سياسيون وأمنيون وفنيون أمريكيون شدوا الرحال إلى جوبا عاصمة دولة جنوب
السودان لإلزام طرفي الحرب الأهلية التي اندلعت بين ثوار الأمس الرئيس
سلفاكير ميارديت ونائبه السابق الدكتور رياك مشار، وأحالتهم إلى أعداء
اليوم .
وبمواكبة ذلك مارست واشنطن نفوذها المالي واللوجستي على الأمم
المتحدة وأمينها العام بان كي مون لكي يفرد حصة من انشغالاته اليومية إلى
ملف حرب “الإخوة الأعداء” في دولة جنوب السودان .
إلى ليبيا أيضاً انتقل
قبل بضعة أسابيع مسؤولون من الإدارة الأمريكية في أول زيارة لمسؤولين
أمريكيين بعد اغتيال السفير الأمريكي لدى طرابلس كريس ستيفن أواخر عام
،2012 ويبدو أن الزيارة كانت خاصة، لذلك تمت إحاطتها بالسرية، سواء لجهة
أهداف الزيارة وجدول أعمالها، أو هوية أولئك المسؤولين وتنقلاتهم
ومقابلاتهم!
إلا أن المعلوم أنه ما كادت تنقضي أيام معدودات على تلك
الزيارة شبه السرية، حتى ظهرت إلى الوجود حركة خليفة حفتر العسكرية التي
انطلقت من مدينة بنغازي لوضع حد للفوضى العارمة التي تجتاح البلاد الليبية
منذ الإطاحة بنظام معمر القذافي والقضاء على الجماعات الإرهابية والتكفيرية
التي راحت منذ عام 2011 تعيث فساداً وقتلاً وتدميراً في البلاد الليبية .
فيصبح
من الجائز قراءة هذا الاهتمام الخاص الذي أولته وتوليه واشنطن لكل من دولة
جنوب السودان وليبيا ضمن سياق النزعة الفطرية الغريزية لرعاية الأم
لأبنائها . فواشنطن تعتبر تأسيس دولة جنوب السودان وتغيير كامل الطبقة
السياسية التي ظلت تهيمن على ليبيا لما يقرب من 42 سنة، مشروعيها، أو
ابنيها، حتى لو كانا غير الشرعيين، ما يفسر “الاهتمام والرعاية” الخاصين
اللذين توليانهما إياهما .
والراجح أن شبح فشل “مشروعيها” اللذين
أسستهما في العراق وأفغانستان فيما يتعلق خصوصاً بمشروعها الذي أنشأته في
جنوب السودان، هو الذي دفعها للضغط على طرفي الصراع وتهديدهما لإجبارهما
على وقف الحرب بينهما والتوصل إلى صيغة حكم توافقية .
وفي الإطار الأعم،
فإنه وفقاً لما بدأت تتكشف عنه الوقائع يوماً بعد يوم، فقد صار واضحاً أن
قد “أخذت” بلدان المنطقة العربية كمشروع لعملية تغيير واحدة متكاملة لم
يُكشف حتى الآن النقاب عن اسمها السري، وإن أعطتها على الأرجح “شيفرتها”
الشهيرة بالربيع العربي، باعتباره مشروعاً لتغيير جيوسياسي رئيسي عالمي .
ولكن ولأسباب لم تعد خافية على فطين، فإن هذا المشروع الذي بدا للوهلة
وكأنه راح يبتلع الأرض العربية قطعة وراء قطعة، انهار على نحو دراماتيكي
وأصبح نجاحه في مصر وتونس وليبيا وسوريا أثراً بعد عين .
ربما تكون قصة
بداية تنفيذ ذلكم المخطط بعيد المدى، قد تم تدشينها في الخطاب “التاريخي”
الذي ألقاه الرئيس باراك أوباما بعيد تسلمه حكم البيت الأبيض في ولايته
الأولى بجامعة القاهرة يوم الرابع من يونيو ،2009 وخاصة الجزء من الخطاب
الذي خصصه وأسهب فيه عن الديمقراطية في المنطقة العربية وأراد من خلاله
إيصال رسالة إلى العالم العربي من مصر المكان الذي اختير بعناية ليكون
منطلقاً لهذه الرسالة، ومرتكزها إعادة هيكلة العلاقة بين الولايات المتحدة
والعالم العربي والإسلامي بعد الأضرار التي لحقت بها جراء السياسات
“العنترية” الفاشلة للرئيس بوش .
من الطبيعي أن “ترعى” الولايات المتحدة
“مشاريع” الدول والأنظمة التي هي من بنات أفكارها وصنيعتها، وأن تتحرك
للدفاع عن هذه المشاريع عندما تتعرض للانتكاس . وهي إذ تفعل ذلك فإنما هي
لا تريد أن يقترن اسمها بفشل مثل هذه “المشاريع” . ولكن إلى أي حد يمكن أن
تستمر واشنطن في تقديم أسباب الحياة وعدم الفشل لمشاريعها؟ . . خصوصاً أن
لديها سجلاً حافلاً بالتجارب الناجحة “للمشاريع الجديدة” التي أسستها، مثل
مجموعة الدول الجديدة التي أنشأتها على أنقاض الدولة اليوغسلافية “بفضل”
حملة القصف الجوي والصاروخي الشرسة على صربيا كبرى جمهوريات الاتحاد
اليوغسلافي الذي كان يضم حتى تقسيمه في عام 1992 إضافة إلى صربيا كلاً من
كرواتيا، سلوفينيا، البوسنة والهرسك، الجبل الأسود وجمهورية مقدونيا . هذا
إضافة إلى إقليم كوسوفو الذي عمل الغرب بكامل قوته لاقتطاعه من صربيا .
فهذا الإقليم الذي كان يتمتع حتى عام 2008 بحكم ذاتي في إطار جمهورية
صربيا، هو اليوم جمهورية مستقلة معترف بها من قبل 108 دول أعضاء في الأمم
المتحدة وعضو في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمات إقليمية ودولية
عديدة .
نزعم أن الحدود التي يمكن أن تبلغها “علاقات” الرعاية والحماية
“لأبنائها” من المشاريع، التي أسستها أو التي “أهلتها” وألحقتها بنظام
رعايتها الأمومي، تعتمد على ثقل وأهمية كل حالة (مشروع رعاية) بالنسبة
للمؤسسة الأمريكية الضخمة المترامية الأطراف، من دون إسقاط إمكانية إدخال
الخيار البديل كمتغير في معادلة القوة هذه والتي ستتحول إلى مفاضلة في حال
توفر ذلكم البديل .
صحيح أن النظام السياسي الأمريكي قد أصبح أقل فاعلية
وأكثر بيروقراطية فيما يتعلق بسرعة اتخاذ القرار وخفة حركة وسرعة تنفيذه،
إلا أن مرونته مازالت توفر له مساحة مريحة لردات الفعل الموازية لأي فعل
يمكن أن يؤثر في حواضن مشاريعها .
د . محمد الصياد – See more at: http://www.alkhaleej.ae/studiesandopinions/page/e7dd8673-d972-42ab-b86a-201afdeda019#sthash.IWedHeAO.dpuf