منذ اندلاع أزمة الرهن العقاري وتبعات تداعياتها المتمثلة في الأزمة المالية التي تطورت بدورها إلى أزمة اقتصادية في عام ،2008 وكل المقاربات العلاجية لها، بما فيها تلك التي تضمنتها صفقة الإنقاذ المالي الأخيرة التي توصل إليها الرئيس أوباما وحزبه الديمقراطي الحاكم مع قيادات الحزب الجمهوري في الكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ، عشية رأس السنة الجديدة، اختار واضعوها تجنب واستبعاد التحايل والتراخي الضريبي الذي يحرم الخزينة الأمريكية من إيرادات كفيلة بتعزيز موقفها المالي على أقل تقدير – استبعادهما من أية خطط وبرامج لمعالجة الأزمة المالية المركبة (أزمة عجز موازنة وأزمة مديونية عامة) .
والسبب يعود على الأرجح لتيقن السلطة السياسية في البلدان الرأسمالية المتقدمة، وبصورة أعم، الطبقة السياسية التي تتقاسم كعكة هذه السلطة، من أن خطوة كهذه من شأنها تعريض “السيستم” القائم على تحالف قطاعات الأعمال مع الأطياف المختلفة لهذه الطبقة السياسية، لاهتزاز غير محمود .
أما التحايل فهو تلك الأساليب المختلفة والملتوية التي يلجأ إليها أرباب رأس المال للالتفاف على مصلحة الجباية الضريبية والتهرب من دفع كامل الضريبة المستحقة عليهم . ومن أمثلته قيام مليونيرات أمريكا بتحويل بعض أموالهم إلى حساب التقاعد “روث أي .آر .ايه” المُعفى من الضريبة تفادياً لإجراء رفع الضريبة الذي كان متوقعاً ضمن الصفقة المعقودة بين الجمهوريين والديمقراطيين عشية رأس السنة لتفادي الهاوية المالية، خصوصاً بعد إزالة حد المئة ألف دولار للدخل في يناير عام ،2010 ما فتح الباب أمام تدفقات ضخمة من أموال المليونيرات على هذا الصندوق التقاعدي المغري، على أن التهرب الضريبي يشكل المثال الأبرز للتحايل على القانون . حيث قدرت شبكة العدالة الضريبية
(
Tax Justice Network)
إجمالي قيمة التهرب الضريبي في الولايات المتحدة ب 337 مليار دولار في عام ،2010 وهو أقل من تقديرات دائرة خدمات الإيرادات الداخلية
(
Internal Revenue Service)
التي قدرت التهرب الضريبي في عام 2006 ب 385 مليار دولار على الرغم من أن إجمالي الناتج المحلي كان في عام 2010 أكبر بكثير مما كان في عام 2006 . أما الكونغرس الأمريكي فيقدر أن الولايات المتحدة تخسر حوالي 100 مليار دولار سنوياً بسبب تهرب الشركات والأفراد من دفع الضرائب المستحقة عليهم مقابل بضعة مليارات في الدول الأخرى . ويعزى معظم التهرب الضريبي إلى عدم الإدراج في التقارير الضريبية وعدم الوفاء بصورة تامة بدفع المستحقات الضريبية . وقد ارتفعت نسبة عدم الإدراج الضريبي (للأرباح المستحقة ضريبياً) بواقع 32% خلال الفترة من 2001 إلى 2006 ثلثها يعود إلى ضرائب مستحقة على الشركات، مع أن أرباح الشركات الأمريكية خلال نفس الفترة قد تضاعفت مرتين بينما لم ترتفع مداخيل الأفراد إلا بنسبة 15% ما يفسر اتساع الفجوة بين الغنى الفاحش وأصحاب الدخول المتواضعة .
ولا تشكل تلك الأرقام سوى نقطة في بحر الحجم الهائل للأموال المتحايلة على الاستحقاق الضريبي . قبل حوالي ثلاث سنوات، على سبيل المثال، أُجبر بنك يو .بي .إس . السويسري الذي يعتبر أكبر البنوك السويسرية على دفع غرامة مقدراها 780 مليون دولار لمساعدته أمريكيين على التهرب الضريبي، مع موافقته على تسليم السلطات الأمريكية أسماء أكثر من 4500 أمريكي لهم حسابات في البنك . وفي مطلع فبراير/شباط من العام الماضي وجه الادعاء العام الأمريكي اتهاماً لأقدم بنك سويسري هو وجلين وشركاه (
Wegelin & Company)
وثلاثة من موظفيه بمساعدة دافعي الضرائب الأمريكيين على إخفاء 2 .1 مليار دولار . وقد طالت التحقيقات التي أجرتها وزارة العدل الأمريكية في هذا الموضوع 11 مصرفاً سويسرياً .
في أوروبا قدرت المفوضية الأوروبية (للاتحاد الأوروبي) في شهر ديسمبر الماضي حجم التهرب الضريبي بحوالي 31 .1 تريليون دولار سنوياً .
المشكلة ضخمة جداً كما نرى، وبقيت من المشاكل المسكوت عنها . ولكن ربما تجبر الآن حالة الإعسار المالي لهذه البلدان على اتخاذ إجراءات تشريعية وشرطية صارمة للتصدي لهذه الظاهرة والاستفادة من استعادة الأموال المهربة والمتهربة من الضرائب في إعادة إطلاق موجة نمو إنعاشية طويلة المدى .