسامات المذهبية لحرف مسار التحركات عن مجراه السليم.
ومع إدراك الحكومات أن نجاح
إنتفاضة أي شعب عربي في تحقيق بعض أهدافه سيكون ملهماً لشعوبها هي الأخرى في أن
تحذو الحذو نفسه، أصبحت مواجهة هذه
الانتفاضات مهمة مشتركة إما عبر قمعها أو عبرتخريبها
من الداخل، ومنعها من المضي ببلدانها في مسار التحول الديمقراطي، ولا شك أن
الحكومات تتنوفر على إمكانات كبيرة تمكنها من ذلك، كما أنها تُوظف خبرتها الطويلة
في مواجهة التحديات الداخلية، فيما لا تتوفر المعارضات العربية عامة على هذه
الخبرة، لا بل يعوزها في الكثير من الحالات بُعد النظر والتحليل السليم للتعقيدات
المحيطة بالعمل السياسي.
2- ضعف مؤسسات المجتمع المدني
وضآلة دور القوى التقدمية والديمقراطية، فبالنظر للتطور المشوه في المجتمعات
العربية وتقهقر مواقع الطبقة العاملة المنظمة وانحسار وتلاشي الفئات الوسطى إنحسر
بالنتيجة دور القوى الديمقراطية الحديثة، موضوعياً، خاصة بالنظر لما تعرضت له من
قمع وتهميش وإقصاء على مدار عقود، وفي الكثير من الحالات استعانت الحكومات العربية
بالإسلاميين لضرب ومحاصرة القوى القومية والتقدمية، وهو تقليد بدأ به أنور السادات
ليصبح سلوكاً متبعاً من حكومات عديدة سواه، وبقية الحكاية معروفة.
ضعف القوى الديمقراطية نجم عنه
أن أصبحت القوى الاسلامية هي القوة الأوسع قاعدة والأفضل تنظيما والأقوى من
الناحية المالية لما توفر لها من دعم ورعاية عبر عقود من قبل حكومات وتنظيمات
ورجال أعمال، وأصبحت تحت هيمنتهم مؤسسات مالية كبيرة وصناديق خيرية يتخطى دورها
الإطار المحلي الخاص بكل بلد، ليشمل مناطق وبلداناً مختلفة، وبالتالي كانت هذه
القوى الأكثر حظاً في ركوب موجات التغيير التي انطلقت، في الغالب الأعم، بصورة
عفوية.
3- دور الغرب والقوى الإقليمية:
لا دليل على أن الغرب يقف مع القوى الوطنية العصرية
العربية التي تريد محاكاة نموذجه الديمقراطي وتناضل من أجل بلوغ الحداثة والتقدم،
إنه يقف فقط مع مصالحه، ولا يجد ضيراً في التحالف مع قوى الاستبداد ومع التيارات
الأصولية إذا رأى أن مصالحه يمكن ضمانها بترتيب العلاقات معها.
فمن واقع تجارب عربية نجد أن
الغرب لم يقم بما يستحق الذكر في مجال تشجيع القوى العصرية لبناء هياكل قادرة على
تحقيق متطلبات التطوير السياسي للمجتمعات في إتجاه إنشاء دول مدنية تستوفي شروط
البناء الديمقراطي، بل أنه وضع في مقدمة أولوياته مناصبة العداء لهذه التجارب بغية
خنقها، ومنعها من أن ترسخ جذورها، ولا ينطبق هذا على موقف الغرب من التجربة
الناصرية على سبيل المثال وحدها، وإنما أيضاً من تجربة التحديث التي قادها محمد
علي باشا، والتي كان يمكن أن ترسي قواعد بناء دولة عصرية قوية، يمكن لتأثيراتها أن
تعم على المحيط العربي كله .
ولم تعد الفوضى الخلاقة إستراتيجية يجري العمل
على تنفيذها بالسر، وانما هي ممارسة مُعلنة من أجل تشطير وشرذمة المنطقة إلى غيتوهات
مذهبية تُفصل على مقاس الملل والمذاهب، وتحطيم الدول الوطنية العربية، التي نظر إليها
في الماضي على أنها خطوة نحو وحدة عربية منشودة.
للغرب خطاب منافق، حكومات
ومؤسسات، يتظاهر فيه أنه يدعم التحولات نحو الديمقراطية، ولكنه خطاب لا يُعول
عليه، لأن مجمل السلوك الفعلي لهذا الغرب لا يشي بصدق هذا الدعم، وإنما يظهر نقيضه
في أشد الصور وضوحاً.
إن كان من استنتاجات تترتب على
هذا القول، ففي مقدمتها أن التعويل على الغرب كداعم لفكرة البناء الديمقراطي في
العالم العربي هو وهم مُدَمر، غالي الكلفة على مستقبلنا، فالتحول نحو الديمقراطية
هو مسؤولية القوى التي ناضلت وضحت أجيال منها من أجل الديمقراطية ذاتها كقيمة
إنسانية مطلقة، وكمنظم للعلاقات بين قوى المجتمع وأفراده، وإدارة الخلافات بينها
بطريقة متحضرة .
لا يقل دور القوى الاقليمية
خطورة عن الدور الذي لعبته الدوائر الغربية في حرف مسار الانتفاضات العربية عن
أهدافها، وتجييرها لما يخدم مصالحه وخدمة مشاريعها في المنطقة وتنازعها على
النفوذ، وأجندة القوى الاقليمية حوالينا
لم تتغير خلال العقود الماضية، رغم تغير النظم السياسية فيها، فالأمر ليس مرتبطاًً
بطبيعة النظام السياسي، وإنما بمصالح الأمم. وعلينا، على سبيل المثال، أن نتذكر أن
إمتلاك القدرة النووية، كان في الأصل هدف شاه إيران السابق، الذي لم يتمكن من
بلوغه قبل الإطاحة به، ولكنه ظلّ هدفاً
قائماً بلغه مَن حكموا إيران بعد قيام
الجمهورية الإسلامية، بصرف النظر عن إدراكنا بمشروعية حق الأمم في إمتلاك هذه
القدرة للأغراض التنموية والسلمية.
وعلينا أن نتذكر، أيضاً، أن تركيا حتى في ظل
هيمنة الجيش عليها على مدار عقود كانت تلعب دوراًَ إقليمياً مهماً وتسعى لتوسيعه،
مستقوية بعضويتها في حلف “الناتو”، وهي عضوية ظلت مستمرة بعد صعود
أردوغان وحزبه إلى السلطة، كمرتكز من مرتكزات العقيدة العسكرية والسياسية للدولة.
الشيء الذي إستجد هو أن البلدين
باتا بُحكمان من نظامين إسلاميين ما أضفى غطاء دينيا على توجهاتهما في السياسة
الخارجية، التي ظلت، في الجوهر، ثابتة، وبالنظر إلى إختلاف مَذهبيْ من يحكمون
البلدين إرتدى التنافس بينهما طابعاً مذهبياً، يعيد إلى الأذهان التنافس الصفوي –
العثماني، الذي هو تنافس على النفوذ والمصالح.
في غياب المشروع الوطني الخاص
بكل دولة عربية، وغياب المشروع القومي العربي الجامع، وإنهيار الدولة الوطنية
ذاتها في بلدان مفصلية، وتعمق الانقسام المذهبي في المجتمعات العربية الذي من
مصلحة اللاعبين الاقليميين تعميقه وتجييره لأهدافهما صار السنة العرب يهللون
للنموذج التركي في الحكم، ويحتفلون بنجاحات حزب العدالة والتنمية الحاكم كما
لوكانت نجاحات لهم، وصار الشيعة العرب يهللون لكل ما يعتبرونه نجاحات تحققها إيران
كما لو كانت نجاحات لهم هم.
ونسي الجميع أن مشروع تركيا ليس
في جوهره مشروعاً سنياً، ومشروع إيران ليس في جوهره مشروعاً شيعيا. هناك مشروع
قومي تركي، وهناك مشروع قومي إيراني، وما العباءة المذهبية إلآ وسيلة من وسائل
تمكين المشروعين، في ظل حالة الهشاشة والتمزق التي يعاني منها العالم العربي.
لم يعد أحد يتحدث عن المشروع
القومي العربي الذي تربت عليه أجيال منذ بواكير الفكر النهضوي العربي، وغابت
الروافع الاجتماعية والفكرية والهياكل الحزبية والتنظيمية الحاملة لهذا المشروع أو
توارت، فوجدت القوى السياسية الناشطة، وجُلها تمثل الاسلام السياسي بكل تلاوينه،
ضالتها في التعلق بمشاريع ليست مشاريعها الخاصة وانما هي مشاريع لدول أخرى، من
مصلحتها أن يظل العالم العربي مجزءاً، ومفككاُ وفاقداً للارادة السياسية.
وفي غمرة هذا كله جرى السكوت
عن أهم وأخطر مشروع تدميري للمنطقة ونعني
به المشروع الاسرائيلي، الذي بات في مأمن من أي مساس عربي منه، حيث يننفرد الصهاينة
بالفلسطينيين العزل في الضفة الغربية وقطاع غزة، ويواصلون تزنير الأراضي الفلسطينة
المحتلة بجحافل المستوطنيين ومستوطناتهم، بطريقة تلاشت معها أي إمكانية فعلية
لقيام أي كيان فلسطيني مستقل، مهما كانت درجة هشاشته.
الأطروحة الثالثة: حول التناقض
لا يخلو مجتمع من المجتمعات من
التناقض، بل أن مسار التحولات في المجتمعات محكومة بمثل هذا التناقض الناجم عن
صراع الارادات والمصالح، ومن وجهة نظر التحليل المادي للتاريخ الذي ننطلق منه فان
الإنفراد بالسلطة والثروة هو مرتكز هذا التناقض الرئيس وجوهره، في حتى وإن إتخذ
الأمر في الكثير من الحالات والمنعطفات التاريخية مظاهر تناقضات أخرى، ذات طابع
مذهبي أو عرقي أو طائفي .. الخ، وفي الكثير من الحالات يجري الدفع بهذه التناقضات
إلى موقع الصدارة للتمويه على جوهر هذا التناقض، أو الصراع، إذا ما إعتمدنا
المفردة التي إستقرينا عليها في عنوان هذه المحاضرة، حيث يجري حشد الحشود في صراعات أبعد ما تكون عن مصالحها الحقيقية،
وأن تُدخل القاعدة الاجتماعية ذات المصلحة في التغيير في تناقضات ثانوية بين
مكوناتها، مُفتعلة في الكثير من الحالات، تبعدها أو تحرفها عن التصدي للتناقض
الأساس في المجتمع، الذي محوره كسر احتكار النخبة المهيمنة على السلطة والثروة،
بتحقيق التوزيع العادل للثروات وإشراك الشعب في إتخاذ القرار عبر آليات ديمقراطية
حقيقية، وليست صورية أو عديمة الصلاحية.
قضية التناقض الأساسي الاجتماعي
– السياسي يجري تغييبها لصالح إبراز الإنقسامات المذهبية وصراع الهويات الفرعية،
مع أن تعدد الثقافات في المجتمعات ليس ظاهرة
خاصة بالمجتمعات النامية، بما فيها بلداننا العربية الإسلامية، التي باتت اليوم
ساحة صراع، دموي في الكثير من الحالات، بين ممثلي هذه الثقافات، فالعديد من
البلدان الأوروبية، لا بل والولايات المتحدة الأمريكية ذاتها، هي ذات مجتمعات
متعددة الثقافات والتحدرات الإثنية والدينية، وحتى هذه الدول «المتقدمة» شهدت
حروباً على خلفيات دينية وثقافية، وما زالت تشهد أوجه توتر خفي بين التكوينات
الثقافية والعرقية فيها.
وفي تشخيصه للثقافات الفرعية
لاحظ مؤلف «التحليل السياسي الحديث» روبرت دال حقيقة أن نيوزيلندا والسويد
والنرويج وأيسلندا، على سبيل المثال، تتمتع بتجانس ثقافي شبه تام يفسر المستويات
المنخفضة للصراع فيها، وعلى النقيض من ذلك نجد أن الثقافات الفرعية التي لا حصر
لها في الهند، مثلاً، تفسر ارتفاع مستوى التجاذب بين هذه الثقافات داخلها.
شيء قريب من هذا القول نستشفه
من المقارنة التي يعقدها الرجل بين حالي بلجيكا وسويسرا، فإذا كان مستوى التجاذب
أو الصراع بين الثقافات الفرعية في الأولى أكثر حدةً، فإن انخفاضه في الثانية عائد
إلى نجاح سويسرا، رغم وجود أربع مجموعات لغوية فيها وديانتين وولاءات إقليمية
قوية، في تجنب أي تمييز خطر بين الثقافات الفرعية فيها. ولا يمكن تجاهل النموذج
الأمريكي في هذا المجال. الولايات المتحدة الأمريكية نجحت نسبياً فقط في تجنب
الصراعات بين شعب يتسم بكل هذا التنوع، لكن لا يمكن غض الطرف عن التمييز ضد
الأمريكيين من أصل إفريقي، حتى بعد تصفية نظام العبودية، وميراث هذا التمييز كان
سبباً مباشراً للتوترات الداخلية حول حقوق الأمريكيين الأفارقة.
وتبدو مفردة التمييز تحديداً،
هي المدخل الصحيح لمقاربة هذه المسألة، فحين تنجح المجتمعات في التغلب على هذا
التمييز، بصوره كافة، بين مواطنيها، وتؤمّن الحقوق المتكافئة للجميع، فإنها تنجح
أيضاً في خفض مستوى التوترات، الحادة أو الخفية، إلى أدنى مستوى، ويحدث العكس
تماماً، حد بلوغ الانفجارات الدامية، حين تخفق في ذلك.
تُعيد الهَبَات ضد الفساد
والمفسدين في العراق ولبنان وربما في غيرهما من البلدان الإعتبار للقضية الجوهرية
في التناقض القائم في مجتمعاتنا، الذي هو تناقض اجتماعي بين القلة التي تستأثر
بالثروات والأغلبية الساحقة من الناس المحرومة من شروط العيش الحر الكريم، وهو التناقض
الذي كان في أساس إنفجار الإنتفاضات الشعبية فيما مضى، لكن جرى، بقدرة قادر، تحويل
الأمر إلى صراعات بين المذاهب والطوائف يكون الفقراء والشباب وقوداً لها، فيما
مصالح وثروات من يدعون تمثيلهم تتضاعف.
في ساحة التحرير في بغداد وفي
وسط العاصمة اللبنانية إتحدَّ المسلمون والمسيحيون، السنة والشيعة وغيرهم من ملل
وأقليات، حول القضية التي وحدتهم فيما سبق ويجب أن توحدهم دائماً في أن يكونوا
صفاً واحداً في العمل من أجل توزيع عادل للثروات، وبناء دول مدنية لا دينية أو
طائفية وفي هذا مصدر قوة هذه الهبات، التي تبرهن أن الفساد لا دين أو مذهب له.
مكافحة آفة الفساد لن تتم،
بصورة جدية، إلا عندما يجري الاقتراب الفعلي من الحالات الصارخة، الكبيرة له،
الممثلة في فساد قمم السلطات والحكومات، واستهداف مقومات هذا الفساد في البنى
والهياكل الرئيسية في الحكومات والمجتمع، وهو ما فعله العراقيون واللبنانيون المحتجون
حين أشاروا بالبنان إلى رموز النخب
السياسية والمالية التي تسرق المال العام، وتفقر البلاد والعباد، وحين إتخذت التحركات
الإحتجاجية ضد الفساد وسرقة المال العام وتقاعس الدولة عن أداء التزاماتها عنواناً
في غاية الأهمية، هو رفض سطوة زعماء الطوائف، ومنهجهم في الحكم الذي أفرز إما
حكومات من لون مذهبي واحد، أو بهيمنة له، كما هي الحال في العراق، أو بمحاصصة
طائفية بين وجاهات الطوائف والمتنفذين فيها، كما هي حال لبنان.
والمؤمل أن يكون الظرف الموضوعي
الناشئ اليوم رافعة للقوى والتيارات المدنية والتقدمية التي تقاعست طويلاً عن أداء
دورها، لتذود عن برامجها الاجتماعية في الدفاع عن مصالح شعوبها، والمعبرة عن شرائح
المجتمعات كاملة، بديلاً لبرامج زعماء الطوائف، حيث ينشأ اليوم جيل عربي جديد
منفتح على المعرفة ووسائل الاتصال الحديثة، لكنه محبط من انسداد الأفق أمامه، يرنو
إلى دور هذه القوى المدنية لتأخذ به نحو المستقبل.
الأطروحة الرابعة: تموضع
البحرين في الحراك السياسي العربي الراهن
عبر تاريخها السياسي الغني
والمحتدم، كانت البحرين مجتمعاَ شديد التأثر بما يجري في المحيط العربي والاقليمي،
لذلك فان الكثير من الحيثيات والاستنتاجات التي أوردناها أعلاه، ونحن نرصد المشهد
العربي تعني البحرين، وربما تنطبق عليها في الكثير من الحالات.
في البحرين ثمة حركة سياسية
عريقة ذات تقاليد قوية، وهناك مطالبات مشروعة للشعب البحريني بكافة مكوناته، في
الحياة الديمقراطية الحقة وفي العدالة الاجتماعية وفي التوزيع العادل للثروات وفي
تأكيد قيم المواطنة المتكافئة، النافية لكل أوجه التمييز الاجتماعي والطبقي
والفئوي، والحراك الذي إنطلق في 14 فبراير
2011، ينطبق عليه ما ينطبق على كل الانتفاضات الشعبية التي شهدتها العواصم والمدن العربية الأخرى في تطلع
المشاركين فيها للديمقراطية والعدالة والكرامة، كما أن المآلات والتعقيدات التي
نشأت بعد ذلك لا تختلف من حيث الجوهر عن تلك التي شاهدنا نظيرها في البلدان
العربية الأخرى، حتى وإن إختلفت التفاصيل، ولو سعينا لتعداد الأسباب التي قادتنا
إلى ما نحن فيه فلن نخرج عن العوامل الثلاثة التي بسطتها في البداية، بصورة أو
بأخرى، بنسبة تقل أو تزيد.
حتى الآن جرى التعامل مع الأمر عبر
التدابير الأمنية المشددة، والتجربة في كل مكان تبرهن أن الحل الأمني لا يحل مشكلة
سياسية أو إجتماعية مستعصية، حتى وإن بدا في الظاهر أنه يحتويها، وتجربة تاريخنا
السياسي البحريني الحديث تؤكد ذلك، وهو أمر تحدثنا عنه كثيراً في بيانات المنبر
التقدمي والتجمع القومي وبقية القوى المعارضة، وهو ما يؤكد الحاجة إلى حل سياسي
مستدام ومستقر.
لكن ما يبعث على القلق الشديد،
خاصة بالنسبة لنا كقوى نعتبر أنفسنا عابرين للطوائف وتستوعب تنظيماتنا في صفوفها
مناضلين وأعضاء من مختلف مكونات الشعب، هو الإنقسام الطائفي الذي إستفحل في
السنوات القليلة الماضية الذي دفع إليه الرافضون للتحول الديمقراطي وتحقيق الشراكة
مع المجتمع، وغذته القوى المذهبية المختلفة، بوعي منها في الكثير من الحالات،
وبسبب الأخطاء وضيق الأفق في حالات أخرى.
الطائفية في معناها المزدوج، أي
في تعبيرها عن مجتمع متعدد الطوائف، أو ثنائي
التكوين الطائفي كما هو حال مجتمع البحرين، وفي كونها ساحة من الحساسيات
وحتى الاحتكاكات بين أبناء هذه الطوائف لم تنشأ اليوم، وإنما هي موروث عمره قرون
من الزمن، وهذا الموروث يمتلك كل أسباب استمراره المترسخة في التكوين الإجتماعي
للبلد وفي أشكال الوعي التي لن يصار إلى إلغائها بجرة قلم أو برغبة.
ومن حيث المبدأ يجب علينا ألا
نتعاطى مع هذه المسالة من زاوية الرغبات أو النوايا الحسنة فلن نصحو في صباح الغد
أو الصباح الذي يليه ونرى المجتمع وقد تحررمن تكوينه الطائفي، أعني من كونه مبنيا
على ثنائية أو تعددية مذهبية لا مناص من الإقرار بها والتعايش معها بصفتها صفة
ملازمة للمجتمع الذي نحياه حتى يكتب الله أمرا كان مفعولاً.
بهذا المعنى ليست البحرين حالة
شاذة بين المجتمعات العربية – الإسلامية، ولا هي حالة غريبة عن بقية المجتمعات في
العالم المعروفة بتعدد الأجناس والأعراق والطوائف والمذاهب التي يعيش أصحابها في
بلدان واحدة، ويُكونون بالتالي مجتمعا واحدا أو مشتركا، تجمعهم، وفي أحيان كثيرة ،
تكاد تصهرهم مشتركات عديدة قوية لا يعيقها التنوع أو التعدد القومي والطائفي. بل
أن المجتمعات متعددة أو متنوعة التكوينات يمكن أن تكون أكثر حيوية وثراء ثقافيا
واجتماعيا بالقياس للمجتمعات أحادية التكوين، لأن التنوع يعني إضفاء الجدل والحوار
والتفاعل الخلاق بين المكونات المختلفة،
ويعني أيضا تعدد الروافد الثقافية والتاريخية التي تضفي الحيوية المشار
عليها، ونعتقد إن وضع البحرين بالقياس إلى محيطها الخليجي يعطي مثلا جيدا على ما
نذهب إليه .
لكن المسألة الطائفية في
مجتمعنا ، كما هي في المجتمعات العربية – الإسلامية على درجة كبيرة من التعقيد
بحيث يغدو معها حديثنا أعلاه بمثابة النشيد الرومانسي الذي يغفل التجليات السلبية
الكثيرة للطائفية، حين تصبح أداة موظفة توظيفاً سياسياً، يحتمل الكثير من أوجه
الإقصاء والتمييز ، التي ليس في متناول قوة أخرى غير الدولة أن تعالجها إن هي
أرادت تجنيب المجتمع مخاطر الفتنة، عبر توكيد فكرة المواطنة التامة، القائمة على
تكافؤ الفرص والمساواة في الحقوق والواجبات، مما يعمق من فكرة الانتماء الوطني
ويعززها، ويضعف بالتالي من حدة التعصب الطائفي، الذي ينشط كلما ضعفت آليات الدمج
الوطني التي تعزز المشتركات على حساب عوامل الفرقة أو التنافر.
أفرز تطور المجتمع البحريني
الحديث انبثاق وتوطد مكانة قوى وشرائح قوية التأثير أفلحت في التحرر من الأسر
الطائفي، وغدت عن حق قوى عابرة للطوائف، وتمثل تيارات الحركة الوطنية بمختلف
ميولها اليسارية والقومية العمود الفقري لهذه الشرائح، لأنها عززت من طابعها غير
الطائفي وغير العرقي في معارك النضال الوطني والطبقي من أجل الأهداف المشتركة
للفئات الشعبية الكادحة، وقدمت هذه القوى للمجتمع قيادات من الوزن الثقيل ، بدءا
من أبرز قادة حركة هيئة الاتحاد الوطني.
لكن نقطة الضعف الجوهرية التي
يُعاني منها الحراك السياسي في البحرين اليوم هي غياب أو ضعف الدور المستقل للتيار
الوطني الديمقراطي، بسب فشله في بلورة صيغة للعمل المشترك بين مكوناته المختلفة
تميزها عن الأطروحات والمواقف الأخرى في المجتمع، وفق برنامج معبر عن القضايا
المشتركة للشعب يعمل على دمج الهويات الفرعية في هوية وطنية جامعة، كرافعة للعمل
في سبيل الديمقراطية وآفاق الحداثة والتقدم، ومن أجل حياة حرة وكريمة لكافة مواطني
هذا البلد.
إن غياب هذه الصيغة التنسيقية
للتيار الديمقراطي كان له أكبر الأثر في عدم وضوح الدور المستقل لهذا التيار، حيث
لا يتبين المجتمع بصورة كافية الفروق الضرورية بين هذا التيار وبين سواه من
تيارات.
ولا قيمة لأي منجز أو مكسب
سياسي إذا كان ثمنه النيل من الوحدة الوطنية للمجتمع، لأن هذه الوحدة بنيت عبر
مسار تاريخي معقد، وناضلت من أجلها أجيال من البحرينيين أفلحوا في إقامة تكوينات
وطنية بالمعنى الصميم للكلمة، لا تعبر عن طوائف أو فئات، وإنما تعبر عن تطلعات
مشتركة لكل أفراد الشعب، لذلك فإن المكاسب السياسية المتعلقة بالإصلاح تستقيم
بالتوافق والإرادة المشتركة لكافة مكونات المجتمع في سبيل المزيد من الشراكة بين
الدولة والمجتمع، وأن الوحدة الوطنية تنبني وتتوطد عبر هذا النهج بالذات، لا عبر
نهج آخر سواه.
في هذا الظرف الدقيق تحتاج
البحرين إلى التهدئة والروية في معالجة الأمور والنأي عن التصعيد من قبل جميع
الجهات، وبلورة موقف وطني جامع نابذ للعنف بكافة صوره وتجلياته، ينطلق من ضرورة
صون السلم الأهلي، وتأمين الاستقرار، وخلق مناخ يمكن من التفاهم حول قضايا الوطن
الكبرى في المجالات السياسية والتنموية، إنطلاقاً من القناعة التي يجب أن تكون
راسخة في الأذهان بأن البحرين هي بيتنا المشترك، أو سفينتنا التي تقلع وسط أنواء
إقليمية معقدة، ومسؤوليتنا جميعاً توجيهها الوجهة الصحيحة، لأنها إن غرقت فسنغرق
جميعاً.