فجّرت
الثورات العربية تناقضات في بنية الأنظمة القائمة، لا على المستويات
السياسية والاقتصادية – الاجتماعية فحسب، بل النقابية أيضاً. تناقضات كانت
موجودة، لكن حاجز الخوف وشبكة المصالح القائمة حالا دون ظهورها.
فالحركات
العمالية والنضالات النقابية أدتا دوراً ريادياً في الاحتجاجات، لو بأشكال
متفاوتة، مهددةً بذلك الأذرع النقابية للأنظمة، لاسيما في تونس ومصر
والجزائر والمغرب والأردن وغيرها من البلدان (راجع «أهم التحركات منذ بدء
«الربيع العربي»).
لكن، وبعد سنتين على «الربيع العربي»، لا يزال مسار
التغيير يتأرجح بين محاولات «إسقاط القديم» والتصدي للثورات المضادة. أما
البديل الضامن للحريات والعدالة الاجتماعية، فأصبح حاجةً ضاغطة أكثر من أي
وقت مضى. فغيابه أعطى الفرصة لقوى الأمر الواقع لإعادة فرض معادلاتها.
ففي
موازاة المواجهات الميدانية بين الثوار ورجال الأمن «لإسقاط النظام»،
اندلعت معارك حقيقية، بين الاتحادات النقابية التي وقفت مع حكوماتها في
مواجهة الحراك الشعبي، وتلك التي تناضل من أجل حق التنظيم وتحرير ارادة
العمال من القيود كافة.
أدى ذلك، في المرحلة الأولى، إلى إرباك
«اتحادات السلطة» نتيجة تهاوي الأنظمة التي تحتضنها. لكن غياب الإطار
النقابي العربي البديل، الذي يوحد صوت الاتحادات العمالية المستقلة
ومواقفها، سمح لها في المرحلة اللاحقة باستغلال الفراغ، ورصّ صفوفها وشنّ
هجمة مضادة على الحركة النقابية العربية المستقلة، عبر حملات تشهير وتخوين
ومحاصرة الاتحادات المستقلة محلياً.
إزاء تلك الهجمة، بادرت الاتحادات
العربية المستقلة في أيار الماضي إلى تأسيس «الاتحاد العربي للنقابات»،
كإطار نقابي عربي يضمّ النقابات الناشئة بفعل الثورات، وتلك التي شاركت في
صنعها خارج «الاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب» (الايكاتو)، المتماهي
كلياً مع الأنظمة.
وخلف هذا المكسب الذي يعبّر عن رغبة العمال باستعادة
العمل النقابي، وطنياً وإقليمياً، تبرز مجموعة من التساؤلات والتحديات حول
قدرته على القطع مع النهج القديم والتأسيس لحركة نقابية مستقلة وقادرة على
الدفاع عن قضايا العمال في المنطقة. تساؤلات يُتوقع من الاتحاد الجديد
الإجابة عنها في مرحلة التحضير لمؤتمره الأول، وما بعدها.
ولادة الاتحاد العربي المستقل
رفض،
فتذمّر، فمقاطعة، فتفكير بـ«البديل». هكذا يمكن اختصار ولادة «الاتحاد
العربي للنقابات». انبثق الاتحاد عن الاحتجاجات العمالية والنقابية التي
اجتاحت عدداً من المدن العربية مع بدء الانتفاضات في المنطقة، ونتيجة
تملمُل العمال والنقابيين المستقلين من تحكّم الانظمة، ورجال استخباراتها،
بمفاصل العمل النقابي.
تم الإعلان عن الاتحاد الجديد في 31 أيار الماضي
في العاصمة الأردنية عمان، داخل «الاتحاد الدولي للنقابات»، وهو اتحاد
دولي يُعدّ الأكثر تمثيلاً في العالم، ويضمّ 315 اتحاداً عمالياً من 156
دولة وإقليماً، ويمثل نحو 175 مليون عامل. ويعتبر «الاتحاد العربي
للنقابات» استثناءاً تنظيمياً داخل «الاتحاد الدولي» اذ يضمّ الأخير
اتحادات قارية فقط (كـ«الاتحاد الأفريقي للنقابات» و«الاتحاد الآسيوي
للنقابات»). ولكن نظراً لخصائص وتحديات المنطقة العربية، تم تأسيس اتحاد
خاص بها «يرقى إلى مستوى المطالب والتطلعات الشعبية»، وفق ما أكّده رئيس
«الاتحاد العربي للنقابات» حسين العباسي.
وأصدر المجتمعون قانوناً
أساسياً مؤقتاً وميثاقاً للمنظمة (إلى حين اعتماد القانون الاساسي النهائي
واللوائح الداخلية وبرنامج العمل للفترة ما بين 2014-2018). كما انتخبوا
رئيس «الاتحاد العام التونسي للشغل» حسين العباسي رئيساً للاتحاد، وأمين
عام «الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين» سلمان محفوظ وأمين عام «الاتحاد
العام لنقابات عمال فلسطين» شاهر سعد كنائبين له، والمدير الاقليمي للمنطقة
العربية في «الاتحاد الدولي للنقابات» مصطفى التليلي سكرتيراً تنفيذياً،
يتولون تسيير شؤونه حتى عقد مؤتمره الأول. كما شكلوا سبع لجان مختصة تتولى
الإعداد لهذا المؤتمر: لجنة الصياغة العامة لمشاريع القوانين ولوائح
المؤتمر الأول؛ لجنة المالية؛ لجنة المرأة؛ لجنة الاعلام والاتصال؛ لجنة
الشباب؛ لجنة العضوية؛ ولجنة العلاقات الدولية والتعاون.
طرح «الاتحاد
العربي للنقابات» نفسه منذ البداية كـ«منظمة نقابية عربية مستقلة» عن
الأنظمة، وبالتالي قطع كل صلة بـ«الاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب»
(الايكاتو). وبالرغم من صعوبة تقييم مدى استقلالية مواقفه وحرية قرارته،
نظراً لولادته الحديثة، هناك مؤشرات تدلّ على رغبته في القطع مع «الماضي
النقابي العربي» الذي يمثّله «الايكاتو».
أولاً: ورد في المادة الرابعة
من القانون الأساسي المؤقت للاتحاد أن: «تسحب (كل منظمة ترغب في الانضمام
اليه) عضويتها رسمياً وبشكل مسبق، من أي منظمة إقليمية أخرى دعمت او تدعم –
من خلال أعمالها أو بياناتها أو مواقفها – حكومات تنتهك بشكل منهجي حقوق
الانسان والحقوق والحريات النقابية».
لم تفتح المادة المذكورة الباب
أمام تأويل هوية تلك «المنظمة الاقليمية»، حيث أشار الاتحاد في مذكرة
توضيحية أن تلك الفقرة من القانون الأساسي المؤقت «تعني مباشرةً الاتحاد
الدولي لنقابات العمال العرب الذي أصبحت العضوية فيه، في مثل هذه الظروف،
في تعارض تامٍ مع كل مشروع جديد يهدف إلى تأسيس حركة نقابية حرة ومستقلة في
المنطقة العربية».
ثانياً: يظهر من لائحة الموقعين على القانون
الأساسي المؤقت غياب الاتحادات المنضوية تحت «الايكاتو»، وهي أعضاء في
«الاتحاد الدولي للنقابات»: كـ«الاتحاد العام لنقابات عمال الكويت»،
«الاتحاد المغربي للشغل»، «الاتحاد العام لنقابات عمال اليمن»، و«الاتحاد
العام للعمال الجزائريين» (باستثناء «الاتحاد العام لنقابات عمال الأردن»
الذي بحكم انضمامه إلى الاتحاد الجديد سيسحب عضويته من «الايكاتو»).
يُشير
ذلك إلى أن الفرز النقابي العربي طال «الاتحاد الدولي للنقابات» نفسه الذي
يبدو أنه قرّر التخلص من اتحادات الأنظمة المنضوية تحته، أو بالأحرى، يعكس
وقوف «الاتحاد الدولي» مع استقلالية وحرية النقابات عبر تأسيس اتحاد بديل
عن «الايكاتو».
ثالثاً: يتحدث الميثاق عن «آفاق جديدة لبلدان هذه
المنطقة» في ظل الثورات العربية، حيث «تجد المنظمات النقابية المستقلة
نفسها في مواجهة مسؤوليات جديدة تتطلب منها أن تكون أقرب إلى القاعدة
الشعبية ولعب دور محوري في عملية التحوّل الديموقراطي وتحقيق التطلعات
الشعبية في الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية».
غياب الرؤية البديلة
اكتفى
رئيس «الاتحاد العربي للنقابات» حسين العباسي عند سؤاله عن رؤية الاتحاد،
خلال ندوة إعلامية للاتحاد عُقدت في تونس الشهر الحالي، بالردّ على اتهامات
«الايكاتو» وحملات التشهير التي يقوم بها تجاه المنظمات النقابية
المستقلة. ما يطرح علامات استفهام حول قدرة الاتحاد واستعداده لتخطي مرحلة
رد الفعل، والمبادرة إلى صياغة رؤية نقابية بديلة، كما بدا في بعض بنود
ميثاقه.
أولاً: يُظهر ميثاق المنظمة غياب «مشروعه الاقتصادي –
الاجتماعي البديل». فتضمّنت أهدافه، على سبيل المثال، «ضمان حرية حركة رؤوس
الأموال من دون معيقات» في المنطقة العربية، وهو أحد التوجهات الاقتصادية
النيوليبرالية التي أثبتت تهديدها للأمان الاقتصادي. والأخطر من ذلك، هو
اعتماد وصفات اقتصادية «جاهزة»، من دون أن يسبق ذلك بلورة النموذج
الاقتصادي المنبثق عن حاجات المنطقة العربية وتطلعات شعوبها.
ثانياً:
تشمل أهداف الاتحاد «إقامة حوار اجتماعي في الدول العربية». يثير هذا الهدف
التساؤل حول الدور الذي تقدمه المنظمة لنفسها. هل الحوار الاجتماعي بين
المنظمات العمالية والحكومات وأصحاب العمل هو غايةً بحدّ ذاتها أم وسيلةً
لتحقيق المطالب والحقوق العمالية؟ هل سيبلور الاتحاد الجديد آليات عمل وضغط
تتخطى عقد المؤتمرات والتدريب، إلى تنظيم تحركات عمالية إقليمية، احتجاجاً
على الانتهاكات وعلى السياسات الاقتصادية الاجتماعية في البلدان العربية؟
وهنا أيضاً، هل سيساهم الاتحاد في دعم الاتحادات الوطنية المستقلة، وفي فكّ
الحصار عنها، من خلال تعزيز التضامن العمالي في المنطقة؟
ثالثاً: حول
ضمان «استقلالية» الاتحاد، أكّد السكرتير التنفيذي مصطفى التليلي
لـ«السفير» أنهم سيحاولون ضمّ «إما المنظمات النقابية المستقلة تماماً عن
حكوماتها، وإما المنظمات التي تعمل من أجل رفع القيود عنها، وذلك استناداً
إلى إجراءات قانونية واستقصاء ميداني للتحقّق من مواردها المادية ومدى
استقلاليتها».
يضيف شارحاً: «من الظلم أن تأتي بنقابة حديثة التأسيس،
وأن تطلب منها أن لا تمتثل نهائياً لحكومتها. النقابات عادة تكون على صورة
النظام السياسي الموجود. هناك أنظمة تعطي مساحة حرية للنقابيين، حرية في
الخطاب والموقف والمطالب، وأخرى لا تسمح في ذلك. لا يعقل أن تطلب من
المنظمة التي تعاني من قيود أن تصبح، بين ليلة وضحاها، منظمة مستقلة».
وبغض
النظر عن خيارات الاتحاد التكتيكية ورهانه الاستراتيجي على منظمات نقابية
«ملتبسة»، يبقى السؤال حول قدرته على فرض معادلة نقابية وسياسية جديدة في
مواجهة الأنظمة القمعية والخيارات الاقتصادية القائمة في المنطقة، أي من
دون أن يسقط في التسويات الضيّقة أو الهواجس العددية على حساب مبدأي
الاستقلالية والديموقراطية.
كذلك، لا تقتصر استقلالية الاتحاد على
طبيعة علاقته بالحكومات وأصحاب العمل، بل تتخطاها لتشمل «الاتحاد الدولي
للنقابات» نفسه. فهل سيُسقط الاتحاد الجديد أولويات «الاتحاد الدولي
للنقابات» على أجندته العربية أم سيحدّدها استناداً إلى تجارب الحركات
العمالية والنقابية ونضالاتها في المنطقة؟
أخيراً، هل سيكسر الاتحاد
المنبثق عن الثورات مع نهج «الايكاتو»، من حيث استقلاله المادي، وبنيته
التنظيمية (الديموقراطية والتشاركية)، ومواقفه وقراراته المستقلة والداعمة
لإرادة العمال والشعوب؟ هل سيسعى، عبر اتحاداته الأعضاء، إلى توسيع قواعده
من خلال دعم تشكيل النقابات في كل القطاعات، وبالأخص غير النظامية منها،
وتنظيم فئات مهمشة كالنساء والشباب والعمال المهاجرين؟
من الصعب
الإجابة حالياً عن تلك التساؤلات. لكن الاتحاد الذي طرح نفسه بديلاً، مدعو
للإجابة عنها في المرحلة المقبلة، والمحاسبة على أساسها. وهنا تقع
المسؤولية على «الاتحاد الدولي للنقابات»، كما على قدرة الاتحادات الأعضاء
على تخطي تحدياتها الوطنية من أجل لعب دور نقابي إقليمي.
تأسّس الاتحاد
ليطوي صفحة نقابية مخيّبة، لكن مستقبله لا يزال ضبابياً إلى حدّ كبير. ما
قاله لنا حتى الآن أنه ليس على صورة «اتحادات الأنظمة»، لكنه لم يفصح لنا
بعد عن «ماهيته»، وعن مشروعه البديل.
وبغض النظر عن نجاح الاتحاد أو
فشله في بناء حركة نقابية عربية مستقلة، المعادلة الأهم التي فُرضت بعد
الثورات هي قدرة العمال على رفض هياكل نقابية تفشل في تمثيل مصالحهم،
ليؤسسوا اتحاداً بديلاً.. عن «البديل». أليس ذلك ما يعنيه مسار التغيير؟