كانت الحروب، وستبقى كذلك، وفقاً للقراءة المبدئية لبقايا غرائز الإنسان الوحشي التي ما زالت تسكن دواخل إنسان الحضارة المعاصرة، وسيلة العيش والاغتناء لدى الإنسان القديم والإنسان المعاصر على حد سواء. وكان هذان محفزيها الأساسيين منذ الأزل، منذ أول جريمة وحشية اقترفها الإنسان بحق أخيه الإنسان، منذ أن قتل قابيل أخاه هابيل. وتلعب بعض العوامل
البيولوجية والأنتروبولوجية (علم الإنسان) والتضاريسية والمناخية والاجتماعية والثقافية في تشكيل النزعات الحربية لدى مختلف الشعوب والأمم. وهذا ما يفسر أن بعض هذه الشعوب والأمم كانت وما زالت أميَل إلى خوض الحروب من غيرها، فكان أن عُرفت بالشعوب الحربية. بينما هناك من الشعوب والأمم التي لم تخض حرباً على الإطلاق.
ويذكر لورانس ه. كيلي الأستاذ في جامعة ألينوي، في كتابه «الحرب قبل الحضارة»، إن ما يقرب من 90-95% من المجتمعات المعروفة على مر التاريخ، قد شاركت على الأقل في حرب عرضية.
ومن نافلة القول إن أُولى الحروب كانت قد وقعت بين القبائل في صورة إغارات على نطاق صغير قبل أن يتطور نطاقها بين المدن المتنافسة والمتزاحمة أولاً، وبين الأمم من بعد، وبين الإمبراطوريات تالياً. وكانت الحروب في كثير من الأحيان سبيلاً لإنشاء الدول والإمبراطوريات، مثلما كانت سبباً في سقوطها وتفككها. ولكن ما أن ظهرت الدولة قبل نحو 5000 سنة، حتى أخذت وتيرة النشاط العسكري في مناطق كثيرة من العالم، في الارتفاع، وأدى ظهور البارود وتسريع وتيرة التقدم التكنولوجي إلى انتعاش ظاهرة الخروج لخوض الحروب الحديثة.
في كتابه «من الحرب» (Vom Kriege) الذي نُشر في عام 1832، أي قبل عام من وفاته، يقول الجنرال والمؤرخ الحربي البروسي كارل فون كلاوزفيتز (1780-1833)، عن الحرب، «إنها عمليات مستمرة من العلاقات السياسية ولكنها تقوم على وسائل مختلفة». بمعنى أن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى. ويسترسل في توصيفها قائلاً «إنها نزاع بين المصالح الكبرى يسويه الدم، وإن السياسة هي الرحم الذي تنمو فيه الحرب وتختفي فيه الملامح التي تكونت بصورة أولية، كما تختفي خصائص المخلوقات الحية في أجنتها…». وهي في التحليل الأخير – ودائما بحسب كلاوزفيتز – «صراع أفراد وأنانيات وإرادات». وهي لذلك، من وجهة نظره، «مسألة حتمية».
ولعله بإشارته إلى «الأنانيات والإرادات»، يقترب كثيراً من المفهوم السياسي الذي ينسبها إلى صراع الطبقات . بيد أن الطبيب النفسي النمساوي ، مؤسس مدرسة علم النفس الفردي، ألفريد إدلر (7 فبراير/شباط 1870-28 مايو/أيار 1937)، يخالف هذا الرأي. إذ يعتبر «أن الحرب ليست استمراراً للسياسة بوسائل أخرى وإنما هي جريمة شاملة تقترف بحق المجتمع البشري، وهي جريمة منظمة وتعذيب ضد الأخوة».. مستنداً في ذلك إلى مذهبه القائل إن قوة الدفع الشريرة في حياة الإنسان، تكمن في الشعور بالنقص الذي يكبر مع الطفل في ظل شعوره بتوفر الآخرين على قدرة أفضل منه للعناية بأنفسهم والتكيف مع بيئتهم، ما يؤدي لظهور اتجاهات عصابية أنانية لديه وإلى انسحاب من العالم الواقعي ومشاكله، والتعبير عن كل ذلك بإرادة غير عاقلة للقوة والسيطرة، المفضية حكماً إلى نوع من السلوك الضد-اجتماعي الذي يمتزج فيه الاستبداد مع التفاخر المفضيين إلى الطغيان السياسي.
بعض علماء النفس مثل إي. إف. إم. ديربان وجون باولبي يزعمون أن الكائنات البشرية هي بطبيعتها ميّالة للعنف، وأن هذه العدوانية يغذيها العزل والإسقاط، فتنتقل شكوى الشخص من التحيز إلى الكراهية الموجهة ضد الآخر من الأعراق والديانات والقوميات أو الأيديولوجيات الأخرى. وبموجب هذا التنظير فإن الدولة القومية تستطيع الحفاظ على النظام في المجتمع المحلي وخلق متنفس للاحتقانات الاجتماعية من خلال الحرب. ويأتي عالم النفس الهنغاري الأمريكي الجنسية فرانز ألكسندر (1891-1964) ليدعم هذا المذهب بقوله «إن السلام لا يوجد حقاً، وإن الفترات التي ينظر إليها على أنها سلمية هي في الواقع فترات التحضير للحرب في وقت لاحق، أو عندما تكون الحرب متوقفة بإرادة قوة عظمى، مثل باكس بريتانيكا (عبارة عن فترة من السلام النسبي سادت أوروبا في الفترة من 1815-1914، ظهرت خلالها هيمنة الإمبراطورية البريطانية على العالم، حيث لعبت بريطانيا دور الشرطي العالمي). لمَّا كان ذلك، وكانت الحرب فطرية في الطبيعة البشرية – كما تذهب هذه المزاعم – يصبح تجنبها حينئذ أملاً ضئيلاً جداً!
هذه النظريات التي تفسر أسباب اندلاع الحروب من منظور نفسي ، سرعان ما ستتهاوى لحظة إنزالها على الحقائق التاريخية القياسية. فلم يذكر التاريخ أن حرباً قامت بناءً على رغبة صادرة من عامة الناس، وإنما يذكر بصورة قاطعة بأن معظم الحروب، إن لم يكن كلها، قد أشعلها الحكام الذين يسوسون مواطنيهم والذين عادةً ما يجرونهم إليها من دون أن يكون لهم في كثير من الأحيان خيار لتفادي الانخراط فيها.
فالحرب تنشب إذاً بسبب الهوس بالسلطة من جانب مثل هؤلاء القادة الذين يقفزون إلى السلطة ، في أغلب الأحيان في أوقات الأزمات حين يختار أفراد الشعب الزعيم الحاسم الذي يقدم نفسه لهم على أنه منقذهم من الأزمة ، فإذا به يقود البلاد إلى الحرب بعد ذلك. وهنالك التفسير الديموغرافي لأسباب ودواعي اندلاع الحروب، الذي تمثله هنا تحديداً نظرية توماس مالتوس (1766-1834) السكانية التي يقول فيها إن الغذاء في العالم ينمو على شكل متوالية حسابية (2، 4، 6…)، بينما ينمو السكان على شكل متوالية هندسية (2، 4، 8، 16…). وإن الحل الوحيد لجسر هذه الفجوة المتعاظمة بين نمو الغذاء ونمو السكان، هو خوض الحروب للتخلص من فائض السكان، أو من خلال انتشار الأمراض والأوبئة والمجاعة.
بعيداً عن كل هذا التنظير والتفسير والتأويل للحروب وأسباب نشوبها ، فإن العالم ، رغم ادعائه القطع التام مع عصور الوحشية والجهل والتخلف الغابرة، وانتمائه لحضارة القرن الحادي والعشرين المعاصرة، فإنه ما زال يتصرف بوحي من بقايا غريزة البقاء الوحشية، وذلك بسباقه المحموم لمراكمة أكثر أسلحة الدمار الشامل فتكاً بالبشر والحجر، وتسجيل إنفاقه العسكري أرقاماً فلكية تعكس الاستعداد الدائم والمتوثب لشن الحرب في أية لحظة من لحظات الجنون الاستحواذي التوسعي.
حرر في : 04/09/2015