المنشور

أن نستخلص الدرس


في كتابه «من أجل المسلمين» الصادر بالعربية مؤخراً، يتساءل الفرنسي إيدوي بلينيل: «كيف نلقن شبابنا احترام الآخر والسلوك المدني البسيط ومنع الشتيمة والإهانة ، بالنظر إلى المظهر أو العقيدة ، إذا كان فضاؤنا العمومي بوسائله الإعلامية وبسياسييه يقومون وهم راضون عن أنفسهم بتربية معاكسة قائمة على الانتهاك اللامسؤول والهدام لكل أنموذج تضامني ولكل جماعة وطنية»، محذراً من أن تنحط الحياة العمومية وتضيع في كراهية جزء من الشعب بسبب أصله وثقافته أو عقيدته.

الحديث يدور عن فرنسا، المجتمع الذي بلغ شأناً كبيراً في التسامح والتعددية الثقافية، وتنشط فيه، رغم كل التعقيدات، ديناميات الدمج الاجتماعي، فما بالنا بمجتمعاتنا العربية والإسلامية، خاصة في هذا المنعطف التاريخي الدقيق، حيث أدت اللُعب السياسية، وما أكثرها إلى أنماط من التسعير الطائفي والمذهبي والإثني الذي تنخرط فيه وسائط إعلام وسياسيون ورجال دين ومنتفعون من مختلف الألوان، ويجري كل ذلك على خلفية صعود تيارات «الإسلام السياسي» على أنواعها محمولة على موجات وأجندات الاستقطاب الإقليمي.

قلت بالأمس إننا نقع في بعض وسائط التواصل الاجتماعي، لا بل وحتى في بعض وسائل الإعلام على مظاهر من ردود الفعل البدائية والمتشفية، تجاه الضحايا الذين ينالهم الإرهاب الدموي الأسود، لكن الإنصاف يقتضي القول إننا نقع أيضاً على رسائل واعية، تدرك مكامن الخطر، وتعي أبعاد الفتنة، وتدعو لمعالجة جذرية لجذور التطرف والإرهاب، بالانتباه إلى حقول مثل التعليم والإعلام ما زالت الكثير من منظوماتها ومؤسساتها تشكل الحاضنة المفرّخة لفكر الإرهاب وممارساته.

وعلى خلفية التفجير الآثم في الكويت ، طالعت رسائل مهمة لعدد من المثقفين الخليجيين من بلدان مختلفة.
د. فوزية البكر، من السعودية، تتساءل في مقالٍ لها: «ما الذي حصل لأهم ثلاث مؤسسات في حياتنا: الأسرة والمدرسة والمسجد. كيف ظهر هؤلاء الإرهابيون الصغار، ومن صنعهم؟». الكاتبة آن الكندي، من سلطنة عمان، تُنبّه إلى أن ما حدث في الكويت إنذار قاس مفجع لجميع دول الخليج، داعية لمراجعة سياسية، أمنية، دينية، اجتماعية . د. هدى الدخيل، من الكويت، تؤكد أن من لا يزال لديه شك في أن التأجيج الطائفي بمجتمعنا متعمد وممنهج ، عليه بفحص قدراته العقلية . وفي خلاصة مهمة، يحذر د. أنور قرقاش، وزير الدولة للشؤون الخارجية، من السقوط في الفخ الطائفي، فهو خلاف فقهي تاريخي قديم، وحاضرنا يستدعي التعامل عبر إطار الدولة المدنية الجامعة والانتماء الوطني الإنساني.
 
29/06/2015
 

اقرأ المزيد

نظرية المؤامرة بين الوهم والحقيقة


مما لا شك فيه أن التآمر باعتباره فعلا بشرياً يتقصد تحقيق غايات ومنافع بعينها، يعود إلى عصور سحيقة من التاريخ البشري، منذ أن اكتشف الإنسان بفعل التجربة قيمة التراكم بعد أن كان مكتفياً وقنوعاً بإعادة إنتاج ما استهلكه مما كان يدره عليه الاقتصاد الطبيعي الذي كانت تمثله أساساً الأرض الزراعية ومواشيها ودواجنها، ومهنة الصيد البري والبحري.
فالتآمر ليس مفصولاً عن بقية أشكال تطور جنوحه الإجرامي، وإن كان طوراً وفعلاً متقدماً في عقلية التخطيط له، بما يضعه ضمن مصفوفة الفعل الإجرامي المعاصر.

وهذا ما يفسر حداثة تأريخ «نظرية المؤامرة» وتوثيقها لأول مرة، وكان ذلك في عام 1909 في مجلة «أميريكان هستوريكال ريفيو» (American Historical Review) الدورية التي تصدرها جمعية التاريخ الأمريكية منذ عام 1895 بمعدل خمسة أعداد في السنة، استناداً إلى إدعاء قاموس إكسفورد الإنجليزي.

وظل الحديث حول التنظير التأويلي لأحداث عالمية بعينها، الذي يكثفه ما ذهب اصطلاحاً شائع الاستخدام تحت مسمى «نظرية المؤامرة»، ظل حبيس الجدل النخبوي داخل الأوساط الأكاديمية والبحثية في الغرب الرأسمالي، باعتباره مادة للترف الفكري المراوح حول شكلانيته من دون الغوص في مكتنفاته.

فالمدرسة التاريخية في الغرب مثلاً، تميل إلى الاستنكاف والتأفف من استخدام مصطلح «نظرية المؤامرة» وترهب البحاثة بالوصم باللاموضوعية إن هم فعلوا ذلك.

وهناك منهم من يعتبر «نظرية المؤامرة» مجرد معرفة عامة عن الخوارق لا تختلف عن تلك التي تشمل الكائنات الكواكبية الغريبة، والإشاعات، وبعض المعتقدات الدينية والفلكية.

بينما ينزع بعض علماء الاجتماع لوضع القائلين بنظرية المؤامرة، في خانة المتطرفين، ويسفه ما يطرحونه بشأنها، وأن ما يقال عن أحداث مخطط لها سلفاً بعقلية التآمر، لا يعدو أن يكون متعلقاً حصراً بقضايا فردية يتولى أمرها القضاء.

ولكن اغتيال الرئيس الأمريكي الخامس والثلاثين جون كنيدي بطلقات نارية قاتلة في يوم الجمعة 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1963 في مدينة دالاس بولاية تكساس، بعد مرور موكب الرئيس بوسط المدينة، شكل انعطافة كبيرة ونوعية في سعة ومستوى ونوعية الجدل الدائر بشأن نظرية المؤامرة، باعتباره حدثاً كبيراً ومدوياً استدعى موجة من إنتاج الأفلام وتأليف الكتب التي تحدثت عن القوى الخفية التي وقفت وراء عملية الاغتيال.

ثم اكتسبت «نظرية المؤامرة» زخماً إضافياً جديداً مع تكشف مؤامرة تجسس الحزب الجمهوري على الحزب الديمقراطي، التي عُرفت «بفضيحة ووترغيت» والتي أميط اللثام خلالها عن قيام كبار مساعدي الرئيس ريتشارد نيكسون في 17 يونيو/حزيران 1972 بزرع أجهزة تنصت داخل أحد مقار الحزب الديمقراطي (مقر اللجنة الوطنية الديمقراطية) في مجمع مكاتب “ووترغيت” بواشنطن دي سي، وثبوت تستر الرئيس نيكسون نفسه على هذه العملية التي أفضى انكشاف مستورها إلى استقالة الرئيس نيكسون في 9 أغسطس/آب 1974 تجنباً للاتهام الثابت من قبل مجلس النواب، والإدانة المحتومة بخيانة الأمانة من قبل مجلس الشيوخ.

ثم جاء بعد ذلك انكشاف أمر ما سميت بفضيحة «إيران غيت» أو «إيران كونترا» بعد افتضاح أمرها في نوفمبر/تشرين الثاني 1986 وثبوت تورط كبار مسؤولي إدارة الرئيس رونالد ريغان في صفقتها السرية المتمثلة في تجاوز الحظر المفروض على إيران وبيعها سراً صواريخ هوك وصواريخ تاو واستخدام أموال الصفقة لتمويل ميليشيا “الكونترا” في نيكاراغوا بهدف إطاحة حكومتها اليسارية.

ورغم ثبوت ضلوع الرئيس ريغان نفسه في هذه العملية وقيام مساعديه بإتلاف كمية ضخمة من الوثائق المتعلقة بالعملية وحجب بعضها الآخر عن المحققين، إلا أنه لم تتم هذه المرة، كما في فضيحة «ووترغيت»، تنحية أو تنحي الرئيس.
ثم جاءت فيما بعد التسريبات عن قيام الحكومة الأمريكية بالمراقبة والتجسس على المكالمات الهاتفية وعلى شبكة الإنترنت حول العالم، التي عمدت الآلة الإعلامية الأمريكية الموالية إلى طمسها في حينها بعد تسخيفها، ليأتي فيما بعد (في يونيو 2013) إدوارد سنودين الموظف السابق في وكالة ال «سي آي أيه» ووكالة الأمن القومي ويفاجئ العالم بالحجم الهائل لعمليات التجسس التي تقوم بها واشنطن ضد بلدان العالم وحكوماتها كافة، بما فيها البلدان الأوروبية الحليفة وقياداتها مثل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.

ورغم هذا التوفيق المحدود في إظهار جانب من بعض «العمليات الخاصة» التي تخطط وتدبر لها قوى نافذة تحت ستار متين من الكتمان والسرية، إلى العلن، بما لا يدع مجالا للشك في وجود قوى وأجهزة نافذة داخل مؤسسات الدولة وخارجها تقوم بالتخطيط والتآمر قصد تحقيق أهداف محددة، آنية وأخرى متوسطة وبعيدة المدى، فإن هذا لم يحل مطلقاً دون استمرار الماكنة الفكرية والإعلامية للطبقات الرأسمالية الحاكمة، في العمل بدأب أكبر لتسقيط وتسفيه هذه الحقائق، والتشويش على الاتجاهات العلمية والفكرية الرامية إلى بلورة إطار نظري عميق، جامع وشامل، يحلل ويوصِّف العمليات الإجرامية «الخاصة»، قصداً لطمس وإحباط أي محاولة جدية لإضفاء الرصانة العلمية على مسمى نظرية المؤامرة.

ويصل الأمر لحد الاستهتار بأصول البحث ومنهجيته، والاستعاضة عنهما بالخفة المسيَّسة والمرتجلة، كما في حالة ادعاء البروفيسور بجامعة أستراليا الوطنية «ماثيو جري» بأن نظريات المؤامرة هي جزء من ثقافة العرب وسياساتهم، وأنها كظاهرة عربية يمكن الاعتماد عليها في فهم سياسات عرب منطقة الشرق الأوسط، ومنها توهمهم بمؤامرات الاستعمار والصهيونية والقوى العظمى والحرب على الإرهاب، وهو منظور يشاركه فيه بعض الصهاينة وبعض المتحذلقين العرب.
وذلك رغم أن الولايات المتحدة هي التي أعطت «نظرية المؤامرة» وزنها وقيمتها بفضل توالي تكشف الفضائح الكبرى على أراضيها، التي تحولت إلى أفلام سينمائية شهيرة أنتجتها هوليوود وكُتب وروايات تؤرخ، تحت عنوانها، لتلك الانعطافات التاريخية.


03/07/2015
 

اقرأ المزيد

دراسات عن بُعد


هناك كتاب أمريكي شهير عن التجربة اليابانية وضعته الباحثة الانثروبولوجية مارجريت ميد، اعتبر نموذجاً لما يعرف بالدراسات عن بعد، لأن المؤلفة لم تزر اليابان قط، ولكنها امتلكت الجرأة لتأليف كتاب عن تجربة لم تعايشها، مكتفية بقراءة المصادر المتعلقة بها، وأجرت مقابلات موسعة مع الكثير من الأمريكيين المتحدرين من أصول يابانية. وقامت، إلى ذلك، بتحليل الكتب المدرسية اليابانية، وهذا شغف أمريكي تقليدي، فعند الاهتمام بدراسة تفوق مجتمع من المجتمعات يذهب الباحثون وصّناع القرار إلى دراسة المنظومة التعليمية فيه، وعياً منهم بأن سر النهضة يكمن في التعليم.

لقد فعل الأمريكان ذلك أيضاً عندما نجح الاتحاد السوفييتي في إرسال غاغارين إلى الفضاء ليدور حول الأرض، ما شكل خبراً صاعقاً، في حينه، للولايات المتحدة، فعكفت على دراسة النظام التعليمي السوفييتي، لرؤية أوجه القوة فيه، وما هي إلا سنوات حتى تمكن الأمريكان من بلوغ ما بلغه السوفييت في علوم الفضاء، لا بل وتجاوزه.

ولأننا بدأنا الحديث عن اليابان، علينا التذكير بأن مارجريت ميد لم تكن أول من درس التجربة اليابانية، وإنما سبقها فريق جرى تكليفه رسمياً بدراسة تجربة التعليم الياباني المشهود له بالنجاح، فوجد أعضاء الفريق أنه ليس كل التعليم في اليابان مأخوذاً من المجتمع الياباني، فقد استفاد اليابانيون من الفكر التربوي في بلاد أخرى، وبحثوا عن أفكار من الخارج لتساعد على حل المشكلات التربوية، وكانوا الأقل تعصباً عند أخذ وتحوير وأقلمة ما رأوه مناسباً أو ذا فائدة.

ولكن الدراسة نفسها تؤكد أن سجل التفوق التربوي في هذا البلد يرجع إلى أكثر من مئة سنة، بل إن بعض النواحي التربوية المهمة في اليابان مستوحاة من تراث فكري ترجع أصوله إلى ما قبل التاريخ الياباني الحديث.

على أهمية دراسة الأنثربولوجية الأمريكية المشار إليها، أُخذ عليها أنها دراسة وضعت عن بعد، وأنه لا يمكن الإحاطة بالوجوه المختلفة لتجربة من التجارب، من دون أن يقوم الباحث، أو فريق البحث، بالتعرف عليها عن قرب، والمعاينة الميدانية لتجلياتها.

يقودنا هذا إلى التساؤل عن الكثير من الدراسات التي توضع في عالمنا العربي، ليس عن تجارب أخرى لا نعرفها، وإنما أيضاً عن واقعنا نفسه، حيث تحوم في التجريد والعموميات ولا تحفر في الواقع نفسه وتعقيدات تضاريسه، فتظل بحوثاً عن بُعد، لا تحلل واقعنا بعمق، رغم أن أصحابها يدَّعون معرفته.
 
02/07/2015
 

اقرأ المزيد

كلنا في مهب اللهب


بعد تفجيرات برجي التجارة العالمية في نيويورك كتب الفرنسي جان بوديار مقالاً في «اللوموند» بعنوان «ذهنية الإرهاب»، حاول فيه رد أسباب تلك التفجيرات إلى سياسة الغطرسة الأمريكية، والسياسات الغربية عامة، باختراع شبح جديد للخطر بعد سقوط النظام الاشتراكي هو الخطر الإسلامي.

في حينه ثارت ثائرة المثقفين الفرنسيين عليه، لا من باب العداء للإسلام، وإنما من باب أن الإرهاب لا يمكن أن نلتمس له عذراً أبداً، فالإرهاب يجب أن يسمى باسمه، ويدان، خاصة حين يستهدف الأبرياء والمدنيين، وهناك من ذكَّر بالعبارة الشهيرة لألبير كامو من أنه ما من قضية عادلة يستحق أن يقتل فيها إنسان بريء.

ما من قضية عادلة في الإرهاب المعولم الذي يجتاح عالمنا العربي وتمتد نيرانه إلى بلدان أوروبية، وهنا أيضاً يتعين تسمية الأمور بمسمياتها، حيث شهدنا في يوم واحد ثلاثة أعمال إرهابية: في الكويت وتونس وفرنسا، وتعددت عناوين هذه العمليات، ففي الكويت ارتدت طابع التصفية المذهبية، وفي تونس، الخالية من التضاريس المذهبية الموجودة في العديد من بلدان المشرق، كان العنوان استهداف السياحة وضرب الاقتصاد، وإشاعة الرعب، وفي فرنسا كان العنوان مواجهة الغرب المسيحي الضال.

غرف العمليات التي هندست للعمليات الإرهابية الثلاث هي واحدة، سواء وجد تنسيق بين أفرادها أم لم يوجد، فهي جميعها تنطلق من مرجعية إيديولوجية وتنظيمية واحدة، وتصب في الهدف ذاته.

بعض ردود الفعل، على الأقل في حدود ما تنضح به وسائل التواصل الاجتماعي، التي تعكس أكثر ردود الفعل بدائية وتشفياً، تشير أن للإرهاب ليس فقط مسوغون، وإنما محبذون ومريدون، يظهرون لنا بعناوين ومبررات مختلفة، وأصحاب هذه الدعوات الشاذة يغيظهم ما تعبر عنه الغالبية الساحقة من الناس الذين يجسدون الفطرة السوية للبشر في استفظاع قتل الأبرياء، على نحو ما شهدناه من تضافر الإرادتين الرسمية والشعبية في الكويت باستنكار ما جرى والتأكيد على التلاحم الوطني.

قلنا في العنوان إننا جميعاً في مهب اللهب، ربما يجدر بنا أن نكون أكثر صراحة ووضوحاً، فنقول إننا عبرنا الزمن الذي كنا فيه في مهب اللهب، لقد بتنا جميعاً، مشرقاً ومغرباً، في قلب النار، والخليج العربي ليس استثناء من ذلك، والدليل هو ما شهدناه ونشهده من تفجيرات، وما نسمعه ونقرأه من تهديدات بنقل العنف إلى بلدان أخرى.
ليس أمامنا سوى اليقظة ثم اليقظة.
 
28/06/2015
 
 

اقرأ المزيد