فبراير/شباط الماضي أصدر منتدى “منبر الإعلامي الجهادي” في ليبيا، وهو أحد
التشكيلات المتوالدة بكثرة منذ “الربيع العربي” لتنظيم القاعدة، بياناً
أعلن فيه عن تشكيل “كتائب الشهداء سرية حمزة بوشريتله”، متعهداً “بقتال
الكافرين وتطبيق الشريعة” . ومما جاء في البيان “سنمضي في سبيل الله” حتى
تفيء الأمة إلى رشدها ونُمكّن دين الله في أرضه بإقامة حكم الله” .
تقدم لا يعدو أن يكون عينة متناهية الضآلة، أو غيض من فيض ذلكم السيل
الجارف للشرر المتطاير من صوب خطابات الجماعات التكفيرية الصادرة من مختلف
المنابر المتوافرة والمتيسرة لها على امتداد ساحات العالم العربي والعالم
الإسلامي وكذا العوالم الأخرى، لاسيما حواضر العالم الغربي الذي أفسح لها
المجال للترعرع والنمو والازدهار لحسابات مصلحية أنانية .
وتنوع هذه المنابر، خصوصاً في السنوات العشرين الأخيرة التي شهد فيها
العالم ثورة نوعية في علوم الاتصال وتكنولوجيا المعلومات، فإن هذا التنوع
لم يحجب – ويجب ألا يحجب – الرؤية عن المنبر والمنبع الأساسي الذي لعب،
ومازال يلعب، الدور المحوري في إطلاق موجات تكفير وقتل الآخر، بحشو أدمغة
البسطاء والفقراء والبائسين، بمشاعر الحقد والكراهية والنفخ فيها بانتظام
كلما التقى الجمعان . . جمع “الواعطين”، أو بالأحرى جمع النافخين في كير
الفتن، وجمع المتلقين غير المدركين لخطورة النيران التي راحت بتأدة توغر
صدورهم مع تقدم مشاوير “سياحتهم” في تلك “المواعظ” العدائية ضد الآخر .
والقصد ينصرف هاهنا إلى منابر الخطابة الدينية التي نجح التكفيريون في
استغلال مهابتها ومكانتها الرفيعة لدى جموع المسلمين، وروحانية رسالتها
السماوية المقدسة، كما أراد لها المصطفى نبي الأمة أن تكون، وكرسها اسماً
على مسمى، جامعاً للم شمل المسلمين جميعاً دون تمييز من أي نوع على هدي قول
المولى عز وجل في سورة الحجرات “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى
وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم
خبير” .
المذاهب المتخندقة داخل ملكوت أسيجتها الصارمة، في لحظات الغفلة
والاستسهال، من اختطاف المنبر الديني وحرف اتجاهه وفلسفته المتمحورة حول
جمع المسلمين في إحدى الفرائض الخمس، فريضة الصلاة، وهي فريضة عابقة
بروحانيات التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وتوجيهها عوضاً عن ذلك نحو كل ما
يثير الفتن ويمزق نسيج المجتمعات الإسلامية ويشق صفوفها .
وأن يُفضي هذا الدأب الحثيث والمتواصل إلى حالة الانقسام العميقة التي أضحت
عليها اليوم مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وكان لابد من وقفة نقدية
مجتمعية كلية ولابد من تدخل الحكومات لوقف هذا العبث الخطر بمصير المجتمعات
قبل أن تصل الفأس إلى الرأس .
إرخاء الحبل مع الإسلام السياسي، لحسابات سياسية آنية ضيقة، إلى اختطاف
منابر مساجدها وخطب الجمعة من قبل الجماعات المتطرفة، وترتيباً إلى فوضى
وعظية، أو بالأحرى تحريضية، ما يحدث اليوم هو أحد نتاجاتها المحتومة . في
مصر ما بعد 30 يونيو، اتخذ الحكم الانتقالي الجديد ممثلاً في وزارة الأوقاف
المصرية، خطوة شجاعة “لتحرير مساجد مصر من المتطرفين والمتشددين وأصحاب
الهوى السياسي، واختيار خطباء مساجد وسطيين على قدر كبير من الكفاءة لا
يستغلون بيوت الله لتحقيق أهداف سياسية”، على حد تعبير الدكتور محمد مختار
جمعة وزير الأوقاف المصري الذي أكد أن وزارته قد شرعت فعلاً في تنفيذ
برنامجها الدعوي الجديد الرامي لإرساء علاقة سليمة ورحيمة بين المصلين
والمساجد من خلال اختيار مواضيع خطب الجمعة استناداً إلى استبيان رأي يشارك
فيه الدعاة والمفكرون والإعلاميون وعلماء وخبراء الاجتماع وكل المعنيين
بالشأن الدعوي والإصلاح الاجتماعي “كي لا تأتي خطب الجمعة بعيدة عن هموم
ومشكلات الجماهير اليومية” على حد قوله .
التي كُلف بتشكيلها مهدي جمعة، خطة مدتها 3 أشهر لاستعادة قرابة 150
مسجداً من بين أكثر من 5 آلاف مسجد في البلاد من قبضة المجموعات السلفية
المتشددة التي سيطرت عليها بعد ثورة 14 يناير 2011 . وتشمل الخطة تعيين
أئمة جدد على تلك المساجد ومنع الخطب التي تؤلب العباد على بعضهم بعضاً .
المغرب كشف وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق عن أن الوزارة
أعدت خطة تجعل من الوزارة الجهة الوحيدة المشرفة على الحقل الديني ومحاربة
التطرف الديني وإعادة تأهيل خطباء المساجد لكي يعيدوا للمساجد وظيفتها
الروحية السامية ونشر قيم التسامح والتآلف .
الثلاثة قد استفاقت مصدومة من هول الأضرار التي تسببت فيها فوضى المنابر
الدينية، وشرعت متأخرة في معالجة ذيولها عملاً بالحكمة القائلة “أن تأتي
متأخراً أفضل من ألا تأتي”، فإن الأغلبية العظمى من الدول العربية
والإسلامية، سوف تظل تدفع ضريبة فرجتها وتغاضيها المحسوب سياسياً عن
استمرار هذه الفوضى التي من علائمها وعجائبها المستفزة ان أولئك الدعاة
المحرضين على الفتنة جهاراً نهاراً، هم معتمدون من قبل وزارات الأوقاف
والشؤون الإسلامية، وإنهم مدرجون على جداول مرتباتها الشهرية!
د . محمد الصياد