حتى وقت قريب جداً كان الكثير، بمن فيهم السياسيون وعلماء الاجتماع
والاقتصاد، يؤمنون باقتناع تام بأن عصر الثورات السياسية والانقلابات
العسكرية قد انتهى لغير رجعة، وأن التغيير في المجتمعات لمستقبل أفضل ليس
له إلا طريق واحد، وهو التطور التدريجي والتراكم الطبيعي لتخطو المجتمعات
المتخلفة نحو المزيد من الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، ولتصل إلى
المجتمعات والدول المتقدمة دون إراقة الدم.
وكان ذلك ليحدث لولا
الكثير من العقبات التي اصطنعتها الأنظمة الحاكمة التي لا تزال تتمسك
بامتيازاتها التي تفوق أي تصور في العصر الحالي، وبمساعدة القوى الرجعية
الموغلة في التطرف، والتي ترفض أي تقدم للإنسانية في مجتمعاتها، متمسكة في
ذلك بفكر ديني أبدعه شيوخ ووعاظ السلاطين منذ استيلاء الخلافة الأموية على
مقدرات ومصير الدولة الإسلامية، بحيث أصبح خليفة المسلمين يورث الحكم دون
الاعتبار لمبدأ الشورى الذي اتفق عليه المسلمون منذ وفاة الرسول الأعظم
(ص)، ومهما كانت الخلافات المذهبية بين الفرق الإسلامية بعد ذلك إلا أن
مجرى التاريخ لا يمكن إنكاره.
لقد ظل الحكم منذ ذلك التاريخ وراثياً
بغض النظر عمّا كان الحاكم مؤهلاً لخلافة وحكم المسلمين أو كان باغياً
يستمتع باللذات المحرمة ويسرق أموال المسلمين وينثرها على عائلته وأتباعه
كيفما يشاء.
ومنذ ذلك الوقت أشاع وعاظ السلاطين حرمة الخروج على
الحاكم مهما كان ظالماً وبغياً مستعينين بذلك بالآية الكريمة «وأطيعوا
الرسول وأولي الأمر منكم» (النساء: 59)، وعدد من الأحاديث الضعيفة أو
المشكوك في إسنادها أو حتى صحتها.
ولذلك ظلت الدول الإسلامية على مدى
التاريخ، إلا ما ندر، تتبع حكامها وإن جاروا، ويبرر شيوخ الدين فيها الظلم
واستعباد الناس وأكل حقوقهم بالباطل ونهب مقدرات الدول بتفسير الآية
الكريمة بشكل مغلوط وناقص فنفس الآية تقول: «فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى
الله والرسول» (النساء: 59)، أي أن الحكم هنا بين الحاكم والمحكوم هو شرع
الله، وليس ما يقوله وعاظ السلاطين.
الأسوأ من ذلك ما يقوم به هؤلاء
الوعاظ من بث الفرقة بين الناس وتحويل أي حراك شعبي إلى نزاع طائفي
والإمعان في تحريك النفَس الطائفي بين أبناء الدين الواحد، مثل هؤلاء
الوعاظ لا يتورعون عن تكفير أصحاب المذاهب الأخرى وزرع العداء والفتن.
نعم،
كان الأمر ليتطور بشكل طبيعي لو أن الدين أُبعد عما يرتكبه الحكام من
مظالم بحق الناس، نعم كنا في العالم العربي لنقبل أن يتطور نظامنا السياسي
بشكل متدرج، وأن نقبل بأن يتطور نظامنا الاقتصادي من نظام ريعي إلى نظام
متنوع، ولكن في الظروف الحالية، حيث لا وجود لرأي الناس، وحيث البرلمانات
شكل صوري للديمقراطية، وحيث يخصص للحاكم العربي نصف موازنات الدولة، وحين
يتخطى تابعو النظام الحاكم جميع القوانين دون مساءلة، وحين يروج علماء
الدين لحرمة الخروج على الحاكم، فيمكن القول إن كل ما حدث من انتفاضات
وثورات في عدد من الدول العربية ما هو إلا مجرد إرهاصات أولية ومبدئية لما
سيحصل لاحقاً، وإن الربيع العربي لم يبدأ بعد.