المنشور

اليسار في الزمن الثوري



تحمل
الثورات العربية إلى اليسار مزيجاً من التحدي الوجودي والفرصة التاريخية.
والفيصل بين الإثنين هو قدرة اليسار على التعلّم من الدروس البليغة التي
تحملها العملية الثورية، وبلورة مشروعه ودوره فيها، وتدبّر كيفية الرد على
تحدياتها. فلعل في ذلك ما يدفع اليسار إلى مغادرة مندبة النقد الذاتي،
كفارة ذنوبه التي لا تنتهي، والاستعاضة عنها بمراجعة للماضي تسهم في فهم
أفضل للموقع والدور في الحاضر وتساعد في صياغة إطلالة جديدة على المستقبل.
هذا اذا كان بين اليساريين من يريد تجاوز تيارين في أوساطهم: يسار دعم
الاستبداد بحجة المسألة الوطنية، ويسار الرهان على التدخل الخارجي سبيلاً
إلى تحقيق الديمقراطية. 


أسهم
اليسار، وشبابه خصوصاً، إسهاماً متواضعاً وإن يكن ذا أثر في الانتفاضات.
ففي تونس ومصر واليمن، كان الشباب اليساري في طليعة المبادرين للنزول الى
الشوارع واحتلال الساحات والميادين واطلاق شعار اسقاط الحاكم ونظامه. وتمكن
هؤلاء الشباب من كسر حاجز الخوف، وتقدموا الصفوف مواجهين القمع والرصاص.
في المغرب مثلاً، برزت حركة 20 فبراير التي أطلقت الموجة الشعبية الضاغطة
من أجل الاصلاحات. وقد شذّت الحالة السورية بعض الشيء بسبب دور الاحزاب
الشيوعية المتحالفة مع النظام، فبرز اليساريون وهم بالدرجة الاولى أولئك
المنشقون عن تلك الاحزاب والناشطون بالصفات الفردية أو في مجموعات وتنظيمات
صغيرة.


ومع أن
اليساريين فازوا بعدد متواضع من الاصوات ومن المقاعد في الانتخابات
النيابية في تونس ومصر، فقد بقي الوجه الابرز لنضالهم حاضراً  في مواقع
الضغط الشعبي لتفكيك انظمة الاستبداد ومؤسساته وتشريعاته واستكمال تحقيق
اهداف الثورة.



انتفاضات
 
ضد
 
النيوليبرالية
 




إن شعار
«الشعب يريد إسقاط النظام»، الذي حرّك عشرات الملايين من العرب من المحيط
الى الخليج خلال العام ٢٠١١ ولا يزال يحركهم ويدفعهم لبذل لانواع التضحيات
وصولاً إلى بذل الدم بسخاء، هو العلامة الفارقة على الطابع الديمقراطي
والشعبي للانتفاضات وهدفها الجذري الأبرز. يعلن الشعارُ الشعبَ مصدراً
للسلطات، ويعلي السيادة الشعبية على كل سيادة اخرى، فردية كانت أو سلالية
أو حزبية أو عسكرية أو حاكمة بإسم الاجتهاد الديني. ويقطع بعجز الانظمة
العربية القائمة عن إصلاح نفسها بنفسها مؤكداً أن السبيل الوحيد لتحقيق
إرادة الشعب هو تغييرها بالقوة، قوة الشعب. 


إلى جانب
شعار «الشعب يريد» ارتفع شعار مكمّل له، لم يقلّ عنه شيوعاً، هو «عمل،
حرية، خبز» الذي وضع حق العمل والعدالة الاجتماعية في صلب العملية
الديمقراطية. الجديد في هذا الشعار هو المطالبة بالـ«العمل». ذلك أنه يشير
إلى البطالة باعتبارها أحد الدوافع الرئيسة للانتفاضات، والمحفّز الحاسم
لدور الشباب فيها. ومعلوم أن العالم العربي يحمل الارقام القياسية العالمية
من حيث نسبة الشباب (١٥-٢٤ سنة) بين السكان، ونسبة البطالة إلى السكان
(٣٠٪ على الأقل)، ونسبة البطالة بين الشباب (٤٤٪ من اجمالي العاطلين عن
العمل). وتشير بطالة الشباب بدورها إلى الطابع الريعي المتزايد للاقتصاديات
العربية في ظل العولمة الرأسمالية والاملاءات النيوليبرالية. وليس أدل على
فضيحة تلك الاملاءات من أن يسارع مديرا صندوق النقد الدولي والبنك الدولي –
تحت وطأة الثورتين التونسية والمصرية – إلى الاعتراف بأن نمو الناتج
المحلي لا يقدم حلاً لمشكلة البطالة، علماً أنه كان المقياس الذي فرضته
المؤسستان على مدى ربع قرن باعتباره المقياس الابرز لقياس الجدوى
الاقتصادية ! وتزداد الفضيحة ضخامة اذا علمنا امرين: الاول، أن المؤسستين
اللتين تتحكمان بحياة البشر المالية والاقتصادية، كانتا تقدمان تونس ومصر
تحديداً كنموذجين يقتدى بهما من حيث النجاح الاقتصادي في ظل «الاصلاحات
الهيكلية ». والثاني، أنه يتعين توفير ٥١ مليون فرصة عمل في العالم العربي
بحلول العام ٢٠٢٠، حسب تقديرات «وكالة التنمية» التابعة للامم المتحدة
للعام ٢٠٠٩. فأي اقتصاديات تلك التي تقدر على إنتاج فرص عمل بهذه الكثرة؟
وأي تحدّ أكبر من هذا التحدي لثورات يراد لها، ولمن سوف يحكمون بإسمها، أن
تبقى محصورة في الحيّز السياسي وحده. 


حقيقة
الامر أن الانتفاضات تشكل موجة من المقاومات الشعبية المشتركة لمفاعيل
النيوليبرالية بعد أكثر من ربع قرن على مباشرة تطبيقها في المنطقة. وهذا ما
يفسّر، إلى جانب عوامل اخرى، شمولها هذا العدد من البلدان العربية في وقت
واحد.  


ولا فصل
هنا بين دوافع اجتماعية ودوافع سياسية. فقد ترافقت وتيرة تطبيق الاجراءات
النيوليبرالية مع تركّز متزايد للسلطة والثروة في أيدي العائلات والمجمعّات
المافيوية-الامنية المرتبطة بالقطاع المالي-العقاري-المقاولاتي، سواء في
الانظمة الدكتاتورية العسكرية المتحدرة من حركات التحرر الوطني، أو في
الانظمة الريعية السلالية المسيطرة على الاقتصاديات النفطية. ولم يكن صدفة
أبداً أن يؤدي هذا التزاوج بين الاستبداد والنيوليبرالية إلى تغليب الدور
القمعي للدولة على أي دور آخر كوسيلة رئيسة للضبط الاجتماعي والسياسي. فهو
سمة مشتركة بين أنظمة البلدان التي طبّقت فيها إملاءات البنك الدولي وصندوق
النقد. وترافق تركّز الثروة، والتخلي عملياً عن أي جهد تنموي، في ظل نمو
الحرمان والتهميش والفقر، مع تنامي الهدر ونهب المال العام، ومع إعادة
تصدير عائدات النفط والغاز إلى المراكز الرأسمالية حيث توظّف في تمويل
المديونية الاوروبية والاميركية، أو في دعم عملاتها أو الاستثمار في
القطاعات المختلفة، هذا عندما لا تجري استعادة البترودولارات الخليجية عن
طريق تمويل الحروب ومبيعات السلاح بارقامها المليارية والمواد الاستهلاكية
الفاخرة الفاحشة.  


لقد كشفت
فضائح الحكام العرب المخلوعين، والعشرات بل المئات من مليارات الدولارات
التي راكمها كل منهم، همجية تسخير السلطة السياسية في سبيل الاثراء عن طريق
نهب المال العام وفرض العمولات على المشاريع الاقتصادية واقتطاع حصص
مباشرة من عائدات النفط، والسيطرة على الصناديق السيادية، ناهيك عن التهريب
وتبييض الاموال. حدث كل هذا في الوقت الذي حادت فيه الحملة ضد «الفساد» عن
فضائح وهموم تلك المنهبة. إذ جنحت للترويج للخصخصة بحجة ترهّل
البيرقراطيات الحكومية، ووظفت نظريات «الموازنات المتوازنة » كمبررات
للاعفاءات الضرائبية على رجال الاعمال والاغنياء وإلقاء المزيد منها على
الجمهور بواسطة الضرائب غير المباشرة، فيما قضت سياسات «التقشف» على دعم
الدولة للسلع والمواد الاساسية وقلّصت دورها في التوزيع والرعاية
الاجتماعيين إلى حدوده الدنيا. 



الديمقراطية
 
هي
 
الطريق
 
الى
 
الاشتراكية




في عالم
عربي هذه بعض تداعيات وقع العولمة النيوليبرالية عليه، وتلك تحديات ثوراته
الشعبية، لا بد لليسار أن يستعيد مشروعه المجتمعي كاملاً وأن يعيد به إنتاج
استقلاله الفكري سبيلاً للوصول إلى استقلاله السياسي والتنظيمي والسلوكي.
هذا إن هو أراد البقاء على قيد الحياة والمنافسة في كسب الرأي العام
والجماهير الشعبية التي يفترض به تمثيل مصالحها الأكثر جذرية.  


وحتى لا
نتجاهل السؤال التقليدي «ماذا يعني أن تكون يسارياً الآن؟»، يمكن القول أن
اليساري هو من يحاول الربط بين قيمتي الحرية والمساواة. وهو الذي يعي، في
ظروف بلادنا الخاصة، أن تحقيق الديمقراطية السياسية مهمة تاريخية متكاملة
تتطلب تفكيك أنظمة الاستبداد واستبدالها بأنظمة ومؤسسات وتشريعات جمهورية
ديمقراطية مدنية. واليساري هو من يدرك، بناء على الدروس الاليمة للتجربة
اليسارية ذاتها، أن تجاوز سلبيات الديمقراطية السياسية لا يتم بدكتاتورية
تقمع الحرية دون أن تحقق المساواة، وإنما بتعزيز الحرية بالمساواة، أي
بتحرير الديمقراطية من سطوة رأس المال وتطويرها نحو الديمقراطية الاقتصادية
والاجتماعية.  


بهذا
المعنى، فمبرر وجود متجدد لليسار في العالم العربي هو دفع الثورات
الديمقراطية إلى نهاياتها المتساوقة، وتطعيم الديمقراطية السياسية
بالديمقراطية الاجتماعية عن طريق المساهمة في حلّ التناقض بين المساواة
السياسية للمواطنين في الدولة واللامساواة بينهم في المجتمع، وهي اللامساواة الناجمة عن الفوراق والامتيازات الطبقية بينهم.  


إن
الديمقراطية هي الطريق إلى الاشتراكية. والحد الأدنى المشترك بين
الاشتراكيين لمدلول المفردة هو الاقتناع بأن هذا النظام الرأسمالي ليس
نهاية التاريخ، ولا هو خاتمة الطموح الانساني. بل إن التاريخ نفسه، بما فيه
انجازات الرأسمالية ذاتها، بات يسمح بتجاوز الرأسمالية. فقد بلغت البشرية
درجة من التطور وفرت من الموارد، والثروات، والمعارف ما يسمح بسدّ الحاجات
الاساسية لجميع سكان المعمورة من عمل، ومعاش، وسكن، وعلم، وصحة، وبيئة
نظيفة وآمنة. وإن العقبة الاساسية أمام تحقيق تلك المهمة التاريخية هي
الملكية الفردية ومبدأ الربح، الركيزتان الاساسيتان للنظام الرأسمالي. وليس
أدلّ على هذه الحقيقة من الارقام التي تتداولها وكالات الامم المتحدة
للتنمية من أن عشرة بالمئة فقط من ثروات أول مئة من أغنياء العالم كفيلة
بسد تلك الحاجات. 


على أن هذه
الحقيقة لا تعفي الاشتراكية والاشتراكيين من التحدي الاكبر الذي تكشفت عنه
تجارب «الاشتراكية المتحققة». نقصد كيفية حلّ المعادلة التاريخية الصعبة،
معادلة زيادة إنتاج الثروة من أجل تأمين المزيد من العدالة والمساواة في
توزيعها. لا توجد وصفات جاهزة، بل توجد محاولات حل تستحق الدرس منها تجربة
حزب العمال البرازيلي في الحكم خلال العقدين الاخيرين. 



مشروع
  
لعصر
 
العولمة




إن استعادة
اليسار لمشروعه المجتمعي كاملاً، يضعه أمام امتحان ادواته النظرية لانتاج
المعارف عن عصر العولمة بآليات تشغيله واتجاهاته الرئيسية وخصوصاً عن وقعه
المميز على المنطقة. والمفارقة الملفتة هنا هي ضعف الجهد الفكري والاقتصادي
حول موقع المنطقة العربية من العولمة باختلاف جوانبها الاقتصادية
والاجتماعية والسياسية والثقافية. ولعل أولى نقاط الاستدلال على هذا الطريق
هي النقاط التالية:


أولا،
تعيين الاطار العام لخصوصية صلة المنطقة بالعولمة من خلال وجود ركيزتين
للامبريالية المعاصرة فيها:    ١) آليات الاستحواذ على الموارد والثروات
الطبيعية – النفط والغاز خصوصاً – وإعادة تصدير عائداتها الى المراكز
الاوروبية والاميركية؛ ٢) انفراد المنطقة دون سائر مناطق العالم، بوجود
مشكلة من بقايا العهد الكولونيالي هي الاستعمار الاستيطاني العنصري
لفلسطين، المستمر في قضم الاراضي والاستيطان على كامل فلسطين التاريخية إلى
يومنا هذا، عدا عن توسعيته واحتلاله اراضي الجوار.  


ثانياً،
استكشاف الطبيعة المتناقضة للعولمة بظواهرها الجديدة من مَنْهَبة الفقاعة
المالية واخطارها التدميرية، إلى نقل الصناعات إلى بلدان الجنوب للقرب من
المواد الاولية والأيدي العاملة الرخيصة، وهي ظاهرة لم تسهم في الحد من
البطالة والفقر في بلدان الجنوب التي استقبلت الصناعات المنقولة، بل أطلقت
موجات غير مسبوقة من الهجرة في تلك البلدان نحو بلدان الشمال. ومن تناقضات
العولمة المثيرة للجدل توحيدها العالم، في الزمان والمكان، عبر ثورة
الاتصالات والمعلوماتية المذهلة من جهة، وتذريره في الآن ذاته الى كيانات
وولاءات ما دون الدولة من جهة ثانية.   


ثالثا،
استجلاء الوجه الجديد لأممية تَعِد بأنماط جديدة من التضامن والترابط بين
بلدان الجنوب. نعني عولمة بديلة، تقوم على التقاء المصالح بين المتضررين من
الامبريالية المعاصرة ومن احتكار الشركات العابرة للجنسيات ومن آليات
التبادل والتطور غير المتكافئين بين اجزاء العالم، عولمة بديلة تطمح لبناء
عالم يتسع لما فيه من عوالم، متحرراً من العنصرية والمجاعات والفقر والحروب
وخطر الفناء النووي، عالم يوفر الحد الادنى اللائق من الحياة لجميع
أبنائه، بدلا من ضمان الثراء الفاحش الهادر للواحد بالمئة على حساب التسعة
والتسعين الباقين.  
  


ديمقراطية
 
علمانية
 
ذات
 
همّ
 
اجتماعي




لا جديد في القول ان الثورات الراهنة محط نزاع على مستويين: 


المستوى
الاول هو النزاع الناجم عن التدخّل الخارجي، متعدد الاشكال والاطراف،
الساعي للحفاظ على الانظمة القائمة ولو بالقوة عندما يتعلّق الامر بدائرة
أمن النفط. ولكنه يتكيّف مع الانتفاضات الجارية في أقطار اخرى، من أجل
استيعابها وانتزاع نصلها الحاد عن طريق التضحية برموز الحكم، والارتضاء
بمقادير من التعددية السياسية والاعلامية، مع الحفاظ على الركائر العسكرية
للسلطة، وعلى أولوية الجهاز التنفيذي والعمل على إخراج الجماهير من دائرة
الفعل والضغط. ولا تمانع قوى التدخل الخارجي هذه في تجديد الاطقم الحاكمة
طالما أنها تضمن المصالح الامنية والجيواستراتيجية للامبريالية المعاصرة
وتنفذ السياسات الاقتصادية سارية المفعول.  


اما مستوى
النزاع الآخر، فهو مع قوى سياسية إسلامية ترى في الانتفاضات، وفي حيازة
أكثريات برلمانية، الفرصة الذهبية للارتداد على ما تبقى من تشريعات مدنية
وعلمانية في الدول العربية المعنية. هذا عدا عن استعدادها التنازل عن
موجبات الحد الادنى من التضامن مع قضية الشعب الفلسطيني من أجل كسب الشرعية
الخارجية، الأوروبية والأميركية، ناهيك عن انحيازها النيوليبرالي،
ومحافظتها الاجتماعية، وسعيها لإحلال المعارك الرمزية محل الحل الفعلي
للقضايا الاجتماعية والاقتصادية المستفحلة.  


في
المقابل، حري باليسار التمسك بأبرز رسالة تبثها الانتقاضات ومفادها أن
التحويل الديمقراطي يجب أن يتم بواسطة الشعب، وبقوى الشعب الذاتية، ومن أجل
الشعب. وترجمة ذلك هو إرساء المشروع الديمقراطي لليسار على الأسس التالية: 


١. تشريع المساواة السياسية والقانونية للمواطنين ورفض التمييز بينهم على أساس الجنس والدين والمذهب والاثنية . 


٢. انبثاق السلطة التنفيذية عن السلطة التشريعية وخضوعها لها ومسؤوليتها تجاهها، وسيادة مبدأ فصل السلطات. 


٣. اعتبار
الحقوق الاجتماعية – العمل، والمعاش، والسكن، والتعليم، والصحة، والبيئة
النظيفة الآمنة – حقوقاً طبيعية من حقوق الانسان. ذلك أن الديمقراطية التي
لا توفر عملاً ولا تضمن خبزاً تدعو أول غاصب للسلطة إلى وأدها.  


٤. الحياد
الديني للدولة على هيئة تدبير سياسي يحقق عدم تدخل المؤسسات الدينية في
شؤون الدولة، وعدم تدخل الدولة في شؤون المؤسسات الدينية. ويترجم هذا
الحياد في رفض زجّ المقدس – القائم على معادلتي التحريم والتحليل؛ وحقوق
الله مقابل واجبات الانسان -  في السياسة التي تقوم تعريفاً على الاجتهادات
والخلافات وتعدد الخيارات. وتؤكد هذه النظرة أن العلمانية ملحق من ملحقات
الديمقرطية، لا العكس، تعتمد المرجعية الزمنية والمدنية للتشريع، أي صدوره
عن مؤسسات السيادة الشعبية، سواء أكانت المجالس التمثيلية أو الاستفتاءات
الشعبية. ويقتضي الالتزام العلماني، في هذه المرحلة الانتقالية بالذات،
إقران أي تنازل يقدّم للتشريع الديني في الاحوال الشخصية بتشريع مدني
اختياري مقابل.



منظور
 
جديد
 
للوحدة
 
العربية




انه لأمر
ذو دلالة كبيرة أن يؤدي سقوط الحكم الفردي في ليبيا وتونس إلى إعادة تفعيل
سريعة لمشروع الوحدة المغاربية بين بلدان المغرب العربي. لقد توجّت الوحدات
العربية المسخّرة للسيطرة الداخلية تاريخاً من الفشل لصيغ «القطر القائد »
و«الوحدات الاندماجية» والتوحيد القسري ولو بالحرب، كما في حالة اليمن، أو
تشريع الانفصال في صفقة تحافظ على سلطة الحاكم فيما تبقى من البلاد، كما
في حالة السودان، عداك عن الفشل في الحفاظ على المشاريع الوحدوية أو حتى
العجز عن تحقيق وحدة سورية والعراق عندما كان هناك حزب قومي واحد يحكم
البلدين.  


لا بد من
منظور جديد للوحدة العربية يحررها من إشكالية الهويات ومن الاستبدادية. 
ذلك أن المدى العربي لا يزال هو المدى الوحيد لتحرر المنطقة والسيطرة
المشتركة على مواردها، وثرواتها، ومقدراتها، ومصائرها، وتحقيق التنمية
الفعلية لصالح جميع ابنائها وانتزاع مكانة تليق بهم وبها بين الأمم. وهذه
أهداف تتزايد الحاجة إليها والعوامل المساعدة على تحقيقها في آن معاً نظراً
لما يفرضه عصر العولمة من تحديات تدفع باتجاه بناء التكتلات الاقليمية. في
سبيل تحقيق ذلك، تملك البلدان العربية – إضافة الى اللغة والتراث والتاريخ
المشترك – من الثروات الطبيعية العظيمة الأهمية — من نفط وغاز ومعادن
ومياه – ما يكفي لتحقيق تنمية إنسانية قائمة على قيمة العمل والانتاج تهدف
لتوفير الحد الادنى من الحياة اللائقة لكل مواطنيها، بأقل كلفة على القوى
البشرية. 


ويرى هذا
المنظور في الوحدة العربية مشروعاً طوعياً قيد البناء، يتحقق عبر مسار زمني
من التعاون والتكامل ويعيد الاعتبار للمصالح والتطلعات المشتركة للشعوب.
فيبدأ من تنمية التبادل التجاري بين الدول العربية، وهو من أخفض المعدلات
في العالم، ويمرّ عبر خطوات على طريق التكامل الاقتصادي وبناء السوق
المشتركة قبل أن يتوّج المسار بأشكال مختلفة من التكامل السياسي
والمؤسساتي.  


والعالم
العربي قابل بالمقدار ذاته لأن يتسع لكل مكوناته البشرية بغض النظر عن
الانتماءات والفوارق الاثنية والاقوامية والدينية والمذهبية. فقد انتهى
أيضا التصوّر الذي يقرن الوحدة الوطنية بالمركزية السلطوية. وما أدى إليه
من ممارسات عمقت عوامل التفتيت الداخلي، واستدرجت النزعات الاهلية والدعوات
الانفصالية وما تمخض عنها من حروب واقتتال.   


في سبيل
تعاقد جديد بين مكوّنات الشعوب العربية، يحمل اليسار إسهاماً من نقطتين:
تقول الاولى إن تكريس المواطنة المتساوية يشكل حلاً ضرورياً ولكنه ليس هو
دائما الحل الكافي للتعاطي مع جدل الاكثرية/الاقلية. فكيفما تقلبّت أدوار
التمييز والغلبة بينهما، فقد لا تستقيم في بعض الاحيان دون تصحيح المظالم
التاريخية باقتران المواطنة بالاعتراف بحقوق الجماعات في تقرير المصير.  


ويقترح
اليسار في النقطة الثانية أن ارتداد الناس إلى الانتماءات الاولية (عائلية،
مذهبية، دينية، مناطقية، اثنية، الخ) كخط دفاع أخير عن النفس، غالبا ما
يتم للاحتجاج على تمييز ضدهم فيما يتعلق بالموقع من السلطة، والسيطرة على
الموارد الطبيعية، وتوزيع الثروة، وخدمات الدولة. ويتم هذا الارتداد، وربما
بشراسة أكبر، عندما يتعلق الامر بالدفاع عن امتيازات ومواقع استئثار
وامتياز مكتسبة في السلطة والثروة من خلال تلك الانتماءات الاولية. من هنا،
فإن تأمين الحقوق الاجتماعية الاساسية، وتحقيق التنمية المناطقية
المتوازنة، والتوزيع العادل للثروة ولخدمات الدولة يعد عناصر مكمّلة للحلول
القائمة على المواطنة المتساوية والحق في تقرير المصير.





التنظيم
 
والوسائل




كشفت
الانتفاضات الشعبية عن مدى قصور نمطين من أنماط التمثيل الاجتماعي-السياسي:
الاحزاب السياسية،  ومنظمات المجتمع الاهلي. لقد اهترأ دور الحزب الطليعي
الانقلابي، القائم على التراتب الأوامري الداخلي، وعلى العلاقة الاستعلائية
التربوية تجاه الشعب قبل أن تجهز عليه الانتفاضات. لكن خصائصه هذه تجلّت
على نحو همجي غير مسبوق في الممارسات الدموية خلال الانتفاضات.  


لقد آن
أوان الاحزاب الجماهيرية، الممثلة لكتل من المصالح والمعبّرة عن التطلعات
الشعبية عبر البرامج والسياسات، أحزاب هي وسائل وليست أهدافاً بذاتها. ولكن
يبقى على الاحزاب الجديدة أن تظهر الكثير من التخيل والابتكار في مجال
الديمقراطية الداخلية، واستنباط الوسائل النضالية المتلائمة مع المعارك
والمنافسات في ظل الانظمة الانتخابية والديمقراطية.  


لقد وضعت
الانتفاضات المنظمات غير الحكومية أمام امتحان يراجع ربع قرن من مممارسات
لم تخضع لمراجعة جادة. ففي حين برزت معظم منظمات حقوق الانسان في أدوار جد
ايجابية، بدت الانتفاضات كأنها «تصحيح بواسطة الممارسة » في موضوع التحويل
الديمقراطي خصوصاً. فوضعت صيغة «الشعب/النظام» في مواجهة صيغة
«الدولة/المجتمع المدني» التي غلب عليها التفسير النيوليبرالي. وأعادت
الانتفاضات تجميع قضايا المجتمع وإقامة الصلات فيما بينها، في مقابل
تذريرها إلى دزينة من القطاعات المتفرقة في فكر وممارسة المنظمات غير
الحكومية. أضف الى هذا أن عمل العدد الاكبر من هذه الاخيرة اقتصر على
التبشير بالديمقراطية والتدريب والتربية عليها في تجاهل لشروط تحقيقها عبر
الفعل السياسي أو استبعاد دور الضغط الشعبي في ذلك.  


عبّرت
الثورات عن مشاركة فئات اجتماعية لا تتسع لها الأطر الحزبية والنقابية،
القائمة على الاساس المهني أو السياسي، ولا تكفي منظمات حقوق الانسان
للتعبيرعنها وتمثيلها كالطبقات الوسطى، والشباب، والنساء، والعاطلين عن
العمل، الفقراء ومهمشي الارياف وسكان العشوائيات، وغيرهم. تتجه هذه الشرائح
نحو أشكال جديدة من الحركات الاجتماعية تستحق الدراسة. والاهم هنا هو أن
الانتفاضات قدمت مساهمات ثمينة للعمل الشعبي من خلال ابتكارها اشكالاً من
التنظيم والتحرّك القاعدية من تنسيقيات الاحياء وائتلافات شبابية ولجان
شعبية للعمل البلدي وهيئات للعاطلين عن العمل وسواها. والملفت جداً ان هذه
الاشكال الحداثية ترافقت مع إعادة استنباط كافة الأشكال والهيئات التقليدية
للتضامن والتكافل الأهليين، الريفي منه والمديني. 


وأخيراً،
زخرت الانتفاضات بإبداعات العبقرية الشعبية من أشكال للنضال استخدمت من
الموارد والأدوات ووسائل الاعلام والاتصال والإيصال أرقاها، وأحيت في الآن
ذاته من عناصر ثقافتها الشعبية الأبدع والأكثر تأثيراً وتعبئة للناس
وتأجيجاً للمشاعر من حىاء وغِناء وإنشاد ورقص جمعي. على أن العبقرية الشعبية ليست هي الخاتمة بل هي الإلهام الدائم.


سوف نتناول موضوع العلاقة بين قضية فلسطيني الصراع العربي الاسرائيلي من جهة وبينالانتفاضات الديمقراطية العربية في نص لاحق لضيق المجال عن تناول مفصّل لهذا الموضوع الحساس.  


 [ عن مجلة “بدايات”. تنشر “جدلية” هذا المقال ضمن سلسلة من المقالات سننشرها بالإتفاق مع مجلة “بدايات” الصادرة حديثاً في بيروت.] 
اقرأ المزيد

الانتقال من سياسة خُذْ وطالب إلى طالب وطالب؟!

من أكثر النصائح السياسية التي راجت خلال السنوات الماضية في بعض الدول
العربية هي ضرورة الأخذ بمنهج «خذ وطالب». جوهر ذلك النصح، هو أن العَجَلَة
في نيل المطالب، أمرٌ ضارٌّ بالعمل البيروقراطي للدولة.

وبالتالي، فإن الموضوع يقتضي المشي على هَوْن، فضلاً عن ممارسة السياسة، بطريقة تصاعدية، تكتسب خلالها الأحزاب تجربة العمل السياسي.

والحقيقة،
أن هذه النصيحة جيدة، وفيها من الحصافة الشيء الكثير. بل نزيد على ذلك،
وهو أن دولاً مختلفة، اتبعت مثل هذا النهج، ونالَت استقراراً سياسياً
واجتماعياً واقتصادياً. ودول أخرى خالفت ذلك، فهَوَت وتأزمت.

فحَرْق
المراحل، أمرٌ مُضرٌّ في العمل السياسي، وتجربة الولايات المتحدة الأميركية
ماثلة أمامنا. فهي لم تُعطِ النساء حق الانتخاب إلاّ بعد مئة وثلاثة
وثلاثين عاماً من استقلالها. بل إن الله تعالى «خَلَقَ السَّموَاتِ
والأَرضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ»، كما يحب البعض أن يستشهد بهذا المثال،
الذي يجب أن يطابق مثال المصداق فيه الموضوع.

لكن المشكلة هي عندما
يُنادَى بهذا النصح صباح مساء، دون أن يكون الناصح مستعداً لأن يفعل ما
يأمر به. أن يُقال للشعوب طالبوا بما تريدون، ثم خُذوا ما تنالونه رويداً،
ثم طالبوا مرة أخرى، لتنالوا أشياء أخرى. ثم يكتشف الناس، أنهم دخلوا في
مشوار من الطريق الهلامي واللامرئي، حين يطالبون بما يريدون دون أن ينالوا
شيئاً، ثم يطالبون ويطالبون حتى يأذن الله في أمرهم، فيتحوَّل الأمر إلى
شيء من العبثية السياسية التي لا يُرتجَى منها شيء سوى حدّ الكفاف (إن
وُجِد).

لا يمكن للشعوب أن تؤمن بمشروع الدولة، إلاَّ عندما يكون ذلك
المشروع متجاوزاً للثرثرة والتسويف، إلى مرحلة مفهومة وواضحة المعالم بها
من الجدِّية الواضحة، والتبادل الحقيقي للمنافع والشرعيات والتسالم. لا
يمكن للشعوب أن تستوعب خطاب حكوماتها، إلاَّ عندما تتحسَّس حجم التغيير
اللازم، الذي بات يفرض نفسه على حياتهم، وفعلهم اليومي.

أمرٌ آخر يجب
أن يكون مفهوماً، وهو توضيح معنى ومضمون التمرحُل. فاجتياز المراحل بشكل
طبيعي، لا يعني الاستغراق في تلك المراحل، بل يعني إشباعها بطريقة معقولة،
وليس بطريقة تأبيدية وذرائعيَّة. فالاستغراق عادة ما يفضي إلى التِّيْه،
وغياب الأسباب، وبالتالي، الإضرار بشرعية الأنظمة الحاكمة، باعتبارها
مُخِلَّة بعنصر التبادل مع شعوبها.

كذلك يجب الانتباه إلى قضية بالغة
الخطورة، وهي ضرورة اتفاق المرحلة «الحاضرة» مع أعمال أخرى مصاحِبَة. إذ
ليس من المعقول، أن تقبل الشعوب بمعادلة «التمرحُل» في الوقت الذي ترى فيه،
أن أنظمتها لازالت تعبث في ذات المرحلة «الحاضرة» بفسادها وتمييزها
وظلمها، وبالتالي، يُفقِد هذا الأمر المرحلة من عنصر المراكمة، ليجعل من
المهمات السياسية والاقتصادية في المرحلة التالية، إصلاح ما أُفسِد في
الأولى، وكأننا رجعنا إلى المربع الأول… وكما يقول المثل الشعبي كأنك
يابوزيد ما غزيت!

فأصل القبول بالتدرُّج هو تثبيت موضوع المراكمة.
بمعنى الولوج في المرحلة التالية تهيؤاً لما هو قادم من مراحل، وليس للرجوع
نحو إصلاح أشياء مضت، وكان إصلاحها منوطاً بأوانها، وليس بما يلاحقها من
زمن فيه من العمل الجديد الكثير. والحقيقة، أن العلاقة هنا حساسة جداً؛ كون
اهتزازها لا يؤثر على توازنها فقط، وإنما يسري على رؤية المستقبل فيها
أيضاً، وكذلك الموقف من كل هذا الامتداد الزمني لمجمل المراحل الموضوعة.

أمر
آخر يمكن الإشارة إليه وهو علاقة «السير المرحلي» بوعي الناس ووتيرة
تفاعلهم السياسي. ففي أحيان كثيرة، يكون وعي الناس متقدماً على الدولة
لأسباب مختلفة. لذا، فإنه حين تعبِّر الجماهير بعدم رضاها عن السَّير
بالوتيرة القائمة، فعلى الأنظمة أن تحاكي ذلك السَّخط، وتقوم بمراجعة منسوب
السرعة البطيء والمتكلِّس. فهذه الجماهير، هي التي تفرض سرعة الإصلاحات
باعتبارها العنصر الأساس في الرابط الاجتماعي، الذي بدوره يخيط الدولة،
وبقوم بممارسة الإدارة فيها، ويتلقف خدماتها وخطابها ويمنحها الشرعية.

نعم،
الدولة تمسك بخيط الربط في ذلك المتغيِّر، فتعيد التوازن السياسي
والاجتماعي، والمطلق إلى صِيَغ مُحدّدة من الأفهام والنشاط السياسي
والتشريعي والقانوني الذي يُسَكِّن من اندفاع الجماهير. فالدولة هي بالأساس
قيمة سيادية تدير السلطة والقوة المادية لديها عبر مؤسسات دستورية ناظِمة
تؤمِّن عدم حصول انشطار سياسي وقانوني واجتماعي واقتصادي وحماية لمناشط
المجتمع/ الدولة، وبالتالي، فإنها معنية بهذه المحاكاة الواجبة.

في المحصلة، يجب ألاَّ نردد شعارات للاستهلاك المحلي والخارجي لا أكثر.

فإن
كان هناك منهج سياسي واضح ومدروس يحصل فيه المواطن العربي على ما يريد
(حتى وإن كان قليلاً) ليطالب بعده بما هو أكثر فأهلاً به، لأنه المنهج
الأضمن له من أيّ حالة انفلات أمني قد تعصف بالبلدان العربية.

لكنه
أيضاً لا يريد أن يسمع شعار فريدريك الأكبر ملِك بروسيا عندما قال «لقد
انتهيت أنا وشعبي إلى اتفاق يرضينا جميعاً، يقولون ما يشتهون وأفعل ما
أشتهي»… لأنه شعارٌ لا يمنح الشعوب والدول سوى الأزمات.

محمد عبدالله محمد
صحيفة الوسط البحرينية
اقرأ المزيد

قانون العمل الجديد… أسوأ قانون تشهده البحرين

قلنا ذات مرة، في مقال سابق في شأن «ما يجب أن تكون عليه هوية القائمين
على إعداد مسودة القوانين أو تعديلها»، أنه يتوجب أن تتوافر في هؤلاء ثلاث
مميزات على الأقل، وهي: (أولاًً) معرفة القاعدة القانونية؛ من حيث الإحاطة
بأبعادها وشروطها وكيفية صياغتها؛ (وثانياً) الخبرة في مجال العمل المرتبط
بالقانون المراد تعديله أو إصداره؛ (وثالثاً) معاصرة الواقع بالتوطن أو
الإقامة الطويلة.

وحيث صدر قانون العمل الجديد رقم (36) لسنة 2012
المنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 2 أغسطس/ آب 2012 في العدد 3063 والذي
تصدرت بداية وزارة العمل بمفردها لإعداد مسودته واقتراح نصوصه منذ عام 2001
ثم انتهى الأمر إلى إصداره بنصوصه الحالية، فأُلغي بموجبه قانون العمل
القديم رقم (23) لسنة 1976 قانون رقم (14) لسنة 1993.

وبمراجعة
القانون الجديد أوقفتنا العديد من نصوصه التي تحيط بها الكثير من المآخذ،
سواءً من حيث الشكل أو الصياغة أو المضمون، التي لم نكن نتوقعها مطلقاً،
وخاصةً أن ولادة هذا القانون جاءت بعد حملٍ دام إحدى عشرة سنة يفترض أن
يكون حسن الخلقة مكتملاً غير مشوه.

وعلى رغم أن هذا القانون تضمن
بعضاً من النصوص لصالح المرأة العاملة، إلاّ أن هذه النصوص لا تعدو سوى
نقاط صغيرة بيضاء في وسط دائرة كبيرة سوداء كاتمة، ما يجعلنا نخرج بمحصلة
نهائية أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهده مملكة البحرين.

ولكي
لا نطيل في المقدمة نبدأ في الولوج في نصوص هذا القانون ونختار بعضاً من
نصوصه ضمن دائرته السوداء، لنعقب عليها مادةً تلو الأخرى بالتعليق عليها في
حلقات متسلسلة ومتتابعة نبدأها في هذه الحلقة، بما تنص عليه الفقرة
الثانية من المادة الرابعة على أن «يستمر العمل بأية مزايا أو شروط أفضل
تكون مقررة أو تقرر في عقود العمل الفردية أو الجماعية أو أنظمة العمل
بالمنشأة أو غيرها أو بموجب العرف».

هذا النص، رغم ركاكته وسوء
صياغته بشكل لا يليق أن يكون نصاً في القانون، بحيث يظهر أن من قام بصياغته
غير محيط بأبعاد القاعدة القانونية ولا يحسن صياغتها، فقد جاء – علاوة على
ذلك – مغايراً لنص قانوني يقابله في المادة رقم (153) من قانون العمل
الملغى لسنة 1976 التي ورد فيها النص التالي: «ولا يجوز المساس بما اكتسبه
العامل من حقوق بمقتضى أية اتفاقية أو لوائح النظم الأساسية أو قرارات
التحكيم أو ما جرى العرف أو اعتاد صاحب العمل على منحه للعمال».

وبمقارنة
النصين السابقين نلحظ أن قانون العمل الجديد لسنة 2012 وقف موقفاً سلبياً
في غير صالح العمال، وهذا الموقف السلبي سندرك لاحقاً كم هو ضار للغاية،
وذلك للأسباب التالية:

أولاً: كان يفترض أن يؤكد النص سابق الذكر
بعبارة واضحة لا تحتمل التأويل وبقاعدة آمرة على «عدم المساس بما اكتسبه
العمال من حقوق» على النحو الذي جاء في نص المادة رقم (153) من قانون العمل
السابق لسنة 1976. وهو ما خلا منه نص المادة الرابعة من قانون العمل
الجديد.

ثانياً: من المقرر – طبقاً لما نصت عليه معظم القوانين
والاتفاقيات العمالية الدولية – أن الحقوق العمالية تكتسب بمقتضى إحدى
المصادر التالية: القانون، أو عقد العمل، أو لوائح الأنظمة الأساسية
للمنشأة، أو قرارات التحكيم، أو العرف، أو ما اعتاد صاحب العمل على منحه
للعمال.

وهذه المصادر الستة نص عليها قانون العمل القديم على نحو ما
تقدّم، تضفي على الحقوق العمالية صفة الحق المكتسب، بحيث يستطيع العامل
بمقتضى أي واحد من هذه المصادر أن يطالب بالحق بصفته حقاً مكتسباً، ومن بين
هذه المصادر كما ذكرنا «ما قد اعتاد صاحب العمل على منحه له بصورة
منتظمة».

بيد أننا لو قمنا بمقارنة نص المادة رقم (153) من قانون
العمل الملغى لسنة 1976 ونص المادة الرابعة من قانون العمل الجديد سابق
الذكر لوجدنا أن هذا الأخير قد حذف مصدراً مهماً من مصادر الحق وهو «ما
اعتاد صاحب العمل على منحه للعمال».

فلو افترضنا مثلاً أن بنكاً من
البنوك قد اعتاد على أن يصرف لموظفيه أو لبعض منهم أجر شهرٍ إضافي بنهاية
كل عام ميلادي (وهو ما يطلق عليه أجر الثالث عشر) وكان هذا الاعتياد غير
مبني على اتفاق صريح في عقد العمل، فإن هذا الاعتياد بمقتضى قانون العمل
القديم يصبح حقاً مكتسباً للموظفين لا يستطيع البنك المساس به، من حيث أنه
جاء بمقتضى قاعدة قانونية آمرة. في حين أن قانون العمل الجديد حذف عبارة
«ما اعتاد صاحب العمل على منحه للعمال» ما يعني أنه حذف مصدراً من مصادر
الحق آنفة الذكر، وبالتالي يستطيع البنك في مثل الحالة المشار إليها أن
يلغي صرف الراتب الثالث عشر مهما طالت مدة اعتياده على صرفه لموظفيه، ولن
يكون ملزماً به كحق مكتسب بحكم القانون الجديد.

لذلك وبناءً على ما
تقدّم نكون قد وقفنا على سوأة من مساوئ قانون العمل الجديد، وسنقف بالتتابع
على باقي هذه المساوئ في الحلقات المقبلة.

في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم بقانون رقم

(36)
لسنة 2012 أشرنا في الحلقة الأولى إلى وجوب أن تتوفر في القائمين على
إعداد مسودة القوانين أو تعديلها ثلاث مميزات هي: (أولاً) معرفة القاعدة
القانونية؛ من حيث الإحاطة بأبعادها وشروطها وكيفية صياغتها.

(وثانياً) الخبرة في مجال العمل المرتبط بالقانون المراد تعديله أو إصداره. (وثالثاً) معاصرة الواقع بالتوطن أو الإقامة الطويلة.

ووقفنا
في الحلقة السابقة على نص الفقرة الثانية من المادة الرابعة من القانون
المذكور، والتي من خلالها أثبتنا سوء صياغة هذا النص بما يوحي أن القائمين
على إعداد مسودة القانون المذكور يفتقرون إلى إحدى المميزات السالف ذكرها،
فضلاً عن كون النص المشار إليه جاء في غير صالح العمال، وكأن المشرِّع قد
أخذ موقفاً سلبياً نحو العمال استناداً للأسباب التي وقفنا عليها.

وفي
هذه الحلقة سنقف على جانب من نصوص القانون المذكور لنثبت من خلاله مجدداً
صحة مآخذنا على هذا القانون وعلى القائمين على إعداد مسودته.

وذلك فيما يلي:

أولاً:
في المادة العاشرة من المرسوم بقانون رقم (14) لسنة 1993 الذي ألغاه قانون
العمل الجديد، جاء النص التالي: «على وزارة العمل ترشيح المقيدين لديها
للوظائف والأعمال التي تناسبهم وتتفق مع سنهم وكفاءتهم الفنية…». هذا
النص يحمل مضموناً سن بموجبه إجراءً قانونياً ملزماً التزمت به وزارة العمل
طيلة السنوات الماضية، وهو ترشيح العاطلين المقيدين لديها للوظائف
والأعمال التي تناسبهم. غير أن قانون العمل الجديد لسنة 2012 خلا من هذا
النص تماماً، ما يعني أن المشرِّع رفع هذا الالتزام عن كاهل وزارة العمل.

وبإلغاء
هذا الإجراء أصبحت وزارة العمل بمنأى عن أي التزام قانوني يلزمها بترشيح
العاطلين المقيدين لديها ومتابعة تشغيلهم على نحو ما كانت عليه في الماضي،
ليبقى التزامها محصوراً في قيد العاطلين، أو بالتنسيق مع جهات – لم يحددها
القانون – لغرض توظيفهم طبقاً لما جاء في نص المادة التاسعة من قانون العمل
الجديد.

و»الترشيح» المشار إليه لا يجوز تبسيط مفهومه ومضمونه ليوصف
– بحسب ما يراه بعض المسئولين الجدد بوزارة العمل – بأنه مجرد اقتراح أو
تنسيق لتوظيف العاطلين، إذ أنه بهذا التوصيف ننتهي إلى اجتزاء طبيعة
الترشيح.

إنما هو في الحقيقة نظام يحمل في طياته توصية، أو ما يشبه
بالأمر الإداري، في إطار خطة «بحرنة الوظائف» التي تخلت عنها وزارة العمل
تدريجياً حتى أصبحت في «خبر كان».

وقد لمسنا في الماضي أن ترشيح
وزارة العمل للمقيدين لديها للوظائف والأعمال التي تناسبهم وتتفق مع سنهم
وكفاءتهم ومتابعة تشغيلهم وفق خطة بحرنة الوظائف كان له الأثر الملموس في
توظيف نسبة لا بأس بها من العاطلين. وبإلغاء نظام الترشيح باتت وزارة العمل
غير مسئولة عن أهم واجب وطني يفترض أن تقوم به على نحو ما كانت عليه في
الماضي، وإن قامت به إنما تقوم به تفضلاً لا بموجب التزام قانوني.

وقد
سبق أن صرح لنا أحد المسئولين بوزارة العمل خلال زيارتنا له لغرض ترشيح
أحد الخريجين الجامعيين كان عاطلاً لأكثر من ثلاث سنوات ولا يزال عاطلاً،
بقوله: «إن الوزارة غير مؤهلة لأن تُلزم أحداً بتشغيله وفقاً لمؤهلاته».
ونحن في الواقع لا نلوم هذا المسئول لما صرح به، لأنه فطن بأن لا وجود
لإلزام قانوني على هذه الوزارة بعد إلغاء النص الذي يلزمها بترشيح ذلك
المواطن العاطل وإخلاء مسئوليتها من متابعة تشغيله، وبعد تعطيل خطة «بحرنة
الوظائف» كما أشرنا.

ثانياًَ: بعد أن رأينا في الفقرة السابقة كيف
أخلى المشرِّع (بمقتضى قانون العمل الجديد) مسئولية وزارة العمل من ترشيح
العاطلين الوطنين المقيدين لديها ومن الالتزام بمتابعة تشغيلهم على نحو ما
سلف بيانه، نجده اتخذ موقفاً أشد قسوة تجاه العامل الوطني استناداً لما
يلي:

فبعد مراجعة قانون العمل الجديد نلحظ أنه ألغى المادة رقم (13)
من قانون العمل لسنة 1976 التي ألزمت صاحب العمل بوجوب منح الأفضلية للوطني
في الاستخدام، والتي جاء فيها «في حالة زيادة عدد العمال عن حاجة العمل
يجب الاستغناء عن الأجنبي قبل العربي أو الوطني، وعن العربي قبل الوطني»…

بمعنى
أنه كان يجب على صاحب العمل في حالة زيادة عدد عماله عن الحاجة أن يستبقي
على العامل الوطني ويمنحه الأفضلية في الاستخدام دون العربي والأجنبي متى
كان صالحاً لأداء العمل.

أو بمعنى آخر كان لا يجوز لصاحب العمل في
حالة زيادة عماله عن الحاجة أن يفصل العامل الوطني ولديه عامل عربي أو
أجنبي يماثله. وبإلغاء المادة

(13) المشار إليها جاز القول بأن قانون
العمل الجديد ألغى أفضلية العامل الوطني في الاستخدام على غيره من
الأجانب، فجعل العامل الوطني والأجنبي متساويين في حق الاستخدام.

وبناء
على ما تقدم في الحلقة الأولى وفيما أشرنا إليه أعلاه يثبت أن المشرِّع
بموجب قانون العمل الجديد قد أخذ موقفاً سلبياً فيه أكثر قتراً وبخلاً
وحيفاً بحق العامل الوطني.

ثالثاً: جاء في المادة رقم (12) من قانون
العمل الجديد «يجب على صاحب العمل أن يسلم العامل إيصالاً بما يودعه لدى
صاحب العمل من أوراق أو شهادات أو أدوات. ويلتزم صاحب العمل بأن يرد للعامل
عند انتهاء عقد العمل ما يكون قد أودعه لدى صاحب العمل».

هذا النص
يوضح لنا بجلاء الاعوجاج المتين في الصياغة، وبما يثبت مجدداً أن الأيادي
التي صاغت نصوص قانون العمل الجديد ليست مؤهلة لذلك.

ولنا لقاءات
أخرى في الحلقات القادمة لنكتشف من خلالها المزيد من هذا الاعوجاج في
الصياغة والتعبير والشكل، والمزيد من الحيف الذي وقع على العمال من خلال
قانون العمل الجديد. ولنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري
تشهده مملكة البحرين.

علي محسن الورقاء
صحيفة الوسط البحرينية
اقرأ المزيد

مقاربة تحايلية للتعامل مع المديونيات




بسبب استعصاءاتها على الحلول والمقاربات العلاجية الموصوفة لها والمستخدمة لعلاجها، فإن من الطبيعي أن تستدعي أزمة المديونيات الضخمة في أوروبا أفكاراً واجتهادات مختلفة يمكن أن يُفسَّر تنوعها بخصوبة التفكر والتأمل الاقتصادي إبان الأزمات وابتكاريته وإبداعيته، ويمكن أن يأخذ منحىً تفسيرياً آخر يفيد بما هو سلبي من حيث إن ذلك التعدد والتنوع في مقاربة أزمة المديونيات ينم عن التشتت والتخبط وضياع بوصلة التركيز على الجوهر وليس على الهوامش التي يغرق فيها الجدل العقيم وغير المجدي . من جملة ما طُرح في الآونة الأخيرة من مقاربات لمعالجة أزمة المديونيات العامة (المقصود طبعا مديونيات القارة الأوروبية أساساً التي تستحوذ على معظم القلق العالمي بشأن انعكاساتها الخطيرة على الاقتصاد العالمي)، ان السياسة النقدية تتوفر على محتوى العلاج السحري لخفض ضغط المديونيات .




هذا ما يبشر به صندوق النقد الدولي في تقريره الاقتصادي الذي نشره مؤخراً . فتقرير الصندوق يرى بأن القيادات السياسية في الدول الغنية في الوقت الذي تُشغل نفسها بعناء البحث عن معالجات مناسبة لأزمة مديونياتها العامة، فإنها لا تلتفت إلى جانب في غاية الأهمية – من وجهة نظر الصندوق – وهو المتمثل في كون محافظي البنوك المركزية غير منتخبين، متفحصا في 26 حادثة منذ عام 1875 وصل خلالها إجمالي الدين العام إلى 100% من إجمالي الناتج المحلي، وكيفية خفض هذه النسبة إلى حدها الأدنى .




وبحسب تقرير الصندوق فإن النمو وخفض الإنفاق وزيادة الضرائب لهم دور لا ينكر في خفض نسبة المديونية، إلا أنه يرى بأن السياسة النقدية هي الفيصل في العلاج الناجع . وفي التفاصيل فإن معدي تقرير الصندوق يرون بأن سعر الفائدة المنخفض أو هبوط المعدلات الاسمية للفائدة والتضخم، كانوا، حسب الرصد التاريخي الذي يفترضه التقرير – عوامل رئيسية لخفض نسبة الدين العام إلى إجمالي الناتج . فحين تكون أسعار الفائدة عالية والانكماش سائداً (نقص في المعروض النقدي مفض لانخفاض في المستوى العام للأسعار)، فإن استعادة التماسك والتوازن الاقتصادي (بين الإيرادات والانفاق الشامل لإطفاء المتخلف من المديونيات)، يكون صعباً .




وبإسقاطه لهذه الرؤية المبنية أساساً على تَقَصِّيات وقائع تاريخية اقتصادية، على الواقع الحالي لكيفية تعاطي كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مع أزمة مديونياتهما، ينحاز تقرير الصندوق إلى مقاربة السياسة النقدية الأمريكية في ترجيحه صحة تعاطيها مع المديونية العامة ضد مقاربة السياسة النقدية للاتحاد الأوروبي في تعاطيه مع أزمة المديونيات العامة الأوروبية، من حيث ان المقاربة النقدية الأمريكية تجمع بين اللين والتقشف، في حين تميل المقاربة الأوروبية لعلاج أزمتها المالية الى الجمع بين سياسة التقشف الإنفاقي الحكومي والسياسة النقدية المتشددة التي يمارسها البنك المركزي الأوروبي . وهو، أي القرير، يرى بأنه في حين أن واشنطن ستتغلب على أزمتها المالية، فإن المستقبل يبدو حالكا أمام الاتحاد الأوروبي . وإثباتاً لصحة مقولته هذه يستشهد تقرير الصندوق بما فعلته بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى عندما كان دينها العام يشكل 140% من إجمالي ناتجها المحلي وكانت الأسعار ضعف ما كانت عليه قبل الحرب، حيث صممت على دفع كل ديونها المستحقة واستعادة قيمة جنيهها الاسترليني مقابل الذهب، متبعة في ذلك سياسة مالية وسياسة نقدية متشددة وموجعة نتج عنها تحقيق فائض في الموازنة نسبته 7% من اجمالي الناتج، وأدى رفع بنك انجلترا (البنك المركزي) سعر الفائدة بنسبة 7% لكبح الطلب على النقد إلى انخفاض الأسعار الذي جعل سعر الفائدة الحقيقي أعلى من السعر الاسمي (7%) . ولكن النتيجة الإجمالية كانت فشلاً خالصاً، فلقد انخفض إجمالي الناتج في عام 1928 (استغرقت الحرب العالمية الأولى الفترة الممتدة من 1914 إلى 1919) إلى أقل من مستوى عام ،1918 وارتفعت نسبة الدين العام إلى الإجمالي إلى 70% في عام 1930 وإلى 190% في عام ،1933 حيث قضت أسعار الفائدة المرتفعة وانخفاض إجمالي الناتج على مزايا فائض الموازنة .




ويُسقط تقرير البنك هذه السابقة البريطانية في التعاطي مع أزمة دينها العام على ما تمر به إسبانيا وإيطاليا اليوم نظراً لتشابه ظرفيهما مع الحالة البريطانية سالفة الذكر . ولذلك يرى معدو التقرير بأن الدولتين تعملان على استعادة تنافسيتهما فقط من خلال انكماش الأسعار محلياً وليس غبر خفض سعر صرف عملتيهما، وخفض الدين العام فقط عن طريق سياسة التقشف وليس التوسع المقرون بالتضخم . وهذه المعالجة – بنظر تقرير الصندوق – من شأنها أن تؤدي إلى تراجع النمو لسنوات مقبلة وإلى رفع الدين العام في الواقع إلى إجمالي الناتج المحلي .




الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية سلكت طريقاً آخر وهو استخدام أدوات السياسة النقدية من قبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي، ومنها تحديداً “إطلاق سراح” التضخم ووضع سقف على عوائد السندات، للتعامل مع مشكلة الدين العام، حيث أدت تلك السياسة إلى شطب (التخلص من) 35% من نسبة الدين العام إلى إجمالي الناتج المحلي . ذلك أنه من وجهة نظر تقرير الصندوق فإن استعادة التماسك المالي يبدأ بتخفيضات هيكلية في الإنفاق العام وضرائب مرتفعة مدعومة بانخفاض في معدلات الفائدة الحقيقية (نتيجة “لتنفيس” التضخم)، يمكن أن يساعد كل من الولايات المتحدة وبريطانيا على تثبيت مديونياتهما أكثر مما هو متاح لبلدان منطقة اليورو .




بيد أن التقرير يعترف بأن استخدام هذا التكتيك . .أي استخدام أدوات السياسة النقدية من أجل تنفيس التضخم قليلاً للافادة من فارق سعري الفائدة الاسمي (
Nominal)
، والحقيقي (
Real)
لاستحصال “حسومات” على أصل الدين، لم يعد متاحا اليوم في ظل الإمكانية الواسعة المتاحة أمام رأس المال للفرار لتجنب النزف المدبر له .




ما يطرحه التقرير ويقدمه على أنه مقاربة مستنبطة من التاريخ الاقتصادي غير البعيد، لا يعدو كونه إعادة طرح وتأكيداً لمقاربة رواد الكينزية الجديدة وفي طليعتهم بول كروغمان الحائز على نوبل في الاقتصاد الذي يرى أن المخرج من المأزق المالي الذي تعيشه الولايات المتحدة وأوروبا يكمن في التوسع الإنفاقي، بما يشمل ذلك حِزم التحفيز وليس في السياسات التقشفية الانفاقية، مع الفارق أن كروغمان وأنصار مذهبه لا يدعون إلى التكتيكات التحايلية التي يومئ إليها تقرير صندوق النقد الدولي .

اقرأ المزيد

في الطريق إلى الحوار

مع تطلعات وآمال الناس في أن يفضي الحوار المرتقب الذي أعلن عنه وزير
العدل إلى حل للأزمة التي أرهقت الوطن لما يقرب السنتين؛ وأن يؤدي إلى
مصالحة وطنية بين مكونات الشعب؛ ويحقق طموح المنادين بالإصلاحات السياسية
من خلال حل الملفات العالقة بصورة مرضية، فإن ما نراه على أرض الواقع لا
يعطي مبرراً للتفاؤل بقرب انتهاء الأزمة.

كان من المهم جداً تهيئة
الأجواء وتصفية النفوس واتخاذ مبادرات ضرورية أهمها التطبيق الجاد لتوصيات
اللجنة المستقلة لتقصي الحقائق والتي ألزمت السلطة نفسها بتطبيقها عند
تشكيل اللجنة وأكدت ذلك مرة أخرى عند تقديم اللجنة لتقريرها الذي أزعج
الكثيرين.

ليس من المفهوم كيف يراد لهذا الحوار أن ينجح والآلة
الإعلامية للدولة من صحف شبه رسمية وإذاعة وتلفزيون يتبعان الدولة بصورة
مباشرة لاتزال تشحن النفوس بالروح الطائفية ولايزال خطابها مصرّاً على
مفردات الخيانة والعمالة للخارج مع باقة منتقاة من أبشع كلمات الشتائم
والسب للقوى المعارضة ورموزها.

كما إنه ليس من المفهوم الإصرار على
إشراك قوى سياسية من (جمعيات معارضة المعارضة) في هذا الحوار رغم مواقفها
المعروفة وتأكيدها لأكثر من مرة بأنها ضد أي حوار مع القوى المعارضة وما أن
أعلنت السلطة دعوتها للحوار حتى كانت أولى القوى التي رحبت بهذه الخطوة
وأعلنت موافقتها على المشاركة فيها، من البديهي أن يتساءل الناس لماذا يتم
إشراك هذه القوى إن كانت أساساً لا تملك قرارها وإن كانت السلطة تمثلها
وليس لديها أي رؤية للخروج من الأزمة وكل ما أنعم الله عليها من فكر سياسي
هو معارضة المعارضة في كل ما تطرحه.

من الواضح أن إشراك هذه القوى التي ( لاتهش ولاتنش) هو بهدف إحباط أي طرح أو تحقيق مطالب لا يراد لها أن تحقق.

بالطبع
فإن الجمعيات السياسية المعارضة تفهم كل ذلك وتضعه في حساباتها، ومع ذلك
أعلنت موافقتها للدخول في الحوار دون شروط مسبقة، التزاماً بمواقفها
السابقة المؤيدة للحوار وإيمانها بأن المخرج الوحيد من هذه الأزمة هو
الحوار وليس أي شيء آخر. ولذلك لم يكن أمامها إلا هذا الطريق لكي تسلكه رغم
معرفتها المسبقة بجميع هذه المطبات.

ليس من الصواب في هذا الوقت
المطالبة بمقاطعة الحوار أو وضع شروط مسبقة للدخول فيه، وإنما الصواب هو
الضغط باتجاه وحدة صف القوى المعارضة مع عدم التخلي عن المطالب المحقة
للناس.

جميل المحاري
صحيفة الوسط البحرينية 
اقرأ المزيد

الحوار يتطلب استعادة الثقة وآليات فعَّالة

مساء أمس الأول (الإثنين 21 يناير / كانون الثاني 2013) أوردت وكالة
أنباء البحرين خبراً مقتضباً قالت فيه: «بتوجيه سامٍ من صاحب الجلالة عاهل
البلاد، يتوجه وزير العدل والشئون الإسلامية والأوقاف بدعوة ممثلي الجمعيات
السياسية والمستقلين من مكونات المجتمع السياسي في البحرين لاستكمال حوار
التوافق الوطني في المحور السياسي في الأمور التي يتم التوافق عليها في
جدول الأعمال من الأمور العالقة، للبناء على ما تم التوافق عليه من أجل
الوصول إلى مزيد من التوافق الوطني في ذلك المحور».

قوى المعارضة
السياسية أعلنت استعدادها لـ «حوار جدي يلبي المطالب المشروعة لشعب
البحرين»، وإصرارها على الوصول «لحل سياسي عادل وشامل يحقق الاستقرار
والطمأنينة الدائمين»، وأكدت «جديتها بالدخول في عملية حوار وتفاوض سياسي
جاد يستجيب لتطلعات شعب البحرين في الحرية والكرامة والعدالة (…)».

وشخصياً،
فإن أملي أن تنجح هذه الدعوة وأن تتوضح أكثر، فالمتوافر من التصريح تقل
كلماته عن 100 كلمة، والمصطلحات التي وردت في التصريح تعتبر «مفاتيح» قد
تفتح، وقد تغلق فرص النجاح، ولاسيما أن هناك عدة معانٍ للحوار في البحرين.

إن
الإعلان عن عملية الحوار أفضل من لا شيء، لأن العام 2012 ضاع في التسويفات
وفي إحداث مزيد من التراجعات في البيئة السياسية، وحالياً هناك التحدي
المستمر بين مختلف الأطراف، ونأمل أن يعاد توجيه الطاقات لحلحلة الأمور
وللاتفاق على آلية معقولة لتطوير الوضع الحالي.

والمطالب المطروحة
متنوعة، فبعضها مطالب «سياسية»، والسقف المطروح للمطالب السياسية مختلف
عليه، فهناك من الناحية الرسمية مبادئ سمو ولي العهد التي طرحت في مارس/
آذار 2011، وهناك سقف أدنى من ذلك يتمثل في ما سمي بـ «حوار التوافق
الوطني» في يوليو / تموز 2011.

والمعارضة المتشكلة من جمعيات سياسية
طرحت «وثيقة المنامة»، بينما طرحت الحركة المعروفة باسم «ائتلاف شباب 14
فبراير» مطالب ذات سقف أعلى من «وثيقة المنامة».

هناك مطالب
«اقتصادية» و«معيشية» وبعضها يتعلق بمكافحة الفساد وبالشفافية وتدفق
المعلومات وتوزيع الأراضي والإسكان، وهذه بالإمكان أن يتوحد عليها كثيرون
من مختلف التوجهات، المعارضة وغير المعارضة.

وهناك مطالب من نوع آخر،
وهي مطالب «مدنية» و«اجتماعية»، وهي تتعلق بالتمييز ضد فئة من المواطنين،
وهذا التمييز هو أحد أسباب الانتفاضات والأحداث المتكررة في البحرين، وهو
مرفوض في دستور البحرين وفي المواثيق الدولية الملزمة للبحرين.

ولعل
هناك من يرى أن وجود الآخر يشكل خطورة عليه، ويعتبر هذا التمييز أمراً يجب
الاستمرار فيه، ويرفض التحدث عنه أو حتى الإشارة إليه من قريب أو بعيد، لكن
هذا ليس مقبولاً من جميع النواحي ويجب أن يرتفع الجميع إلى المستوى
الإنساني المتعارف عليه دولياً.

إن نجاح أي حوار يحتاج إلى إمكانية
المصارحة العقلانية، وإلى استعادة الثقة لكي نستقوي ببعضنا بعضاً، بدلاً من
عكس ذلك، وهذا كله يتطلب إيجاد آليات فعّالة لكي تتعافى البحرين وتجد
طريقاً أفضل من المسلك الحالي.

منصور الجمري
صحيفة الوسط البحرينية
اقرأ المزيد

هل يُحوِّلُ الحكمُ «الغاشِم» الدولةَ إلى شرٍّ مطلق؟!

من الأشياء التي يتم بحثها في العلوم الإنسانية والاجتماعية هي
السُّلطة. فقد كُتِبَ عنها الكثير، كونها إحدى أهم القيم التي تُشكلها عادة
الروابط الاجتماعية. ولأن السلطات التي سادت في العالم منذ آلاف السنين،
تنوَّعت أشكالها وصنوفها علواً وانحداراً، سواء في جوهرها البيروقراطي، أو
نظامها الأخلاقي، فإن التساؤلات حولها أيضاً توالت وتنوَّعت بشكل مستمر.

ومن
الأشياء التي دارَ حولها النقاش والدراسات، هو تفسير ما تنضَح به الدولة
من مؤسسات، عندما يكون حاكمها (أو حُكمها) غاشماً. بمعنى آخر، هو الموقف
الوطني من تلك المؤسسات، وهل هي تحظى بشرعية ما، أم أنها تتحمَّل تلقائياً
وزر «غَشْم» الحكم، فتجترُّ ما لديه من وصف، فلا تكون إلاَّ واحدة مما ينشأ
عنه، وبالتالي، فلا قيمة لها مطلقاً، كونها فاقدة للشرعية أصلاً.

والحقيقة،
أن المغالاة في ظلم الشعوب، والاستئثار بثرواتهم الوطنية، قد ساعد بشكل
كبير، في خلط المفاهيم، ما بين السلطة والدولة والوطن. وهي تعريفات تختلف
في شكلها وحجمها، وتفسيرها أيضاً. كما أن الأنظمة التسلطية، قد تعمَّدت
تركيب مفهومَيْ الدولة والوطنية، في شخص الحاكم، ليصبح الناقد والرافض له،
ناقصاً في وطنيته إن لم يكن فاقداً لها من الأساس.

هذا الخلط، وهذا
التركيب، جعل الحاكم وسلطته «الغاشمة» وموقعهما «الطارئ» في الدولة
يتشاركان، أو يتماهيان أو يتساويان في قيمة الوطن والدولة، وهو خطأ كبير،
يجب عدم القبول به. لأنه في الحقيقة، عملٌ مقصود، دَرَجَت على تثبيته أنظمة
الحكم التسلطيَّة، وفرضته على الناس، وعلى شكل الصراعات السياسية/
الاجتماعية، التي تنتج عن غياب الحكم الصالح.

وكل مراقب للأوضاع
السياسية في العالم العربي، سيجد أن هذا السلوك قائم لدى الأنظمة الفاسدة.
هي تريد أن تجعل من أجهزة الدولة المادية (كما سمَّاها ألتوسير) كالجيش
والشرطة، والأجهزة الايديولوجية كالتعليم والمؤسسات الدينية ووسائل
الإعلام، مالِكة العنف الرمزي، أشياء مملوكة للحكم وليس للدولة. ومادامت هي
للحكم، فهي بشكل آلي تابعة للحاكم!

أكثر من ذلك، فإن الأمر قد انسحب حتى إلى قضايا الخدمات المدنية، والترميزات التي عادةً ما تتشكل داخل الدول، كالأنشطة الترفيهية.

والحقيقة الثابتة هنا، أن فعل السلطة هذا لا يستقيم ومنطق الأشياء.

فالقضية
هي لَيٌّ لقيم لا يمكنها أن تكون مُلكاً إلاَّ للرابط الاجتماعي الأوسع،
الذي يأتي من قاع المجتمع بكل تنويعاته، وليس من داخل الطبقة الأوليغارشية
الحاكمة.

وبناءً على كل ذلك، فإن معركة الشعوب اليوم هي في تفكيك هذا
الخلط، المفروض عليها قسرياً، وعلى وطنيتها أيضاً. فهذا التفكيك واجب،
لأنه يحيل العام إلى الخاص وليس العكس. كما أنه يكرِّس مبدأ العدمية
السياسية، لدى شرائح كبيرة من المجتمع، حين يتعمَّد إفهامها أن هذا التركيب
الشاذ هو الذي يجب أن يسود «طبيعياً»، وأن حركتها لا تقوم إلاَّ على
إيقاعه، لأنه يريد منها أن تمارس سلوكاً سياسياً مشوّهاً نتيجة ذلك الخلط،
لضربها في الوطنية، النظرة السلبية الشاملة للدولة/ الوطن والسلطة.

صحيح
أن هذه الأنظمة تستثمر كل شيء في الدولة والوطن لصالحها. لكن ما هو أصحُّ
منه، هو أن ذلك ليس مدعاةً لأن يكون موقفنا من «مظاهر الدولة» مهووساً
باستثمار الأنظمة «الغاشمة» لها، لأنه ليس المحور، وإلاَّ ما بقِيَ لنا من
شيء إلاَّ واعتبرناه مستثمَراً من قِبَلها، وبالتالي نتوجَّس منه بما فيه
ذواتنا، التي تعمل ضمن الرباط الاجتماعي، الناسج للدولة، ونشاطها.

ما
أراه، أن الدولة ليست حيزاً محدوداً ومكانياً، بل هي مجموعة من الصور التي
تخيطها الشعوب، لذا فهي ليست مُلكاً عضوضاً لحاكمٍ حتى ولو قبض عليها
بسطوته المادية، بما فيها مؤسساتها. بل الأكثر من ذلك، هي أن العديد من
تجارب التاريخ، قد بيَّنت أن حتى المؤسسات التي لجأت الأنظمة الفاسدة على
توظيفها لخدمة الفرد/ سلطة الأقلية المتنافعة، لم تكن شراً مطلقاً أبداً،
بل إنها وفي أحيان كثيرة كان التغيير على يديها، أو على الأقل تحوُّلها إلى
رقم وازن.

كل الحركات التغييرية، التي خاصمت أنظمة الحكم، وتغلبت
عليها، لجأت إلى المؤسسات والأدوات ذاتها التي كانت بحوزة تلك الأنظمة وبكل
هياكلها وشخوصها، لأنها بالأساس وفي جوهرها ليست قيمة فردية، بقدر ما هي
«قيم دولة» تأسست على الروابط الاجتماعية، على رغم الخلط المشوَّه الذي
دأبت أنظمة الحكم على جعله ما بينها وبين شخص الحاكم، وسَفَه حكمه.

وقد
رأينا كيف أن الثورات والحركات التغييرية، وحتى الإزاحات العسكرية، عندما
فعلت العكس، وهدَّت من تلك المؤسسات، بحجة أنها كانت من مظاهر الحكم
«الغاشم» كيف أنها دفعت أكلافاً باهظة. فمن قبل، كانت تجربة روبسبيير إبان
الثورة الفرنسية. وكذلك خلال حقبة نابليون، عندما أعدم الثوار الفرنسيون
خيرة ضباط البحرية في الجيش الفرنسي بحجّة أنهم من الموالين للملكية
المنهارة، لكن النتيجة كانت أن خسائر فرنسا في حربها البحرية ضد بريطانيا
عشرة أضعاف خسائر الجيش البريطاني. أما في عصرنا الحالي، فلا أظن أن العراق
بعيدٌ عن هذا الوصف.

لقد أشارت ميريام ريفولت دالون بصراحة في بحثها
القيِّم «سلطان البدايات» إلى مفهوم المؤسسة، فاعتبرته «نتاجاً مشيَّئاً
وعصياً على تحكم الأفراد» على حدِّ وصفها. وقد ذكرت دالون ما ذهب إليه ماكس
فيبر، بربطه المؤسسة بنشاط السلوك الاجتماعي الذي أعطاها أصلاً وجودها.
هذا هو المعنى الحقيقي، الذي يجب أن ينظر إليه بجديَّة خلال أيِّ حراك
سياسي، كي لا ننجر في معمعة الخلط والتشويه، التي أرادتنا الأنظمة الغاشمة
أن ننغمس فيه بلا رحمة.

محمد عبدالله محمد
صحيفة الوسط البحرينية 
اقرأ المزيد

قول يندثر وكتابة تتعثر



يدهشنا
أنه خلف بساطة الحياة في مجتمعات الخليج ما قبل اكتشاف النفط يكمن غنى
طرائق العمل وأدواته ورموز الثقافة الشعبية، من حرف يدوية وموسيقا ورقصات
متنوعة تبعاً لتنوع البيئات المختلفة، وكذا الأساطير والحكايات الشعبية
والألعاب . 


ولو
توغلنا أكثر في البحث لوجدنا ذلك الاتساق بين مستوى الحياة وطبيعتها وبين
هذه الرموز الثقافية وصدقها في التعبير عن ظروف الحياة الصعبة وحالات
الحرمان وشظف العيش . أيّ باحث، إذاً، لا تستوقفهُ الشحنة الرمزية الهائلة
من الأشواق والعواطف والشجن والشكوى في أغاني الغوص مثلاً، أو في المواويل
الشعبية؟


وليست
هذه الرموز والوسائل بسيطة أو سطحية كما يتراءى لأجيال اليوم . كان غرامشي
قد لفت النظر إلى وجود ما أسماه ب “الفلسفة العفوية” في الحس الشعبي
المشترك وفي الأمثال الشعبية والأساطير والفولكلور، رغم أنه نبه إلى أنه قد
يحدث أن من ينتجون هذه “الفلسفات” أو يتداولونها لا يكونون واعين تماماً
لذلك .


جاء
التعليم وتحديث المجتمع بإرهاصات لقيم ومعايير سلوك وتفكير جديدة، وكان
المؤمل لو جرت الأمور في ظروف طبيعية وتدريجية أن يتحقق هذا الانتقال السلس
من ثقافة الشفاهة إلى ثقافة الكتابة بطريقة تحفظ الموروثات الشعبية من
الاندثار والتلاشي والضياع، لتندغم في ثقافتنا الجديدة لا كمجرد عنصر من
عناصرها، وإنما كمتكأ أساسي لها .


غير
أن هذه الثقافة المكتوبة لم تكد تتوجه نحو إنتاج رموزها الثقافية عبر
مجالات الإبداع الجديدة، كالقصيدة الحديثة والقصة القصيرة والمسرح، حتى
داهمتنا ثقافة شفاهية من نوع جديد، ليست من إنتاجنا هذه المرة، ولا هي ابنة
التفاعل بين إيقاع التطور الاجتماعي وأشكال التعبير الثقافي والفني عنه،
ونعني بذلك الثقافة التي يقدمها التلفزيون ووسائل الإعلام والاتصال الحديثة
.


حدث
هذا في اللحظة التي بالكاد بدأنا فيها بتكوين تقاليد لثقافة مكتوبة، فلم
يقدر لهذه التقاليد أن تترسخ وتتطور وتؤثر حتى وجدنا أنفسنا في أتون
“ثقافة” الصورة والسماع، وهي، رغم كل الإبهار الذي تقدم به، خالية من العمق
والصدق اللذين طبعا ثقافتنا الشعبية الشفوية .


البكاء
على الأطلال عادة دميمة، فليس المطلوب الحنين إلى ثقافتنا الشعبية التي
تسحقها وسائل المعيشة الجديدة، وإنما المطلوب على الأرجح هو إيجاد
ديناميكية جديدة تدفع بالمجتمع نحو التأثر المزدوج بالتقاليد التاريخية
والبناء المستقبلي حتى لا تصحو ذات يوم على مجتمعات لا هوية لها .
اقرأ المزيد

وطنيون لا طائفيين


تسربتْ الأفاعي إلى ثيابِنا ودفأناها في جيوبِنا وبيوتنا.





صحونا بغتةً فإذا المدنُ دمار، والشعوبُ هائمة على وجوهها في ملاجئ ومخيمات وتحت الثلوج والنيران!





الطائفيون
السياسيون انتشروا بفضلِ الحكومات وصناديق ضخ الأموال وخدع الجهاد وهوس
القوميات الطائفية ثم استيقظتْ بعضُ الحكومات على الأهوال وحرق البلدان
وانتشار النيران من بلدٍ إلى بلد وما تزال الخريطةُ تشتعل، والبيتُ الذي لا
يحترق نيامٌ أهله، وصرخاتُ جيرانهِ لا يسمعها.






وطنيون
وليس مسيسين سنةً وشيعة وعلويين ودروزاً، وطنيون موحِّدون لا ممزقين
بلداننا، وطنيون لا مخربين فوضويين، وطنيون لا نقابيين طائفيين وبرلمانيين
طائفيين ومتعلمين طائفيين.






بدلاتُ
الطوائف السياسية المشتعلة ضعوها على معالقِ الصخور وفي قيعانِ البحار وفي
المزابل، هناك أمكنتها الطبيعة لا في النقابات والقصائد ومدارس الطلبة ولا
في المصانع والصحف، ولا في الأحزاب والبرلمانات والعقول والبرامج.






لسانُ
رجلِ الدين الطائفي يضخُ نيرانَ الموتِ لشعبه، فآن له أن يعودَ مُوحّداً،
أما يرى كيف احترقت المساجد؟ أما يرى كيف تشردت الشعوبُ وتلحفتْ بقصفِ
الطائرات الطائفية ودك المدافع الطائفية؟






أما
يقرأ القرآنَ؟ أما يرى الجثثَ التي ملأت ساحات بلاد المسلمين؟ وكلُ طامعٍ
بالسلطان والكنوز تلحفَ بعباءةِ الموت هذه وخدع الشبابَ الساذج، وأعطى
لعصاباتٍ من السياسيين الذين جعلوا المبادئَ مثل الأحذية المهترئة، وزارات
وقطائعَ وهمية فلا يرون سوى المقابر والسجون والفوضى والدمار؟






لماذا
يصمت رجلُ الدين ويشارك في نحرِ الشعوب، وتوصيل القنابل الى البيوت، لماذا
لا يتكلم ويوقظ الأمهات والآباء النائمين عن أولادهم وبناتهم يحرقون
أعمدةَ الكهرباء والشوارع والسيارات والمدارس؟ ثم يحرقون بلدانَهم؟






لماذا
يشاركُ في الجريمة؟ من خطفَ لسانه؟ من سرقَ بيانه؟ كيف يشاركُ في المنظمات
الطائفية السياسية ويحطمُ إرادات الشعوب؟ يجعلها عرضةً للحروب؟






أخرجوا
من المنظماتِ الطائفية، أخرجوا من مصائدَ الموت هذه، من تظاهراتِ الكراهية
لأخوتكم، من تحت عباءاتِ زعماء العصابات الذين يقودونكم لقتل أهلكم،
لتوزيعكم على ملاجئ الظلام والبرد والجوع، ومخيمات اللجوء فتنتظرون قنابل
من الكرام لا تجيء، لكنها تمحو المدن والحياة.






أخرجوا
من مقراتِهم ومظاهراتِهم ومعسكراتهم وكونوا في بلدانكم في أمتكم في نضالكم
الوطني، في أقاليمكم وقد صارت للوطن، للمواطنين من كل المذاهب والأديان،
للمسيحيين والمسلمين، للعرب والأكراد، لأهل الشمال المسلمين وللمسيحيين في
الجنوب، للعرب والبربر، للسود والبيض، لأهل القبائل والمدن، تراصوا في
تجمعاتكم وقد صارت مدافعةً عن شعبكم، في كتلكم البرلمانية وقد صارت كتلةً
شعبية تبحثُ عن قضايا الإنسان من كل الألوان!






أخرجوا من معسكراتِ القتلة يذبحون على الهوية الطائفية، لا تستبدلوا قتلةً بمجرمين، ولصوصاً بمجانين.





أخرجوا
من عالمِ الطوائف لرحاب الأوطان، لا توجدُ قصيدة سنية ومسرحيةٌ شيعية
ونقابة مسيحية، لا يستدرجكم الطائفيون بالوعود الخلابة فوراءها نيرانٌ
ضارية، فممزقو الشعوبِ لا يقودونها إلا للهلاك، يبعدون آياتَ التوحيدِ وهم
يتلون الكتاب، جاءوا من الكهوفِ وعصور الظلام حيث تمزقتْ الأممُ والشعوبُ
لقطعِ فسيفساء محترقة، يعيدون إنتاجَ الكراهيةِ والمذابح والجهل.






يخدعوننا
يوماً بعد يوم أنهم المحررون والمنقذون والناس المأزومون في عيشهم أو
المتبطرون في غناهم تستهويهم الأحلام، ينقادون الى العصاب الطائفي وليس الى
النضال العقلاني الوطني، يخدرهم القات المذهبي المسموم فيحرقون بلداً
موحَّداً، فصار اليمن السعيد دامياً، والعراق كنز الأنهار والحقول المعدنية
جائعاً شريداً، ومصر المحروسة بلا حراس تطلبُ معونة المجرمين، والجزائر
جزائر من الجثث، ولبنان الأخضر دامياً، وسوريا.. آه سوريا في القلب الدامي.






ويريدون التسلل الى الجزيرة العربية وتطبيق برنامجهم المشؤوم، الذي لا يتوقف. فكلما أكل ضحيةً طلب المزيد.

فآن لهذه الأمةِ أن تحيا، وهذه الشعوب أن تتحرر وتتوحد وتنزعَ الأوشاب والأشواك من جلدها وثيابها




اقرأ المزيد

“أولويات الحكومة ونواب مجلس الصوت الواحد: برنامج للهجوم على حريات الشعب وحقوقه ومصالحه وأمواله !“


الأولويات التشريعية التي أعلنت الحكومة عنها، وعددها ستة وخمسون مشروعاً بقانون، بالإضافة إلى مشروع القانون الذي أعدّته الأجهزة الحكومية ومررته كاقتراح بقانون مقدّم من بعض نوابها لتكريس آلية الصوت الواحد، تمثّل في مجموعها برنامجاً متكاملاً للهجوم السلطوي المبرمج على الحقوق الديمقراطية للمواطنين وللتضييق على حرياتهم والانتقاص من مكاسبهم الاقتصادية الاجتماعية وللاستحواذ على أملاك الدولة والأموال العامة، وذلك بما يساعد السلطة على استكمال مخططها في الانقلاب التدريجي على الدستور وبما يخدم في الوقت نفسه مصالح قوى الحلف الطبقي المسيطر.

فقد تضمّنت الأولويات التشريعية إقرار مشروع بقانون متكامل وموحّد للإعلام يتضمن المرئي والمسموع والنشر والمطبوعات والنشر الإلكتروني، بحيث يضيّق أكثر على حرية الإعلام؛ ويفرض قائمة طويلة بما يُحظر نشره أو بثّه والعقوبات المقررة لذلك، ليشمل هذا المشروع بقانون في محظوراته وقيوده ما يُنشره المدونون والمغردون على الانترنت عبر المواقع الإلكترونية والمدونات وحسابات التواصل الاجتماعي التويتر والفيس بوك وغيرها.

وإلى جانب هذا التضييق على حرية الإعلام فإنّ أولويات الحكومة تتضمن إقرار مشروعات بقوانين من شأنها مصادرة حقوق المتهمين وفرض قيود جديدة على حرية التجمع وتجريم حرية الإضراب عن العمل، وهذا ما يتضح في مشروع القانون الجديد بشأن تعديل بعض أحكام قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية لنقض الانجاز الذي حققه مجلس الأمة المنتخب في فبراير 2012 بتقليص مدد الحجز والحبس الاحتياطي، بحيث تتم زيادتها بما يتناسب مع التوجّه لتحويلها إلى عقوبات سابقة للمحاكمة… وكذلك مشروع القانون الذي يضيف مادة إلى قانون الجزاء تجرّم التجمهر أمام دور العدالة، ومشروع القانون الثالث بتعديل بعض أحكام قانون الخدمة المدنية الذي يجرّم الحقّ الديمقراطي في الإضراب عن العمل.

وغير ذلك، فإنّ برنامج الأولويات التشريعية للحكومة بدلاً من استحداثه الضريبة المستحقة على الدخول الكبيرة للمساهمة في تمويل الخزينة العامة للدولة نجده يوجّه سهامه نحو الطبقات الشعبية حيث يتضمّن برنامج الأولويات مشروعاً بقانون لاستحداث ضريبة المضافة، وهي ضريبة غير مباشرة تضيف نسبة محددة على فواتير مشتريات المستهلكين، وكذلك هناك مشروع آخر بقانون بتعديل أحكام القانون رقم 79 لسنة 1995 بشأن الرسوم والتكاليف المالية مقابل الانتفاع بالمرافق والخدمات العامة لفتح الأبواب على مصاريعها أمام الحكومة لزيادة الرسوم الحالية ولاستحداث رسوم جديدة، وذلك عبر قرارات وزارية يمكن إصدارها في أي وقت ومن دون الحاجة إلى إصدار قوانين، مثلما هو الوضع منذ 1995 إلى يومنا هذا… وبالتأكيد فإنّ هذين المشروعين بقانونين سيرهقان كاهل المستهلكين وعموم المواطنين والسكان من محدودي الدخول بأعباء معيشية إضافية تزيد من معاناتهم.

وفي مقابل هذا الهجوم على محدودي الدخول فإنّ برنامج الأولويات التشريعية للحكومة يضم مشروعاً بقانون يطلق أيدي القطاع الخاص في الاستيلاء على المزيد من أراضي الدولة من دون قيود وضوابط عبر تعديل أحكام قانون نظام أملاك الدولة تنظيم عمليات البناء والتشغيل والتمويل (بي أو تي).

أما الأولوية الخفيّة للحكومة التي لم يتضمنها برنامج أولوياتها المعلنة فهي الاقتراح بقانون الذي أعدّته أجهزتها وقدّمته إلى عدد من نوابها ليقدموه بأسمائهم وتوقيعاتهم لإعادة تحديد الدوائر الانتخابية، بحيث يكون هذا القانون في حال إقراره بديلاً عن المرسوم بقانون في شأن الصوت الواحد متضمناً إعادة توزيع لمناطق الدوائر الانتخابية الخمس مع الإبقاء على آلية الصوت الواحد، وذلك بهدف الالتفاف على حكم المحكمة الدستورية في الطعون المقدمة بعدم دستورية المرسوم بقانون، حتى لا يعود هناك أي معنى لإصدار هذا الحكم لكونه متصلاً بمرسوم قانون لم يعد له وجود بعد أن يجري إقرار القانون البديل له، فيتم عبر هذه الحيلة التشريعية تكريس آلية الصوت الواحد كأمر واقع.

باختصار، نحن الآن أمام برنامج شامل للهجوم التشريعي المنظم على حريات الشعب وعلى حقوقه ومصالحه وأمواله، ولم نعد أمام مجرد مرسوم قانون الصوت الواحد… وهذا ما يفرض علينا مواجهة شاملة يجب أن نكون مستعدين لخوضها عبر برنامج متفق عليه للتصدي الموحد لنهج السلطة من جهة ومن أجل تحقيق التغيير الديمقراطي من جهة أخرى، وذلك بالاستناد إلى نضال جماهيري دؤوب وطويل النَفَس؛ مع إيجاد آلية لتعاون القوى الشعبية وتنسيق مواقفها وتحركاتها.
 


أحمد الديين
عضو التيار التقدمي الكويتي

اقرأ المزيد