هل يكون العالم العربي قد أدخل نفسه في مرحلة التيه الحضاري التي يصعب تحديد مداها الزمني، وذلك بسبب فقدانه اليقين في مواكبة الحداثة والمعاصرة (بفتح الصاد) المتمثلة في المنجزات المتعددة الأوجه للمسيرة الحضارية العالمية، وتفضيله خيار الماضوية أو “الأصالة” كما يحلو للتيار العريض من حركات الاسلام السياسي أن يعنون هوية التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية التي يريد التأسيس لها؟
تكاد تكون مآلات ثورات “الربيع العربي” في بلدان “المنشأ” متشابهة الا في بعض التفاصيل الصغيرة التي تفرضها بطبيعة الحال موضوعية بعض الخصوصيات المحلية الخاصة بكل قطر وبطاقاته وامكاناته الذاتية، حتى لتكاد خريطة تصنيف واصطفاف القوى الاجتماعية، الأوَّلية والثانوية، متماثلة، وذلك برسم نتاجات الحصاد التي أسفرت عنها الثورات في بلدان “الربيع”.
لنأخذ مصر على سبيل المثال، ومصر تكاد تختزل المشهد في بلدان “الربيع”. هنا، في الحالة المصرية التي نحن بصددها، سوف يكون من الصعب القطع بأن مصر قد اجتازت مرحلة انتقالية من النظام السابق الى النظام الجديد الذي قامت من أجله الثورة، ذلك أن الأقرب الى الواقع هو أنها اجتازت عملية تأمين منظمة بعناية فائقة لاعادة انتاج وعودة النظام السابق الى السلطة. فلم تكن هناك حكومة انتقالية ممثلة للثورة وللقوى الاجتماعية والنخب المشاركة فيها تعمل على احداث تلك النقلة (بين النظامين). فلقد بقي النظام السابق مسيطرا على السلطة التنفيذية (الحكومة) والقضائية وعلى كافة الأجهزة العسكرية والأمنية وعلى أجهزة الاعلام التي لم تنقطع سوى لأيام معدودة فقط (ابان الأيام التي اعقبت خروج رأس النظام السابق من السلطة) عن الهجوم على الثورة وتسفيهها وازدراء وتسقيط قياداتها وقواعدها بمزاعم شتى تبدأ من نشر الفوضى ولا تنتهي بتهم الارتباط بالخارج، والدفاع في ذات الوقت عن النظام السابق.
فكل القوى التي أُوكلت اليها أو تلك التي فرضت نفسها “وصيةً على العرش” بعد تنحية رأس النظام السابق، مهمة تسيير شئون الحكم، كانت، ولازالت، محسوبة على النظام السابق الجامع بين شرور توأمي الاستبداد والفساد، المعروفة محصلتهما الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية الاضمحلالية سلفا.
فكيف لهذه البنية السياسية الادارية الكلية الهشة والمعطوبة بفعل ثلاثة عقود ونيف من النزف المتواصل ان تتصدى لمهمة اخراج الدولة والمجتمع من أزمتهما الخانقة واعادة بنائهما تجاوزا لتركة “الوأمين” (الاستبداد والفساد) الثقيلة؟!
وهل يكون “حصاد” هذه العملية “القيصرية” المعدة والمخرجة ببراعة وتفتقات عقلية الاجهزة اياها، سوى تلك النتيجة الصادمة والمحبطة لكل الذين راهنوا على بزوغ فجر مصري جديد..مرشح الاخوان ومرشح “حزب” النظام السابق الى الدور الثاني من أول انتخابات رئاسية بعد ثورة 25 يناير؟!
لقد كان أمام الناخب المصري خيار ثالث غير خيار محمد مرسي وحزبه (مع كامل الاحترام لهما) اللذين وظفا الدين للوصول الى سدة الرئاسة وخيار شقيق و”حزبه” المتغول في السلطة اللذين وظفا الدولة ومؤسساتها العسكرية والأمنية والاقتصادية لنفس الهدف.
ولكن مزاج الشعب المصري في تلك اللحظة التاريخية التي كان يفترض فيها أن تكون فاصلة بين عهدين..عهد قيد الرحيل وعهد قيد البزوغ، اختار – ويا للمفارقة – التيه، امعانا، ربما، في الحالة الاكراهية التي شعر انه يُؤخذ الى حتفها والغوص في دوامتها، فلم يشأ الشذ والحيد عن سراط ذلكم السياق المتوالي دراميا للاحداث، ولم يشأ، ترتيبا، عدم الاتساق مع المآل الحتمي لخواتيمها التي صرنا نعرفها جميعا.
فما الذي حدا بحوالي 55% من الناخبين المصريين عدم التوجه الى صناديق الاقتراع في الجولة الاولى من أول انتخابات رئاسية في تاريخ مصر الحديث (23-24 مايو/ايار 2012) يُفترض أن تكون حرة ونزيهة لا يدانيها كابوس التزوير المزمن (كان متوسط نسبة الاقتراع في انتخابات مجلس الشعب بجولاتها الثلاث 60%)؟..وما هي دلالات هذا العزوف الجماعي عن المشاركة فيما يُفترض، أيضا، أن يكون عرسا انتخابيا انجزته الثورة – أو هكذا يُفترض – بشجاعة شبابها المقدام الذي كان أول من تقدم الصفوف لكسر سلاح الاستبداد الأثير: حاجز الخوف؟
هل هي حرارة الطقس كما ذهب البعض في تأويلاته(!)؟ أم هو احباط الشباب المصري أم احباط الناس جميعا؟
حقا انها لتداعيات غريبة، فلكأن الثورة لم تمر من هنا! قبل هذا أتذكر بحسرة كيف ان مصر الثورة، مصر 25 يناير هي من اسقطت رمز وطني كبير في انتخابات مجلس الشعب التي سيطر فيها الاخوان والسلفيون على السلطة التشريعية، وأعني بذلك جورج اسحاق الذي كان أول من أدار حملة توسيع الكوة التي فتحها أيمن نور رئيس حزب الغد في جدار الاستبداد بالسلطة وذلك بقيادته لحملة الكتور محمد الرادعي لاحداث التغيير في مصر!
وتزداد الحالة التباسا، وقد انعقد لسان الناس من دهشة النتيجة الصادمة التي خلفها الاستحقاق “الثوري” الأول منذ اطاحة رأس النظام، فتحركت مشاعر السخط لتنصب في قوالب فكاهية بكائية حانقة، تعبيرا عن شبح التيه اللائح في افق اللاوعي الجمعي، لعل أكثر ما تُكثفها وتختزلها من دون اخلال، كلمات اللوعة الحانقة التي شاعت وانتشرت عبر شبكات التواصل الاجتماعي حال اعلان النبأ/الصدمة: “جيل عاش طول عمره ظالمنا بسكوته جاي النهارده يموتنا بصوته”!
التيه في أفق اللاوعي!
حُبــورٌ مثل هذا !
ما الذي يجعل القارئ بعدما يفرغ من قراءة كتابة لكاتب ما أن يقول: إنها كتابة عادية، وما الذي يجعله يقول إزاء كتابة أخرى: إنها كتابة مختلفة، وما هو الشيء الذي يُضاف إلى الكتابة فيجعل منها كتابة مختلفة، ويغيب عنها فتصبح كتابة عادية؟ هل هو شيء أشبه بالبهارات الهندية أو الأعشاب الصينية التي تضاف للأكل فتكسبه طعماً مختلفاً مع أنه يتكون من المواد نفسها التي تتكون منها الوجبات الأخرى، لكنها لا تكتسب الطعم ذاته، هل يتصل الأمر بما يعرف: سر الطبخة، بالخلطة السرية للعناصر التي لا يتقنها سوى الكاتب الجيد، أم أن الأمر يتصل بروح الكتابة، بماء الحياة الذي يدب في نسغها.
كيف يمكن لبيت شعري للمتنبي أو حوارية صغيرة لشكسبير أو مقطع شعري لبوشكين أن يدوخ بنا وكيف تعجز قصيدة عصماء عن أن تهز فينا وتراً أو تحرك عصباً؟! إن الأمر يتصل بما أريد أن ندعوه روح الكتابة، ولا نظنها مفصولة عن روح الكاتب المبثوثة أو المفروشة في كتابته، يمكن للكاتب أن يزين كتابته بكل ألوان البديع وزخرف الكلام، فتقرأ ما كتب لتجد فيه ذوق سيئ لرجل أراد أن يؤثث بيته الجديد بأثاث غالٍ فاخر من كل الألوان التي لا يجمع بينها جامع ولا تنسيق.
روح الكتابة هي روح الكاتب في اعترافاته وتدفقاته الوجدانية التي تنساب أمامنا ونحن نطالع نصه، يمكن لكتابة تعالج موضوعات مصنفة تقليدياً أنها موضوعات جاف أن تحمل ذاك الدفق النفسي الذي يجعل منها كتابة مختلفة، جديرة بأن تقرأ وبأن تمنح قارئها متعة وفائدة. تبدو الكتابة بلا روح عندما لا تغور داخل النفس، ولا تلامس الوتر الرهيف فيها. وتبدو الكتابة مختلفة حين تغوص في أعماق الروح، في ردهاتها العميقة التي لا يبلغها سوى قلة.
ينصحنا فريدريك نيتشه بالتالي: عندما نقرأ لكاتبٍ يتسم أسلوبه بالاقتضاب الخاطف وبالهدوء والنضج بأن نتوقف أمامه ملياً، بأن نقيم عيدا طويلا وسط الصحراء، ذلك أن حبورا مماثلا لهذا الذي يبعثه هذا الكاتب في نفوسنا لن يقع لفترة طويلة. هذه النصيحة تصح على كل كاتبٍ مفكر مثله. العودة إليه لا تبعث على الملل، وفي كل مرة نعود إليه ونقرأ ذلك الإيجاز والتكثيف المدهش الأشبه بالحكم أو الأقوال المأثورة نُصاب بذلك الاهتزاز الناجم عن ضربات فوق رؤوسنا كما كان هو نفسه قد وصف الكتابات المميزة التي تصيبنا بالدوران، أو تلك التي تحطم الجليد المتجمد دواخلنا بفأس كما كان كافكا قد قال مرة.
يمكن لعبارة ما مأخوذة بشكل منفرد أن تكون جيدة، قوية، لأنه ربما تكون قد وجدت وحدها سياقا عندما انهمرت على الكاتب أولى اشراقات الفكر، والفكرة العميقة التي تقال بسطحية تكف عن أن تكون عميقة وهي تصل للقارئ، لأنك إذ تصحح الأسلوب فإنما تقوم أساسا بتصحيح الفكرة.
7 يونيو 2012
عبداللـه العباسي … مقتطفات من الذاكرة
ندين في حياتنا لبعض من الصدف إذ تكون منعطفاً في المسار لم نكن نحسبه ولم تكن لنا ارادة فيه. في العام 1960 وكنت طالبا أنهيت الصف الثاني من الثانوية وانتقلت الى الصف الثالث، كان عليّ أن أختار التخصص الذي أريد فكان اختياري لقسم المعلمين. وفي بداية العام الدراسي حصل خطأ في تسجيلي فأدرج اسمي في لائحة الطلبة المنتقلين الى القسم العام علمي، وفي لائحة أخرى وُضعت مع طلبة القسم التجاري. وحتى يتم تصحيح الخطأ تعين علي الانتظام في أحدهما مؤقتا، فاخترت كرسي الدراسة في القسم التجاري لأن الصف احتوى مكتبة صغيرة. هناك كان عبدالله العباسي الذي انتبه الى اهتمامي بالكتاب فتقرب مني وعرض تزويدي بما أريد من كتب، فكانت بداية صداقة ومسيرة. تلك الأيام كان الشغف بالقراءة والمعرفة طابعا عاما لدى الجيل الشاب في مرحلة المد التحرري في المنطقة العربية وارهاصات البعد الاجتماعي والطبقي في التحولات الوطنية والحركات الثورية. وكانت الحركات السياسية السرية تنشط وتبحث عن مناصرين وأعضاء وخاصة في الوسط الطلابي، وكان للكتاب دوره التنويري والتربوي الحاسم.
الكتاب الأول الذي أتى به العباسي كان للكاتب الروسي أستروفسكسي”والفولاذ سقيناه” الذي لعب دور السحر بالنسبة لي وأوغلني في قراءة مرحلة فاصلة في التاريخ الروسي والانساني، دشنتها الثورة الاشتراكية الاولى واقترنت في بداياتها بالحرب الاهلية والتدخل الاجنبي لاجهاض الثورة، والخطوات الاولى للبناء. كارجاغين بطل الرواية – السيرة الذاتية للمؤلف – يلتحق بالشبيبة «الكموسمول» يقاتل في صفوف الثوار، ثم ينضم الى فرق بناء سكك الحديد، في ظروف روسيا القاسية والعمل اليدوي والاوبئة والحرب الاهلية الطويلة، في لوحة رائعة لخليط من التراجيديا والالم والفرح والايمان بالفكر والمستقبل والصراع بين قسوة الطبيعة وظلم البشر وبين ارادة البناء والتغيير بفكرٍ موضوعه الانسان وحريته وحلمه في وطن عادل خال من الاضطهاد بكل مظاهره.
يصاب كارجاغين بأمراض عدة، كالعديد من رفاقه، بسبب سوء التغذية والاجهاد في العمل والقتال والاوبئة وينتهي به الامر الى فقدان البصر والعجز ولكنه يواصل معركته بالكتابة وينجز روايته الشهيرة بمساعدة رفيقة حياته، ويتحول الى رمز وقدوة للشبيبة الذين كانوا يترددون عليه لينهلوا من تجربة جيله التي قلما تتكرر.
كان للرواية وقع خاص بالنسبة لي، أنا الذي عرفت الحرمان والفقر الى درجة البؤس فانحزت دون تردد الى الادب الذي يسبر غور قاع المجتمع نحو الانسان بهمومه وأحلامه، وينشر وعياً يرفض قيود التخلف والاستغلال.
ربطني هذا الكتاب بالعباسي الذي استمر في امدادي بالكتب ومنها مؤلفات مكسيم غوركي وجورج حنا وعبدالرحمن الخميسي وعبدالرحمن الشرقاوي وحنا مينه وسلامة موسى. كنا نقضي وقتا طويلا في القراءة بالمجلس الملحق ببيت والده محمد صالح العباسي في الحورة وكنت حينها مقيما في المنطقة ذاتها مع والدتي وأخي ابراهيم ونستأجر غرفة عند عائلة تستأجر بدورها منزلا صغيرا من المرحوم حسن تلفت.
كان الوقت يمر سريعاً لاننا كنا نقرأ دون توقف. وعرفني العباسي على المكتبة العامة فأخذنا نستعير الكتب و نقرأ. لم أكن حينها أعرف شيئا عن انتماءات العباسي السياسية والتنظيمية الى أن حذرني أحد أبناء الحورة، ونحن في طريق عودتنا من المدرسة ذات يوم، من أن العباسي شيوعي ومن الأحسن الابتعاد عنه. أثار هذا الحديث فضولي واهتمامي ورددت على محدثي، الذي عرفت فيما بعد أنه من حركة القوميين العرب، وكان يحاول جذبي نحو الحركة، بأن هذا ليس سببا لأن أبتعد عن صديق بهذه الاخلاق الحميدة.
وفي الواقع فإن عبدالله العباسي كان انسانا كريما، شفافاً صادقاً ومبدئيا وجريئا. بدأت ألح على العباسي أن يفسر لي معنى الشيوعية فكان يحاول دون أن يتخلى عن حذره الذي تميز به المناضلون في العمل السري، وبدأ باحضار بعض الكتب النظرية بعد أن طغت الرواية والقصة على قراءاتي. كانت الكتب تأتي من مكتبة الجبهة الموزعة في بيوت الأعضاء، ويتم تداولها سرّا كما المنشورات «الجماهير والشرارة». استمر تواصلي مع العباسي ما يقرب من السنة الى أن ارتبطت بأول رابط في جبهة التحرير الوطني بعد قبول عضويتي فيها، فكان لزاماً، بحكم العمل السري، عدم الالتقاء مع المعرف والانخراط في علاقات جديدة لمصلحة العمل الوطني، لكننا اعتقلنا سوية في العام 1962 في تظاهرات الثانوية دعما للثورة الجزائرية ونقلنا معا في سيارة جيب الى سجن القلعة لنوضع في زنزانة واحدة مع عيسى البنعلي وسيف أحمد سيف الفلاسي وكلاهما من مدينة الحد ويدرسان معنا في المدرسة.
كان اللقاء التالي في العام 1966 حين كنا مع المرحوم الرفيق أحمد الذوادي ويوسف العجاجي في زيارة خاصة الى القاهرة، وكان العباسي طالبا فيها ويقطن في حي روض الفرج الشعبي الشهير في شقة من غرفة واحدة، وكنت أتردد عليه في بعض الأحيان. ثم افترقنا حتى عودتي من الغربة مع العفو العام و بداية المشروع الاصلاحي في العام 2002، فوجدت العباسي مريضا بالسكري والبدانه وخارج النهج الفكري والسياسي الذي كان له الفضل الاول في انتمائي اليه.
عبدالله العباسي، المفعم بالطاقة وحب الوطن والشعب، البسيط والمباشر في نقده، الرافض للطائفية السياسية، سيبقى في ذاكرة الجيل الذي عاصره مناضلا وطنيا صلبا عمل بشجاعة في صفوف الجبهة في مرحلة من أصعب مراحل العمل الوطني. العباسي الذي عرفته كان مكونا من مكونات الجبهة والحركة الوطنية بعنفوانه وصلابته و لا يجوز إغفال عطاء أمثاله وإن افترق خط سيرنا اللاحق.
7 يونيو 2012
نواب.. لــزوم ما يلزم..!
كأن المشهد البرلماني ينقصه ان ينبري بعض النواب مبدين انزعاجهم واستياءهم واعتراضهم على رسم كاريكاتوري في صحيفة محلية انتقد اداءهم وتباكوا على ما أسماه أحدهم «هيبتهم المهدورة..!!» قد نفهم زعل هؤلاء النواب، مع ملاحظة ان تفهم الزعل لا يعني قبوله، ولكن ماليس مفهوما ولا مقبولا ان تتفتق قريحة بعض النواب بالمطالبة بـ»موقف قوي تجاه هذه الاساءات»..
وفي تصريح لافت لا يخلو من دلالة قال احدهم:»لا يعقل ان نواجه هذه الاهانات والاساءة من الجميع، الحكومة والصحافة والناس دون ان يكون لنا موقف من ذلك»..!! تلك ردة فعل أقل ما يقال عنها بانها عجيبة ومخجلة ومحزنة في آن واحد، فالمرء ليعجب حين يجد ان هناك ممن يفترض انهم يمثلون الشعب يظنون – رغم ان بعض الظن إثم- بانهم فوق مستوى النقد، وانه لا ينبغي ان تتناولهم الألسنة والاقلام الا بالثناء والمديح والشكر العميق، ويتحول العجب الى حيرة حين يصرف هؤلاء النواب النظر عن سؤال انفسهم: لماذا ينتقدنا الناس؟ ولماذا تهدر هيبتنا؟ ولماذا تهاجمنا الصحافة؟ ولماذا اداؤنا لا يعجب احد؟ هذا هو بيت القصيد، وهذه هي الاسئلة الملحة التي لابد ان ينشغل بها النواب..!
المشهد البرلماني برمته زاخر بما يحتاج الى تقويم واعادة نظر وتنقية من شوائب تزيدها ممارسات نواب كثر ولا تنقصها بأنها تزهق روح التجربة البرلمانية وتفرغ القيم الديمقراطية ان وجدت من أي مضمون.. ربما على اساس ذلك يسعنا ان نجتهد وان نصنف النواب الى انواع، هو تصنيف نحسب اننا نطالعه على صحائف الواقع، والعطلة البرلمانية الراهنة قد تكون فرصة لمثل هذا التصنيف، سعيا وراء تقييم وتقويم أداء النواب لعلهم يصلون الى قناعة بان شيئا ما يجب ان يتغير.
هناك نائب ألفناه يضرم النار في الكلمات، وآخر يستعمل اللكمات، ونائب يظن انه مشروع وزير، ونائب تاجر مناسبات، وآخر نجح في ان يكون موظف علاقات عامة نجده مشغولا ومنشغلا بالاشادات والنفاق السياسي العلني، ونائب صاحب غرض واهواء وغاياته سهلة التسمية والتعداد، واذا تكلم او هدد او لوّح بسؤال او استجواب يعرف بعض المسؤولين بانه يتكلم لانه يريد كذا وكذا.
هناك ايضا نائب يوظف حاجات الناس ورغباتهم المعيشية اليومية في مشاريع وحسابات مغرقة في الذاتية، ونائب يظن انه حقق المجد ودخل التاريخ لانه اصبح نائبا، ونائب استطاع ان يوظف أزمات البلاد في خدمة طموحات شخصية لا تعرف ارتواء وهناك نائب متلبد الاحساس وآخر يستجدى الخدمات الصغيرة على حساب الامور الكبيرة.
القائمة طويلة، هناك نائب يعزف على كل وتر، يقابله نائب زئبقي يجيد امساك العصا من الوسط، ونائب اجتراري يحلو له اجترار النصوص والمقولات الجاهزة، ونائب يظن انه نجم مجتمع ويريد ان تكون الاضواء دائما مسلطة عليه، يسمى «النائب الشو»، لا يهمه الا ان يشغل مساحات في الصحف، وجد من يستأجره ليقوم بمهمة تسويقه وتلميعه وكتابة التصريحات باسمه، هناك ايضا النائب المراوغ يجيد المراوغة مثلما يجيد اللاعبون المراوغة في ملاعب الكرة، وهناك نائب قبيلة او طائفة او فئة او تيار او جمعية، ونائب لا تجد امامه الا ان تقول «وبعدين» او «احنا رايحين وين» ونائب يجعلنا نستسلم للتشاؤم، ونائب يمارس كل شيء باستثناء مهمته الحقيقية في التشريع والرقابة، ونائب يبحث عن اي انجاز في اي مجال، وان كان انجازا وهميا لا يقدم ولا يؤخر ونائب يجعلنا نترحم على أيام لم يكن فيها برلمان..!!.
قلنا القائمة طويلة، ربما اطول مما تظنون، فهناك نائب تعود ان يثير الضجيج ويستثير المشاعر، ونائب يكتفي بما يرد اليه من تعليمات ويوقع على ما يعرض عليه من بيانات ويكتفي بدور الكومبارس، وآخر تعود ان يسرق انجازات الآخرين وعندما يتناهى الى سمعه عن مشروع او اجراء تعتزم الحكومة تنفيذه او اتخاذه يستبق بالتصريح عنه حتى يوهم الناس ان الحكومة استجابت له، او ان المشروع من بنات افكاره.
القائمة تشمل انواعا اخرى من النواب، فهناك نائب لا احد يهتم بأمره حتى ممن انتخبوه، ونائب «يجعلك تموت من الضحك»، ونائب يهوى اللعب في الكواليس، واي لعب، ونائب يشعرنا بانه «واصل» واحيانا وصولي، وآخر يظن بانه من النخبة البرلمانية يصر على احتكار الواجهات وان يكون له حضور في مختلف المحافل والمناسبات ونائب استاذ في دبلوماسية الكواليس وفي التسويات، ونائب لا تجد امامه الا ان تقول «اركد»، ونائب تراه يضيف الى واقعنا متاعب، ويشعرك بانه جزء من مشكلة وليس جزء من اي حل، ونائب ديمقراطي ولكن على طريقته، يتكلم عن الديمقراطية ولا يمارسها، وهناك النائب الظرف الذي هو نتيجة لاجواء استفاد منها، او فتوى لم يجد امامها الناخب اي جدوى لشعارات مثل صوتك امانة او ما شابه، القائمة تشمل نائب الرغبات الذي لا ينفك ان يقدم اقتراحا برغبة تلو اقتراح وكأنه حصر دور النائب في هذه المهمة، ويقابله نائب لا تعرف هل هو حقا نائب ام عضو مجلس بلدي وآخر يمارس الفساد عندما يتوسط لينجز معاملة او يمرر مصلحة لحسيب او قريب او ناخب ليسترضيه على حساب الآخرين وحقوقهم، وآخر يحاول ان يكون نائبا ونائبا هو بحق نائب.
باختصار انهم حقا صورة حية لبلد بكامله، فهل سيزعل علينا اصحاب السعادة النواب ام انهم سيجهدون لعمل لزوم ما يلزم لتصحيح ادائهم البرلماني والعودة الى العمل البرلماني الحقيقي في دورتهم البرلمانية المقبلة.
6 يونيو 2012
حل جمعية «أمل» وضرب مؤسسات المجتمع المدني
يأتي قرار وزارة العدل والشئون الاسلامية والاوقاف برفع دعوى قضائية لحل جمعية العمل الإسلامي (أمل) بعد سلسلة من الإجراءات الانتقائية ضد مجموعة من مؤسسات المجتمع المدني، بدأت بجمعية التمريض البحرينية التي تم حل مجلس إدارتها وتعيين مجلس إدارة بديل له، تبعها حل جمعية المعلمين البحرينية، كما اعترضت وزارة حقوق الإنسان والتنمية الاجتماعية على انتخابات جمعية المحامين البحرينية وقامت بحل مجلس الإدارة المنتخب وعينت محله أعضاء جدداً، وقامت بتجميد أرصدة الجمعية لدى البنوك المحلية.
بعد ذلك قامت الوزارة بتغيير النظام الأساسي لجمعية الأطباء البحرينية من خلال إعطاء الحق للأطباء غير البحرينيين بالترشح والتصويت في انتخابات مجلس الإدارة دون الرجوع إلى الجمعية العمومية للجمعية بهدف تغليب فئةٍ على أخرى.
وفي إطار ضرب الحركة النقابية في البحرين وممثلها «الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين»، تم إقرار مشروع بقانون بتعديل بعض أحكام قانون النقابات بما يسمح بتشكيل أكثر من نقابة عمالية في المؤسسة الواحدة، ويجيز القانون تشكيل اتحاد نقابي لكل نقابتين أو أكثر بعد موافقة أغلبية أعضاء الجمعية العمومية للنقابة العمالية.
ويبدو أن الدور قد حان الآن لضرب الجمعيات السياسية، وبذلك يتم إفراغ البحرين من مؤسسات المجتمع المدني التي تتخذ موقفاً معارضاً وتمثل رأياً آخر.
القرار لم يأت بشكل مفاجئ تماماً، فقد تم إغلاق جمعية العمل الوطني الديمقراطي (وعد) لمدة ثلاثة أشهر العام الماضي خلال فترة السلامة الوطنية بحجة «نشرها عبارات ماسة بالقوات المسلحة وأخبارا كاذبة تثير الفرقة والفتنة بين المواطنين».
كما هددت وزارة العدل في شهر أبريل/ نيسان من العام الماضي 2011 برفع دعوى قضائية لحلّ كلٍّ من جمعية العمل الإسلامي وجمعية الوفاق الوطني الإسلامية، وذلك «نظراً لما ارتكبته الجمعيتان من مخالفات جسيمة لأحكام الدستور وقوانين البحرين والقيام بنشاطات تضر بالسلم الأهلي»، ولكن الوزارة تراجعت عن ذلك فيما بعد.
وفي حين تتخذ وزارة العدل حجة «تسجيل مخالفات جسيمة من قبل جمعية العمل الإسلامي من بينها عدم عقد المؤتمر العام خلال مدة تزيد عن 4 سنوات وبطلان مؤتمرها إثر إقامته في دار عبادة»، فإنها تتغاضى عن جمعيات أخرى بعضها لم يعقد مؤتمره العام لما يزيد عن 6 سنوات، علاوةً على أن إحدى الجمعيات السياسية تقيم جميع فعالياتها وتجمعاتها في موقع واحد فريد وهو دار للعبادة.
إن ضرب مؤسسات المجتمع المدني وتزوير إرادة أعضائها أو التضييق على مجالس إداراتها، لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، كما أن قرار إغلاق أو حل الجمعيات السياسية المعارضة علاوةً على أنه يعد انتهاكاً دستورياً لحرية تكوين الجمعيات وممارسة العمل السياسي، فإنه سيرجع البلد للوراء، لسنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، ليجبر النشطاء السياسيين على العمل في الخفاء، وتشكيل تنظيماتهم السرية، وهذا ما ظهرت بوادره منذ الآن.
صحيفة الوسط البحرينية – 05 يونيو 2012م
الوقت العربي والوقت الياباني
سعر الدقيقة مرتفع جدا في اليابان، لدرجة أن أحدا لا يستطيع تضييعها، والشخص الذي يصل متأخرا عن موعده خمس عشرة دقيقة شخص مشكوك في مصداقيته. هذه واحدة من مجموعة خلاصات ذهبية جاءت بها فاطمة المرنيسي، النسوية المغربية الشهيرة من زيارة لها لليابان. ونحن نعرف المرنيسي بوصفها كاتبة في الشأن النسوي، لكننا هنا إزاء حديث آخر لها، فقد ذهبت لليابان لأنها تريد أن تعرف كيف أن مجتمعا تقليديا، يفترض انه مثل مجتمعاتنا، ليس منتسبا للحضارة البيضاء، يمكنه أن ينتج الكمبيوترات.
لذا فإنها لبت دعوة من هيئة اسمها: «مؤسسة اليابان»، كي تجد جوابا عن السؤال الذي أرقها، وهو بالمناسبة ليس ببعيد عن الصيغة الشهيرة التي صاغها سؤالا في حينه الإمام محمد عبده حول: «لماذا تقدم العرب وتأخر المسلمون»، مع فروق طفيفة في التفاصيل وفي الوجهة الجغرافية التي يمكن للسؤال أن يوجه صوبها. قبل شهرين من السفر نقل لها المسؤولون في المؤسسة المذكورة التعليمات كاملة: حين تهبط في مطار طوكيو تذهب وتقف أمام المقصورة رقم 14 إلى أقصى يسار الدائرة، هناك سيكون شخص في انتظارها، ولأنها عربية، فقد تساءلت بينها وبين نفسها: من سيتذكر هذا الكلام بعد شهرين، لكنها ما أن وصلت إلى المقصورة المعنية حتى وجدت الرجل الذي حدثوها عنه يهتف في وجهها «صباح الخير.. بروفيسور مرنيسي.. هل كانت الرحلة جيدة». وأضاف: «هناك سيارة في انتظارك.. وهذا برنامجك للأربعة عشر يوما المقبلة»!
لدينا، نحن العرب، الكثير من الوقت كما تذهب المرنيسي لكننا نمضي نصفه في انتظار أن يأتي الآخرون، والنصف الثاني بالتساؤل عما سنفعله، أما اليابانيون فيبدون وكأنهم يمضون وقتهم يجري واحدهم وراء الآخر، سواء في القطارات أو على الأرصفة أو في الطائرات. نقول إنها لم تر يابانيين منصرفين إلى الثرثرة باطمئنان أو يتهادون باتجاه الممرات، ولم تجد جوابا عن السؤال عما إذا كان الركض من دون توقف عندهم مرضا منذ الولادة أو ارتكاسا أنشئوا عليه قبل المراهقة وبعدها. أيا كان الأمر فان الياباني الصغير ليس طفلا كأطفالنا، فأمه والقيمون على تربيته يسكنهم هاجس واحد، وهو أن يجعلوا منه لاعب أرقام وعمليات حسابية، وهو ما يفسر أن 75% من الشباب اليابانيين يردون بشكل صحيح على أسئلة الرياضيات، مقابل 48% من الولايات المتحدة و36% من فرنسا.
وتأتي اليابان في المقدمة بالنسبة لعدد البحاثة والمهندسين بين السكان العاملين: 7%، أي ضعف ما هو عليه الوضع في دولة أوروبية متقدمة مثل فرنسا. على كل منا، لمن هم في جيل فاطمة المرنيسي أو بعده، أن يتذكر ما الذي فعله بين الثالثة أو الخامسة من طفولته «غير اللعب فوق المساطب وتسلق الأشجار»؟!. لا شيء يذكر. في اليابان يملك الطفل من سن الثالثة برنامجا مكثفا للغاية: بعد الروضة عليه أن يذهب إلى مدرسة اسمها «جوكو»، من أجل ساعات إضافية مكلفة جدا لعائلته، التي تدفع ما يوازي المبلغ الذي ندفعه لولد في الرابعة عشرة من عمره لقاء أربعة دروس إضافية مسائية في الأسبوع!
لمن يعنيهم الأمر: مرحلة ما قبل المدرسة، هي أحد أسرار النهضة اليابانية!
5 يونيو 2012
جدل الإصلاح عربيّاً… واحتكار النشاط السياسي
يميل دعاة الإصلاح السياسي في المنطقة العربية وتدعمهم في ذلك المنظمات الدولية والدول المتقدمة إلى تفضيل نهج الإصلاح التدريجي من خلال نشاط مؤسسات المجتمع المدني ونشر الوعي بمبادئ الديمقراطية.
وتعود أسباب ذلك لكون أن هناك اعتقاداً بأن المجتمعات العربية لم تنضج وتتطور بعد، وخصوصاً فيما يتعلق بموضوع «الديمقراطية»، بمعنى آخر أن المجتمعات العربية غير جاهزة للتغيير، ولذا فإن مؤسسات المجتمع المدني تستطيع أن تسد هذا الفراغ وتمهد لأرضية التدرج بشأن التغيير من خلال نشر الوعي والتثقيف.
ولقد ظل هذا الاعتقاد سائداً لفترة في المنطقة العربية حتى جاءت رياح الربيع العربي في العام 2011 وقلبت موازين ذلك. فالمجتمعات العربية ما عادت ترضى بهذا الأسلوب الذي ظل ومازال بطريقة ما أكثر تقبّلاً للأنظمة بالمنطقة من ناحية النشاط المدني الذي لا يتحدى سلطتها مباشرة، مقارنة مع النشاط المباشر الذي إما يطالب بإسقاطها كلياً أو إصلاح نظامها السياسي.
في المقابل هناك من يرى أن الأولوية للإصلاح السياسي، وأن المجتمع المدني لا قوام له بدون دولة تحترم الحد الأدنى من الحريات وحقوق الإنسان، ما يجعل الأمر أشبه بحلقة مفرغة.
ويرى محللون ضرورة الضغط على الحكومات مباشرة لكي تتقبل الإصلاح من قبل أنظمة أدركت أن حتمية التغيير في ظل الضغوط الأجنبية أو تصدع في النخب الحاكمة، يمكن إذا صدق أن يكون أقصر الطرق إلى الحكم الصالح وأقلها كلفة في الوقت نفسه.
الملفت أن الأنظمة في المنطقة مشغولة في قمع ما قد يخلّ بركائز فساد الدولة من خلال شتى الوسائل، لذا فتبقى مسألة الإصلاح موضوعاً مطاطاً ووعوداً في الهواء لن تغيّر من واقع المجتمع أو تفي بمطالبه وحقوقه. لأن الأنظمة لا تريد حلولاً ولكن السير نحو سياسة عدم المبالاة والهروب إلى الأمام والمماطلة طويلة الأجل من أجل استمرار وضع يخدمها فقط، ولا يخدم المصلحة العامة بالضرورة، والأمثلة كثيرة من الخليج إلى المحيط.
لذا فإن أسلوب المناورة عبر إجراءات شكلية والترويج لها عبر أقلام الصحافة الحكومية لن يحقق إصلاحاً حقيقياً، وإنما إصلاحاً شكلياً من أجل التغطية على عجز الأنظمة في تحقيق الدول المتكاملة المبنية على أسس ديمقراطية متعارف عليها دولياً وليس على أسس فئوية أو قبلية أو أسرية.
ويذهب بعض المراقبين إلى أن الأنظمة العربية قد طوّرت نموذجاً فريداً من «الليبرالية الاستبدادية»، لا تجدي معه قدرات مؤسسات المجتمع المدني المحدودة والمحارَبَة بوسائل عديدة، منها خلق مؤسسات حكومية داخل المجتمع المدني لتشتيت الجهود وإلغاء فكرة الديمقراطية الحقيقية ومبادئها الأساسية، إضافةً إلى تعزيز غياب مجتمع سياسي فاعل يتحرك بحرية.
واليوم ومن خلال قراءة المشهد السياسي العربي، فهو للأسف لم يتخلّص كلياً من ممارسات الاستبداد والعقلية الأمنية حتى بعد تخلص بعض الشعوب من أنظمتها الدكتاتورية، والسبب يعود لوجود أنظمة أخرى طاغية مازالت تحظى بدعم وحماية من القوى الدولية التي تحتاج إلى مواردها وتحالفها الاستراتيجي الذي يساعد على حماية مصالحها.
هذه الحماية وهذا الدعم مازال يدفع بتلك الأنظمة لمقاومة أي حدث أو تغيير يطرأ في بلد مثل مصر التي بدورها قد تؤثر في مجريات الساحة داخل المجتمعات العربية وهو ما يعدّ بمثابة جرس إنذار لاستمرار أنظمة قريبة ومحيطة من مصر لا تريد أحداً أن يحاسبها أو يطالب بتغيير أنظمتها المحمية من قوى تؤمن بالديمقراطية، ولكن تفرضها على هذه الأنظمة للاعتبارات التي تم ذكرها في المقال.
في الوقت نفسه، هناك من يرى ضرورة تدخل هذه القوى لصالح الديمقراطية والتوقف عن دعم الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة العربية ومعاقبتها من خلال فرض عقوبات أو التدخل عسكرياً كما حدث في العراق أو الضغط من خلال حلول توافقية كما حدث مع البلدان التي شهدت صراعات عرقية ودينية على اعتبار أنها الحل الوحيد والمتاح للتغيير.
ورغم الجدل العربي في هذا الجانب فإن خيار التغيير والإصلاح لا تجني ثماره إلا من خلال الداخل وليس الخارج، فحق تقرير مصير الشعوب هو ما يحقق الغايات المنشودة لأنها تنبع من الداخل ويتولى أمرها حراك القوى الاجتماعية الحية صاحبة المصلحة فيه، مثل المجتمع المدني والنقابات وغيرها كما حدث في دول أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية التي كسرت حواجز احتكار الدولة للنشاط السياسي ورفعت قدرات المجتمع على مقاومة آليات القمع التي كانت تستخدم لشلّ المجتمع.
صحيفة الوسط البحرينية – 03 يونيو 2012م
حلقة مستديرة في مسقط
باستضافةٍ من سلطنة عمان الشقيقة تحلقتْ حول طاولة مستديرة في مسقط، نحو عشرين شخصية مهتمة بالشأن العام من أكاديميين وإعلاميين وسواهم من بلدان المشرق العربي، كان لي شرف أن أكون واحداً منهم، ودعا الى هذه الحلقة الدبلوماسي العربي المخضرم الأخضر الإبراهيمي الذي كلفه الأمين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربى برئاسة لجنة مستقلة من عدد من الشخصيات العربية المستقلة، من أجل وضع تصور متكامل لتطوير عمل الجامعة يشمل إعادة هيكلة الأمانة العامة وهيئات ومؤسسات الجامعة بما يزيل التضارب أو الازدواجية فى الاختصاصات، ويسد الثغرات فى عملها، ومواكبة التطورات فى عمل المنظمات الاقليمية، وخاصة فى مجال حفظ السلم والأمن، والاستجابة للرغبة الشعبية فى المشاركة بشكل فعال بطريقة ما فى أعمال الجامعة العربية، والنظر فى كيفية اضطلاع الجامعة بدور المحفز الدافع للعمل العربى المشترك.
والحلقة المستديرة التي عقدت في مسقط هي الثالثة بعد طاولتين أخريين، إحداهما عقدت في القاهرة، والثانية في تونس مع عدد من الشخصيات من المنطقة المغاربية للوقوف على رأيهم بخصوص العمل العربى المشترك وما يحتاج اليه من اصلاح وتطوير، فيما خصصت حلقة مسقط لشخصيات من المشرق العربي للغرض ذاته.
اهتم المجتمعون في مسقط بمناقشة الأسباب التي تجعل الصلة بين جامعة الدول العربية والمؤسسات التى تعمل فى اطارها من جهة والمجتمع المدني العربى من جهة أخرى لا تزال محدودة كماً ونوعاً، بالقياس الى تجارب نظيرة في العالم، وما هي السبل لتغيير هذا الوضع وبناء وسائل تعاون مثمرة تفيد الجامعة ومنظماتها المختلفة والدول الأعضاء فيها كما يفيد شعوبنا العربية والمنظمات غير الحكومية والمؤسسات الأخرى مثل الاتحادات المهنية والنقابات العمالية والجامعات وهيئات العمل الثقافي المختلفة ومنظمات الشباب وغيرها.
كما اهتموا بسبل النهوض بوضع البرلمان العربي، وسط حديث متجدد عن ضرورة تطويره ليلعب دوراً أكثر فاعلية، خاصة وأن تطوير العمل البرلماني العربي المشترك لا يمكن أن يرد في سياق منفصل عن ضرورة تطوير هذا العمل على مستوى كل بلد عربي على حدة، وفي هذا المجال أثيرت أسئلة مهمة عن مستلزمات ذلك، من ضرب كيف يمكن أن يتحقق هذا الطموح. ولم يكن بالامكان مناقشة هذه المسائل وسواها بمعزل عن المتغيرات العربية، التي شهدناها منذ العام الماضي، بالطريقة التي تطرح للسجال سؤالاً مهاً عما إذا كنا بصدد نشوء أو تشكل نظام عربي جديد، مغاير، ولو في بعض أوجهه على الأقل، عن النظام العربي السابق والذي عملت الجامعة العربية في اطاره خلال العقود المنقضية منذ تأسيسه، حيث أتى وستأتي الى الحكم في دول عربية مفصلية في المشرق والمغرب على حد سواء، وجوه وقيادات جديدة، ليس واضحاً حتى اللحظة مسارات تطور رؤاها السياسية، بعد أن أصبحت في السلطة، وما إذا كانت ستاخذ ببلدانها نحو آفاق تتسع للمزيد من الحرية والديمقراطية، اتساقاً مع شعارات انتفاضات التغيير، أم أنها، على العكس من ذلك، قد تؤدي إلى نكوص للوراء، وتضيق ذرعاً بهامش التعددية الاجتماعية والسياسية الذي تشكل نتيجة التطور المديد للمجتمع نفسه، وليس بالاملاء الرسمي.
هل هم أبطال أم خونة؟
في نظر البعض أصبح أعضاء الوفد الأهلي البحريني الذي شارك في جلسات الاستعراض الدوري الشامل للبحرين في جنيف أبطالاً استطاعوا أن يقنعوا العالم بعدالة قضية شعبهم، فيما وصفهم البعض الآخر بالخونة الذين لم يترددوا في بيع وطنهم حينما شوّهوا سمعته.
وبسبب الموقف الضعيف الذي أبداه الوفد الرسمي، وعدم قدرته على الدفاع عن الإجراءات التي اتخذتها الدولة بعد الأحداث الأخيرة من اعتقال المئات من الناشطين السياسيين وتسريح الآلاف من أعمالهم واستهداف طائفة بأكملها، أدانت جميع دول العالم هذه الإجراءات وطالبت الحكومة البحرينية بإجراء إصلاحات سياسية حقيقية، والبدء بحوار وطني مع القوى المعارضة وتنفيذ توصيات اللجنة البحرينية لتقصي الحقائق.
بالطبع فإن مثل هذا الأمر لم يرضِ من كان يدافع باستماتةٍ لا مثيل لها عن جميع الانتهاكات التي حدثت، ومازال يطالب بالمزيد منها!
بعد جلسة تقديم التقرير الرسمي ومناقشة أسئلة واقتراحات وتوصيات الدول الأعضاء في مجلس حقوق الإنسان، والتي أفضت إلى تقديم الدول 176 توصية، تعرّض الوفد الأهلي إلى «هجوم منظم في حملة صحافية وإلكترونية في مجموعة من الصحف اليومية وفي المواقع الإلكترونية، وصفتهم بالخونة والعملاء وحرضت ضدهم أجهزة الدولة، وطالبت بمحاكمتهم والتصدي لهم وسلب حرياتهم».
الخائن الأكبر بالنسبة لمن شنّ هذه الحملة هو رئيس جمعية الشفافية البحرينية حيث تم وصفه بأبشع الصفات، هذا الخائن الذي قضى أكثر من نصف حياته في المنافي، لا بسبب جريمةٍ ارتكبها أو اختلاسٍ لأموال كانت لغيره، وإنّما بسبب آرائه السياسية ودفاعه عن حق أبناء البحرين في أن يعيشوا حياة أكثر عدالة وديمقراطية، وأن يكون لهم صوتٌ في إدارة بلدهم بحيث يكون الوطن للجميع لا لجماعةٍ متمصلحةٍ على حساب الجميع.
هذا المتهم بالخيانة كان يعيش في منفاه في دمشق في شقةٍ صغيرةٍ وبسيطة زرته فيها العام 1986 قبل التحاقي بالدراسة الجامعية في موسكو، وحين عاد إلى الوطن بعد غربةٍ طويلةٍ مع تدشين المشروع الإصلاحي، أمرت له الدولة بفيلا فخمة كباقي القادة السياسيين المنفيين، ولكنه رفض هذه «الهدية السخية» قبل أن يحلّ ملف جميع المنفيين من الوطن، الذين تم نفيهم في سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.
هذا الخائن الذي تشن ضده الحملات الإعلامية طالبةً محاكمته، رفض أي امتياز له على حساب الآخرين.
في العام 2009 وبعد ما يقارب 8 سنوات على رجوعه البحرين، كان عبدالنبي العكري يقف أمامي في الخيمة التي نصبت أمام مشروع الشاخورة الإسكاني ليتسلّم البيت الحكومي في إسكان الشاخورة حاله كحال أي مواطن بعد أن جاء دوره في الأحقية في الحصول على بيت إسكان من الدولة.
هذا هو الخائن، في حين أن «الوطنيين الصادقين»، «يتقاتلون على الفتات ويسقط بعضهم بعضاً ويتآمر بعضهم على البعض الآخر من أجل الحصول على المغانم والعطايا»، كما اعترف أحد رؤساء الجمعيات السياسية في عموده اليومي في إحدى الصحف المحلية قبل أيام.
صحيفة الوسط البحرينية – 01 يونيو 2012م
العالم العربي الى أين؟
الى أين يتجه العالم العربي؟..هل انتهى زخم “الربيع العربي”؟..وما هو طابع المراحل الانتقالية في البلدان التي حقق فيها (“الربيع العربي”) اختراقات نوعية في مشهدها السياسي العام؟
بعد مرور ما يقارب السنة ونصف على اندلاع موجة الاحتجاجات الشعبية الواسعة النطاق وغير المسبوقة في عدد من البلدان العربية والتي ذهبت اصطلاحا فيما بعد بمسمى “الربيع العربي”، تبدو صورة الواقع المستجد في بلدان ذلكم “الربيع” للناظر المتمعن فيها وكأنه أمام لوحة سوريالية تحتاج لأدوات تحليل خاصة لتفكيك طلاسمها.
ولعل أول طلسم فيها ذلك المتعلق بتربع من هم في خريف العمر على السلطة لشغر مواقعها التي كان قد “حررها” من هم في ربيع العمر، الذين كانوا في الميادين في طليعة الأمواج البشرية التي أسهمت بصورة حاسمة في احداث التغيير.
أما الطلسم الثاني الذي قد يبدو لأول وهلة غير مفهوم في ضوء فرضية توقعات التغيير الايجابية، فهو ذلك المتصل بتكرار اسلوب الاستحواذ على السلطة الذي كان الطابع الموسوم لاسلوب الوصول الى السلطة في العالم العربي خلال العقود الماضية. فالذين كانوا يُعيبون على من هم في السلطة ما قبل عواصف “الربيع العربي” بأنهم اختطفوها بالانقلابات ووسائل الغدر الأخرى غير المشروعة، اذا بهم يتحولون الى مشاريع طغيان جديدة وذلك برسم أساليب وفنون التكالب الماكرة التي استدعوها من مدونات أجنداتهم الحزبية غير المعلنة.
وبسبب هذا التكالب الذي أساء كثيرا لـ “الربيع العربي”، وكذلك انفراط عقد القوى الشبابية – غير المنظمة أصلا – والقوى الاجتماعية المتشاركة معها في احداث التغيير النوعي اللافت، فقد تمكنت القوى المضادة لـ “الربيع العربي” بدعم من امتداداتها الدولية والاقليمية، من استعادة زمام المبادرة والسيطرة والتحكم جزئيا في مسار المراحل الانتقالية في بلدان “الربيع”..الهشة. والشواهد على ذلك أكثر من ان تُحصى، ليس أقلها، في مصر على سبيل المثال، التلكؤ الواضح في تقديم رموز الفساد والاستبداد للعدالة، بل وتمكين عدد منهم من العودة للمشهد و”تمريرهم” قضائيا وتسويقهم شعبيا كنقذين من “المجهول” القادم.
وفي مصر أيضا “قررت” القوى المدنية الحداثية توزيع ولاءاتها على أكثر من مرشح رئاسي “لكي تضمن”، على ما يبدو، تشتيت واحراق أجزاء مهمة من قوتها التصويتية!
وفي تونس تتسارع عملية التفكك والتشرذم داخل حزب رئيس الجمهورية المؤقت المناضل السابق في مجال حقوق الانسان المنصف المرزوقي، حزب “المؤتمر من أجل الجمهورية” الذي كان يُنظر اليه حتى وقت قريب على انه “الجناح” الذي تستظل به القوى المدنية لموازنة التوجهات والقوى السياسية الدينية بقيادة حزب النهضة الحاكم مؤقتاً (خلال الفترة الانتقالية).
هو ذات التكالب الذي حرم القوى المدنية الحداثية من منافسة و”مغالبة” التيارات الدينية المتشددة ذات الخطابات الملتبسة، ان نلم تكن ملغومة، فيما يتصل بمستقبل مسارات التنمية الكلية.
وهكذا فان المشهد الذي أمامنا بعد مضي سبعة عشر شهرا على انطلاقة “الربيع العربي” هو على النحو التالي: في جانب هناك تكالب على مواقع السلطة من قبل النخب السياسية للقوى الاجتماعية التي شاركت في الحراك الشعبي العارم لموجات “الربيع العربي”، في اعقاب عمليات التفكك والتشرذم التي سرى مفعولها مع بداية المرحلة الانتقالية. وفي جانب آخر هناك ما يمكن أن نطلق عليه “الاحتيال السياسي” الذي لجأت اليه القوى المضادة للتغيير، بالتآزر والتساند مع بعض امتداداتها الاقليمية والدولية، من أجل قطع الطريق على الثورات وحركات التغيير العارمة للوصول الى السلطة والسيطرة على واحتواء “منسوب” التغيير.
ولعل هذا ما يجعل فترة المراوحة الحالية في المشهد السياسي في أقطار “الربيع العربي”، أقرب الى مرحلة الاستيعاب واعادة السيطرة والتكيف، منها الى المرحلة الانتقالية من نظام سياسي-اقتصادي ذي محتوى اجتماعي معين الى نظام سياسي-اقتصادي-اجتماعي آخر، ولكن من دون أن يعني ذلك حسما نهائيا للصراع بين القديم “المنتهية صلاحيته وولايته” والقادم “الجديد” الذي لازال يبدو مصمما على احداث التغيير المنشود.