مما لا شك فيه أن التآمر باعتباره فعلا بشرياً يتقصد تحقيق غايات ومنافع بعينها، يعود إلى عصور سحيقة من التاريخ البشري، منذ أن اكتشف الإنسان بفعل التجربة قيمة التراكم بعد أن كان مكتفياً وقنوعاً بإعادة إنتاج ما استهلكه مما كان يدره عليه الاقتصاد الطبيعي الذي كانت تمثله أساساً الأرض الزراعية ومواشيها ودواجنها، ومهنة الصيد البري والبحري.
فالتآمر ليس مفصولاً عن بقية أشكال تطور جنوحه الإجرامي، وإن كان طوراً وفعلاً متقدماً في عقلية التخطيط له، بما يضعه ضمن مصفوفة الفعل الإجرامي المعاصر.
وهذا ما يفسر حداثة تأريخ «نظرية المؤامرة» وتوثيقها لأول مرة، وكان ذلك في عام 1909 في مجلة «أميريكان هستوريكال ريفيو» (American Historical Review) الدورية التي تصدرها جمعية التاريخ الأمريكية منذ عام 1895 بمعدل خمسة أعداد في السنة، استناداً إلى إدعاء قاموس إكسفورد الإنجليزي.
وظل الحديث حول التنظير التأويلي لأحداث عالمية بعينها، الذي يكثفه ما ذهب اصطلاحاً شائع الاستخدام تحت مسمى «نظرية المؤامرة»، ظل حبيس الجدل النخبوي داخل الأوساط الأكاديمية والبحثية في الغرب الرأسمالي، باعتباره مادة للترف الفكري المراوح حول شكلانيته من دون الغوص في مكتنفاته.
فالمدرسة التاريخية في الغرب مثلاً، تميل إلى الاستنكاف والتأفف من استخدام مصطلح «نظرية المؤامرة» وترهب البحاثة بالوصم باللاموضوعية إن هم فعلوا ذلك.
وهناك منهم من يعتبر «نظرية المؤامرة» مجرد معرفة عامة عن الخوارق لا تختلف عن تلك التي تشمل الكائنات الكواكبية الغريبة، والإشاعات، وبعض المعتقدات الدينية والفلكية.
بينما ينزع بعض علماء الاجتماع لوضع القائلين بنظرية المؤامرة، في خانة المتطرفين، ويسفه ما يطرحونه بشأنها، وأن ما يقال عن أحداث مخطط لها سلفاً بعقلية التآمر، لا يعدو أن يكون متعلقاً حصراً بقضايا فردية يتولى أمرها القضاء.
ولكن اغتيال الرئيس الأمريكي الخامس والثلاثين جون كنيدي بطلقات نارية قاتلة في يوم الجمعة 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1963 في مدينة دالاس بولاية تكساس، بعد مرور موكب الرئيس بوسط المدينة، شكل انعطافة كبيرة ونوعية في سعة ومستوى ونوعية الجدل الدائر بشأن نظرية المؤامرة، باعتباره حدثاً كبيراً ومدوياً استدعى موجة من إنتاج الأفلام وتأليف الكتب التي تحدثت عن القوى الخفية التي وقفت وراء عملية الاغتيال.
ثم اكتسبت «نظرية المؤامرة» زخماً إضافياً جديداً مع تكشف مؤامرة تجسس الحزب الجمهوري على الحزب الديمقراطي، التي عُرفت «بفضيحة ووترغيت» والتي أميط اللثام خلالها عن قيام كبار مساعدي الرئيس ريتشارد نيكسون في 17 يونيو/حزيران 1972 بزرع أجهزة تنصت داخل أحد مقار الحزب الديمقراطي (مقر اللجنة الوطنية الديمقراطية) في مجمع مكاتب “ووترغيت” بواشنطن دي سي، وثبوت تستر الرئيس نيكسون نفسه على هذه العملية التي أفضى انكشاف مستورها إلى استقالة الرئيس نيكسون في 9 أغسطس/آب 1974 تجنباً للاتهام الثابت من قبل مجلس النواب، والإدانة المحتومة بخيانة الأمانة من قبل مجلس الشيوخ.
ثم جاء بعد ذلك انكشاف أمر ما سميت بفضيحة «إيران غيت» أو «إيران كونترا» بعد افتضاح أمرها في نوفمبر/تشرين الثاني 1986 وثبوت تورط كبار مسؤولي إدارة الرئيس رونالد ريغان في صفقتها السرية المتمثلة في تجاوز الحظر المفروض على إيران وبيعها سراً صواريخ هوك وصواريخ تاو واستخدام أموال الصفقة لتمويل ميليشيا “الكونترا” في نيكاراغوا بهدف إطاحة حكومتها اليسارية.
ورغم ثبوت ضلوع الرئيس ريغان نفسه في هذه العملية وقيام مساعديه بإتلاف كمية ضخمة من الوثائق المتعلقة بالعملية وحجب بعضها الآخر عن المحققين، إلا أنه لم تتم هذه المرة، كما في فضيحة «ووترغيت»، تنحية أو تنحي الرئيس.
ثم جاءت فيما بعد التسريبات عن قيام الحكومة الأمريكية بالمراقبة والتجسس على المكالمات الهاتفية وعلى شبكة الإنترنت حول العالم، التي عمدت الآلة الإعلامية الأمريكية الموالية إلى طمسها في حينها بعد تسخيفها، ليأتي فيما بعد (في يونيو 2013) إدوارد سنودين الموظف السابق في وكالة ال «سي آي أيه» ووكالة الأمن القومي ويفاجئ العالم بالحجم الهائل لعمليات التجسس التي تقوم بها واشنطن ضد بلدان العالم وحكوماتها كافة، بما فيها البلدان الأوروبية الحليفة وقياداتها مثل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
ورغم هذا التوفيق المحدود في إظهار جانب من بعض «العمليات الخاصة» التي تخطط وتدبر لها قوى نافذة تحت ستار متين من الكتمان والسرية، إلى العلن، بما لا يدع مجالا للشك في وجود قوى وأجهزة نافذة داخل مؤسسات الدولة وخارجها تقوم بالتخطيط والتآمر قصد تحقيق أهداف محددة، آنية وأخرى متوسطة وبعيدة المدى، فإن هذا لم يحل مطلقاً دون استمرار الماكنة الفكرية والإعلامية للطبقات الرأسمالية الحاكمة، في العمل بدأب أكبر لتسقيط وتسفيه هذه الحقائق، والتشويش على الاتجاهات العلمية والفكرية الرامية إلى بلورة إطار نظري عميق، جامع وشامل، يحلل ويوصِّف العمليات الإجرامية «الخاصة»، قصداً لطمس وإحباط أي محاولة جدية لإضفاء الرصانة العلمية على مسمى نظرية المؤامرة.
ويصل الأمر لحد الاستهتار بأصول البحث ومنهجيته، والاستعاضة عنهما بالخفة المسيَّسة والمرتجلة، كما في حالة ادعاء البروفيسور بجامعة أستراليا الوطنية «ماثيو جري» بأن نظريات المؤامرة هي جزء من ثقافة العرب وسياساتهم، وأنها كظاهرة عربية يمكن الاعتماد عليها في فهم سياسات عرب منطقة الشرق الأوسط، ومنها توهمهم بمؤامرات الاستعمار والصهيونية والقوى العظمى والحرب على الإرهاب، وهو منظور يشاركه فيه بعض الصهاينة وبعض المتحذلقين العرب.
وذلك رغم أن الولايات المتحدة هي التي أعطت «نظرية المؤامرة» وزنها وقيمتها بفضل توالي تكشف الفضائح الكبرى على أراضيها، التي تحولت إلى أفلام سينمائية شهيرة أنتجتها هوليوود وكُتب وروايات تؤرخ، تحت عنوانها، لتلك الانعطافات التاريخية.
03/07/2015