مقدمة:
بعد أن استطاعت السلطة فرض
نظامها الانتخابي عبر مرسوم قانون الصوت الواحد الذي يمكّنها من السيطرة
شبه الكاملة على العملية الانتخابية ومخرجاتها ويجعلها قادرة على التحكّم
في مفاصل العمل البرلماني على نحو أصبحت فيه الانتخابات مجرد “لعبة كراسي”
غير ذات معنى؛ ويغدو فيه مجلس الأمة واجهة شكلية خاضعة لإرادة الممسكين
بزمام السلطة الفعلية في البلاد، فإنّه من الوهم استمرار التعويل على
المشاركة في الانتخابات النيابية والمؤسسة البرلمانية القاصرة في إمكانية
تحقيق أي إصلاح جدي أو إحداث أي تغيير إيجابي نوعي لصالح الشعب الكويتي.
هذا ناهيك عن ما كشفته التجربة
التاريخية بالملموس طوال نصف قرن من انسداد أفق الإصلاح والتغيير في ظل
سطوة النهج غير الديمقراطي للسلطة والانفراد بالقرار، ناهيك عن قصور دستور
1962 بوصفه دستوراً للحد الأدنى وما تعانيه المنظومتان السياسية والدستورية
من نواقص وعيوب بنيوية رئيسية.
ولئن سجّل التاريخ للشعب
الكويتي نضاله المتواصل طوال نصف قرن في الدفاع عن الهامش المحدود المتاح
له من الحقوق والحريات إزاء محاولات السلطة لتقليصها والانقضاض عليها،
ودوره في إحباط الانقلابات المباشرة للسلطة على الدستور ومنعها من تنقيح
مواده نحو الأسوأ في الفترة بين 1976 إلى 1992، بالإضافة إلى التحرك الشعبي
لإصلاح النظام الانتخابي في العام 2006، وفضح بعض ممارسات الفساد السياسي
وإطاحة بعض شخوصه عبر إسقاط رئيس الوزراء السابق ناصر المحمد والحلّ الأول
لمجلس 2009 الذي توّرط عدد من أعضائه في فضائح الفساد، وهي بالتأكيد نضالات
مشهودة للشعب الكويتي من أجل الديمقراطية، ولا يمكن بحال من الأحوال
الاستهانة بها أو التقليل من أهميتها السياسية والتاريخية، وهي تنطوي على
خبرات وتجارب لابد من دراستها والاستفادة منها والبناء عليها… إلا أنّه في
المقابل، فإنّ الشعب الكويتي طوال نصف قرن من هذا النضال المتواصل حماية
لحقوقه وذوداً عن حرياته كان في موقع الدفاع، ولم يتمكن من تحقيق مكاسب
ديمقراطية رئيسية بالانتقال نحو النظام البرلماني الكامل، حيث لا نزال
نراوح في مكاننا في المربع الأول من دون تقدم منذ العام 1962، بل لقد تراجع
الهامش الديمقراطي النسبي المحدود عما كان عليه وذلك بفعل ضغط السلطة.
ومن جانب آخر فإنّ الحراك
الشعبي الأخير الذي تعود بداياته إلى العام 2006 أخذ في التنامي والاتساع
على نحو ملحوظ منذ أواخر العام 2009 إلى بداية العام الحالي 2013، أصبح
اليوم يواجه تحديات لا يمكن تجاهلها، إن لم نقل إنّه يواجه أزمة علينا
الاعتراف بها والعمل على تجاوزها.
ومن هنا فإنّ هناك حاجة إلى
تداول صريح ونقاش حيّ وبحث معمّق بروح نقدية شجاعة وبعزيمة نضالية لواقع
الحراك الشعبي في المعركة من أجل الديمقراطية وصولاً إلى بلورة خارطة طريق
للنضال من أجل تحقيق الإصلاح الديمقراطي المنشود.
وهذا ما يتطلع التيار التقدمي
الكويتي إلى البدء فيه عبر هذه الورقة التي تمثّل محاولة لإجراء مراجعة
تحليلية نقدية لمسار الحراك الشعبي؛ ولتشخيص الأزمة السياسية في البلاد،
بحيث يتم استخلاص الاستنتاجات ورسم ملامح طريق الكويت نحو الإصلاح
الديمقراطي.
القسم الأول
المراجعة التحليلية النقدية للحراك الشعبي
أساس الأزمة:
إنّ الأزمة السياسية التي
تشهدها الكويت ليست وليدة اللحظة، وإنما هي أزمة قائمة تكمن حيناً وتتفاقم
حيناً آخر منذ السنوات الأولى للاستقلال، ويعود السبب الرئيسي لهذه الأزمة
إلى الطبيعة الرجعية للسلطة ونزعتها غير الديمقراطية والطابع الطفيلي
لمصالح قوى الحلف الطبقي المسيطر، والتناقض الواضح بين عقلية المشيخة
ومتطلبات بناء الدولة الكويتية الحديثة التي يفترض أن تكون دولة ديمقراطية
ودولة مؤسسات.
إنّ التاريخ الكويتي منذ 1962
خير شاهد على ذلك، وبالتأكيد فإنّ معالجة الأزمة وحلّها لن يتحققا بتغيير
عدد الدوائر الانتخابية، أو عبر زيادة عدد أصوات الناخبين أو تقليصها، أو
من خلال تبديل أشخاص بعض المسؤولين أو الوزراء، وإنما يمكن فقط أن تتحقق
مثل هذه المعالجة والحلّ عبر تغيير نهج هذه السلطة وتغيير العقلية التي
تدار بها البلاد بها، وذلك عبر إحداث تبدّل في ميزان القوى لصالح القوى
الشعبية يدفع السلطة إلى الرضوخ للقبول بمثل هذا التغيير.
وفي مقابل ذلك فقد تنامي الوعي
الشعبي، وأدركت قطاعات واسعة من المواطنين، وفي مقدمته الشباب، أنّ هناك
ضرورة ملحة لتحقيق الإصلاح السياسي كمدخل لأي أصلاح في مجال آخر من مجالات
الحياة، وانطلق في العام 2006 حراك شعبي واسع يطالب بإصلاح النظام
الانتخابي بعدما أصبح واضحاً مدى سوء نظام الدوائر الانتخابية الخمس
والعشرين الذي فرضته السلطة منفردة في العام 1980، وهذا ما تمثّل في حركة
“نبيها خمس”، ولكن المؤسف أنّ التحرك من أجل إصلاح النظام الانتخابي على
النحو الذي جرى فيه لم يكن جزءاً من حركة أوسع للإصلاح الديمقراطي الشامل،
وفي الوقت نفسه لم يكن نظام الدوائر الخمس بالأصوات الأربعة الذي جرى تبنيه
هو البديل الأفضل… وفي العام 2009 انطلق حراك جديد تحت شعار “إرحل… نستحق
الأفضل” بعدما برزت على السطح فضيحة “شيكات النواب” التي تورط فيها رئيس
الوزراء السابق ناصر المحمد واتضح معها للعيان مدى عجزه وسوء إدارته لشؤون
الدولة، وكانت نقطة الضعف الرئيسية في ذلك الحراك انحصارها في شخص رئيس
مجلس الوزراء السابق، وكأنّ استبداله بآخر أفضل منه هو الحلّ… وفي المقابل
فقد سعت السلطة جاهدة لتعطيل مساءلة رئيس مجلس الوزراء أمام مجلس الأمة،
وانتهكت مبدأ الحصانة البرلمانية الموضوعية لأعضاء مجلس الأمة عندما عمدت
إلى رفع الحصانة عن النائب السابق الدكتور فيصل المسلم وذلك للتحقيق معه في
تهمة إفشائه أسراراً مصرفية لعرضه داخل إحدى جلسات المجلس صورة شيك قدمه
رئيس الوزراء السابق إلى أحد النواب السابقين، وعملت السلطة على التضييق
على حرية الاجتماعات وقمعت بالقوة التجمع أمام ديوان النائب السابق الدكتور
جمعان الحربش، ما أشعل فتيل الغضب الشعبي وأدى إلى اتساع الحراك في نهاية
العام 2010 و بداية العام 2011 وتبلّور لاحقاً شعار “رئيس جديد بنهج جديد
وحكومة جديدة” الذي يمثّل تقدماً قياساً بشعار “إرحل… نستحق الأفضل” إلا
أنّه مع ذلك لم يتم وضع تصوّر واضح للمقصود بالنهج الجديد… وشيئاً فشيئاً
فاحت الروائح العفنة للعديد من فضائح الفساد السياسي من إيداعات مليونية
وتحويلات خارجية ما استفز أقساماً واسعة من المواطنين واستثار غضبهم وقاد
إلى اتساع الحراك الشعبي على نحو غير مسبوق في تجمع 28 نوفمبر 2011 بحيث
اضطرت السلطة إلى تغيير رئيس مجلس الوزراء وحلّ مجلس 2009 وإجراء انتخابات
جديدة في فبراير 2012 قادت إلى نجاح غالبية نيابية ليست على هوى السلطة…
وعلى الرغم من الأخطاء والسلبيات ونقاط الضعف والقصور الذي تميّز به أداء
نواب الغالبية في ذلك المجلس، وعدم إنجازهم أي خطوات تشريعية للإصلاح
الديمقراطي وانشغالهم في تشريعات مثيرة للخلاف ومتعارضة مع الطابع المدني
للدولة من شاكلة تنقيح المادة 79 من الدستور في شأن توافق القوانين مع
الشريعة الإسلامية وفرض الزي المحتشم وغير ذلك، إلا أنّ السلطة أدركت عجزها
عن التعامل مع تلك الغالبية المعارضة، في الوقت الذي كان واضحاً فيه أنّ
الحراك الشعبي قد فرض على السلطة واقعاً جديداً مختلفاً عما كان عليه الحال
قبل ذلك من أساليب التعامل السلطوي، إذ لم تعد السلطة قادرة على الانقلاب
المباشر على الدستور كما فعلت في عامي 1976 و 1986, بل لم يعد مجدياً لها
استخدام أساليب من شاكلة ضخ المال السياسي في الانتخابات، أو إفساد النواب،
وملاحقة المعارضين، وبذلك فقد لجأت السلطة إلى أسلوب مختلف يمكّنها من
استعادة زمام المبادرة وفرض سطوتها وتكريس انفرادها بالقرار، وذلك عبر
تغيير آلية الانتخاب، وهذا ما أتيح لها بعد إبطال مرسوم حل مجلس 2009 لخطأ
إجرائي وإبطال انتخابات فبراير 2012، حيث حاولت أول الأمر أن تطعن أمام
المحكمة الدستورية في قانون الدوائر الانتخابية، وعندما لم تستجب المحكمة
لها، بادرت السلطة إلى فرض آليتها الانتخابية عبر حلّ مجلس 2009 مرة أخرى
وإصدار مرسوم بقانون لتخفيض عدد الأصوات التي يدلي بها الناخب من أربعة
أصوات إلى صوت واحد فقط، بحيث يسهل عليها التحكّم في مخرجات العملية
الانتخابية وإضعاف إمكانية تشكّل غالبية نيابية غير موالية لها، في الوقت
الذي كشّرت فيه السلطة عن وجهها القبيح ولجأت إلى أساليب بوليسية غير
مسبوقة في قمع الحراك الشعبي وملاحقة الناشطين واعتقالهم وتوجيه اتهامات
معلّبة ضدهم… وهذا ما أدى إلى استفزاز قطاعات واسعة من المواطنين الذين
شاركوا بعشرات الآلاف في التجمعات الحاشدة والمظاهرات الشعبية المناهضة
لذلك العبث السلطوي في النظام الانتخابي، خصوصاً في مسيرات “كرامة وطن”
الأربع الأولى السابقة لإجراء انتخابات ديسمبر 2012، بالإضافة إلى حملة
المقاطعة السياسية والشعبية لتلك الانتخابات.
محاولة لتقييم الحراك الشعبي وقوى المعارضة:
يمكننا أن نوجز أهم المكاسب والانجازات التي حققها الحراك منذ 2006 في النقاط التالية:
– نجاح الحراك بتحقيق بعض
مطالبه كإقرار الدوائر الخمس في عام 2006، والانجاز الأكبر المتمثل في
إزاحة رئيس وزراء من أبناء الأسرة الحاكمة عبر الشارع ليكون أول رئيس وزراء
سابق.
– فرض واقع جديد على السلطة يتمثّل في إمكانية خروج الشعب إلى الشارع واحتجاجه ومطالبته بحقوقه.
– تطور خطاب القوى السياسية
المعارضة، فبعد أن كان الحراك موجهاً نحو مطلب واحد ذي طابع “ترقيعي” مثل
تقليص عدد الدوائر، أو تغيير “شخص” رئيس الوزراء فقد تطورت المطالب
المطروحة لتدعو إلى “نهج جديد بحكومة جديدة” ثم المطالبة بإشهار الأحزاب
السياسية و”الحكومة المنتخبة” والنظام البرلماني.
– اكتساب الجماهير خبرات
نضالية وميدانية كبيرة عبر المشاركة في المسيرات والاعتصامات، ومن دون
تجاهل للنواقص وأوجه القصور وأنّ كثيراً من الخبرات تمّ اكتسابها عن طريق
التجربة والخطأ، فقد شهدت المسيرات أشكالاً غير مسبوقة من التنظيم وأساليب
المناورة في اختيار مواقع المسيرات والمواقع البديلة، أو من خلال وجود
الطواقم الطبية وغيرها.
– الاستعداد الكبير للتضحية وروح التضامن اللذان أبداهما الشعب الكويتي.
– الافتضاح التدريجي للنهج غير الديمقراطي للسلطة وزوال الكثير من الأوهام حول طبيعتها.
ولكن رغم هذه المكاسب والانجازات والايجابيات فقد كان هناك نواقص وسلبيات وإخفاقات لعلّ أهمها:
– عدم وجود أجندة واضحة لمطالب الإصلاح الديمقراطي الشامل بعد حركة “نبيها خمس” في العام 2006.
– عفوية التحرك واستمراره في
إطار ردود الأفعال سواءً في 2009 للمطالبة بإسقاط ناصر المحمد، أو في
مواجهة فضيحة الشيكات ومن بعدها قمع ديوانية الحربش، وذلك من دون أن يكون
هناك توافق على مطالب واضحة للإصلاح الديمقراطي، حيث انحصرت المطالب برحيل
ناصر المحمد وحلّ مجلس 2009، وهذا ما استغلته السلطة لترتيب أوضاعها خصوصاً
مع هدوء الشارع وتشتت القوى السياسية والانشغال بالانتخابات، وبذلك ضاعت
فرصة تاريخية، فيما أتيح المجال أمام أصحاب المصالح الشخصية والأجندات
الانتخابية للدخول على الحراك.
– التناقضات التي انطوى عليها
تكوين كتلة الأغلبية في مجلس 2012 التي كانت تضم لفيفاً من نواب أفراد أو
ينتمون إلى كتل وذلك من خلفيات مختلفة ويحمل بعضهم أجندات متعارضة, لذلك
فشلت كتلة أغلبية مجلس 2012 في إقرار قوانين الإصلاح السياسي، التي وعدت
بإقرارها، وألهت بعض عناصرها الشارع في صراعات حول بعض الاقتراحات
والأطروحات الفئوية والطائفية التي طرحتها ومشروعها لأسلمة الدولة.
– وبعد إبطال مجلس فبراير
2012 بات واضحاً أن هناك أطرافاً في الكتلة الأغلبية لديها أولويات مختلفة
عن أولوية الإصلاح الديمقراطي، بل متناقضة معها.
– الاصطفاف الطائفي والفئوي
الذي ألقى بظلاله السلبية على مقاطعة انتخابات ديسمبر 2012، ناهيك عن
التصرفات الاستفزازية لبعض عناصر المعارضة.
– ضعف قوى التيار الوطني
الديمقراطي ونأي بعضها بنفسها عن الحراك الجماهيري, وقيام بعض أطرافها
بتنظيم اعتصام معزول عن حركة الجماهير لتسجيل موقف.
– رفض المجاميع الشبابية التعاون مع القوى السياسية المنظمة والاستفادة من خبراتها السياسية.
أما أبرز الملاحظات حول صيغ التحالفات السياسية التي تشكّلت والمجاميع الشبابية التي نشطت فيمكن أن نحددها في النقاط التالية:
-
·
الجبهة الوطنية لحماية الدستور وتحقيق الإصلاحات السياسية:
تأسست الجبهة في 9 سبتمبر 2012,
حيث شارك في تأسيسها شخصيات عامه وسياسية ينتمون إلى تيارات سياسية وكتل
نيابية ومجاميع شبابية ومكونات اجتماعية مختلفة, ولكنهم قاموا بذلك بصفاتهم
الشخصية وليسوا كممثلين بصورة رسمية عن تياراتهم ومكوناتهم التي ينتمون
لها, وذلك تحت ضغط ظرف سياسي محدد كان يتطلب الإسراع في تشكيل الجبهة
للتصدي لمخطط السلطة في الانفراد بتغيير النظام الانتخابي قبل أن يصدر
مرسوم قانون الصوت الواحد, بل قبل أن يصدر حكم المحكمة الدستورية برفض
الطعن الحكومي في إعادة تحديد الدوائر الانتخابية, وقد أسهمت الجبهة بعد
تأسيسها بدورها في التصدي لمخطط السلطة بالتعاون مع القوى السياسية و
الشعبية والمجاميع الشبابية المعارضة لهذا المخطط ضمن ظروف سياسية سريعة
التبدل وأحداث متلاحقة ومنعطفات متتالية, حيث أصدرت البيانات السياسية و
المواد التعبوية, وشاركت في التجمعات الشعبية الحاشدة, وأعدّت مذكرة
قانونية بالغة الأهمية خاطبت فيها رئيسي مجلس القضاء الأعلى ومجلس الوزراء,
كما أسست الجبهة “اللجنة الشعبية لمقاطعة الانتخابات” التي قامت بدورها في
تعبئة الناخبين لعدم التصويت, ونجحت في تقليص عدد المشاركين في الانتخابات
إلى 27% (حسب إحصائيات اللجنة الشعبية لمقاطعة الانتخابات), ولكن كان
واضحاً أنّ الواقع السياسي الذي تشكل في البلاد بعد إجراء انتخابات مجلس
الصوت الواحد في الأول من ديسمبر قد تبدّل عما كان عليه قبلها.
وقد واجهت “الجبهة الوطنية
لحماية الدستور و تحقيق الإصلاحات السياسية” تحديات الواقع الجديد بعد
انتهاء الجولة الأولى من معركة التصدي لمرسوم الصوت الواحد, وهذا ما كان
يتطلب إعادة تحديد أهداف الجبهة, مع أنه كانت هناك ضمن الأهداف المدرجة في
إعلان مبادئ الجبهة أهداف أخرى أبعد من التصدي لمخطط العبث السلطوي بالنظام
الانتخابي, ولكن الأولوية والاهتمام إلى ما قبل الانتخابات كانا منصرفين
بالأساس نحو التصدي لذلك المخطط, بالإضافة إلى بروز سلبيات ناجمة عن كونها
جبهة مشكّلة من شخصيات وناشطين وليس من تيارات وكتل ومجاميع … ومع أنه جرت
مبادرة لمحاولة إعادة تحديد أهداف الجبهة و إعادة الهيكلة إلا أنّ تلك
المحاولات لم تستكمل، بل أنها لم تنل استجابة مناسبة من بعض الأطراف
الفاعلة بالجبهة, ما أدى إلى توقف عمل الجبهة, و إن لم يتم الإعلان عن ذلك.
إنّ التقييم الموضوعي لتجربة
“الجبهة الوطنية” يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الظروف الموضوعية والذاتية
والتعقيدات والملابسات التي أحاطت بتشكيلها وعملها وفي الوقت نفسه يجب أن
يتناول هذا التقييم الموضوعي ما استطاعت أن تحققه من إنجاز مهما كان
محدوداً, وأن يتناول النواقص والسلبيات، والأهم من ذلك أن يتم استخلاص
الاستنتاجات والخبرات.
بعد الجولة الأولى لمعركة
التصدي لمخطط السلطة في الانفراد بتغيير النظام الانتخابي ومقاطعة انتخابات
مجلس الصوت الواحد توجّه العديد من أطراف قوى المعارضة في فبراير 2013
لبناء ائتلاف جديد يجمعها, وبالطبع فقد كانت هناك حاجة موضوعية ملحة لتنظيم
صفوف قوى المعارضة وتوحيد جهودها وتنسيق مواقفها في مواجهة النهج السلطوي؛
وكذلك من أجل تحقيق التغيير الديمقراطي… فالمعركة طويلة والخصم عنيد
ويمتلك إمكانات لا يستهان بها, وبالطبع فإنّ أي كتلة من النواب السابقين
وحدها أو حركة سياسية منفردة أو مجموعة شبابية واحده لا تستطيع الادعاء
بقدرتها على قيادة النضال الديمقراطي بمعزل عن مشاركة الأطراف السياسية
والشعبية والشبابية الأخرى, وهذا ما يفرض ضرورة قيام ائتلاف يجمع سائر قوى
المعارضة حول أهداف واضحه متفق عليها وضمن إطار فاعل, ولكن كان من المهم
تحديد الأهداف المرحلية وبلورة صيغة مناسبة للعمل المشترك, وكانت الصيغة
المناسبة والواقعية تتمثل في اتفاق التيارات السياسية والكتل النيابة
والمجاميع الشبابية على تأسيس ائتلاف للمعارضة على أساس التكافؤ, وأن يتم
اتخاذ القرارات السياسية بالتوافق بين الأطراف المشكلة للائتلاف, إذ لا
يمكن اتخاذ القرارات بين أطراف سياسية مختلفة ضمن ائتلاف واسع وفق قاعدة
الأغلبية كما هو الحال في التنظيم السياسي الواحد أو المتجانس.
إلا أنّه أثناء تأسيس “ائتلاف
المعارضة” بدا واضحاً أنّ هناك أموراً تستحق الاتفاق عليها، وأنّ هناك
نقاطاً مثيرة للخلاف لابد من تحديد المواقف تجاهها، ولهذا فقد طرح التيار
التقدمي الكويتي على الأطراف المتفقة على تأسيس ائتلاف المعارضة ضرورة بحث
أربعة مسائل رئيسية:
-
تعريف دقيق لما يعنيه مصطلح التيارات السياسية المشاركة في الائتلاف,
إذ أن مثل هذا التعريف مستحق حتى لا تشارك تحت هذا المسمى أطراف لا ينطبق
عليها تعريف محدد, بحيث تنطبق تسمية تيار سياسي على التيار الذي يمتلك
برنامجاً سياسياً محدداً وله مواقف سياسية معلنة وله كيان تنظيمي معروف.
-
تحديد واضح لمَنْ هي المجاميع الشبابية المشاركة في الائتلاف, وذلك لتعدد هذه المجاميع وتوقف نشاط بعضها وتشكّل مجاميع جديدة.
-
حسم أمر الازدواجية في مشاركة أطراف معينة في الائتلاف و ما يسمى
اللجنة التنسيقية للحراك في آن واحد معاً, لما يترتب على هذه الازدواجية من
تعقيدات وحساسيات.
-
مستقبل الائتلاف بعد صدور حكم المحكمة الدستورية… ففي حال صدور حكم
بإبطال مرسوم قانون الصوت الواحد, فهذا يعني أن هناك استحقاقاً انتخابياً
قريباً, فما هو دور الائتلاف فيه؟ … و في حال صدور حكم المحكمة بحل مجلس
الصوت الواحد لخطأ إجرائي, مثلما يتردد وإجراء انتخابات جديدة وفق مرسوم
الصوت الواحد من دون إبطاله, فما هو موقف أطراف الائتلاف حول المشاركة فيها
أو مقاطعتها؟… وكذلك ما هو الموقف تجاه مَنْ سيشارك في مثل هذه
الانتخابات؟
ورأى التيار التقدمي الكويتي أن
القفز على هذه المسائل وعدم إيضاح الموقف حولها مسبقاً من شأنه أن يؤدي
إلى اختلال في بناء الائتلاف وإلى بروز تناقضات في مواقف أطرافه… ولهذا فقد
طالبنا بأن تجري مناقشة مستفيضة وبحث مناسب لهذه المسائل الأربع, وذلك قبل
تشكيل المكتب السياسي للائتلاف, إلا أنّ اعتراض بعض الأطرف على ما طرحناه
من نقاط وتفهّم أطراف أخرى لما طرحناه وطلبها منا تأجيل المناقشة لحين
تشكيل المكتب السياسي دفع التيار التقدمي الكويتي إلى الاكتفاء بأن يكون
ممثلاً في الجمعية العمومية للائتلاف حرصاً على وجود حد أدنى من التنسيق
والعمل المشترك بين أطراف المعارضة على اختلاف مكوناتها وتوجهاتها، والمؤسف
أنّه لم تنعقد هذه الجمعية العمومية ولم تتم دعوتنا إلى حضور أي من
اجتماعاتها.
ولهذا فمن الطبيعي أن يفشل
الائتلاف ويضعف ويتراجع دوره، خصوصاً في ظل عدم وضوح تعامل الأطراف الأخرى
المؤسسة للائتلاف مع بعض المسائل الملتبسة وما تعانيه من قصور سياسي وعجز
ذاتي وما برز في صفوفها من تناقضات. فيما أثبتت الأيام وبالملموس صحة وجهة
نظر التيار التقدمي الكويتي في هذا الشأن.
-
“كرامة وطن” والمجاميع الشبابية الأخرى:
لقد أبرز الحراك الدور الايجابي
للمجاميع الشبابية كقوى ضاغطة لها تأثير قوي في توجيه الحراك وقوى
المعارضة من خلال فرض مطالب الإصلاح الديمقراطي على بعض المترددين من القوى
السياسية أو الشخصيات البرلمانية، وقد تجلت قوة هذه المجاميع في تجربة
“مسيرات كرامة وطن” التي دعا لها ونظمها مجموعة من الشباب، ورغم النجاح
الباهر الذي لاقته مسيرات كرامة وطن، خصوصاً المسيرة الأولى في أكتوبر 2012
التي كانت أكبر مسيرة احتجاجية شهدتها الكويت في تاريخها على الرغم من قمع
السلطة، إلا أن التجربة لم تستطع أن تحتفظ بالقوة ذاتها والزخم السابق
نفسه، ووقعت مجموعة “كرامة وطن” في أخطاء وسوء تقدير للموقف وكيفية
التعامل، وذلك لعدة أسباب أهمها: عدم التنسيق بينها وبين بقية المجاميع
الشبابية أو القوى السياسية المعارضة، كما أن سرية حساب “كرامة وطن” على
تويتر وعدم معرفة مَنْ يقف وراءه قد أدى بطريقة أو بأخرى إلى الطعن في
مصداقية الحساب، رغم أن مثل تلك التدابير الاحترازية قد تكون مفيدة للحفاظ
على المجموعة الناشطة وعدم اعتقالها.
وقد بدا واضحا أنّ المسؤولية
كانت أكبر من أن يتحملها حساب “كرامة وطن” والقائمون عليه لوحدهم، ولكن
المؤسف أنّ ذلك قد تمّ عبر تدخلات غير مسؤولة من بعض الشخصيات لم يستطع
القائمون على الحساب التعامل معها، وعلى سبيل المثال فإنّه على الرغم من
تأكيد مجموعة “كرامة وطن” على أنّ المسيرات حق مطلق لا تحتاج إلى الترخيص
من وزارة الداخلية قام البعض بتقديم طلبات للداخلية لترخيص المسيرة ما تسبب
في عزوف البعض عن المشاركة في المسيرات التي دعا لها حساب “كرامة وطن”.
كما برز عدم التنسيق وسوء تقدير
الموقف عندما دعت مجموعة “كرامة وطن” للمبيت في “ساحة الإرادة” ثم في ساحة
البنوك ما أدى إلى اعتراض بعض قوى المعارضة ودعت إلى اجتماع آخر في “ساحة
الإرادة” بعد المبيت تحت قيادة تجمع “نهج” لم تتم الاستجابة له.
لقد كانت تجربة “كرامة وطن”
تجربة مهمة في تلك الفترة، إذ أنّها على الرغم من بعض سلبياتها ونقاط ضعفها
فقد أبرزت دور الشباب وأثبتت بالملموس استعداد الشعب الكويتي للخروج إلى
الشارع من أجل انتزاع حقوقه من دون خوف في مواجهة إرهاب السلطة وقمع القوات
الخاصة.
إنّ تجربة الشباب بشكل عام هي
تجربة ايجابية، ولكن علينا أن نؤكد على أنّ مجموعات الضغط والمجموعات
الاحتجاجية التي شكّلها الشباب شابها التهور أحياناً، ولا يمكن الاعتماد
عليها وحدها في تحقيق مطالب الإصلاح الديمقراطي، فالإصلاح الديمقراطي يحتاج
بدءاً إلى التحليل السليم للواقع السياسي المتحرك؛ ويتطلب القدرة على
التعامل مع هذا الواقع بكل تناقضاته وتعقيداته وتحدياته، والأهم من ذلك
بلورة مشروع واضح للإصلاح الديمقراطي، والتنسيق بين جميع مكونات المعارضة
سواء الشباب أو القوى السياسية أو الشخصيات المستقلة، وهذه متطلبات تفوق
قدرات المجاميع الشبابية وتتجاوز إمكاناتها، ولكن هذا الإصلاح الديمقراطي
لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن دور الشباب ومساهماتهم ومبادراتهم وروحهم
المقدامة وتضحياتهم المشهود لها.
القسم الثاني
طريق الكويت نحو الإصلاح الديمقراطي
إنّ النضال من أجل تحقيق إصلاح
ديمقراطي يتطلّب بالأساس تشخيص العيوب والنواقص البنيوية التي تعانيها
المنظومتان السياسية والدستورية، كما يتطلب تحديد العوامل التي أدّت إلى
تعطيل عملية الانتقال نحو الديمقراطية، ليمكننا بعد ذلك أن نبلور أجندة
للنضال من أجل تحقيق الإصلاح الديمقراطي المنشود.
أولاً: تشخيص العيوب
والنواقص البنيوية الرئيسية التي تعانيها المنظومتان السياسية والدستورية،
وهي تتلخص في العيوب والنواقص التالية:
1- عدم اكتمال الطابع التمثيلي لمجلس الأمة،
الذي يفترض أن يكون مؤسسة نيابية منتخبة بالكامل، إذ أنّ الوزراء غير
المنتخبين هم أعضاء بحكم وظائفهم في مجلس الأمة ويشاركون في مختلف الأعمال
البرلمانية، باستثناء أمرين هما: عدم إمكان ترشيحهم إلى عضوية لجان المجلس،
التي يشاركون في انتخاب أعضائها، وعدم مشاركتهم في التصويت على طلبات طرح
الثقة في الوزراء منفردين وعدم التعاون مع رئيس مجلس الوزراء… وهذا يعني
أنّ مجلس الأمة ليس منتخبا بالكامل، وأنّ طابعه التمثيلي النيابي كان ولا
يزال ناقصا.
2- الضمانات المبالغ فيها، التي تتمتع بها الحكومة،
إذ لا يشترط دستور الحدّ الأدنى حصولها على الثقة النيابية المسبقة، ولا
يمكن طرح الثقة في الحكومة ككل، وإنما يمكن فقط أن يتم طرح الثقة في كل
وزير على حدة وذلك بعد استجوابه، أما رئيس مجلس الوزراء فلا يمكن أن تُطرح
فيه الثقة، بل يمكن فقط تقديم طلب بعدم إمكان التعاون معه، وذلك بعد
استجوابه، وهو طلب محفوف بالمخاطر لأنّه يفتح الباب أمام إمكانية حلّ مجلس
الأمة نفسه.
3- انعدام وجود آلية مقررة دستوريا لتداول مناصب السلطة التنفيذية، مثلما هي الحال في أي نظام ديمقراطي، ما أدى إلى تثبيت ما يشبه الاحتكار الدائم أو طويل الأمد للعديد من هذه المناصب.
4- غياب الحياة الحزبية المنظمة،
التي هي أحد أهم مكونات النظام الديمقراطي، ما أدى إلى تكريس الطابع
الفردي للعملية الانتخابية، التي يخوضها المرشحون فرادى، وكذلك الطابع
الفردي للعمل البرلماني.
5- نجاح السلطة في تعطيل العمل بالدستور وإفراغه من محتواه وتكريس نهج الإنفراد بالسلطة، وذلكإما
بالانقلاب مباشرة على الوضع الدستوري مثلما حدث أول مرة في النصف الثاني
من سبعينيات القرن العشرين ومرة أخرى في النصف الثاني من الثمانينيات حتى
بداية تسعينيات القرن العشرين؛ أو عبر التواطؤ مع الغالبية النيابية
الموالية للسلطة في معظم المجالس النيابية المتعاقبة عندما تمّ تمرير
مجموعة من القوانين المقيدة للحريات الشخصية والعامة والسالبة للحقوق
الديمقراطية المقررة في الدستور، أو باستغلال ضعف المعارضة لتثبيت تدابير
وإجراءات وتقاليد كرّست انفراد السلطة بالقرار.
6– النظام الانتخابي المعبوث به،
الذي أدى إلى تحكّم السلطة في العملية الانتخابية ومخرجاتها وعرقلة
إمكانية وجود غالية نيابية خارجة عن طوعها، وتكريس الطابع الفردي في خوض
الانتخابات وفي العمل البرلماني.
ثانياً: تحديد العوامل التي
أدّت إلى تعطيل عملية الانتقال إلى الديمقراطية في الكويت طوال نصف القرن
المنصرم، التي نستطيع أن نلخصها في العوامل الموضوعية التالية:
1– موقف السلطة المعادي
للديمقراطية ومحاولاتها المتواصلة لإعاقة تطورها وتقليص هامش الحريات
وتكريس نهج الانفراد بالقرار، ونجاحها في إفراغ دستور 1962 من العديد من
مضامينه الديمقراطية وفرضها ترسانة من القوانين المقيدة للحريات أو
المناقضة لأسس النظام الديمقراطي، وتحكّمها في النظام الانتخابي، ما أدى
شيئاً فشيئاً إلى انسداد أفق الإصلاح عبر الانتخابات وأساليب العمل
البرلماني.
2- سطوة الدولة الريعية واستقلال قرارها عن المجتمع.
3- التأثيرات السلبية لقيم
المجتمع الاستهلاكي، وكذلك التأثيرات السلبية للبُنى الاجتماعية التقليدية
الطائفية والقبلية والعائلية، خصوصاً في ظل محاولات السلطة تمزيق النسيج
الوطني الاجتماعي وتأجيج النزعات الطائفية والقبلية والفئوية والمناطقية.
أما العوامل الذاتية فتتمثّل في:
1 – عدم إشهار الأحزاب السياسية.
2- الموقف الدفاعي الذي تشكّل
تاريخياً لحماية دستور 1962 من الانقلاب السلطوي عليه، ما أدى إلى تحييد
المطالبة بإقامة نظام ديمقراطي برلماني كامل.
3- التعويل المبالغ فيه على الانتخابات والعمل البرلماني على حساب أشكال النضال السياسي الأخرى وبالأساس منها النضال الجماهيري.
ولئن كان من المهم إدراك العوامل الموضوعية وتأثيراتها، فإنّه يمكن بذل الجهود من أجل تعديل العوامل الذاتية أو العمل على تغييرها.
ثالثاً: بلورة أجندة النضال من أجل تحقيق الإصلاح الديمقراطي:
حتى يمكننا أن نبلّور أجندة
واضحة من أجل تحقيق الإصلاح الديمقراطي، لابد أولاً من تحديد الهدف المراد
بلوغه بدقة ووضوح، وبعدها لابد من رسم خارطة الطريق من أجل تحقيق هذا
الهدف.
إنّ تحديد الهدف بدقة أمر
مستحق، ذلك أنّ هناك التباسات تثيرها بعض الدعوات المطروحة للإصلاح
الديمقراطي، فهناك مَنْ يدعو إلى “الإمارة الدستورية”، وهناك آخرون يدعون
إلى “الحكومة الشعبية” أو “رئيس الوزراء الشعبي”، وغيرهم ينادي بما يسميه
“الحكومة البرلمانية”، فيما تنتشر دعوات تطالب بإقامة “الحكومة المنتخبة”،
وهي دعوات لا نرفضها ولكننا نرى ضرورة تدقيقها وإزالة ما يحيط بها من
التباسات وخلط.
ذلك أنّ “الإمارة الدستورية”
يمكن أن تُفسّر في حدّها الأدنى المتحقق شكلياً الآن بمعنى وجود دستور ينظم
سلطات الأمير، بينما القصد من طرح هذا المطلب يتجاوز ذلك، كما أنّ مطلب
“الحكومة الشعبية” يمكن أن يعني فقط أن يكون رئيس الوزراء والوزراء من
المواطنين وليس من الشيوخ من دون استكمال شروط النظام البرلماني، حيث يتم
توزيرهم كأفراد، ومثلها الدعوة إلى “الحكومة البرلمانية” التي يمكن أن
تُختزل في حكومة تتشكّل في معظمها من أعضاء مجلس الأمة كأفراد… أما مطلب
“الحكومة المنتخبة” فهو لا يمكن أن يتحقق بصورة دقيقة إلا في النظم
الرئاسية، عندما يتم انتخاب الرئيس الذي يعيّن إدارته، بينما الأمر مختلف
تماماً في الأنظمة البرلمانية، التي هي مآل التطور الديمقراطي للأنظمة
الوراثية، إذ لا يتم انتخاب رئيس مجلس الوزراء والوزراء مباشرة، بل يتم
تعيينهم من بين أعضاء كتلة أو حزب الغالبية في البرلمان.
ومن هنا فإنّ المصطلح الأدق
للهدف الذي نسعى إلى بلوغه من تحقيق الإصلاح الديمقراطي هو إقامة نظام
ديمقراطي برلماني كامل، الذي يقوم على خمسة أركان هي:
أولاً: وجود أحزاب سياسية.
ثانياً: تداول ديمقراطي للسلطة.
ثالثاً: ضرورة نيل الحكومة ثقة البرلمان.
رابعاً: اختيار رئيس مجلس الوزراء والوزراء من بين أعضاء كتلة أو حزب الغالبية في البرلمان.
خامساً: أن يكون رئيس الدولة حَكَمَاً بين السلطات لا طرفاً في المنازعات السياسية.
ويمكن القول إنّ هناك مستويين
مختلفين ولكنهما مترابطان للإصلاح الديمقراطية، المستوى الأول هو مستوى
الإصلاح السياسي الذي يمكن تحقيقه من دون الحاجة إلى تنقيح الدستور،
والمستوى الآخر هو الإصلاح الدستوري الذي يتطلب مثل هذا التنقيح المستحق.
المستوى الأول هو مستوى الإصلاح السياسي الديمقراطي:
والقصد هنا هو الإصلاح السياسي الذي يمكن تحقيقه من دون الحاجة إلى تنقيح “دستور الحدّ الأدنى”، ويتمثّل في:
1- انتزاع الحق الديمقراطي في
إشهار الأحزاب السياسية عبر قانون ديمقراطي يعتمد آلية قيام مؤسسي كل حزب
بالإخطار عن تأسيس حزبهم من دون حاجة إلى حصول هؤلاء المؤسسين على الترخيص
الحكومي بذلك، مع ضرورة تأكيد القانون على أن تتشكّل الأحزاب السياسية وفق
أسس وطنية وليس طائفية أو قبلية، وأن تعمل بوسائل سلمية.
2- إقرار نظام انتخابي ديمقراطي
عادل قائم على التمثيل النسبي للقوائم الانتخابية ضمن دوائر كبيرة، بعد أن
تعذّر وفق حيثيات حكم سابق للمحكمة الدستورية تحقيق مطلب الدائرة
الانتخابية الواحدة ضمن الدستور الحالي، مع تخفيض سن الناخبين إلى 18
عاماً، بمعنى أن يتم إلغاء نظام الانتخاب الأكثري الحالي، وهو نظام غير
عادل، ويقرّ مكانه نظام انتخابي آخر هو نظام التمثيل النسبي، وهو النظام
المعمول به في كثير من بلدان العالم، بحيث تنال القوائم الانتخابية مقاعد
في مجلس الأمة تتناسب على نحو عادل مع نسبة ما حصلت عليه من أصوات
الناخبين.
3- إلغاء القوانين المقيدة
للحريات وخصوصاً حرية الاجتماع العام وحرية التعبير عن الرأي والحقّ في
تشكيل مؤسسات المجتمع المدني، وكذلك إلغاء القوانين التي تصادر حقّ الأفراد
في التقاضي المباشر أمام المحكمة الدستورية أو تقيّد حقهم في اللجوء إلى
المحكمة الإدارية، إلى جانب التأكيد على حماية الحريات الشخصية للأفراد من
الوصاية والتدخل؛ وعدم المساس بالطابع المدني للدولة.
4- إطلاق سراح المعتقلين وسنّ
قانون للعفو العام عن قضايا الرأي المعروضة أمام جهات التحقيق والمحاكم
حالياً، وذلك من دون أي شروط أو تعهدات.
بحيث تمثّل هذه الخطوات والتدابير والآليات الأرضية اللازمة التي يمكن أن يتأسس عليها النظام الديمقراطي البرلماني الكامل.
المستوى الثاني هو مستوى الإصلاح الدستوري الديمقراطي:
الذي يتطلب بدءاً تصحيح الموقف
الدفاعي عن دستور 1962 الذي تشكّل تاريخياً في مواجهة الانقلابات السلطوية
على الدستور، بحيث يتحوّل إلى موقف الدفاع عن المكتسبات الديمقراطية
المتحققة في دستور الحدّ الأدنى، مع المطالبة بإصلاح دستوري يستكمله ليصبح
دستوراً ديمقراطياً.
إنّ عنوان الإصلاح الدستوري
المستحق هو الانتقال إلى النظام البرلماني الكامل، وهو ما يتطلّب في حدوده
الدنيا تنقيح عدد من مواد الدستور، وذلك كالتالي:
– تنقيح المادة 80 من الدستور لقصر عضوية مجلس الأمة على النواب المنتخبين.
– تنقيح المادة 98 بحيث تتقدم كل وزارة فور تشكيلها ببرنامجها إلى مجلس الأمة لتنال الثقة النيابية على أساسه.
– تنقيح المادتين 101 و102 بحيث
يمكن طرح الثقة في الوزراء ورئيس مجلس الوزراء من دون الحاجة إلى المرور
بآلية الاستجواب، ومن دون تفريق بين طرح الثقة في الوزراء أو في رئيسهم
واعتباره معتزلاً لمنصبه شأنه شأنهم من تاريخ عدم الثقة به، وعدم اشتراط
تحكيم رئيس الدولة عند طرح الثقة في رئيس مجلس الوزراء لاتخاذ قراره إما
بإعفاء الرئيس أو بحلّ مجلس الأمة، مثلما هي الحال الآن عند تقديم طلب عدم
إمكان التعاون معه.
– تنقيح المادة 116 من
الدستور، أو تعديل اللائحة الداخلية لمجلس الأمة، بما يؤدي إلى تأكيد صحة
انعقاد جلسات مجلس الأمة من دون اشتراط حضور الحكومة، حتى لا يؤدي غيابها
إلى تعطيل جلسات المجلس مثلما حدث وتكرر.
رابعاً: وسائل النضال من أجل تحقيق أجندة الإصلاح الديمقراطي:
مادام أفق تحقيق الإصلاح
الديمقراطي عبر الانتخابات والعملية البرلمانية قد انسدت آفاقه، فإنّ
البديل المتاح هو العمل على تحقيق هذا الإصلاح عبر أساليب النضال الجماهيري
ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر الأساليب التالية:
– الاحتجاج الجماعي على سياسة أو قانون أو قرار أو إجراء عبر عقد تجمعات جماهيرية وإقامة اعتصامات أو مهرجانات خطابية.
– تنظيم المسيرات والمظاهرات.
– النضال الاقتصادي من أجل تحسين شروط العمل أو رفع الأجور وشكله الرئيسي هو الإضراب عن العمل.
– الإضرابات والاعتصامات الطلابية.
– جمع التوقيعات على عرائض ومذكرات وبيانات.
– تشكيل لجان شعبية على مستويات المناطق والمحافظات أو أماكن العمل أو الدراسة أو على أساس المهن.
– تكوين جماعات ضغط حول قضية محددة أو مطلب معين.
– تشكيل وفود شعبية لتقوم بجولات على الديوانيات للشرح والتوضيح والتعبئة، أو للالتقاء بالمسؤولين في الدولة أو بوسائل الإعلام.
– تنظيم حملات التحرك، بما في ذلك حملات التحرك الإلكترونية عبر الهاشتاقات في التويتر.
– إقامة الندوات والحلقات النقاشية.
– إصدار البيانات الجماهيرية والمطويات والملصقات وتوزيعها.
ويتركّز دورنا في تطوير النضال الجماهيري إلى المهام التالية:
1- رفع مستوى الوعي السياسي
للجماهير، وإزالة ما رسخ في أذهانها من أوهام حول طبيعة السلطة وطريق
الانتقال نحو الديمقراطية، وذلك عبر عمل دءوب من الشرح والتوضيح والإقناع.
2- تعبئة الجماهير حول مطالب الإصلاح الديمقراطي، وتعزيز ثقتها في قدراتها على إحداث التغيير.
3- تنظيم حركة الجماهير
والانتقال بها من مستوى النضال العفوي إلى النضال السياسي الواعي والمنظم
عبر أساليبه المختلفة بهدف تغيير ميزان القوى السياسية في البلاد ليصبح
مواتياً لتحقيق مطالب الإصلاح الديمقراطي.
—————————————————
أقرها المجلس العام للتيار التقدمي الكويتي في اجتماعه
المنعقد يوم السبت 17 أغسطس 2013