طرح صعود قوى الإسلام السياسي، في
الانتخابات التي اعقبت نجاح الانتفاضات في اسقاط بعض رؤوس الأنظمة في
البلدان العربية أو صعودها في الانتخابات التي تلت إجراء بعض الإصلاحات
الدستورية والسياسية، كما في حالة المغرب؛ طرح العديد من الأسئلة، وأثار
الكثير من النقاشات وسط المفكرين والباحثين والأكاديميين حول أسباب ونتائج
وآفاق تطور هذه الظاهرة، ولامست هذه النقاشات المرجعية الفكرية للإسلام
السياسي فيما يتعلق بموقفه من الدولة وشكل بنائها.
في الواقع، لم يكن
هذا الصعود مفاجئا، بل كان متوقعا قبل اندلاع الانتفاضات، في ظل موجة
العودة إلى الدين التي شهدتها مجتمعات البلدان العربية والإسلامية، منذ
نهاية السبعينات، وأوائل الثمانيات من القرن الماضي. هذه الظاهرة تلاحظ على
مستوى الخطاب والممارسة الدينيين؛ وكأي ظاهرة اجتماعية تقف من وراء صعودها
مجموعة متشابكة ومتداخلة من العوامل السياسية والاجتماعية-الاقتصادية
والتاريخية والثقافية، وهذه لا بد أن تكون حاضرة في سياق التحليل المعمق
والاستنتاج. ورغم إننا في هذه المقالة ليس بصدد تحليل عوامل هذا الصعود
السابق للانتفاضات؛ لكن يمكن أن نشير إلى بعض عوامله الأساسية المتمثلة
بطول حكم الأنظمة المستبدة التي سدت كل إمكانيات التغيير السلمية، وفشل
المشروع القومي العربي بتلاوينه المختلفة، وبالأخص الذي وصل إلى السلطة،
وتراجع نفوذ اليسار العربي، وغياب تنمية اجتماعية –اقتصادية، ثقافية
حقيقية، وسلوك الدول الغربية المنافي للديمقراطية في دعمها الواضح لهذه
الأنظمة، رغم رفعها شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وانهيار
منظومة البلدان الاشتراكية نتيجة تفاعل أسبابها الداخلية بالأساس، وما خلفه
هذا الانهيار من خيبة أمل واسعة وسط الشعوب، وتراجع نفوذ اليسار عالميا،
إضافة لعوامل أخرى.
تزايدت ظاهرة تدين الوعي الجمعي في المجتمعات
العربية، ولامس ذلك منظومة المعايير والسلوكيات والعلاقات الاجتماعية، وهو
ما لا يعني بالضرورة ازدياد مخزون القيم الأخلاقية وإنما بالأساس اللجوء
للهيرومنطقيا في تفسير الظواهر السياسية والاجتماعية بحيث يصبح كل ما هو
اجتماعي سياسي، قابعا تحت سلطة التفسير الديني وتحت هيمنة شيوخه ودعاته
وفتاواهم، ناهيك عن الانفصام الملحوظ بين الدين والتدين، والقيم والسلوك.
وتم توظيف المفاهيم والمصطلحات الدينية على المستوى السياسي إلى أبعد
الحدود. وعادت شعارات “دولة الإيمان” تتعامل بمسميات قيمية لمصالح دنيوية
شرط أن يكون “رجال الدولة من رجال الإيمان”(1). ويمكن أن نجد تفسيرا لهذه
العودة في مقولة ماركس بأن الدين هو زفرة المضطهدين وعزاء لمشكلة الحرمان
الاجتماعي الذي تلجأ له الطبقات المسحوقة تعويضا عما يلحق بها من ضيم
اجتماعي في عالم “لا قلب له”.
والملاحظ أن معظم الحركات الإسلامية
الحالية في الشرق الأوسط، هي فروع أو هي سليلة حركة الأخوان المسلمين في
مصر، بدأت كأحزاب مشغولة بقضية واحدة تتمثل بالاهتداء بالشريعة الإسلامية
وتطبيقها. وفي بداية التسعينات، ولأسباب مختلفة في كل حالة، بدأت تركز بشكل
متزايد على الاصلاح الديمقراطي، وألزمت نفسها علانية بأنها ستكون بديلا
للسلطة القائمة، وطالبت بسيادة الشعب واستقلال القضاء. وقالت بأن
الإسلاميين لم يكونوا وسوف لن يكونوا ليبراليين. وبقت هذه الأحزاب تعتمد
على الفئات المحافظة اجتماعيا، وهي بشكل ثابت تتبنى أفكارا يعتبرها معظم
الأمريكيين بأنها ممقوتة ضمنها موقفها من حقوق المرأة وبأنها ينبغي أن تكون
محدودة والفصل بين الجنسين(2).
نجاح الحركات الإسلامية في تبوؤ الصفوف
الأمامية للمعارضة وتقديم أنفسها كبديل حيوي وحيد للأنظمة العاجزة ساهمت
فيه أيضا سياسات تلك الأنظمة. فخلال العديد من الفترات إبان الحرب الباردة
شجعت ودعمت عدة حكومات، بما فيها الجزائر، والأردن، ومصر، وتركيا،
وإسرائيل، الإسلاميين كنقيض في مواجهة الحركات الشيوعية والوطنية. وعلى
الأقل حتى اندلاع حرب الخليج، كانت السعودية ودول خليجية أخرى تمد الإخوان
المسلمين وحركات إسلامية أخرى في دول عديدة بأموال طائلة. إن قدرة الجماعات
الإسلامية في التقدم على المعارضة تحسنت أيضا نتيجة قمع الحكومات للمعارضة
العلمانية التي ليس لها غطاء مثل الذي تتمتع به الحركات الإسلامية، ومن ثم
فإن قوة الأصوليين ترتبط بعلاقة عكسية مع قوة الأحزاب العلمانية
والديمقراطية الوطنية(3).
في حالة انتفاضة البحرين التي بالرغم من جذرها
الاجتماعي والاقتصادي الناجم عن البطالة والفقر والتهميش وتردي الأوضاع
المعيشية وسط الشيعة خصوصا، فإنها ألبست لبوسا طائفيا، نتيجة العديد من
الأسباب منها حرص النظام على تأكيد هذا الجانب للقول بأن هذه الانتفاضة
تهدد وحدة المجتمع البحريني، علما، في البداية، رفع المتظاهرون شعارات
تطالب بإصلاحات دستورية، ولكن عندما تدخلت قوات درع الجزيرة لقمع
الانتفاضة، صعد المتظاهرون من مطالبهم بإسقاط الملكية.
أدت ثلاثة عقود
من التمييز في عهد الاستقلال إضافة إلى التركة الاستعمارية، إلى تكريس
الانقسام الطائفي بين السنة والشيعة، مع شعور ترسخ لدى الشيعة بأنهم مهمشون
وضحية التمييز، بالإضافة لقمع السلطة لليسار طوال السبعينات والثمانينات،
مما أدى إلى تراجعه. لقد أفرزت هذه الوضعية قوى سياسية وقيادات دينية تستند
إلى الطائفة، بل حتى إلى المدرسة الفكرية في الطائفة نفسها. ومن هنا عندما
دشنت المرحلة الجديدة، بعد تولي الملك الحالي للسلطة عام 1999، تشكلت
التنظيمات السياسية الرئيسية استنادا إلى الطائفة أو الخط الفكري في
الطائفة، حيث تشكلت جمعية الوفاق كأقوى تنظيم سياسي مستندة إلى ولاية
الفقيه، فيما تشكلت جمعية العمل الإسلامية، استنادا إلى مرجعية آية الله
الشيرازي (الولاية المشروطة)، وجمعية التجديد استنادا إلى خط سفارة المهدي.
وعلى الجانب السني، تشكلت جمعية المنبر الإسلامي لتمثل الأخوان المسلمين،
وجمعية الأصالة لتمثل السلفيين، وجمعية الوسط لتمثل خط الوسط، اما التيار
الوطني الديمقراطي ممثلا في جمعية العمل وجمعية المنبر التقدمي والتجمع
القومي وجمعية الوسط، فقد استقطبت القلة في أوساط الطبقة الوسطى(4). وقد
انعكست حدة الاستقطاب الطائفي سلبا على مجمل الحركة الجماهيرية، وعلى مجمل
حركة المعارضة، في تبني مشروع وطني ديمقراطي عابر للطوائف، يهدف إلى بناء
دولة مدنية ديمقراطية، وهذه الحالة شبيهة بالعراق بعد سقوط النظام عام
2003! حيث اعاق الاستقطاب الطائفي وتبني نظام المحاصصة الطائفية والإثنية،
إعادة بناء الدولة العراقية على أساس المشروع الوطني الديمقراطي.
ما بعد الانتفاضات
كما
هو معروف، لم يشارك تيار الإسلام السياسي في تفجير هذه الانتفاضات بل
التحق بها متأخرا، بعد أن ظهرت مؤشرات أولية على نجاحها. وقد تبنت
الانتفاضات منطلقات سياسية واجتماعية واقتصادية ولم تكن مرجعيتها دينية.
وعلى الرغم من طابعها الليبرالي الغالب، إلا ان مسارها اتخذ فيما بعد
اتجاها مختلفا، ببروز حضور واضح على المستوى السياسي للتيار الإسلامي بكل
فصائله.
ففي مصر استحوذ الإخوان المسلمون والسلفيون على ثلثي مقاعد مجلس
الشعب والشورى، وتقاسمت باقي القوى الثلث الباقي. وفي تونس حصل حزب حركة
النهضة، ذو المرجعية الإسلامية، على 90 مقعدا في المجلس الوطني التأسيسي أي
بنسبة 41,4%(5). وتعود أهم أسباب هذا التحول إلى أن معظم الجماهير التي
شاركت في الانتفاضات، والتي تنتمي إلى طبقات وفئات اجتماعية عرضية لم تكن
مسيسة، وبمعنى أدق لم تكن منخرطة في تنظيمات حزبية ذات أطر تنظيمية منضبة
وتمتلك برامجا محددة، في حين نجد أن الإخوان المسلمين أكثر التنظيمات
انضباطا، ولهذا استطاعوا تعبئة جماهيرهم في الانتخابات. وهذا يؤكد دور
التنظيم الحزبي، الذي جرى التقليل من اهميته في مجرى الانتفاضات ونشوة
انتصارها، وتحدث البعض عن ضرورة تجاوزه، إذ لا يكفي أن يكون الوضع مهيأ
للتغيير، وهناك جماهير عريضة تسند هذا التغيير بدون أن تكون هناك ادوات
تنظيمية فاعلة.
وقد أثارت تصريحات بعض قيادات التيار الإسلامي في مصر،
قضايا خلافية وفي مقدمتها مسألة الدولة المدنية والدولة الدينية. وبعض
هؤلاء القادة انتقدوا الأولى على أساس أنها تخالف الإسلام بالقول أن
الإسلام دين ودولة. وإذا كان بعض أعضاء الإخوان المسلمين يحاول التوفيق بين
مصالح الدولة المدنية والإسلام، فإن حزب النور السلفي قد أعلن صراحة أنه
لا يقبل مصطلح الدولة المدنية من الأساس؛ لأنها تساوى في رأي قادته الدولة
العلمانية التي تفصل بين الدين والدولة.
وقد تدخلت مؤسسة الأزهر بثقلها
الديني، في محاولة لفك الألتباس والخلط الحاصل بين السياسة والدين وبين
الدولة والدين؛ فأعلنت في بيان التوافق الصادر عن المجتمعين من علماء دين
ومفكرين ومثقفين “أن الإسلام لم يعرف ما يسمى بالدولة الدينية”. وأكدت هذه
الوثيقة على وجوب التفريق بين الدين والسياسة، وأن المؤسسات الدينية، لا
ينبغي لها أن تتحول إلى أداة في الصراعات والمصالح السياسية. وقد دفع هذا
الموقف بعض التيارات الإسلامية إلى المطالبة بتحدي سلطة الأزهر الدينية
وحتى الوطنية(6)، والسعي للسيطرة على قرارها من خلال تغلغل أتباعها في هذه
المؤسسة التي تتسم بالوسطية في فهمها الإسلام.
في هذا الصدد يذكر المفكر
محمد عابد الجابري أن (ليس في القرآن قط، وهو المرجع المعتمد أولا وأخيرا،
ما يفيد بأن الدعوة المحمدية دعوة تحمل مشروعا سياسيا معينا). لذلك هو
يتحفظ على الروايات التي تفيد بأن الدعوة المحمدية كانت ذات مشروع سياسي
واضح يتمثل في إنشاء دولة عربية رافقها منذ منطلقها وبقيت محتفظة به تعمل
من أجله إلى أن حققته. وهذا لا يمنع من وجهة نظره من قراءة الدعوة المحمدية
قراءة سياسية من نوع ما. ذلك لأن خصوم هذه الدعوة، وهم الملأ من قريش، قد
قرؤوها منذ البداية قراءة سياسة فمارسوا السياسة ضدها. إنهم رأوا فيها دعوة
تستهدف الإطاحة بما كان يشكل أساس كيانهم الاقتصادي، وبالتالي سلطتهم
السياسية. لذلك لم يكن من الممكن أن تبقى الدعوة المحمدية “سلبية” أمام
ممارسة قريش السياسة ضدها، بل لا بد أن تحاربها بنفس سىلاحها، أو على الأقل
كان لا بد لها من أن تجعل السلاح السياسي من جملة أسلحتها (7). إذن اختيار
الدعوة الإسلامية لسلاح السياسة لم يكن مقررا سلفا وإنما فرض عليها،
وبتقديرنا، أن تحفظ الجابري هنا على هذه الروايات هو أقرب إلى نفيها، لأنه
احالنا إلى القرآن الذي لا يمكن مقارنة مرجعيته بروايات دونت في فترات
متأخرة، هذا الحذر عند الجابري مرده عدم الرغبة بالاصطدام المباشر مع
الأوساط الدينية، وكذلك، لأن الموروث الديني يشغل مساحة مهمة في بنية ثقافة
المجتمع، ونجد الحذر أيضا عند مفكرين ومثقفين آخرين في المغرب العربي
عندما تلامس نقاشاتهم المقدس الديني.
ويذكر المفكر نصر حامد أبو زيد أن
“ليس هناك شكل للدولة لا في الأحاديث ولا في القرآن، شكل الدولة الذي أقامه
العرب كان هو شكل الدولة السائدة في ذلك العصر وهي الإمبراطورية” وإلى أي
حد كانت هذه الإمبراطورية محكومة طبقا لما يتصور البعض بالإسلام، يجيب
بالنفي أي لم تكن محكومة بالإسلام. ويشير إلى أنه طوال الوقت كان هناك صراع
بين الفقهاء وبين الخلفاء حيث كثير من الفقهاء الأوائل رفضوا أن يشتغلوا
عند السلاطين(8).
في تونس، نجد راشد الغنوشي قد أوضح أن حركة النهضة
“أكدت فيما يتعلق بعلاقة الدولة بالدين التزامها بمقومات الدولة المدنية
الديمقراطية التي لا سند لشرعيتها، غير ما تستمده من قبول شعبي تفصح عنه
صناديق الاقتراع… كما أكدت قاعدة المواطنة والمساواة بين الجنسين اساسا
لتوزيع الحقوق والواجبات، لتأكيدها لمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق
الإنسان”(9). وبهذا يعد موقف حركة النهضة على مستوى الخطاب متقدما مقارنة
ببقية الأحزاب الإسلامية، لكن هذا لم يمنع من اتهام القوى المدنية
واليسارية حركة النهضة بأنها تسعى للهيمنة على كل مفاصل الدولة من خلال
تعيين اتباعها في المواقع الحساسة.
لذلك، لا زالت هناك نقاط خلاف تعيق
المصادقة على المسودة الثانية للدستور التونسي منها ما تعترض عليه قوى من
المعارضة ضمنها اليسارية مثل “تأسيسا على ثوابت الإسلام” وبأن هناك تشابه
“موجود من حيث الفلسفة، وليس من حيث تطابق المصطلحات” مع الدستور
الإيراني.(10)
وبالنسبة لسوريا كان الإخوان المسلمون قد اصدروا “عهدا
وميثاقا” في آذار 2012، من بنوده الأساسية: إقامة دولة مدنية حديثة تقوم
على دستور مدني منبثق عن إرادة أبناء الشعب السوري، قائم على توافقية
وطنية، تضعه جمعية تأسيسية منتخبة انتخابا نزيها يحمي الحقوق الأساسية
للأفراد والجماعات من أي تعسف أو تجاوز، ويضمن التمثيل العادل لكل مكونات
المجتمع(11). لكن ما يثير المخاوف اصرار الإخوان على فرض مرشحهم لرئاسة
الحكومة المؤقتة غسان هيتو بطريقة فرض الأمر الواقع، مثلما عمل الإخوان في
مصر، الذين قالوا في البداية أنهم لا ينون تقديم مرشح لرئاسة الجمهورية.
الخلافة الإسلامية
لا
يزال حكم الخلافة الإسلامية هدفا رئيسيا لمعظم تيارات الإسلام السياسي في
المنطقة العربية، وقد جاء أوضح تعبير عن هذا الهدف بعد انتفاضة 25 يناير في
مصر على لسان محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين، الذي عبر في آخر
رسائله الإسبوعية عام 2011، عن أن إعادة إحياء الخلافة الإسلامية هي الهدف
الأعظم للإخوان المسلمين، التي تؤهل المسلمين لـ “أستاذية العالم”. وأعرب
بديع عن اعتقاده في أن ثورات الربيع العربي قد جعلت هذه الغاية أقرب إلى
التحقيق. وتحدث بطريقة مشابهة حمادي الجبالي رئيس الوزراء السابق والأمين
العام لحركة النهضة في تونس عن الخلافة الإسلامية، حين خاطب، في منتصف
تشرين الثاني| نوفمبر 2011، مجموعة من أنصار حزبه في مدينة سوسة التونسية،
قائلا: “أنتم الآن أمام لحظة تاريخية، أمام لحظة ربانية، في دورة حضارية
جديدة إن شاء الله، في الخلافة الراشدة السادسة إن شاء الله).
ونتيجة
للاعتراضات الحادة من قبل القوى اليسارية والليبرالية في البلدين، حدث
تراجع عن موقف الإخوان وحركة النهضة عن موضوع الخلافة، وحاولا وضعه في إطار
السعي للتقارب بين الدول العربية الإسلامية. وفي الواقع إن الحديث عن
إحياء الخلافة، كالحديث عن إحياء الموتى، وفيه إشغال للشعوب عن قضاياها
الداخلية الملحة(12). وهو محاولة لترحيل أسباب عدم تحقيق انجازات ملموسة
على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، إلى تمزق قوة الأمة الإسلامية، وعدم
توحدها على المستوى السياسي.
ولعل من المفيد هنا أن نطرح السؤال الآتي:
وفق أي منهج أو مذهب إسلامي ستقام الخلافة الإسلامية هذه؟ حسب نصر حامد أبو
زيد لا يوجد نموذج إسلامي واحد بل نماذج إسلامية مختلفة، في اندونيسيا،
وأفريقيا، والهند، والشرق الأوسط، وأمريكا، وأوروبا، ولهذا لا نستطيع أن
نتكلم عن إسلام واحد لا في الواقع الراهن ولا في التاريخ.
ومع هذا لعل
الظاهرة الجديرة بالمتابعة من قبل الباحثين هي الانخراط المتزايد للتيارات
الإسلامية في الأجندة المحلية، فضلا عن تزايد النزعات البراغماتية لديها،
وهي نزعة تغلب مصلحة الحزب أو الدولة على أي اعتبار آخر. ففي الحالة التي
عمل فيها الإسلاميون كأحزاب سياسية معترف بها قانونا أو واقعا، كانوا
يتحركون في الغالب على خلفية ترسيخ مكاسبهم السياسية داخل حدود دولهم أو في
الحد الأدنى الحفاظ عليها أولا وقبل كل شيء، وفي الحالات التي وصلوا فيها
إلى الحكم رجحت عندهم الشؤون المحلية على اعتبارات الأيديولوجيا والعقيدة.
مثلا في المغرب يبدي حزب العدالة والتنمية الإسلامي ميلا متزايدا نحو
الأجندة الوطنية المحلية، مع سعي حثيث نحو الاندراج الهادئ ضمن النظام
الملكي على أمل أن يسمح له بتسلم “إدارة الحكم”(13)، وهو أكثر من ذلك حريص
جدا على تأكيد طابعه المغربي الخالص،(14) وهذا ما يؤكده خطابه السياسي
اليومي بعد أن وصل إلى الحكم. لذلك نتوقع أن يتراجع هدف الخلافة الإسلامية
أكثر، كلما غاصت التيارات الإسلامية أكثر في وحول السلطة والدولة والثروة
المتحركة. وإن بقى سيكون مجرد حلم رومانسي يدغدغ مخيلة بعض قادة
الإسلاميين.
نماذج الحكم المحتملة
نموذج الدولة الدينية: يتمثل هذا
النموذج بالدولة الكهنوتية أو الثيوقراطية، حيث ينقسم المجتمع إلى فئتين
متمايزتين: حاكمة ومحكومة. تستمد الفئة الحاكمة سلطتها من أساس إلهي، مما
يجعل إرادتها تسمو على إرادة المحكومين. إن صعود التيار الديني في
الانتخابات وبالأخص صعود التيار السلفي المتشدد في حالة مصر مثلا، جعل بعض
الباحثين يطرح احتمالية هذا السيناريو، بحيث تفضي هذه الحقائق إلى قيام
دولة دينية تأخذ بنموذج يمكن وصفه بـ “الإيراني- الوهابي”، يأخذ من النموذج
الإيراني الشيعي سمة وجود مرجعية عليا، يمكن أن تمثلها جماعة الإخوان
المسلمين وهيكلها التنظيمي، وعلى قمته المرشد العام، ويأخذ من النموذج
الوهابي السني فكرة “تطبيق الحدود” في الإسلام. وقد ازدادت المخاوف من هذا
السيناريو مع الشكوك المصاحبة لتوجهات الإخوان والسلفيين في المجال العام.
يبدو
هذا السيناريو بعيدا عن الواقع في الأمد المنظور، حيث سيظهر الإخوان مرونة
سياسية كبيرة تفضي إلى تعامل واقعي مع المعطيات السياسية الإقليمية
والدولية، خاصة مع تراجع الأوضاع الاقتصادية، والحرص على كسب الشارع
السياسي من خلال محاولة الاستجابة لمتطلباته اليومية، وإنعاش الاقتصاد أكثر
من الميل إلى الصدام في أمور تبدو وكأنها تسحب من رصيده الشعبي، كفرض
الحجاب، أو التعنت في الالتزامات الشرعية على غير المسلمين والتضييق على
الحريات مثلا. بالإضافة إلى دور القوى الدولية، خاصة الولايات المتحدة،
التي ترى في هذا السيناريو تأثيرا مباشرا في مصالحها ومصالح حليفتها
إسرائيل(15). ثم أن هذا السيناريو يصدم بمعارضة شديدة من قبل القوى المدنية
الديمقراطية التي لا يستهان بقوتها، والتي اصدمت مع التيار الإسلامي في
أكثر من مجال و عبرت بوضوح عن مخاوفها من أخونة الدولة والمجتمع. وقد حشدت
قواها تحت اسم حركة “تمرد” للنزول إلى الشارع في 30 حزيران| يونيو الماضي
2013 للمطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة.
النموذج التركي: لهذا النموذج
خصوصيته، فقد أتى بعد مرحلة من العلمنة المتشددة على يد أتاتورك وخلفائه.
وبقدر ما ساهم بدرجة ما، وكرد فعل في تقوية الهوية الإسلامية لدى القطاعات
المهمشة وأبناء الطبقة الوسطى، بقدر ما زرع ثقافة تؤمن بخطورة تطابق الدين
مع الدولة، يتبناها قطاع لا بأس به من المجتمع ومن ثمة لا يمكن لأي من
الدول العربية التي فاز فيها التيار الإسلامي في الانتخابات أن تقترب من
النموذج التركي إلا بحساب. نجد أردوغان على مستوى الخطاب قد تحدث عن دولة
علمانية ومواطنين مسلمين، أو حكم مدني لا يحتقر الهوية الإسلامية، ولا يطبق
الشريعة كما هي.
تبدو تونس تحديدا هي الأقرب لاقتفاء النموذج التركي في
ما لو استمر تقدم الإسلاميين في الانتخابات وهذا مستبعد. فقد عاشت تونس في
ظل خطاب علماني منذ الاستقلال ولديها نسبة كبيرة من السكان ارتبطت
بالثقافة الغربية والحداثة، رغم أن حركة النهضة تعلن بوضوح تبنيها لهذا
النموذج.
أما الأخون المسلمون في مصر، فقد رفضوا تصورات أردوغان عن
نموذج الحكم الإسلامي المطلوب، وأعلنوا بوضوح تمسكهم بتطبيق الشريعة سواء
لأن تلك هي قناعات الجناح المحافظ داخل الجماعة وحزبها الحرية والعدالة،-
رغم أنه يرد في برنامج الحزب ذكر الدولة المدنية كهدف- أو لخوفهم من التحدي
الذي يفرضه السلفيون الذين حصلوا على 27% من مقاعد البرلمان والأكثر تمسكا
بالتطبيق الحرفي لأحكام الشريعة(16).
يبدو أن النموذج التركي الذي لم
يترسخ بعد بحكم قصر فترة تواجده في السلطة، يواجه الآن تحديا كبيرا يتمثل
في الاحتجاجات الشعبية الواسعة وغير المسبوقة التي اندلعت في 27 أيار 2013
والتي ضمت مكونات اجتماعية وسياسية مختلفة، من بينها يساريين وماركسيين،
ورفعت شعارا كثيرا ما تردد هو (معا ضد الفاشية)، وهي تنم عن استياء القوى
العلمانية من سياسة الحكومة التي تسير في تجاه تعديل الدستور نحو نظام
رئاسي، وضد التسلط والتضييق على الحريات، وبأن اردوغان بات يمثل مصالح
الفئات البرجوازية الإسلامية الصاعدة. ولم يكن في الحقيقية مشروع البناء
على متنزه تقسيم في أسطنبول إلا مجرد محفز أطلق المشاعر المكبوتة، وإن نجحت
هذه الاحتجاجات في تحقيق مطالبها أو جزء مهم منها فإن ذلك سيساهم بدرجة
مهمة في خفوت لمعان هذا النموذج الذي سوق له البعض ليكون بديلا لبعض أنظمة
ما بعد الانتفاضات، على الأقل من الناحية النظرية، وسيشكل خيبة أمل كبيرة
لمعظم التيارات الإسلامية في المنطقة العربية التي تفاخرت به، وسيؤثر على
مستقبلها السياسي.
مهما تكن النتائج، إلا أن الشيء المتفق عليه أن صورة
هذا النموذج قد اهتزت، نتيجة القسوة والعنجهية والغرور التي تعامل بها
أردوغان مع المحتجين حيث وصفهم بأنهم “خونة ومتآمرون معهم في الخارج” وأن
“هذه المؤامرة احبطت وهذا السيناريو أصبح في سلة المهملات قبل البدء
بتطبيقه”، هذا الخطاب في الواقع، لا يختلف عن خطاب قادة الأنظمة المستبدة
في الشرق الأوسط عندما يواجهون احتجاجات شعبية.
النموذج الباكستاني:
يبدو هذا النموذج هو الأكثر قربا مما يمكن أن يسقط فيه الإخوان المسلمون في
مصر، وتشير السوابق إلى أن هذا التحالف يكون ممكنا دائما مع العسكر، ولكن
من المحتمل ايضا أن يتم تقويضه بسبب انعدام الثقة بين الطرفين. فقد كانت
تجربة حركة الضباط الأحرار وجمال عبد الناصر، بالتحالف مع الإخوان لفترة
قصيرة بين 1952- 1954 من أجل مواجهة القوى السياسية المدنية، دليلا على
انتفاء العقبات التي تحول دون تحالفهما. ولولا محاولة الإخوان المبكرة
الهيمنة على الحكم وتهميش العسكريين لدام هذا التحالف فترة أطول. وقد تعرضت
المؤسسة العسكرية والمجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي تسلم إدارة البلاد
بعد 11 شباط| فبراير 2011، لهجوم قاس وعنيف من القوى الليبرالية. فيما نجد
أن تيار الإخوان يبدو أكثر مهادنة معها، ومستعد أكثر من غيره لإبرام صفقة
تضمن مصالح المؤسسة العسكرية(17).
النموذج الوهابي (السعودي): هذا
النموذج خاص جدا ولا يشكل اغراءً حقيقيا لأي من الانتفاضات في البلدان
العربية، وهناك من يرى أن ليبيا يمكن أن يلائمها هذا النموذج، ونحن نستبعد
ذلك لأسباب منها تباين البنية المذهبية؛ حيث يسود المذهب المالكي في ليبيا
وبقية دول المغرب العربي، علما أن الوهابية التي تستند للمذهب الحنبلي، لم
تنجح منذ نشأتها في الجزيرة العربية في التمدد خارجها، لأسباب منها التشدد
الذي تتسم به قراءتها للشريعة الإسلامية. كذلك هناك سبب آخر مهم يتمثل
بحصول القوى والأحزاب المدنية في أول انتخابات جرت في ليبيا على حوالى نصف
مقاعد البرلمان.
نموذج الدولة المدنية الديمقراطية: في كل الأحوال، تبقى
كل الاحتمالات قائمة في العالم العربي، نحو تطور ديمقراطي يستند بالأساس
إلى دولة المواطنة المتساوية، وعدالة اجتماعية طال زمن انتظارهما، يساهمان
في إرساء اسس هذا النموذج، علما من المتوقع على نطاق واسع أن تفشل التيارات
والأحزاب الدينية في تقديم حلول حقيقية لمشاكل الشعوب على المستوى
الاقتصادي و الاجتماعي والسياسي، وهذا ما بدأت مؤشراته واضحة في خيبة أمل
قطاعات واسعة من الجماهير من أداء هذه الأحزاب.
آفاق الإسلام السياسي
للاقتراب
أكثر من معرفة آفاق الإسلام السياسي لا بد من تحليل رؤيته للشريعة
والتراث. حين يظهر السلفيون، الإصرار على رؤية الحاضر من خلال الماضي، دون
العكس، أي نقل افكار الماضي ذات الأبعاد الاجتماعية الماضوية التي تجاوزها
التطور التاريخي، ليحلوها محل الأبعاد الجديدة المتصلة بمنجزات تطور
الحاضر، إنما هم ينطلقون، حقيقة، من الموقع الذي تحتله في هرمية البنية
الاجتماعية الحاضرة، طبقة معينة يعبرون هم عن أيديولوجيتها، إما لأنهم في
موقعها الطبقي نفسه أو لسبب آخر يتعلق بتكوينهم الفكري ونوعية الوعي
السياسي والطبقي عندهم. المقصود بذلك أن المضمون الحقيقي لرؤيتهم الفلسفية
إلى التراث، أي دعوتهم إلى اسقاط الماضي على الحاضر، هو مضمون ترتبط جذوره
بتربة الحاضر، وهو صيغة من صيغ الصراع الأيديولوجي، ويمثل استنجادا
بالأفكار المحنطة في متحف “الماضي” لتثبيت موقع طبقي متزعزع في بنية
اجتماعية تتصدع تحت مطرقة الحاضر(18). وتأكيدا لذلك كشفت التقارير الأخيرة
أن بعض قادة الإخوان المسلمين في مصر هم من شريحة المستثمرين الكبار في عهد
مبارك ولا زالوا كذلك.
يذكرنا ذلك، بقناعة (ماكس فيبر) الراسخة مفادها
عجز الدين- مهما كانت درجة عقلنته وتماسكه الداخلي- عن مقاومة ضغوطات
الواقع الحديث ومغرياته، بل إنه يرى أن الدين كلما نزع أكثر نحو العقلنه،
ازدادت علاقته بالعالم الخارجي توترا، ومن ثم تتسع الهوة بينه وبين عالم
مادي مغموس بروح الصراع والمنافسة لا يقيم وزنا للمشاعر الدينية
والأخلاقية. وبالتوازي مع ذلك، فكلما اتسعت مظاهر الترشيد والعقلنة في
البنى الاقتصادية والاجتماعية، انفكت هذه الأخيرة عن الموجهات الدينية.
ويشدد فيبر على أنه يتعذر التعايش بين المسلمات الدينية والنظام الرأسمالي
الحديث القائم على روح الصراع والاستئثار(19).
لذلك، ما زالت الحركات
الإسلامية في نظر قطاع واسع من النخب العلمانية متهمة في صدق نيتها تجاه
الديمقراطية، وهو ما دفعها إلى توضيح موقفها تجاه هذه القضية من خلال
مجموعة من الأعمال والتنظيرات، يصب أغلبها في الاحتفاء بالبعد الأدائي
والتقني للديمقراطية، ويقصي بعدها الفلسفي. ومن بين الاسماء الفكرية، التي
ساهمت نوعيا في هذا الحراك: حسن الترابي، وأحمد الريسوني، وراشد الغنوشي،
وغازي صلاح الدين، وعبد السلام ياسين، وأقصى ما تطلبه هذه الفئة من
الإسلاميين من الديمقراطية، مع وجود قناعة بالشورى- التي بقت تاريخيا في
إطار المبادئ العامة ولم تتعداه إلى النظم والإجراءات- جملة من الأدوات
والإجراءات، حيث يتقلص مفهومها إلى صيغ واشكال تنفيذية.
إن التحفظ
والتردد اللذين أبدتهما الحركات الإسلامية تجاه الديمقراطية بمعناها العام
يرجعان في الأساس إلى شروطها الفلسفية، وخاصة ما يتعلق بمبادئ: الحرية،
ووضعية القوانين، والمساواة. وقد أثارت هذه المبادئ، ولا تزال كثيرا من
التحديات للحركات الإسلامية، خاصة بعد التطورات القيمية والسياسية
والثقافية التي شهدها العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين،
بحكم الاحتكاك بالغرب، والانفتاح الثقافي والتعطش للحداثة(20)، والذي تعجز
الحركات الإسلامية عن تلبيته أو مجاراته بحكم انشدادها لجمود النصوص.
إن
ما نشهده حاليا ليس بالفعل “حقبة إسلامية” شكلا ومضمونا. فمن حيث الشكل،
فإن ما نشهده فعليا هو ما يمكن تسميته “حالة صعود إسلامية”. ويطرح في هذا
السياق عدد من الأسئلة؛ هل يمكن لهذا الصعود أن يستقر في بنية السياسة
العربية، سواء على مستوى الدول أو الإقليم، ليصبح ذا حضور ممتد يتيح الحديث
عن “حقبة إسلامية” فعلية على الأقل من ناحية الامتداد الزمني لوجود
الأحزاب الدينية في الحكم؟ ما هي العوامل التي قد تعزز من هذا الحضور أو
تحول دونه، سواء داخل بنية الأحزاب المعبرة عنه، أو في البيئة المحيطة بها؟
وهل يمكن أن يطور هذا الصعود آليات للتوافق مع بيئته الداخلية والخارجية؟
أم ستكون العلاقة بينه وبين هاتين البيئتين أو احدهما على الأقل
صراعية؟(21).
تتطلب الإجابة عن هذه الأسئلة بعمق، المزيد من الجهد
البحثي، ولكن يمكن القول أن التفاعلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية
الجارية، وما أفرزته من نتائج في البلدان التي حقق فيها الإسلاميون
الأغلبية في الانتخابات، وتوازن القوى السياسية والاجتماعية، تشير إلى حدوث
تراجع في نفوذ الإسلاميين؛ وهذا ما أظهرته الحالة المصرية بتراجع كبير
للإخوان في انتخابات طلاب الجامعات والصحفيين والصيادلة. وبتراجع شعبية حزب
أردوغان إلى 35% مقارنة بنحو 50% خلال انتخابات 2011 التشريعية، بحسب
استطلاع نشرته مؤخرا صحيفة “توداي زمان” القريبة من الحكومة(22). وبتراجع
شعبية حزب العدالة والتنمية المغربي. لذلك ستضطر القوى الإسلامية أمام ضغط
الشارع والقوى المدنية الديمقراطية لأجراء بعض التعديلات على شعاراتها
وبرامجها، بعد أن تخفق في تحقيق شيء ملموس على الصعيد الاقتصادي
والاجتماعي، وأنه من المستبعد جدا أن تقبل الجماهير بعد الآن الاذعان لأي
شكل من اشكال الاستبداد السياسي أو الديني، وبعد بضع سنوات من الآن من
المرجح أن تبدأ الكفة تميل تدريجيا لصالح القوى المدنية الديمقراطية، مع
إمكانية وجود تبان بهذا القدر أو ذاك بين البلدان في تطور هذه المسيرة غير
السهلة. أما على مستوى التعامل مع البيئة الخارجية، فقد سلكت القوى
الإسلامية منحى براغماتيا واضحا في مد جسور تعاونها مع الدول الغربية التي
كانت تسميها لوقت قريب بقوى الكفر، وهذه الحالة تنطبق بوضوح على مصر وتونس.
من
جانب آخر، وعلى المدى الأبعد نسبيا، يفرض واقع الحياة المتغير صعوبات
كبيرة لا يمكن تجاوزها في مصالحة السياسة مع الدين. فالسياسة ميدانها
النسبي والمتغير، وتستخدم وسائل المساومة والحلول الوسط، أما الدين أي دين
فميدانه المطلق والثابت. لذلك دفعت البشرية خسائر فادحة خلال قرون عندما
تعاملت مع حل المشاكل السياسية والاقتصادية الاجتماعية من منظور النص
الديني، وخير مثال على ذلك، الحروب الدينية الدموية التي دارت رحاها في
أوروبا، وبالأخص بين الكاثوليك والبروتستانت، بدءا من القرن السادس عشر،
إلى أن وصلت الأطراف المتصارعة إلى قناعة بضرورة تحييد الدين عن السياسة،
وكان هذا الصراع المرير أحد العوامل المهمة التي ساهمت في فصل الدين عن
الدولة رسميا.
الهوامش
1- راجع خالد الحروب نقلا عن مصطفى مرسي، “هل
الإسلام السياسي قادر على التعامل مع مشكلات الحكم المعاصر؟”، شؤون عربية،
العدد 150، 2012، ص 27-28.
2- للمزيد راجع Shadi Hamid, “The Rise of Islamists” Foreign Affairs”, Vol. 90, No. 3, May| June 2011, pp. 40-47.
3- راجع صموئيل هنتنغتون، صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي، ترجمة مالك شهيوة ومحمود خلف، بنغازي، 1999، ص 223-224.
4-
راجع عبد النبي العكري “الحركة الجماهيرية في البحرين: الآفاق والمحددات”،
في مجموعة مؤلفين، الديمقراطية والتحركات الراهنة للشارع العربي، بيروت،
2007، ص 141- 143.
5- مصطفى مرسي، مصدر سابق، ص 25.
6- المصدر نفسه، ص 29-30.
7- للمزيد راجع محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي “محدداته وتجلياته”، ط 5، الدار البيضاء، 2000، ص 23.
8- راجع نصر حامد أبو زيد، “مشكلات الفكر الإسلامي المعاصر”، محاضرة، الثقافة الجديدة، 338 لسنة 2010، ص101- 123.
9- مصطفى مرسي، مصدر سابق، ص 29.
10- الشرق الأوسط، 30|3| 2013.
11- الشرق الأوسط، 28|3| 2013.
12- مصطفى مرسي، مصدر سابق، ص 32-33.
13-
فاز الحزب المذكور بالأغلبية في الانتخابات الأخيرة التي جرت بعد أن تم
إجراء استفتاء شعبي على الدستور الجديد في 1 تموز|يوليو 2011 والذي أقر
بغالبية كبيرة، ونص على اختيار رئيس الحكومة من الحزب الفائز في الانتخابات
ويتمتع بصلاحيات أوسع من السابق بعد أن رحلت بعض من صلاحيات الملك له رغم
أن الأخير ظل يتمتع بصلاحيات هامة، وتشكلت حكومة ائتلافية برئاسة حزب
العدالة والتنمية وأحزاب أخرى غير إسلامية منها حزب التقدم والاشتراكية
الذي شارك في الحكومة بأربعة وزراء.
14- رفيق عبد السلام، في العلمانية والدين والديمقراطية، الدوحة، 2008، ص 128.
15- راجع تحولات استراتيجية، ملحق السياسة الدولية، 187، يناير 2012، ص 8-9.
16- تحولات استراتيجية، ملحق السياسة الدولية، 188، أبريل 2012، ص 17- 38.
17- المصدر نفسه، ص 39-40.
18- راجع حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية- الإسلامية، المجلد الأول، ط 2، الجزائر، 2002، ص 28-37.
19- رفيق عبد السلام، مصدر سابق، ص 68-69.
20- امحمد جبرون، الإسلاميون في طور تحول: من الديمقراطية الأدائية إلى الديمقراطية الفلسفية، الدوحة، 2013، ص 3-6.
21- تحولات استراتيجية، 187، يناير 2012 ، ص 4.
22- الشرق الأوسط، 21-6-2013.
* نشر في مجلة الثقافة الجديدة العدد 360 أيلول 2013