منذ أن نُقشت شريعة حامورابي في ألواحها المسمارية، وحتى يومنا هذا، تهدف أنظمة العدالة في شقها العقابي، بالأساس، إلى تحقيق الردع، وليس إلى استعادة حق مهدور بأثر رجعي، يصعب تحقيقه في معظم الأحيان. فلا مَن سقطوا صرعى رصاصات الأمن المركزي في الميادين سيعودون للحياة، ولا مَن دهستهم مدرعات الجيش في “ماسبيرو” سيلتئم شملهم بالأحباء يوماً، ولا مَن فقدوا عيونهم في “محمد محمود” سيستعيدون أبصارهم، حتى وإن أنزل القصاص العادل بالمجرمين.
من هنا، فإن اقتصاص العدالة معني بالمستقبل وليس بالماضي، بالمجتمع وليس بالضحية. حتى وإن كان الثأر أحد أركان القصاص، فإنه يهدف في الأغلب إلى شفاء غليل ذوي الضحايا ومجتمعهم، لا استعادة حقوق المجني عليهم أنفسهم. وتأتي الولاية المستقلة للادعاء العام، في جرائم الحق العام، ولو تنازل المجني عليهم وذويهم عن حقهم لدى المدعى عليهم، وذلك لتأكيد منطق نظام العدالة الحديثة بوصفه أداة للردع لصالح المجتمع إجمالاً.
ترجع معضلة العدالة في صورتها تلك، إلى تحويلها الجريمة وعقابها، أمثولةً رمزية، تستقل في إجراءاتها عن الجاني والمجني عليه، بل والجرم نفسه، في تجاوز لقيمة الحق المثالية، مستبدلةً إياها بقيم المصلحة العامة. لكن ادعاء عمومية المصلحة يفندها في بساطة واحدة من مقولات برناردشو الأكثر شهرة: “عندما يبتغي رجل أن يقتل نمراً، يسمي ذلك رياضة.. وعندما يبتغي النمر أن يقتله يسميها ضراوة. الفرق بين الجريمة والعدالة ليس كبيراً”.
لا يخبرنا برناردشو، هنا، بأن العدالة قياس نسبي، أو منتج اجتماعي قابل للتأويل، فحسب. بل يتجرأ أيضاً ليساوي بينها وبين الجريمة. فالعدالة أداة لتحقيق مصلحة مَن يمتلك سلطة تأويلها، وفرض تصوره عن الخير والشر، بل وتقنين جرائمه والتستر عليها. وبالرغم من تلك الاشكاليات، فقد نجحت أنظمة الحكم الحديثة في صورتها النيوليبرالية الغربية، في ترويض مواطنيها، وإخضاعهم طوعاً لحكم القانون، عبر عمليات الديموقراطية التمثيلية التي تمنحهم، على الأقل، وهماً بقدرتهم على المشاركة في تأويل العدالة وسنّ قوانينها، من خلال ممثليهم في المؤسسات المنتخبة، وقدرتهم على تغيير منظومتها بوسائل الاحتجاج السلمي، لتخدم في النهاية مصلحة غالبيتهم، وإن لم يكن الكلّ.
كان مثول الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك، وقادة جهازه الأمني، أمام القضاء، بتهمة قتل المتظاهرين تحت ضغوط التظاهرات الشعبية، انتصاراً للثورة وجماهيرها على مستويين. أولاً، في تحقيق الردع اتجاه مَن يمتلك مقاليد السلطة في المستقبل. وثانياً، والأهم، كإعلان عملي عن انتزاع الجماهير لسلطة تأويل العدالة من يد النظام الحاكم، بل وإخضاعه لها، وبالتالي تأسيس نظام ديموقراطي للعدل مصدره الجماهير وغايته خدمة مصالحها. من هنا، تأتي فداحة دلالات الحكم بتبرئة مبارك، لا من إفلاته ومَن معه من العقاب المستحق، ولا من زوال عامل الردع اتجاه السلطة في المستقبل فقط. بل بالأحرى في تأكيده، في فجاجة استثنائية وغير مبررة، على استعادة نظام الحكم القمعي العائد بقوة لسلطة تأويل العدالة مرة أخرى واستئثاره بها. وهذه هي الرسالة الأوضح التي ربما ابتغى إيصالها نصُّ الحكم ومَن وراءه في السلطة.
بعد إعلان البراءة، تعاملت قوات الأمن مع تظاهرة لا تتعدي الألفي متظاهر في نطاق “ميدان التحرير” وكان يمكن السيطرة عليها بسهولة لصغر حجمها، بعنف بالغ ومقصود، ليسقط ثلاثة قتلى وعشرات الجرحى من المتظاهرين، في تفسير عملي للحكم، أكثر بلاغة من مذكراته التفسيرية، وفي إقرار عملي آخر لعدالة ترى في التظاهر جرماً يستحق القتل، وفي القتل نفسه تفانياً في أداء مهام الوظيفة الرسمية يستدعي التكريم.
تبقى العدالة رهينة مَن يملك سلطة تأويلها، ويظل بيان الرئاسة المتذرع بعدم جواز “التعقيب على أحكام القضاء” عنواناً للحقيقة، ومنه براءة مبارك، كعدل دامغ لا سبيل إلى مقارعته أو التشكيك فيه… إلى أن يأتي يوم تستطيع فيه الجماهير انتزاع سلطة تأويل العدالة مرة أخرى، أو ربما، وللأسف، يوم تكفر بها وتحطّم منظومتها.
الكاتب: شادي لويس – كاتب واختصاصي نفسي من مصر
حرر في 3 ديسمبر 2014
جريدة المدن الإلكترونية