هذا موقف ليس من المصلحة العامة تفويته، بل اننا على قناعة بانه سيكون من الخطأ الفادح ان يمر مرور الكرام، فهو على الأقل يبعث رسالة يجب ان تقرأ جيداً وتؤخذ على محمل الجد ..!! الموقف صادم بتفاصيله التى ظهرت للملأ وبالالوان الطبيعية، ومكمن الصدمة انه يؤكد اولاً ان العمل البرلماني لا زال مسكوناً بكل ما يطلق العنان لكل الاحتمالات والتوقعات والهواجس التى يصعب ان تستصحب ارتياحاً، بل تثير ما يسحب من رصيد البقية الباقية من مساحة التفاؤل ان وجدت بتوقع أداء برلماني افضل في هذه المرحلة، في هذه المرحلة بالذات، وكأننا لا نتعلم ولا نتعظ.. ومكمن الصدمة ثانياً، هذه العودة غيرالميمونة بالطبع، لنوعية من النواب الذين يعكرون الأجواء والنفوس ويفتعلون المواجهات والأزمات والمعارك الوهمية ويحسبون أخطاءهم انتصارات، وهزلهم بطولة، نواب يعرضون وفي وقت مبكر جداً العمل البرلماني لامتحان عصيب، بل بدا هؤلاء وكأنهم يغتالون أي أمل في ان يكون مناخ العمل البرلماني نظيفاً، نظيفاً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، مناخ لا يشعرك بانك تنتقل من السيئ الى الأسوأ .. !!
الموقف المعني الباعث لكل أشكال ومعاني الأسى والاستياء، هو موقف أولئك البرلمانيين، ومن ضمنهم النائب الثاني لرئيس المجلس، أبطال تلك المسرحية الاستعراضية الهزلية بامتياز التي اقترنت بصخب وتشنج وضجة وعصبية وتهديد ووعيد ورعونة، ونسوا انهم يمثلون الشعب، كل ذلك من اجل اعاقة بل تعطيل الجلسة ولم يتوقف صخبهم الا بعد ان انسحبوا وغادروا الجلسة، اعتراضاً على اتهامات وجهت الى مسؤولين فى الأمانة العامة لمجلس النواب بالفساد، وهو موقف بين لنا ان ما انكره هؤلاء في خطبهم وبرامجهم ايام الانتخابات هو على وجه الدقة ما يصنعونه او على الأقل يشجعون عليه، وهذا احد أوجه الخطورة في المسألة، وجاء موقف رئيس مجلس النواب ورفضه تبعية واسترهان عمل امانة المجلس لأي عمل حزبي، او جمعية سياسية او توجه معين، موقفاً لافتاً وجديراً بالتحية والتقدير، والأهم انه موقف يفتح ملفاً مسكوناً بالألغام والمفارقات والتعقيدات والحساسيات يتجاوز حدود امانة النواب، وهذا إثبات لواقع وليس تذكيراً ولا تنبيهاً ولا مراوغة حول من المقصود ومن المعني، ومن المتضرر (لا أحد هنا بمنأى عن الضرر، لا احد إطلاقاً) ..!!
نعود الى الموقف إياه تحديداً، على خلفيته انهمرت التحليلات والتعليقات والأسئلة، ما ضير النواب في ان يفتح التحقيق في شبهات فساد في امانة مجلس النواب ..؟ الا يفترض من هؤلاء النواب ان يكونوا من حماة حرية الرأي وأول الداعمين والمباركين لمعرفة حقيقة ما نشرته الصحافة عن شبهات فساد وهيمنة جهة او جمعيته او تيار على الامانة العامة لتقويم الامور المعوجة ان وجدت، بدلا من ان الاعتراض لأي مسعى للوقوف على الحقيقة واصلاح المعوج، بل ويتحركون فى اثر مرتكبي الساعين الى الحقيقة والتعامل مع ما نشرته الصحافة على انه جريمة ..؟ أليس النواب، كل النواب، ممن يفترض انهم من المحاربين للفساد بكل انواعه واسمائه وفي أي موقع كان.. وانهم في مؤسسة منوط بها فضح الفساد والتصدي له..؟ ولماذا كل هذه الضجة، وهذا الاستبسال في الدفاع عن أشخاص على طريقة «نخالفكم الرأي وان كنتم تقولون الحقيقة..»، وكأن أمانة النواب، بل النواب انفسهم منزهون ومحصنون من اي خطأ او انحراف او تجاوز او فساد..؟
هل أريد من ذلك الموقف الهزلي تكريس سياسة الهيمنة، القوي والأقوى، وهذا التكتل وتلك الجماعة، وهذه الجمعية وتلك، هل هو محاولة لتغييب مبدأ القانون فوق الجميع وقبل الجميع، وبعث رسالة للصحافة، بل حتى لرئيس مجلس النواب، وبقية النواب مفادها: ممنوع الاقتراب من الامانة العامة.. بل وحتى اي موقع يهيمن عليه هذا الطرف او ذاك وان أردتم فان هذا أمر أصعب من المستحيل.. وطبعاً لمصلحة اعتبارات وحسابات غنية عن التعريف..؟
ولابد من الملاحظة اكتمالاً للصورة ذلك التهديد الذي وجه لرئيس المجلس بدفع الثمن غالياً ان هو مس أياً من العاملين فى امانة النواب، ثم ماذا تعني الفزعة التى قام بها أولئك النواب حين التقوا في نفس اليوم برئيس مجلس النواب السابق، وكأنهم يريدون ان يبعثوا لنا برسالة لا أظنها تخفى على ذوي الفطنة..؟
المصالح الغنية عن التعريف، وهيمنة جمعيات سياسية، هو بيت القصيد في هذا الذي حدث، هو الملف المسكوت عنه والذي يتجاوز بكثير حدود امانة النواب، وهو الأمر الذي بتنا كلنا نعرف ثمنه وامتداداته في وزارات وهيئات وادارات وأجهزة رسمية عديدة، هو الرسالة القديمة المتجددة التي نتلقاها دوما منذ سنوات بعلم الوصول تكشف لنا عن صورة من صور الهم العام، هو التنبيه والتحذير من استمرار فرض هيمنة جمعيات وتيارات سياسية وتوجهات دينية معينة تنخرط في استقطابات وتدخلات وتجاذبات واستهدافات وإقصاءات، وكلها وجدناها تتحرك الى أقصى حدود طاقتها، وأول ما يؤسف له هو انه لم يكن هناك تحصن باليقظة اللازمة. ولذلك لم نجد خطوة تستهدف وضع حد لهذه الهيمنة والسيطرة، وبات معلوماً ان تظهر تصنيفات، هذه الوزارة مستقلة، وتلك محسوبة على هذا التيار، وهذه الهيئة او الجهاز تهيمن عليه هذه الجمعية او تلك، يتحكمون فى مسار العمل، التوظيفات والتعيينات، والمكافآت والترقيات والبدلات والعلاوات والتصرفات والمهمات والصلاحيات، كلها توجه وتحشد وتتوغل لأصحاب الانتماءات والولاءات لهذه الجمعية او تلك، ليس ثمة اعتبار لا لقواعد الجدارة، ولا لمعايير الاستحقاق، ولا لجودة الإنتاج، ولا حتى لنهوض إداري واقتصادي ومجتمعي، طالما تجري الامور على ذلك النحو..!! وهو النحو الذي جعل إدارات وهيئات وأجهزة رسمية اقل فاعلية، واقل صدقية، واكثر عرضة للهدر وتصفية الحسابات، واكثر اغراءً لمن لديهم الاستعداد للفساد والإفساد ..!!
ليس أمام المسؤولين سوى الإقدام على تدابير وإجراءات، نفترض الا تكون ذات طابع مسرحي، للتدليل على ان ثمة إرادة صادقة للقيام بإصلاح إداري حقيقي لا يجعل الفساد يستظل وينمو تحت اي غطاء كان، وبالغ الأسى حين لا يحرك احد ساكناً حيال فساد مفضوح أمره، وقمة الأسى حين نجد نواباً يراوغون في مسألة محاربة الفساد، والأدهى حين ظهروا وكأنهم يتواطؤون مع فاسدين هنا او هناك، بقي مهماً ان يفتح باب الحوار حول هذا الملف المسكوت عنه، الشائك والحساس، فلربما يصلح الحال، ان لم يكن الأوان قد فات..!! فالبحرينيون يحملون هم السؤال الأهم: متى تعالج وتصلح الامور وتعاد الى نصابها الصحيح في كل مواقع الخلل والخطأ، سؤال صعب، والأصعب منه الجواب واللاجواب ..!
17 فبراير 2015