القيمة وبالتالي لاستغلال العمالة إلى أقصى حد ممكن.” – كارل ماركس
ما حدث في المملكة العربية السعودية -في فترة الأربعينات والخمسينات
الميلادية- من إضرابات نفذها عمال سعوديون من العاملين في شركة “أرامكو”،
حيث شكلوا لجنة عمالية متبنين حزمة من المطالب، من ضمنها: ضمان حق التنظيم
النقابي، والتوقف عن التمييز الطبقي والعنصري بين العامل السعودي والموظف
الأمريكي، وزيادة الأجور، وتخفيض ساعات العمل، وتحسين ظروف السكن والمعيشة
بشكل عام. وقد واجهت السلطات هذه التحركات بالقمع، فاعتقلت عدداً كبيراً من
العمال والقيادات العمالية، كما قامت بتعذيبهم في السجون. إلا أن إصرار
العمال واستمراريتهم في تنظيم الإضرابات، أضر بمصالح أرامكو، مما دفع كلاً
من الحكومة السعودية وشركة أرامكو للرضوخ والاستجابة الجزئية للمطالب.
السعوديون، ويعود ذلك لأسباب عدة، منها: قمع الحكومة لأي عمل يغذي هذه
التحركات العمالية، بالإضافة لتوسيع القطاع العام وجعله مكان لتوظيف
السعوديين بشكل غير إنتاجي وجعل القطاع الخاص مكان للعمالة الخارجية،
ونتيجة للطفرة النفطية، فقد تم استقدام أعداد كبيرة من العمالة الوافدة
“الرخيصة” لتغطية الحاجة للأيدي العاملة.
إلى الدول الخليجية؛ وذلك بسبب الفورة النفطية، وسعي الحكومات لتحقيق
التنمية السريعة، وبسبب غياب العمالة الوطنية المدربة أولاً، و”رخص”
العمالة الوافدة ثانياً، فقد اعتمدت هذه الدول في بناء بنيتها التحتية على
العمالة الوافدة اعتماداً كلياً، مما أدى لتدفق موجات من العمالة سواء من
الدول العربية غير النفطية أو من الدول الآسيوية، ولتنظيم تواجد هذه
الأعداد الكبيرة من الوافدين، ظهر ما يُعرف بـ “نظام الكفالة”، والذي يشترط
وجود “كفيل” سواء كان (مواطناً) أو (شركة) لكل عامل وافد، حيث لا يعمل
العامل إلا لدى كفيله، وإلا أصبح وجوده على الأرض الخليجية غير قانوني.
يمنح هذا النظام للكفيل السلطة المطلقة على المكفول، مما يسبب اختلال في
موازين القوى بين العامل وصاحب العمل، وتصبح لقمة العامل وحريته مرتبطين
ارتباطاً تاماً بالكفيل، لتظهر حالات من الاستغلال لا تقل بشاعة عن
العبودية؛ حيث لا يستطيع العامل تغيير العمل إلا بإذن من الكفيل الذي يطلب
عادة مبالغ باهظة مقابل هذا الإذن، وفي ظل غياب أي جهات رقابية أو قوانين
تحمي العمال وتضمن حقوقهم، فإن ظروف العمل التي يضطر العامل لتحملها عادة
ما تكون شديدة القسوة؛ إذ يجبر على العمل لساعات طويلة، مع مماطلة الكفيل
في دفع الرواتب والتي تكون غير مجزئة في أغلب الأحيان، كما يقوم العديد من
الكفلاء بمصادرة وثائق سفر مكفوليهم لمنعهم من المغادرة، وإذا حاول العامل
البحث عن عمل آخر فإن وضعه يصبح غير قانوني مما يجعله عرضة للاحتجاز
والترحيل.
القاسية ليتمكنوا من تسديد ديون شراء تأشيرة العمل، بل يصل لحالات العنف
الجسدي والاغتصاب كما حدث مع عدد من الخادمات في المنازل، ولا يتوقف الأمر
عند هذا الحد؛ فقد تم تسجيل حوادث وفاة كما أشار التقرير الذي نشرته صحيفة
الغارديان تحت عنوان “عبيد كأس العالم في قطر”، والذي كشف عن وفاة 44
عاملاً نيبالياً في الفترة بين (الرابع من يونيو والثامن من أغسطس) الماضي،
وكان ذلك بسبب إجبار العمال على العمل في الصحراء الحارقة، وقد لقي عدد من
هؤلاء العمال حتفهم، إما بسبب تعرضهم للجلطة القلبية وفشل في وظائف القلب،
أو بسبب حوادث أثناء العمل، وكان رد اللجنة القطرية المنظمة على هذا
التقرير بأنها “ستأخذ المعلومات ببالغ الجدية!”. وفي ذات السياق، نشرت
منظمة العفو الدولية تقريراً وصفت فيه حال العاملين في مشاريع استعداد قطر
لكأس العالم بأنه “يفوق السخرة”. وهناك العديد من القصص المشابهة في جميع
دول الخليج، والتي قد لا تصل الصحافة أو المنظمات الحقوقية إلى معظمها.
نظموا – وفي أكثر من مرة – عدداً من الإضرابات، ربما يكون أشهرها إضراب
الآلاف من عمال شركة “آرابتك” – الشركة المنفذة لبناء برج خليفة في دبي
“أعلى برج في العالم”، والتي تعمل على بناء فرع متحف اللوفر في أبو ظبي –
احتجاجاً على تدني الرواتب، واستقطاع جزء منها مقابل وجبات الطعام
اليومية، مطالبين بتحسين ظروف المعيشة والعمل، وقد قامت الجهات الأمنية
الإماراتية باعتقال وترحيل منظمي الإضراب وعشرات من المشاركين.
تسير سياساتها في طريق المزيد من الانتهاك للحقوق، ولعل آخر فصول هذه
الانتهاكات ما حدث أثناء ما يعرف بـ “الحملات التصحيحية”، حيث تقوم السلطات
بملاحقة العمال “المخالفين” واحتجازهم لترحيلهم. كما جرى في دولة الكويت
والإمارات العربية المتحدة، هذا و تعتزم دول خليجية أخرى القيام بإجراءات
مشابهة.
عن بدء الفترة التصحيحية بتاريخ 2013/4/6، والتي كان الهدف منها “تنظيف
السوق” من العمالة المخالفة، وتم اعتماد مهلة تمتد لثلاثة أشهر حتى يتمكن
المخالفون من تصحيح أوضاعهم، وبسبب كثرة العدد وقصر المدة، أعلنت وزارة
العمل عن تمديد المهلة لثلاثة أشهر إضافية “استجابة لرغبة عدد من السفارات
والهيئات الدبلوماسية لعدد من الدول الشقيقة والصديقة” كما ذكرت في بيانها.
لتلاحق الضحية؛ لا يخفى على أحد أن منطقة الخليج تعد أكبر سوق لتجارة
التأشيرات، حيث تعتبر هذه التجارة مصدر دخل لعدد غير قليل من المواطنين
خاصة المتنفذين منهم، تبدأ القصة عندما يقوم التاجر بفتح مؤسسة “وهمية”
ليستخرج تأشيرات استقدام، أو يطلب تأشيرات أكثر مما يحتاجه لمؤسسة موجودة
فعلاً، ثم يبيع الفائض في السوق، وعندما يأتي العامل المشتري للتأشيرة
يلزمه الكفيل بدفع مبلغ شهري وإلا أبلغ عنه كهارب ليتم ترحيله ويستقدم عامل
آخر. إذاً أنظمة الدولة هي التي تخلق المشكلة وتهيئ المناخ لوجود مثل هذا
التلاعب بحياة وأرزاق ما يعرف بـ العمالة “السائبة”.
الأولى: ترسيخ صورة نمطية سلبية عن العمالة باعتبارها “خطر” يهدد أمن
المجتمع، و”منافس” للمواطنين في لقمة عيشهم، وسبب في إهدار الأموال عن طريق
الحوالات للخارج، وعامل “تهديد للهوية الوطنية” عبر المطالبة بالحقوق
والتي قد تصل لطلب حق الجنسية .. وغيرها من التهم.
البطالة (على اعتبار أن العمالة هي العامل الرئيس المتسبب بهذه المشكلة)
والإسهام في فتح باب الفرص على مصراعيه أمام الشاب السعودي.
التي حدثت أثناء الحملة من مداهمات و”قص إقامات”، وصولاً إلى ظروف احتجاز
العمال القاسية، حيث يتم احتجاز الآلاف من العمال بينهم نساء وأطفال في
أماكن غير مهيئة مع عدم توفير الطعام الكافي أو الرعاية الصحية، وقد تحدثت
تقارير حقوقية عن حالات وفاة تحت هذه الظروف.
في ملفات عدة، ما هي إلا محاولة لصرف النظر عن أصل المشكلة، واستثارة
المشاعر الوطنية وتعبئتها ضد “الغريب” الوافد، ويمكن اعتبار ما حدث في
منفوحة من اعتداء عنيف على الأثيوبيين وقتل عدد منهم وجرح العشرات، نتيجة
لمثل هذه التعبئة؛ التي تضع بعض الجرائم – إن حدثت- تحت المجهر وتقوم
بتعميمها على جنسيات كاملة، متجاهلة أمرين أساسيين، الأول: غياب العدالة
وعدم وجود نظام قانوني يحمي حق العامل في الدفاع عن نفسه في محاكمات نزيهة،
والثاني: أن هذه الجرائم فردية ومن حالات شاذة، فالسواد الأعظم من هذه
الأيدي العاملة، أتى بحثاً عن لقمة العيش، ولإعالة أسر كاملة عن طريق
الحوالات المالية، والتي يتم تضخيمها وتصويرها كثروات مهدرة، في تجاهل تام
لحقيقة أن هذه الأموال لا تساوي شيئاً مقابل ما يتم تشييده على أكتاف هؤلاء
العمال، والمردودات الضخمة التي عادت للمؤسسات من خلال استغلالهم، كما أن
الأنظمة التي تمنع العامل من استقدام عائلته هي التي تجبره على تحويل
الأموال – التي لا تقارن بالأموال التي يبتلعها الفساد- إلى الخارج.
للمواطنين؛ فالوظائف التي تشغلها معظم العمالة المستهدفة بالحملة، خدمية
ويدوية وذات رواتب زهيدة وظروف عمل سيئة يرفضها المواطن، مع وجود عدد من
الوظائف التي لا يستطيع أغلب المواطنين شغلها؛ وذلك لافتقارهم للتأهيل
المطلوب. أما إقبال القطاع الخاص على توظيف الوافدين بدلاً من المواطنين
فيعود لعدم وجود حد أدنى لراتب الوافد، مع سهولة استغلاله والتحكم بحريته،
في مقابل حد أدنى عالي لراتب السعودي، وقد حد برنامج “نطاقات” الذي أطلقته
وزارة العمل من إمكانية توظيف المقيم والوافد مع توفير فرص أكبر للمواطن.
التأشيرات، وبالتالي المزيد من العمالة “غير القانونية”، مما يؤدي للمزيد
من الظلم والاستغلال لهؤلاء العمال. وإذا كانت الحكومات الخليجية جادة
فعلاً في محاولاتها التخلص من العمالة غير القانونية؛ فعليها أولاً أن تلغي
الأنظمة التي تدفع العامل إلى اللجوء للعمل بشكل غير قانوني، حيث أن
القوانين الحالية مجحفة بحق العامل ولا تجرم تجار التأشيرات، بل تحمل
العامل المسؤولية كاملة وتقوم بترحيله باعتباره مخالف “للأنظمة”، كما يتوجب
عليها الاعتراف بأهمية العمالة ودورها الكبير في عملية التنمية، وأن تعمل
على سن قوانين هجرة تتناسب مع حاجة الدول لهذه العمالة، وتعمل على تنظيم
وجودها بشكل يضمن لها الحياة الكريمة، ويمنع حدوث أي حالات ظلم أو استغلال
في المستقبل عن طريق فرض عقوبات جدية على من ينتهك حقوق هؤلاء العمال.
وتجدر الإشارة إلى الأهمية البالغة لوجود النقابات العمالية؛ والتي تمثل
أعضاءها (المواطنين والمهاجرين) وتكمن أهمية هذه النقابات في أنها تكفل
التوازن المطلوب بين العامل وصاحب العمل، وتعمل على تحسين شروط وظروف العمل
وحماية الحقوق.