بقلم: علي حسين العوضي
برزت
على الساحتين، الفكرية والثقافية، في السنوات الأخيرة، مراجعات مهمة حول
الأيديولوجيات السياسية والاقتصادية، في الوقت الذي يمر به العالم
بتحوُّلات كبيرة، إضافة إلى التغيُّرات الجذرية التي طرأت على العديد من
الأنظمة، وتبدل أطراف الصراع العالمي، وتنامي حالة الغليان الشعبي في
المنطقة العربية منذ ثورات الربيع العربي، التي أطاحت بعض الأنظمة، ولا
تزال مستمرة في عدد من البلدان.
وتأتي في مقدّمة هذه المراجعات الفكرية مراجعة لـ»اليسار العربي»، الباحث عن نهوض جديد، وحدوده وانعكاساته.
ومن الضروري بمكان التوقف بشكل متأنٍ
أمام هذا الأمر، وخصوصاً أن هذا الفصيل ظل بمكوناته صامداً وثابتاً في وجه
عدد من المتغيّرات والتحوُّلات، ومتمسكاً بفكرته الماركسية، وإن انخفض
تأثيره في مرحلة من المراحل، نتيجة تنوُّع واختلاف بعض من مواقفه، وهو ما
استلزم مثل هذه المراجعات النقدية، إلا أنه في المقابل بات اليوم يشكل وفق
رؤى محددة وواضحة التيار الأقدر على فهم وتفسير مجريات الأمور وتطورها
وتحليلها وفق منهجية مادية.
هذه المراجعات بدا في الآونة الأخيرة
أنها أخذت أشكالاً عديدة، حيث خرجت العديد من الإسهامات والدراسات
والمقالات الصحافية، واللقاءات التي تأتي في مقدمتها «اللقاء اليساري
العربي» الدوري، إضافة إلى محاولات وكتب جادة قدمها عدد من المفكرين
اليساريين العرب، من أمثال: نايف حواتمة في كتابه الذي حمل عنوان «اليسار
العربي: رؤيا النهوض الكبير» (2009)، وكذلك كريم مروّة في كتاب «نحو نهضة
جديدة لليسار في العالم العربي» (2010)، ونديم البيطار في «حدود اليسار
الثوري كظاهرة تاريخية» (2003)، في محاولة لوضع وتأسيس البرنامج اليساري
الجديد.
يتوقف غالبية اليساريين أمام عامل كان
له تأثيره المباشر في أزمتهم، والذي يتمثل في انهيار منظومة الدول
الاشتراكية في العام 1991، وما تلاه من تداعيات كانت نتائجها تحوُّلات ذات
طابع ليبرالي بدأت تنتشر في الأوساط اليسارية، إضافة إلى ابتعاد بعض عناصره
عن الفكر الاشتراكي والماركسي.
ويرى أحمد الديين في مقال له بعنوان
«إعادة الاعتبار لليسار»، أن هناك جملة من العوامل الذاتية الداخلية وراء
أزمة اليسار العربي، تتمثل في: أخطاء بعض قوى هذا اليسار، والتحاقها التبعي
بـ»الأنظمة العربية الوطنية»، وقبولها بالتعارض المفتعل بين الديمقراطية
السياسية وقضايا التحرر الوطني أو التحوُّلات الاجتماعية، وانخداع بعض قوى
اليسار بالشعارات القومية، وانجرارها وراء حروب غير مبررة ومشروعات عدوانية
وأطماع، إضافة إلى تجاهل هذه القوى للارتباط الجدلي بين نضالها السياسي
ونضالها الاجتماعي، حيث ركزت على النضال السياسي، متناسية هموم الجماهير،
وأخيراً التناحر المؤسف بين الفصائل والقوى التقدمية والوطنية والديمقراطية
في البلد الواحد، ونسيان العدو المشترك والمهمات الأساسية.
لقاءات اليسار العربي
منذ العام 2010 بدأت فصائل اليسار
العربي بإقامة اللقاءات الدورية والسنوية، والتي أقيم منها حتى الآن أربعة
لقاءات عُقدت جميعها في العاصمة اللبنانية (بيروت)، وتأتي هذه اللقاءات في
سياق ترتيب أوضاع اليسار في ضوء تطوُّرات الأوضاع في الشرق الأوسط، وكذلك
على المستوى الدولي، في سبيل مواجهة محاولات استفراد الولايات المتحدة
بمقدَّرات العالم، بقيادة المحافظين الجدد والنيوليبراليين، الذين يطرحون
شعار «النظام العالمي الجديد»، حيث خصوا الشرق الأوسط بشعار «النظام الشرق
الأوسطي الجديد»، تحت ستار الادعاء بنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وقد أشار البيان الختامي للقاء اليساري
العربي الذي عُقد خلال الفترة من 18 إلى 19 فبراير في العام 2011 تحت شعار
«مهمة اليسار العربي في الثورات الاجتماعية الراهنة وكيفية مواجهة الهجمة
الامبريالية – الصهيونية» إلى أن المهمة الأولى لقوى اليسار العربي «تكمن
في تحصين الحالة الثورية التي يعيشها عالمنا العربي وتجذيرها، باتفاقها على
برنامج للتغيير يتحقق فيه الربط المنهجي النضالي بين المهام الوطنية ومهام
التغيير الديمقراطي الاجتماعي»، وذلك من خلال «مقاومة الاحتلال والعدوانية
الإمبريالية، بزعامة الولايات المتحدة الأميركية والصهيونية»، وهو ما يعطي
لليسار العربي بُعداً تحررياً نحو تأسيس حركة تحرر عربية ذات برنامج نضالي
يستهدف تغيير الأنظمة باتجاه أنظمة حكم وطنية ديمقراطية علمانية.
هذه المهمة تنطلق منها المهام الأخرى،
مثل إعطاء الأولوية للنضال، من أجل الحريات الديمقراطية والعامة، بدءاً من
«حق التنظيم السياسي والنقابي، وحق الطبقة العاملة وسائر الفئات الكادحة في
الإضراب والاعتصام والتظاهر، من أجل تحقيق مطالبها العادلة».
وذهب البيان أيضاً إلى أهمية أن تكون
الأحزاب والقوى اليسارية معبّرة بصورة حقيقية عن طموحات الشباب، وذلك «عبر
تضمين برامجها مطالبهم وهمومهم الحياتية المباشرة، وكذلك تطلعاتهم إلى
التغيير»، من خلال «بناء الكوادر الشبابية والطلابية اليسارية وإغناء
تجربتها ونضالها، من أجل الديمقراطية والحريات العامة والعدالة الاجتماعية،
وإعطائها دوراً أكبر في الهيئات القيادية للأحزاب».
ولم يغفل البيان التأكيد أن «القضية
الفلسطينية كانت ولاتزال القضية المركزية للصراع العربي – الصهيوني، بما
يتطلب إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية»، والتمسك
بالثوابت الوطنية، حتى تتحقق أهداف الشعب الفلسطيني في إقامة دولته
وعاصمتها القدس.
وفي اللقاء الرابع، الذي أقيم في يونيو
الماضي، تم تثبيت شعار وهدف مرحلي للقوى اليسارية العربية تبلور في «النضال
من أجل بناء دولة وطنية ديمقراطية».
هذه الاستفاضة ضرورية، بل قد تكون
مدخلاً أساسياً لإدراك برنامج التغيير «اليساري» الذي تسعى إليه المنظمات
والهيئات والأحزاب اليسارية، في محاولة لخلق الواقع الجديد، وذلك من خلال
عرض لكتابي نايف حواتمة وكريم مروّة.
رؤيا النهوض
يمثل كتاب نايف حواتمة «اليسار العربي:
رؤيا النهوض الكبير» أحد أهم التوجهات الداعمة للعمل المشترك بين جميع
القوى اليسارية، إلا أنه في المقابل يؤكد أن «اليسار» كلمة ذات دلالات
واسعة وفضفاضة تحتاج إلى تحديد في البلد والمجتمع الواحد.
لذلك، يشير حواتمة إلى ثنائية مترادفة:
الأولى في برنامج العمل اليساري والتقدمي، والثانية في مدى ارتباط هذا
البرنامج بـ«مفهوم العدالة الاجتماعية»، والتي هي «طريق الديمقراطية
التعددية».
ولكن كيف يمكن تلمس هذا الطريق؟ الإجابة
تكمن في أنه لا يمكن إجراء «الإصلاح الديمقراطي الاجتماعي السياسي من دون
أن يترافق معه إصلاح ثقافي فكري شامل».
ويربط حواتمة المحددات العامة لمفهوم
اليسار الديمقراطي بجوهر العدالة الاجتماعية وتوزيع عائدات الدولة
والمجتمع، فضلاً عن ارتباطه بمفهوم التقدم، الذي يتمثل برؤية الأهداف
العامة المترابطة في قوتها، عضوياً وبنيوياً، لتحقيق السيادة الوطنية
والقومية، والتحرر من التبعية، والتنمية الإنسانية المستدامة بكل أبعادها.
ومن هنا، يؤكد أن العلاج والحل لقوى
اليسار الوطني الديمقراطي ينطلق من «إعادة بناء حركة شعبية تحررية تقدمية
متنورة، ومواجهة السلفية الدينية السياسية والنيوليبرالية ومدرسة المحافظين
الجدد»، وهم وفق حواتمة، «سيصلون في النهاية إلى الطريق والجدار المسدود».
نهضة جديدة
من جانبه، يحدد كريم مروّة في كتابه
الموسوم «نحو نهضة جديدة لليسار العربي» مسألتين أساسيتين تمثلان المحور
بالنسبة لـ«اليسار»، هما: «تحديد المهمات التي تحرر عالمنا العربي من
تخلفه، وتحرر شعوبنا في أنظمة الاستبداد السائدة»، وهو ما يعني ويتطلب
أيضاً «العمل على تحديد معالم الدولة الحديثة التي تحتاج إليها بلداننا».
ويرسم مروّة البرنامج اليساري الجديد
للمرحلة المقبلة، محدداً عدداً من القضايا ذات العلاقة المباشرة في ما
بينها، وأن تحقيقها وتنفيذها يستلزم نضالاً جماهيرياً شاملاً لجميع
القطاعات، وهذه القضايا هي:
ـ بناء الدولة، وتحرر البلدان من النمط
الاستبدادي القديم نحو الدولة الديمقراطية الحديثة، بكل ما يحتويه هذا
المفهوم من قانون ومؤسسات وحريات عامة.
ـ تحديد مكونات المجتمع المدني ووظائفها
من أحزاب ومؤسسات وجمعيات اجتماعية وثقافية ونقابات عمال، حيث تحتاج مثل
هذه المؤسسات إلى تجديد ذاتها، وتطوير وسائل عملها ونضالها، والارتقاء في
صيغها باتجاه الديمقراطية والشفافية والاهتمام الحقيقي بحقوق الإنسان
والمواطن.
ـ الرؤية والمسألة الوطنية ومنع
التدخلات الخارجية، ورفض تدخل أي بلد عربي بشؤون بلد عربي آخر تحت أي ظروف،
سواء أكانت الشعارات قومية أم دينية.
ـ تحقيق التقدم الاقتصادي لإخراج بلداننا من تخلفها المزمن في كل جوانبه.
ـ سياسة جديدة لاستثمار الثروات في
بلداننا، والتي هي عُرضة للتبديد في أيدي السلطات المتحكمة بها من جهة،
وتحكم وهيمنة القوى الخارجية من جهة أخرى.
ـ التنمية الاجتماعية، والتي أولها تأمين فرص التعليم لجميع المواطنين وتمكينهم من امتلاك الثقافة والمعرفة في كل ميادينهما.
ـ الضمانات الاجتماعية، والتي يؤدي فقدانها إلى تزايد حجم الفقر والمرض، ويدخل في هذا المجال الصحة والسكن.
ـ الاهتمام بالثقافة والمعرفة في كل فروعها، إنتاجاً وتعميماً.
ـ البحث العلمي، وتعزيز وتطوير مراكزه والإنفاق عليه.
ـ الاهتمام بالتراث الثقافي والاجتماعي، والذي هو الأساس في تحديد الهوية لشعوبنا.
ـ الاهتمام بالشباب، تنشئة وتعليماً،
وتوفير فرص عمل لهم، وتوفير كل الشروط لنشاطهم البدني والترفيهي، وتلبية
احتياجاتهم التي تسهم في تكوين شخصيتهم.
ـ لا تزال المرأة تعاني أشكالا من الظلم
والاضطهاد وتُحرم من دورها في بناء المجتمع، حيث تتحمَّل الدولة وبعض
المؤسسات السياسية والاجتماعية وبعض الحركات الأصولية المسؤولية تجاهها.
ـ النضال ضد التطرُّف والإرهاب، الذي يتخذ أصحابه شعارات سلفية يلحقونها بالدين، تعسفاً ورياءً.
ـ الاهتمام بالبيئة والمحيط، وبكل ما يتصل بالحفاظ على الحياة، وبحماية الطبيعة من محاولات تدميرها.
ـ النضال ضد الأنظمة الاستبدادية وضد
أشكال تحكم سلطاتها في شؤون البلاد كلها، والنضال لإلغاء القوانين
الاستثنائية وتحرير البلاد والشعب والمواطن من وسائل القمع الذي تتعرض لها
حرياته ونشاطه، وكذلك مكافحة الفساد الذي «يعشش» في مؤسسات الدولة التي
تستخدم للإثراء غير المشروع، من خلال هدر المال العام، ونهب وتجويع الشعب
وإفقاره.
ـ معالجة القضية الفلسطينية، والتضامن
مع الشعب الفلسطيني في نضاله المشروع، إذ لا سلام مع إسرائيل من دون تحرير
الأراضي العربية المحتلة كاملة.
ـ الحفاظ على حقوق الأقليات في المنطقة العربية وحرياتهم والاعتزار بثقافاتهم.
ـ توطيد علاقات التكامل بين البلدان
العربية في شتى المجالات، الاقتصادية والثقافية والعلمية، على قاعدتي
العلاقة التاريخية والمصالح المشتركة.
ـ العلاقات الدولية والإقليمية والموقف
الحازم تجاه السياسات التي شكلتها الإدارات الأميركية المتعاقبة في تدخلها
في شؤون بلداننا، والعمل مع سائر القوى اليسارية والديمقراطية في العالم
لمواجهة رأس المال المعولم، والعمل على تقارب الشعوب، من خلال التفاعل بين
ثقافاتها ونشر السلام العالمي.
ـ إنجاز البرنامج المشترك بين قوى
التغيير في العالم العربي، لدعم استقلال البلدان العربية وسيادتها وتحقيق
التكامل المنشود على طريقة الاتحاد العربي، بما يحقق التقدم الاقتصاد
والاجتماعي.
كلمة أخيرة
إن اليسار العالمي والعربي بدأ مراجعاته
الفكرية، متمسكاً أولاً بأيديولوجيته الماركسية، وثانياً بمنهجه المادي
لتفسير التاريخ والأحداث، وهو ما يترتب عليه تطوير أسلوب وبرامج العمل
ووسائل التغيير النضالي والثوري، والالتصاق أكثر بالجماهير، وإعادة تفسير
مفهوم «الطبقة العاملة» من معناه الكلاسيكي، ليشمل قطاعات وفئات أوسع،
وإعادة فهم طبيعة المجتمعات وتركيبتها الاجتماعية واختلاف مكوناتها من مكان
لآخر.
«اليسار» اليوم مطالب بأدوار أكبر
وأشمل، بعدما افتقدت الحركات الوطنية التقليدية هوياتها ومرجعياتها، وأصبحت
تعتمد على البرامج ذات الطابع المصلحي، والتصقت أكثر، ونقصد هنا الحركة
الوطنية التقليدية، بالإطارين الليبرالي والنيوليبرالي وتوجهاتهما، حتى
أضحت مصالح «البرجوازية الوطنية» طاغية على المصالح الحقيقية.
ويسجل لليسار بشكل عام استمرار مواقفه
الراديكالية المعارضة لسياسات الانفراد بالسلطة، بشتى أنواعها، ومناهضته في
الوقت ذاته للغرب الرأسمالي، بقيادة الولايات المتحدة، ورفضه لعمليات
الاستسلام، ولم ينسَ أيضاً أهمية القضية الفلسطينية، باعتبارها مدخلاً
رئيساً للعمل الوحدوي العربي المشترك، وما يتطلبه ذلك من آليات
وإستراتيجيات.مفهوم العدالة الاجتماعيةبرز في سياق المراجعات النقدية مصطلح «العدالة الاجتماعية»، والذي حدد كريم مروّة مستوياتها في بلد ما بأربعة أمور، هي:
● مستوى التقدم الاقتصادي المحقق في البلد المعين.
● مدى ترسخ الديمقراطية وثباتها بالمعنى السياسي والاجتماعي لها، وانعكاس
ذلك في سياسات الحكومات المتعاقبة وبرامجها، ولا سيما في ما يتعلق
بالقوانين العامة التي تحمي حقوق المواطنين في كل ما يتصل بحياتهم ونشاطهم.
● مدى إمكانية تحقق نوع من التكامل بين مؤسات الدولة الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني في ما يخص التنمية الاجتماعية.
● مدى قدرة القوى الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني على تقديم برامج
لتوعية المواطنين بحقوقهم وواجباتهم من جهة، ولتحديد المهمات المطلوب
تحقيقها من جهة ثانية، وجذب هؤلاء المواطنين، من جهة ثالثة، إلى الانخراط
في النضالات الديمقراطية، دفاعاً عن حقوقهم وتلبية لمطالبهم، لمواجهة
المحاولات التي يمكن أن تقوم بها السلطات لوضع قوانين تسلبهم حقوقهم.
________________________________________________
منقول عن موقع التيار التقدمي الكويتي