إنشاء النظام الدولي الحالي الذي تمثله المنظمات الكلية العالمية وعلى
رأسها منظمة الأمم المتحدة ومنظماتها الفرعية المتخصصة والمنظمات
الاقتصادية والحقوقية والمواثيق والمعاهدات الدولية، استجابةً لما بعد
التحدي الذي مثلته للبشرية جمعاء نكبة صعود النازية والفاشية الى السلطة في
ألمانيا وعدد من الدول الرأسمالية الكبرى الرئيسة في أوروبا وجنوب شرقي
آسيا قبل الانتصار العالمي الكاسح والنهائي عليها في الحرب العالمية
الثانية (1939-1945) . وقد
حرص مؤسسو النظام الدولي لما بعد الحرب العالمية الثانية – هذا ما عبرت
عنه إرادة المنتصرين في الحرب على الأقل – على أن يؤسس هذا النظام لمرحلة
جديدة في العلاقات الدولية قائمة على إشاعة السلم والأمن الدوليين والتعاون
الدولي البناء على قاعدة المساواة السيادية لكل الدول الأعضاء (في منظمة
الأمم المتحدة)، وحق الشعوب والدول في تقرير مصيرها وعدم التدخل في شؤونها
الداخلية (ميثاق الأمم المتحدة الموقع عليه في 26 يونيو/حزيران 1945 من قبل
ممثلي 50 دولة مؤسسة) . غير
أنه ما كاد حبر الدول الموقعة عليه فيما بعد ليصبح نافذ المفعول في 24
أكتوبر/تشرين الأول ،1945 ليجف، حتى اندلعت شرارة الحرب الباردة على يد
حليف روسيا في الحرب ضد النازية والفاشية رئيس الوزراء البريطاني الراحل
ونستون تشرتشل، وعادت الدول المؤسسة والقيادية للنظام الرأسمالي العالمي
والراعية له والساهرة على مصالحه، إلى اعتماد معايير نظامها الدولي القديم
المترافق نشوؤه مع بداية الحقبة الاستعمارية اعتباراً من القرن السادس عشر،
للتعاطي مع الشؤون الدولية والتعامل مع بقية أعضاء الأسرة الدولية من دون
الإخلال بالتزامها اللفظي بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة ومواثيق ومعاهدات
النظام الدولي “الجديد” (لما بعد الحرب العالمية الثانية) . وهكذا،
فإن الأصل هو أن الدول والشعوب غير ملزمة بالأخذ بالنظام الرأسمالي والعمل
بما تمليه فلسفته وقواعده وآليات عمله في البناء السياسي والاقتصادي .
وهذا على أية حال، هو على الأقل ما توافقت عليه الدول المؤسِّسة للأمم
المتحدة وسطرته في ميثاقها . ولكن
شتان ما بين النظرية والتطبيق، فالدول الأعضاء في المنظمة ليست حرة في
تقرير مصيرها واختيار النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي يناسبها ويحقق
مصالحها حتى ولو كان مستوحىً من النظام الرأسمالي نفسه، كأن يقوم بوضع بعض
الضوابط على حركة رأس المال الأجنبي لحماية سعر صرف العملة الوطنية من
المضاربات المحمومة والضارة بالاقتصاد القومي، وبعض الضوابط المنظِّمة
لحركة أسعار الصرف والتجارة السلعية الرامية إلى حماية السوق المحلية من
التأثيرات السلبية لبعض ممارسات السوق المفتوحة المنفلتة العقال، كما فعلت
الأرجنتين على سبيل المثال قبل أيام التي يبدو أنها لا تريد أن تلدغ من ذات
الجحر الذي لدغت منه في العام 1995 . وكما هو الحال مع النظام الإيراني
الحالي الذي يأخذ بالمناسبة بالنظام الرأسمالي . . فما بالك بنظام يتبنى
النموذج الاقتصادي والاجتماعي الاشتراكي، كما كان حال نظام الرئيس المصري
الراحل جمال عبدالناصر والنظام الكوبي الحالي بزعامة راؤول كاسترو؟
مجال في النظام الدولي الجديد لما بعد الحرب العالمية الثانية، لأي نزعة
استقلالية معبرة عن المصالح الوطنية حتى ضمن البوتقة الرأسمالية نفسها،
فلقد تمت إطاحة حكومة محمد مصدق في ايران يوم التاسع عشر من أغسطس/آب العام
1953 في عملية أعطتها المخابرات المركزية الأمريكية اسما كوديا هو
“العملية أجاكس” بسبب تطلعه إلى استثمار ثروات بلاده النفطية لمصلحة شعبها
قبل الآخرين، وتحديداً شركات النفط البريطانية والغربية، وذلك على الرغم من
انتماء مصدق إلى التيار الليبرالي التحديثي المحسوب على الفلسفة التنموية
الرأسمالية . وإلى ذلك أيضاً فإن هنالك خشية بالفعل مشابهة لما قد يحدث
للرئيسة الأرجنتينية كريستينا فرنانديز كيرتشنر وحكومتها من ردود أفعال
غربية انتقامية على خلفية الإجراءات التي اتخذتها لوضع ضوابط مشددة على
التحويلات المالية للعملة الوطنية (البيزو) إلى الدولار الأمريكي، بهدف
مكافحة عمليات تهريب الأموال للخارج والتهرب الضريبي وغسيل الأموال . حيث
تنبئ بذلك بعض مؤشرات الحملة الإعلامية التي ستحاول النيل من مصداقية
الحكومة الأرجنتينية وهز الثقة المالية العالمية بها، مع أن إجراءاتها ترمي
إلى حماية سوقها الداخلية، والحمائية هي في الأخير مذهب ميركنتيلي (تجاري)
أي رأسمالي!
النظام الدولي “الجديد” لما بعد الحرب العالمية الثانية، للسيطرة عليها
والتحكم في مفاعيلها وتوظيفها في الاتجاه الذي يخدم مصالحهم، بما يشمل ذلك
اختيار أطقم العاملين و”تخليق” رجال الظل الذين يهندسون “المشاريع
والعمليات” قبل إيكالها إلى المنفذين . وهو ما يحيل النظام الدولي الجديد - المفترض
أن يكون جديداً – لما بعد الحرب العالمية الثانية، إلى نسخة معدلة من
النظام الدولي العتيق الأقرب إلى فوضى النظام الذي كان شائعاً إبان عصبة
الأمم، حيث كان العالم منقسماً بشكل واضح بين الدول المستعمرة والبلدان
والمناطق المستعمَرة الضعيفة المغلوبة على أمرها .
فإن النظام الدولي الحالي لا يسمح إطلاقاً بأي نوع من أنواع التعددية
التنموية النموذجية، وهو نظام أحادي غير ديمقراطي لا ينجو كل من يحاول
الخروج على نواميسه من عداواته القاسية، السافر منها والباطن، والتي تراوح
ما بين العقوبات وعصا الناتو “التأديبية”! فهو بهذا المعنى نظام شمولي لا
توفر استهدافاته أحداً مهما علا شأنه، بمن فيهم الرئيس الأمريكي نفسه، وذلك
برسم الاتهامات الخطرة والوقحة التي ساقها قادة الحزب الجمهري وجناحه
الأكثر تطرفاً وغلواً “حزب الشاي”، ضد الرئيس أوباما بأنه يريد أن يحول
أمريكا إلى الاشتراكية .