في محطة إذاعية أوروبية ناطقة بالعربية، التقت ثلة من المثقفين العرب المقيمين في فرنسا، في حلقة حوارية أعدها وأدارها العاملون العرب أنفسهم في تلك المحطة، كُرِّس وقتها بالكامل لمناقشة والـ”التفاكر” في تقهقر الأوضاع العامة في فرنسا التي تشغل بالهم وتثير توجساتهم على ما بدا من أحاديثهم، على الأقل من زاوية انعكاساتها على مصير إقامتهم هناك.
لم يكن النقاش منظما وممنهجا، كان أقرب الى العصف الذهني (Brain storming) منه الى النقاش المركز والمعمق. حتى أن المتجادلين وضعوا المستمع، بتدخلاتهم العشوائية في حيرة حول ما اذا كان بينهم رابط ومنظم وموجه للحوار!
لم يكن بين مجموعة المتحاورين، على ما ظهر من حيثيات الحوار ومرئيات ومعارف المشاركين فيه، اختصاصي في علم الاقتصاد، مع ان الموضوع المطروق يتعلق أصلا وفصلا بصميم الاقتصاد الفرنسي وشبكة روابط هياكله. إذ فضلا عن خلو النقاشات المتشعبة والمتقافزة، من أي محور اقتصادي، فإن فيض المعلومات الذي تناوبواعلى إسالته لم يتجاوز شكليات المأزق التطوري العام الذي تجد فرنسا نفسها فيه اليوم، الى أسباب هذه العلة النافذة الى جوهر ذلكم المأزق.
فقد أطنبوا، على سبيل المثال، في الحديث عن عودة نيكولا سركوزي الرئيس الفرنسي السابق، الى الأضواء والى ساحة الصراع السياسي بين النخبة الفرنسية المتداولة للسلطة فيما بينها ولمواقع صنع القرار في دهاليزها، وعرضوا لبعض تفاصيل التحركات الشخصية التي يقوم بها سركوزي لاستعادة مكانته القيادية بين النخبة الفرنسية الحاكمة، لاسيما أحزاب اليمين المتطرف، بما يشمل ذلك، وعلى نحو خاص، تحركه العلني باتجاه زعيمة حزب “الجبهة الوطنية” (Front National) مارلين لوبان إبنة مؤسس الحزب الراحل جان ماري لوبان، لاستمالة قسم من جمهورها العريض الذي صارت تستهويه وتلائمه خطبها وشعاراتها القومية الحماسية.
على أن الملاحظ في تدخلات المتحاورين، ان أصحابها، برغم معايشتهم وملامستهم لواقع الأزمة التي تعيشها فرنسا، ورغم كثرة المعلومات التي قذفوا بها قذفا عشوائيا بغية التناسق مع هدف الحلقة الحوارية الذي ضيّعوه والمتمثل في مصير فرنسا في ضوء أزمتها المالية المستحكمة – قد أظهروا ميلا واضحا للتهوين من عمق الأزمة العامة للبلاد الفرنسية، وذلك إما لعدم الإحاطة بمدلولات وأبعاد المؤشرات الاقتصادية والمالية السلبية، وإما للخوف من مجرد تصور مستقبل مظلم ينتظر فرنسا، وبالتبعية، للشرائح الاجتماعية التي ينتمون اليها.
قبل بضعة أسابيع التقيت بخبير نفطي فرنسي من شركة توتال الفرنسية كان يقوم بزيارة عمل لبعض بلدان مجلس التعاون، وفوجئت ليس بإحاطته بجوهر علة مأزق “النموذج” التنموي الفرنسي بقدر تشاؤمه الكبير بمدى قدرة نظامها السياسي ونخبتها السياسية المحتكرة للسلطة تداولا سلسا فيما بينها، على ابتداع مخارج آمنة للبلاد من مأزقها. وهو ما يفسر على ما يبدو تعويل بريجيت باردو، الممثلة الفرنسية الشهيرة، على زعيمة حزب اليمين المتطرف “الجبهة الوطنية”، لإنقاذ فرنسا من “الكابوس اليوناني”!
والحال أن فرنسا أضحت في وضع تنافسي اقتصادي سيئ للغاية بعد أن فقدت ما كانت تتمتع به من خصائص تنافسية، تحاول النخبة الحاكمة، أولا حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية اليميني وتاليا الحزب الاشتراكي، القاء اللائمة في ما آلت اليه حال البلاد من تدهور، على “الأجور المرتفعة للعاملين، ونظام ساعات العمل الاسبوعية البالغة 35 ساعة، وقوة الاتحادات النقابية” التي تنفر الاستثمارات، على حد زعمهم، وليس على السياسات الاقتصادية النيوليبرالية المتطرفة التي تناوب الحزبان على استعارتها من النموذج الامريكي، وبضمنها مجاراة واشنطن في فرض حزم متلاحقة من العقوبات على روسيا التي ردت بفرض عقوبات مضادة أصاب بعضها قطاع الانتاج الزراعي والغذائي لاقتصاد هو في الأصل يتهادى نحو الركود.
في إحدى مقالاته وصف المحرر الاقتصادي بصحيفة الجارديان اللندنية لاري اليوت الوضع الفرنسي المتردي بأنه عبارة عن خليط من “تنامي معدل البطالة، والنمو الهزيل، وعدم فاعلية مجتمع قطاعات الأعمال، وانخفاض الانتاجية، وارتفاع الضرائب”. واعتبر الكاتب أن “فرنسا هي الآن رجل أوروبا المريض”. وإذ يعرض ذلك فإنه إنما يبغي تحريض حكام فرنسا على اتباع سياسات اقتصادية أكثر راديكالية رغم أن الحكومة الفرنسية برئاسة مانويل فالس كانت قدمت في شهر أبريل من العام المنصرم برنامجها الاقتصادي الذي أسمته “برنامج الاستقرار 2014-2017” والذي تضمن خطط تقشف تقضي بخفض النفقات بقيمة 50 مليار يورو (69 مليار دولار). وقد جاهد رئيس الحكومة على ترويجه باعتباره برنامج اصلاحات الرئيس هولاند..مع ان أعضاء الحزب الاشتراكي أنفسهم شككوا في جدوى هذه التخفيضات لانقاذ الوضع، وحذروا من أن تلك الاجراءات التقشفية سوف تفضي الى خنق النمو ومعاقبة الفقراء.
الكاتب الانجليزي، مع ذلك “ينصح” حكام فرنسا على اتباع سياسات اقتصادية أكثر راديكالية من برنامج التقشف الذي طبقوه اعتبارا من أبريل العام الماضي. هو، بخلاف المجموعة الحوارية العربية سالفة الذكر، لم يهون من المشكل الفرنسي ولم يسفسط موضوعه، وإنما هو على العكس من ذلك، فقد دفع بأن الخيارات المتاحة أمام فرنسا قليلة ومنها الخروج من منطقة اليورو (18 دولة عضو فيها من أصل 28 دولة عدد أعضاء الاتحاد الأوروبي)، وإعادة العمل بعملتها (الفرنك) كي تتمكن من تخفيضها لتحفيز الصادرات الفرنسية، وخيار اللجوء الى المقاربة التاتشرية، أي بالهجوم الشرس على النقابات وعلى مكتسباتها كما فعلت مارغريت تاتشر في بريطانيا في ثمانينيات القرن الماضي، وذلك رغم اقراره بتمتع نموذج الرأسمالية الفرنسي الحالي بمزايا غير متوفرة في بريطانيا، مثل النظام الصحي الممتاز، والبنية التحتية التي تتفوق على نظيرتها البريطانية، ونمط الحياة الأرقى من نظيره البريطاني.
ولعلنا في إطار المقاربة الرأسمالية للنموذج الرأسمالي الفرنسي المأزوم، نزعم بأن رؤية الكاتب الانجليزي اليوت، تبدو معقولة جدا، ناهيك، بالطبع، عن انها أكثر فصاحة وصراحة وجدية من سفاسطائيي الإذاعة الفرنسية آنفة الذكر، فما من خيار أمام دولة رأسمالية لم يسجل اقتصادها نموا حقيقيا في اجمالي ناتجها المحلي للعام السابع على التوالي، وثلاثة أرباع شعبها يعتبر طبقتها السياسية، فاسدة، سوى العمل على إحداث تغيير في هرم توزيع وإعادة توزيع اجمالي الناتج المحلي. وذلك لن يتم ما لم تتوافق شرائح المجتمع الفرنسي بمعظمها على إحداث ثورة ثقافية تتقبل بموجبها تضحيات مؤلمة، مصحوبة بتغيرات في سلوك الانتاج والاستهلاك. ولصعوبة تحقق هذه “الفنتازيا” – إن شئتم – فإننا نرجح صعود اليمين الراديكالي بزعامة مارلين لوبين الى السلطة في عام 2017.