بين كتبه وكتابته اختار محمد جابر صباح أن يخوض معركته هذه المرة ببسالة، هذه المعركة لا يوجد فيها رفيق يشاركه الأفكار، ولن تحتاج بالتأكيد إلى طباعة منشورات ولن تقود إلى تحقيقات أو معتقل، معركة لا يذهب الإنسان أليها بل تأتيه من دون حسابات، هي معركة المرض. بذاكرة حية وكأن ما حدث كان بالأمس جلس صباح يحدثنا عن مشواره النضالي الذي امتد إلى اكثر من أربعة عقود، لم تغفل ذاكرته عن أبسط الحوادث ولا عن اسم رفيق شاركه الهم الوطني يوما، بدت الحوادث حاضرة بذهنه بقوة، استخدم عبارات دقيقة لم تستطع السنوات نفض ما علق بها من مرارة، هكذا امتد بنا الحديث لاكثر من ثلاث ساعات وخرجت بما استطعت من حديث الذكريات. ولد محمد جابر صباح في العام 1931 في مدينة المحرق، كان والده يمتهن الغوص صيفا ويعمل بقية أشهر السنة بالخياطة، استقرت العائلة بحي المحطة القديمة او “ستيشن” حسب التسمية الأكثر شيوعا، وحسبما جرت العادة في ذلك الوقت أرسل الطفل إلى المطوع بناء على رغبة والده ليتلقى تعاليم القرآن الكريم، لم تكن فكرة الذهاب إلى المدرسة واردة بذهن والده الذي كان يرى وجوب أن يكتفي الطفل بتعلم قراءة القرآن، لكن الطفل كان يحلم بالمدرسة، فما أن بلغ سن السابعة حتى التحق بها سرا بتأييد من أمه، لم يطل عمر هذا السر إذ سرعان ما انكشف لكن تأييد أمه كان قادرا على إقناع الأب بإبقائه في المدرسة وكان له ما أراد. يقول صباح: “اجتهدت لإنهاء المرحلة الابتدائية لكي أتخلص من رؤية مدير المدرسة الابتدائية الذي كنت أكره شخصه لكن لسوء حظي عندما انتقلت إلى المرحلة الثانوية كان هو الآخر قد نقل إلى إدارة المدرسة الثانوية نفسها فتركت المدرسة بقراري كما دخلتها من قبل، نهرني زملائي على ذلك، منهم أتذكر جاسم مراد وجاسم بن الشيخ وبعض المدرسين لكني اصريت على ذلك.
ماذا فعلت بعد ترك المدرسة؟
– حصلت على وظيفة في دائرة الجمارك مقابل 60 روبية أي ما يعادل 6 دنانير اليوم، بالعام نفسه حدثت نكبة العرب باحتلال فلسطين من قبل الكيان الصهيوني العام 1948 ما ألهب مشاعر الناس وخرجت مظاهرات تندد بهذا الاحتلال،اتذكر وقتها حدث تجمهر لطلاب قرب مبنى البريد في المحرق، كنت أراقب هذه المشهد وأتمنى بيني وبين نفسي لو أنني لا ازال طالبا لكي أخرج معهم ضد احتلال فلسطين. استمريت في عملي في الجمارك لمدة 11 شهرا وبعدها قررت الذهاب للعمل في السعودية مشرفا على العمال في إحدى الشركات، وبقيت في هذا العمل حتى نهاية العام 1949. إذ عدت إلى البحرين وتزوجت وانتقلت للعمل في قطر لكنني لم أبق سوى عام واحد هناك بسبب مرض زوجتي واضطراري إلى العودة إلى البحرين.
بماذا عملت في البحرين؟
– لم أحصل على أي وظيفة وبقيت عاطلا لمدة 7 أشهر إذ اضطررت للعودة إلى السعودية وتوليت عملا جديدا هناك في مستودعات الأسلحة التابعة للجيش الأميركي في مدينة “الظهران”.
**بكم اشتريت زوجتك؟
ألم تفكر في إكمال دراستك؟
– مع عودتي إلى السعودية هذه المرة جاءني حنين كبير لإكمال الدراسة، كنت امتلك رغبة بأن أصبح صحافيا وشاءت الصدف أن التقي المرحوم محمود المردي الذي كان وقتها يعمل في إدارة بنك القاهرة في مدينة “الخبر” أخبرته بأوضاعي وحنيني للدراسة فاقترح أن يرتب لي الدراسة في القاهرة بالمراسلة فوافقته على الفور. بدأت الدراسة بالمراسلة إلى جانب قراءة الكثير من الكتب، لكن في الأشهر الأخيرة من إقامتي في السعودية انتقلت للعمل بوظيفة أخرى لم اكن املك الوقت الكافي للدراسة ما أجبرني عن الانقطاع عنها للمرة الثانية في حياتي.
للمرة الثانية تقرر الانقطاع عن الدراسة على رغم الرغبة الكبيرة فيها!
– نعم ولكن في هذه الفترة بدأت أقرأ الكثير من الكتب، كنت اغتنم أي ليلة قمرية في السعودية واخذ أي كتاب واذهب للقراءة فوق الكثبان الرملية. ربما كنت أحاول أن أعوض تركي الدراسة بهذا الجانب.
أي الكتب كنت تقرأ؟
– مؤلفات يوسف السباعي والكثير من القصص. بين الحين والآخر كنت أذهب إلى المرحوم محمود المردي واحدثه عن الكتب التي اقرأها ويحثني على قراءة المزيد، وقتها بدأت أحاول أن اكتب بعض المقالات، وفي العام 1954 كتبت أول مقال نشر لي وكان عنوانه “بكم اشتريت زوجتك”، جاءتني فكرة هذا المقال من نقاش دار بيني وبين أحد الضباط الأميركيين العاملين في “الظهران” عندما قال لي انتم العرب تدفعون للنساء الكثير من المال لكي تتزوجونهن. وأوضحت له الأمر بأننا ندفع المال على سبيل العادات وليس بغية شراء المرأة. كانت هذه تجربتي الأولى مع كتابة المقال واكتفيت بها بتلك الفترة ولكنني تمسكت بالقراءة أكثر.
تعاطف مع الهيئة
في هذه الفترة كانت الأجواء السياسية في البحرين مضطربة هل كان لذلك أثر عليك؟
– “بالتأكيد، كانت فترة تأسيس هيئة الاتحاد الوطني قد بدأت، وبدأت أقوم بجمع المال لدعم الهيئة من الشباب البحريني الذي يعمل في السعودية وإرسالها عن طريق شخص اسمه “علي الشاعر” لكي يقوم بتوصيلها إلى أمين الصندوق لدى هيئة الاتحاد الوطني”.
كنت تجمع المال لدعم الهيئة، هل كنت وقتها تنتمي لأي تشكيل سياسي ام ان الامر لا يتعدى التعاطف مع الهيئة؟
– لم يكن أكثر من تعاطف مع الهيئة التي كانت بنظري تقود عملا سياسيا كبيرا في البحرين ضد الاستعمار، وعندما ضربت الهيئة في العام 1956 الذي تزامن مع العدوان الثلاثي على مصر باتت لدي مخاوف من أن يكون امري قد انكشف للسلطة بخصوص جمع الأموال للهيئة وان يتم اعتقالي كما تم اعتقال الكثيرين.
هل عدت إلى البحرين؟
– نعم، ولكن بعد 11 شهرا من ضرب الهيئة وكان لدي مبلغ بسيط فقمت بعمل محل بقالة صغير لكي انتفع منه.
كيف بدت الأوضاع بعد ضرب الهيئة؟
– مما لاشك فيه أن البحرين بدت تعاني من فراغ سياسي بعد أن تمت تصفية أعضاء الهيئة، كانت أحاديثنا أنا وأصدقائي الذين يأتون للزيارة في المحل تدور عن الهم السياسي والأوضاع السائدة في البحرين، هذه الأحاديث التي كانت تصور همومنا وضعت في ذهني سؤالا بات يشغلني كثيرا وهو كيف يمكن عمل تنظيم وطني يملأ ما خلفه ضرب الهيئة؟ في أحد الأيام صارحت أحد الأصدقاء الذي يدعى حمد عجلان بما يدور بذهني عن تأسيس تنظيم ضد الاستعمار الإنجليزي فبدا أكثر حماسا مني لهذا الأمر وبات يسألني بصورة دائمة متى يمكن لنا أن نبدأ؟ كنت أطلب منه التريث حتى تسنح الفرصة المناسبة ومع الأشخاص المناسبين. قام حمد بمفاتحة صديقين له هما عبدالله بودهيش وعبداللطيف جناحي كان الأخير يعمل مديرا للبنك الإسلامي وما أن علما بالأمر حتى بدا عليهما التحمس وقاما بجلب شخص آخر اسمه محمد أكبر لينضم إلينا.
حركة الشباب العربي
يقول صباح: “بدأت مجموعتنا تتسع شيئا فشيئا. لكن المشكلة لم تكن بعدد الأفراد أمام حماس الكثيرين للانضمام إلى العمل الوطني بل كانت هناك احتياجات مادية تحتاج إلى أشخاص قادرين على تجهيز المجموعة”. كان لي صديق اسمه محمد سيف العجلان يعرف باسم محمد سيف المناعي يعمل بالمقاولات ولديه صديق آخر يدعى محمد بوحمود كانا يمتلكان إمكانات مادية جيدة. جعلت من تجهيزنا بمستلزمات الطباعة والاحتياجات الأخرى أمرا أكثر سهولة وهكذا ولدت مجموعتنا تحت اسم “حركة الشباب العربي”.
ماذا كان توجه هذه الحركة؟
– كانت مجموعة وطنية من الشباب البحريني تهدف إلى محاربة الاستعمار البريطاني في البلاد. بدأنا بإصدار المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية إذ نقوم بتوزيع النسخ الإنجليزية على سكن الجيش الأميركي في المحرق، أما النسخ العربية فتوزع على مختلف مناطق البحرين، في هذه الفترة ذهبت إلى السعودية بغرض تجميع الشباب البحريني الذي يعمل هناك للانضمام إلى الحركة، وبعد عودتي من السعودية فاجأني حمد بن عجلان بأنهم قاموا بالانضمام إلى جماعة أخرى تضم شخصين كانا قد عادا للتو من الدراسة في الجامعة الأميركية في بيروت وهما عبدالرحمن كمال واحمد حميدان، كانا يحملان أفكار حركة القوميين العرب وعليه تم تغيير اسم الحركة من الشباب العربي إلى حركة القوميين العرب، يمكننا القول إن حركة القوميين العرب في البحرين لم تأت من فراغ فلقد وجدت أمامها مجموعة من الشباب المتحمس المستعد للعمل الوطني.
انشقاق
كيف كان للمد الناصري دور في اجتذاب الكثير من الشباب البحريني للحركات الوطنية؟
– بلاشك، التحمس للفكر الناصري وتأجج المشاعر للفكر القومي أثر بشكل كبير. كنت في البداية غير واثق من أن فكرة انضمامنا إلى حركة القوميين قرار صائب وناقشت حمد بن عجلان بهذا الأمر فقال لي إن عبدالرحمن كمال رجل شريف ونزيه ولا داعي للتخوف. في هذه الفترة سافر عبدالرحمن كمال معي إلى السعودية ورتبت له لقاءات مع مجموعة من البحرينيين الذين يعملون هناك، وبعد عودته من السعودية إلى البحرين بدأ عبدالرحمن كمال بترتيب خلايا، وهنا بدأنا العمل بشكل افضل، هذه التطورات رافقها صعود حركة القوميين العرب في دولة الكويت والتي أصبحت تمثل مركز القيادة بالنسبة إلينا. لكن في بعض الأحيان كانت تحدث أمور طارئة في البحرين لم نكن قادرين على فعل شيء من دون أخذ الموافقة عليها من مجموعة الكويت، ما أثار احتجاجي على وضعية العمل بهذا الشكل فقمت بالانشقاق عن حركة القوميين العرب وأيدني في هذا الانشقاق رفيق دربي علي ربيعة.
هل استقطبت أحدا من الحركة إلى جانبك في الانشقاق، وهل اتخذتم أي توجه مختلف عن القوميين العرب؟
– نعم كان هناك مجموعة من الشباب الذين أيدوني وقمنا بتشكيل مجموعة جديدة أطلقنا عليها اسم “حركة الثوريين العرب” لكنها بقيت حركة ضمن إطار فكرة القوميين العرب باستثناء الاعتراض على قيادة الكويت.
قيادة الشارع بانتفاضة العام 1965
يضيف صباح: “قيادة حوادث مارس/آذار العام 1965 كانت تسير على هذا النحو من قبل ثلاث فئات قومية وهي حركة القوميين العرب الأم وكان يقود الشارع فيها أحمد الشملان وحركة الثوريين العرب المنشقة بقيادتي والناصريين بقيادة المرحوم محمد بونفور، شكلنا تجمعا فيما بيننا أسميناه “اتحاد الشباب القوميين العرب” والى جانبنا كانت جبهة التحرير تلعب دورا رئيسيا بقيادة محمد السيد، في أثناء الحوادث تم اعتقال رفيقي علي ربيعه.
في فترة حوادث مارس/آذار 1965 كان لك دور بارز في عمل المتفجرات التي استخدمت وقتها؟
– نعم كنت أصنع المتفجرات التي يمكن تسميتها بمتفجرات بدائية أو لنقل صوتية، وكنت أقوم بتوقيتها بواسطة ساعة يد، ولكن حصلنا عن طريق جبهة التحرير على قنابل حقيقية يدوية، كان التعلم على استخدامها ليس بالأمر الصعب، فقمنا ببعض التفجيرات التي أحدثت ضجة في الجهاز الأمني من خلال استهداف رجال الأمن وقتها.
بعد الحوادث شنت السلطات حملات اعتقالات واسعة هل اعتقلت في تلك الفترة؟
– نعم ولكن بعد شهرين على مرور الحوادث، كان هناك ما يقارب 3000 شخص من مختلف التنظيمات، أكثرهم من القوميين والناصريين وعدد قليل من الجبهة. كان من بين عناصر الجبهة في الاعتقال علي دويغر واتذكر ان علي دويغر وقتها كان يتقاسم الزنزانة مع رجل دين يدعى الشيخ أحمد المطوع “رحمه الله”. فعندما اندلعت الحوادث كان المصلون خارجين من أداء صلاة الجمعة في مسجد الشيخ حمد في المحرق فتم اعتقاله من بينهم. أيضا من رفاق السجن الذين أتذكر انهم كانوا مكبلين بالأرجل لخوف الحرس من هروبهم أحمد الشملان وعبدالله القطان.
أسوأ أيام اعتقالي
كيف كانت ظروف الاعتقال بالنسبة إليك؟
– اعتقلت لمدة سنة ونصف تنقلت خلالها بين القلعة وجدة وسجن بيت الدولة وكلها كانت اعتقالات بشكل انفرادي، في البداية سجنت في القلعة بزنزانة رقم “11” ثم نقلت إلى “جدة” ثم نقلوني إلى سجن “بيت الدولة” ومن ثم عادوا بي إلى سجن “جدة” ومن ثم نقلوني إلى سجن “القلعة” في زنزانة كنا نسميها “أم البول” هذه التسمية أطلقها المساجين عليها لان أرضيتها مقعرة بالوسط وتتسرب مياه المجاري من جدرانها الأربعة وأينما وضع السجين جسده لابد أن تلامسه مياه المجاري المتسربة. أتذكر انه عندما تم اعتقالي كنت ارتدي البدلة التي كنت ارتديها يوم زواجي الثاني في العام 1961 وطبعا اهترأت داخل السجن، بعد ثلاثة أشهر نقلت إلى زنزانة مجاورة لها كنا نسميها “المخزن” لأنها أصلا كانت مخزن للقرطاسيات والأدوات، في أحد الأيام كان المطر شديدا وبدأت المياه تتسرب إلى داخل الزنزانة فاختبأت بإحدى الخزائن التي تستخدم لحفظ القرطاسيات، فجاء الحرس ولم يرني فبدأ بالصراخ ظنا منه إنني هربت، فخرجت له لكي أطمئنه بأنني لم اهرب فقال لي بلهجته العربية الركيكة “موت في الميه”. اعتقد أن هذا اليوم كان أسوأ أيام اعتقالي بعد الانتفاضة. بعد ذلك نقلت إلى زنزانة في “الحوش” كان ممرا يطل على عدة زنزانات، تعطى للمساجين ساعة واحدة للراحة بالخارج، في هذه الأثناء تعرفت على سجين من جبهة التحرير يدعى أكبر دشتي الآن يحمل درجة الدكتوراه في الكيمياء، بدأ يكلمني عن التحرير وعن الأفكار التي يؤمن بها واستطيع القول إنه فتح أمامي آفاقا جديدة بالنسبة لي جعلتني اشعر بالميول نحو جبهة التحرير.
|