رغم ان الصين لم تتأخر عن الاستجابة لطلب العون الذي تقدم به الاتحاد الاوروبي والدول الاعضاء فيه فرادى للمساعدة في اطفاء حريق المديونيات الفلكية التي تورطت فيها عدة بلدان اوروبية، وكان موقفها ايجابيا للغاية في تقديم الدعم المالي للبلدان المعطوبة ماليا سواء بشكل منفرد أو من خلال الجهود الدولية المنسقة غبر صندوق النقد الدولي – رغم ذلك فان الماكينة الاعلامية الغربية لم تتوقف عن تطلعاتها ورهاناتها على حدوث تصدعات سياسية واقتصادية واجتماعية داخل الصين علَّها تُمكن الاقتصادات الغربية من اخراج الصين من سباق الزعامة العالمية بعد القضاء على تنافسيتها السلعية وجاذبيتها السوقية.
أخبار الصين وتتبع ما يجري فيها بنفس (بفتح الفاء) “الحرب الباردة”، سلعة لا تكاد تنقطع عن مختلف أجهزة الميديا الغربية التي لا تكل ولا تمل من عرض واعادة عرض ذات السلعة بذات النفس الكيدي المنتمي للحرب الباردة بنسختها المتجددة. وبما أن بريطانيا هي رائدة الحرب الباردة بتدشينها رسميا على يد رئيس وزرائها الأشهر ونستون تشيرتشل، فان ماكينتها الثقافية والاعلامية الرسمية لازالت محتفظة بتلك الروح الوثابة التي لم يفت من عضدها كل ما أُطلق من مبادرات ابان حمأة وطيسها بين الاتحاد السوفييتي ومعسكره والولايات المتحدة ومعسكرها ومنها ما سُمِّي في عقد سبعينيات القرن الماضي بالانفراج الدولي.
يوم الأربعاء 22 فبراير 2012 يُجري الصحفي المعروف بهيئة الاذاعة البريطانية بي.بي.سي. ماثيو بانيستر لقاءً مع أحد الصينيين من التبت المولود والمقيم في الهند. المقابلة استمرت حوالي 10 دقائق، تحدث الصيني “التبتي” خلالها عن محاولته احراق نفسه أمام السفارة الصينية في الهند. وكان صحفي البي بي سي ماكرا في اختيار أسئلته بدقة للحصول على مبتغاه، اذ سأله عن المواد التي أخذها معه الى مكان الانتحار، وعن معنى الفداء والتضحية بالحياة مقابل القضية التيبتية، بما يشي بتحريض آخرين على اتيان الفعل نفسه!
بدورها صحيفة “فاينانشال تايمز” نشرت مقالا في عددها الصادر الجمعة 27 ابريل/نيسان 2012 كتبه مراسل الصحيفة من بكين “جاميل اندرليني” رصد فيه بعقلية المنقب المتشكك لتطور حركة التنقلات والاحلالات داخل قمة هرم السلطة في الصين وتحديدا في الحزب الشيوعي الصيني الحاكم الذي لازال الغرب يعتبر ايديولوجيته العدو الاساسي لحرية حركة رأس المال العالمي. فلقد عمل كاتب المقال بشتى سبل التشويق والاثارة على تضخيم حادثة ابعاد “بو خيلاي” عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني ومسئول الحزب في مدينة تشونغكينغ (Chongqing)، وهي أهم مدن جنوب الشرق الصيني وأسرع مدينة نموا في العالم، على خلفية ما أُشيع عن تورط زوجته في جريمة قتل رجل الأعمال البريطاني نيل هيوود (Neil Heywood)، والاحالة، للتدليل على أهمية وبالونية الحدث، الى مصادر معلوماتية هزيلة من قبيل أصدقاء قريبين من بعض القيادات الحزبية (من دون أن يحدد ما اذا كانت قيادات مركزية أو مجرد مسئولين حزبيين صغار في المقاطعات)، وهي مصادر حرص على توزيعها بعناية فائقة على امتداد مساحة المقال، ولم ينس أن يضيف اليها مصدر غربي خدم في الصين مثل سوزان شرك (Susan Shirk) المسئولة الامريكية السابقة في ادارة كلينتون والخبيرة في السياسة الصينية وفقا لكاتب المقال.
ويصل التهويل مداه بمحاولة الكاتب الايحاء الى أن المؤتمر الوطني الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني الذي سيُعقد في النصف الثاني من العام الجاري وسيحضره 2270 مندوبا من اجمالي عدد أعضاء الحزب البالغ 80 مليونا، يمكن أن يقترب فيه من أسماهم بالاصلاحيين في الحزب مثل رئيس الوزارا “ون جياباو” (Wen Jiabao)، من طرح مستوى واسع النطاق من الاصلاحات ليس في مستوى “بيريسترويكا” غورباتشوف في الاتحاد السوفييتي السابق كما قال ولكنها مهمة. وحسبنا ان مجرد الغمز من القناة السوفييتية في هذا الصدد الى مقاربة الاصلاح الانهياري على الطريقة الغورباتشوفية يشي بحقيقة مكنون السقف الفوضوي الذي يتحرق الغربيون لأن تبلغه الصين في اصلاحاتها السياسية.
وعلى أية حال فاننا لا نخال كاتب المقال سوى مراسل صحفي متمرس يجيد أداء عمله على النحو المطلوب منه، أما الباقي والأهم فهو الذي تتكفل به الصحيفة التي انتدبته في مهمته الصحفية، والتي لم تتوان في توظيف رواية مراسلها كما ينبغي أن يكون عليه التوظيف من وجهة نظر الصحيفة ومن وراء الصحيفة، حيث أفردت للموضوع مانشيتا عريضا في صدر صفحتها الأولى وأعطته عنوانا مثيرا هو “سقوط بو (جياباو) يفتح طريق الاصلاح في الصين”.
وحيث ان كل حبكة المقال تم تركيبها على قضية ابعاد “بو خيلاي”، فقد اقتضى الحد الأدنى من الموضوعية الذي تحرص عليه عادة الصحافة البريطانية، الاشارة ولو هامشيا الى جزء من ملابسات مقتل رجل الأعمال البريطاني “نيل هيوود” وما أُشيع عن تورط زوجة القيادي الصيني في جريمة قتله، وذلك بتذييل المقال في نهايته باشارة عابرة ومقتضبة الى فحوى الخطاب الذي ارسله وزير الخارجية البريطاني وليم هيج الى مجلس العموم والذي نفى فيه ان يكون “نيل هيوود” جاسوسا بريطانيا يعمل لحساب الحكومة البريطانية، وانما رجل أعمال له علاقات خاصة مع السفارة البريطانية في بكين التي يتردد عليها بكثرة.
طبعا لا جدال في أن تمركز وتركز الحياة السياسية في الصين، حيث يهيمن حزب واحد على كافة مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ينهض سببا كافيا لاشاعة النمطية والاستبداد وقرينه الطبيعي الفساد. انما التجربة الصينية في الاصلاح تختلف عن التجربة السوفييتية، ففي الصين ومنذ أن دشّن دينج خياوبنج اصلاحاته خلال الفترة من 1978-1992 لم يعد هناك مكان للكهول الهرمين الذين لايفارقون عرش القيادة الا بسبب الوفاة كما حدث في الاتحاد السوفييتي السابق. وبفضل تلك الاصلاحات تحديدا تمكنت الصين من التحول بسرعة فائقة الى قوة اقتصادية عظمى.
على أية حال، فان ما تقدم هو فقط غيض من فيض الأخبار والتغطيات التي لا تتوقف الميديا الغربية، وخاصة الأمريكية والبريطانية، عن سردها والافاضة فيها بهدف الابقاء على الانطباعات السلبية والمنفرة عن الصين في الذهنية المحلية ومحاولة تثبيتها في الوعي الجمعي العالمي في الآن معا، وتسخير هذه المواقف السلبية في أعمال الضغط على بكين للحصول منها على مكاسب هنا وهناك. والملفت ان الصينيين المدركين تماما لهذه “الآلاعيب”، لا يبدو أنهم مكترثين كثيرا بها. فهم في الوقت الذي لا يتهاونون مطلقا مع أي عبث يمس أمنهم القومي، تجدهم منصرفين تماما نحو بلوغ هدفهم في السياة الاقتصادية العالمية بهدوء ومن دون اشغال أنفسهم بالدخول في “مجابهات سياسية بأدوات اعلامية ربما يرونها غير مجدية.
هناك اذاً..سباق واضح بين الصين وبين منافسيها الغربيين..تحاول خلاله الصين تسريع وتقصير الفاصل الزمني لبلوغها نقطة التتويج كقوة اقتصادية عظمى تتخطى منافسيها الاطلسيين.. فيما يحاول منافسوها الأطلسيون عرقلة هذا المسعى قبل أن تستتبعه الصين بتعزيز وتعظيم قوتها العسكرية.
وللصين أيضا نصيب!
عن التيار الوطني الديمقراطي
مثَّل التيار الوطني الديمقراطي في البحرين بارثه النضالي والفكري والثقافي تجربة ثرية، استلهمت الأفكار والتجارب الإنسانية في سبيل بناء مجتمع تعددي منفتح على مختلف الثقافات والتراث الإنساني، وانطلق هذا التيار في نضالاته وادوار مكوناته المختلفة من مفاهيم وقيم العدالة الاجتماعية والمساواة وبناء دولة المؤسسات والقانون العصرية التي يحميها دستور ديمقراطي وتتعزز فيها الشراكة الحقيقية في صياغة القرار الوطني وتقاسم الثروات، وقدم في سبيل ذلك تضحيات جسيمة.
وكانت تنظيمات الحركة الوطنية ومؤسسات المجتمع المدني والنقابات العمالية والجمعيات المهنية، وطيف واسع من الشخصيات الوطنية المستقلة في القلب من الحراك الشعبي والوطني على مدار عقود، والى هذا التحرك يعود فضل كبير في تشكل صورة البحرين الحديثة، المنفتحة على كافة المكونات والشرائح والانتماءات الوطنية والتي يتطلع أبناؤها وبناتها ويعملون في سبيل نُصرة قيم العدالة والمساواة ومحاربة الظلم وإعلاء قيم التسامح ورفض الطائفية بكل أشكالها، ومكافحة الفساد وحماية الأموال والممتلكات العامة ومقدرات الوطن، وصيانة حق الأجيال المتعاقبة في حياة حرة وكريمة.
وأولى هذا التيارأهمية كبرى لقضية إنصاف المرأة وتعزيز دورها في بناء المجتمع، وترسيخ قيم المواطنة بعيدا عن أي غبن اجتماعي أو سياسي، ونشر التنوير الفكري والثقافي وتعزيز حضور الأدب والثقافة والفن في الحياة العامة ضمن أفق إنساني رحب انعكس تلقائيا على مختلف مناحي الحياة وانماط السلوك. وظلَّ التيار الوطني أمينا لمبادئه وقيمه تلك في أعتى ظروف القهر الاجتماعي والسياسي خلال عقود طويلة، منذ سنوات النضال ضد الاستعمار والقمع السياسي ومصادرة الحريات والكرامة الإنسانية، واستمر في التمسك بهذه المطالب في الظروف المستجدة، حيث طالب وعمل من أجل تحقيق إصلاحات سياسية ودستورية وتشريعية عميقة. وكانت من أولويات هذا التيار بناء دولة مدنية ديمقراطية عصرية، تنتمي لمحيطها العربي وتنفتح على مفاهيم العصر والحداثة وتنخرط في ركب التقدم الإنساني والحضاري، وتتعزز فيها السيادة الوطنية، ورفض كافة أشكال التدخل الخارجي وتحترم فيها كافة الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية للجميع رجالا ونساءً على أسس المساواة الكاملة والمواطنة غير المنقوصة وتعزيز الحريات العامة، خاصة حرية التعبير وتعزيزثقافة حقوق الإنسان.
وفي برامج التغيير السياسية والاجتماعي التي يتبناها هذا التيار، فانه يمتلك قاعدة موضوعية ظاهرة وكامنة من المريدين والأصدقاء الذين يتطلعون لأن يكون له الصوت المسموع والحضور القوي في معادلة التحول السياسي والاجتماعي المستقبلية في البحرين إزاء القوى المجتمعية والسياسية الأخرى. ولكن كل ذلك مرهون بقدرة هذا التيار على تشخيص أزمته الراهنة، وهي أزمة لها عوامل موضوعية وذاتية مختلفة، وتتجلى في أكثر من جانب، منها الفكري والتنظيمي ومفهوم التحالفات، والتشخيص العميق للمتغيرات الاجتماعية والسياسية لا في البحرين وحدها، وانما في محيطها العربي، وكذلك في اطار الحركة التقدمية والديمقراطية في العالم، وهي أمور نوقشت مراراً، بصورة أو بأخرى، في الأطر التنظيمية لهذا التيار، ولكن ذلك لم يحل دون أن تتفاقم هذه الأزمة جراء ما شهدته وتشهده البلاد من تطورات.
المخلصون من ابناء هذا التيار، داخل أطره التنظيمية وخارجها، مدعوون لنقاش جدي، مخلص وبناء، لهذا الموضوع هدفه الخروج بتصورات تسهم في رسم رؤية لمستقبله ومستقبل الوطن.
البسيط والمُعـقـد
كل ما هو منجز يبدو بسيطاً، أو هكذا يخيل إلينا، لأننا لا نتذكر حجم العمل المبذول فيه، ولا التفاصيل المعقدة الداخلة في تركيبه. الحال نفسها تصح على الأداء الماهر للرياضي أو الموسيقي أو الفنان التشكيلي، فنحن نستمتع بتفوق هؤلاء وبحسن صنيعهم، الذي أتوه بسلاسة وربما بتلقائية، تجعلنا لا نلاحظ مقدار المراس والتدريب والمعرفة الكامنة في ما يؤدون، فما يبدو لنا تلقائيا وسلساً وحتى سهلاً استغرق من هؤلاء وقتاً وجهداً ومراساً وخبرة وتدريباً.
يُحكى أن رجلاً وجد نفسه ذات مرة وهو مسافر في القطار في مقصورة واحدة مع الفنان العالمي الشهير بابلو بيكاسو، وما أن تيقن الرجل من أن رفيقه في الرحلة هو بيكاسو حتى قرر انتهاز هذه الفرصة الذهبية التي لن تتكرر فطلب منه أن يرسم له «بورتريه». ويبدو أن بيكاسو لم يناقش طويلاً في الأمر، وشرع في تنفيذ الطلب، وما هي إلا دقائق حتى دفع له بورقة عليها «بورتريه» الرجل بريشته. حدق الرجل في الرسم سعيداً بما يرى، ثم سأل بيكاسو بامتنان: كم تريدني أن أدفع مقابل ما فعلت؟ أجاب الفنان على الفور: عشرة آلاف دولار. دُهش الرجل وقال متلعثماً: كل هذا المبلغ لقاء خمس دقائق من العمل، فرد عليه بيكاسو: نعم خمس دقائق ولكن ضف إليها عقوداً من الخبرة.
حين يستعصي علينا فهم قصيدة أو لوحة فنية نُسارع إلى القول إنها مُعقدة وغامضة، دون أن نتبصر في حال آخرين يجدون متعة في تذوق القصائد أو اللوحات نفسها، لأن مخزونهم من الثقافة، وحواسهم المُدربة على التذوق تجعل متعتهم أكبر بما يشاهدون أو يقرأون أو يسمعون. لعل هذا يُفسر لنا أن أعمالاً وروائع فنية لم تحظَ بالقبول في زمنها، عرفت في ما بعد رواجاً واقبالاً عليها، لأن مستوى التطور الذي بلغه الناس، ثقافةً ووعياً وذائقةً، جعل من العصي على الفهم مفهوماً، ومن المعقد بسيطاً.
ولو تأملنا في حال أطفالنا مع لعبهم الحديثة، لوجدنا ما يُدهش. إن طفلاً لم يتجاوز الخامسة من العمر قادر على فك وتركيب لُعب على درجة من التعقيد، بحكم المران والتكرار، الأمر الذي نبدو نحن الكبار عاجزين عن إتيانه. فأطفال اليوم، كما لاحظ أحد الكتاب المغاربة، «يتعاملون بلعب من الكيمياء والفيزياء، بالموجات والاهتزازات، بالضوء والصورة»، أي مع الأمور المعقدة ولكن ببساطة نحسدهم عليها، نحن من لعبنا في طفولتنا بالطين.
كل بسيط، إذاً، هو معقد، من حيث إنه ينطوي على مجموعة من التفاصيل البسيطة، فكل مجموعة من هذه التفاصيل تشكل في النهاية منظومة أو ظاهرة مُعقدة، لكنها ليست مُغلقة أو عصية على الإدراك، في ظروف وملابسات قابلة للتوفر. على الورق، وفي التنظير، تبدو كل الأمور بسيطة وقابلة للحل، لكنها في الواقع ليست كذلك أبداً، فالواقع أغنى من كل النظريات والتأويلات، فهل نفاجأ إذا ما أصاب الإخفاق الكثير من المشاريع الطموحة، لأن أصحابها لم يولِوا من العناية ما هو كاف لرؤية التضاريس والنتوءات الموجودة في الحياة، لكنها لا تظهر على الورق.
20 يونيو 2012
المستفيدون من الأزمات
دائماً ما تخلق الأزمات السياسية والاقتصادية طبقةً استغلاليةً نفعيةً تجد من الظروف الاستثنائية خلال الأزمات جوّاً مناسباً لنموها وتحقيق مصالحها الخاصة على حساب الآخرين.
فمثلاً في الأزمات الاقتصادية، تبرز ظاهرة السوق السوداء واحتكار السلع والمواد الغذائية المطلوبة، ليتم بيعها في الخفاء بأسعارٍ تتجاوز قيمتها الحقيقية بعشرات الأضعاف، لتصب في نهاية المطاف في جيوب فئةٍ قليلةٍ من التجار الذين نامت ضمائرهم واستحلوا الكسب على حساب قوت الناس.
وهكذا الحال في الأزمات السياسية الكبرى، عندما تكون الضمائر لدى البعض سلعةً معروضةً للبيع والشراء، كلٌّ حسب سعره.
لا نحتاج لكثير من الذكاء لنعرف من عرض نفسه للبيع ومن باعها بالفعل، وكم كان السعر؛ ففي زمنٍ كزماننا هذا، لا شيء يظل في الخفاء، فالكثير من المستندات تم تسريبها ووصلت للجميع، ومن بين هذه المستندات إيصالات تم بموجبها شراء سيارات فخمة، ومناقصات بعشرات الآلاف من الدنانير أسندت للبعض، بخلاف العطايا لكل كذبةٍ وكل شتيمةٍ يتم إطلاقها.
منذ أكثر من عام وثلاثة أشهر ونحن نقرأ الشتائم يومياً، ولا شيء آخر؛ يتبارى البعض ويتفنّن في إطلاق النعوت والأوصاف والتهم والتخوين، والنفخ في نار الطائفية، والتحريض على الانتقام، حتى استطاعوا خلال هذه الفترة من أن يجعلوا من أبناء الوطن أعداءً.
كلما بدت بوادر لحل الأزمة، ازدادت جرعة الكراهية لديهم وكمية الأحقاد التي يبثونها. وكلما ظهرت أصوات وطنية تعمل على لم شتات الوطن، ارتفعت لهجة التخوين. وكلما صدرت أحكام مخففة بحق المعارضين، اتُّهمت الدولة بالرضوخ.
لم نسمع يوماً من مثل هذه الأصوات ما يوحّد الناس أو يدعو لتأليف القلوب وتوحيد الصفوف. لم نقرأ لهم يوماً رأياً يقترحونه للخروج من الأزمة. لم نسمع منهم يوماً ما يوحي بأن لديهم ضميراً حياً صادقاً مع نفسه قبل أن يكون صادقاً مع الآخرين. ولن نتحدث عن المبادئ، وحقوق الإنسان، وقيم الحق والعدل والمساواة والمواطنة، فمثل هذه العناوين لا يمكن أن تدخل في قواميس مصطلحاتهم.
كل ما يقومون به هو الرفض لكل ما يُصلح أحوال الناس وحياتهم، وتحريض الناس على أية مبادرة للمصالحة الوطنية. كل همهم أن تبقى الأزمة قائمةً، فإنهم باقون ما دامت هناك أزمة.
من الذي باع الوطن بأبخس ثمن وخان أهله وفرّط بوحدته وانسجامه؟ من الذي زرع الخوف والحقد بين الناس؟ من الذي مازال يؤجج نار الطائفية؟
صحيفة الوسط البحرينية – 19 يونيو 2012م
الثورة المغدورة في مصر
من حيث أرادوا أو لم يريدوا يتحمل الأخوان المسلمون في مصر مسؤولية أساسية في قطع مسار الثورة المصرية حين أظهروا شهوة طاغية في السلطة، ورغبة أنانية في الاستئثار بالمواقع الأساسية في المجتمع، لذا نكثوا، مراراً، بما كانوا قطعوه من عهود أمام القوى السياسية والمجتمعية الأخرى وأمام شباب الثورة: أولاً بألا يترشحوا للانتخابات التشريعية بأكثر من ثلث عدد أعضاء مجلس الشعب، وألا يترشحوا لرئاسة الجمهورية، كما لم يترددوا في الهيمنة المطلقة على الهيئة المناط بها كتابة الدستور الجديد، وأصروا على تهميش القوى الأخرى.
لقد بعثوا بهذا السلوك رسائل سلبية لكافة الجهات: لليبراليين والناصريين وكل قوى المعسكر الوطني المناهض للاستبداد، والحريص على الميراث التنويري التعددي للمجتمع المصري، وكذلك لملايين الأقباط الذين يخشون حكما متزمتاً لا يراعي حريتهم الدينية، وللشباب الذين خرجوا لميدان التحرير ولم يقدموا كل هذه التضحيات من أجل استبدال استبداد بآخر نظير له، ويمكن أن يكون أسوأ منه.
لقد أضاع الأخوان فرصة تاريخية لمصر في المقام الأول في أن تجتاز المرحلة الانتقالية نحو الأفق الديمقراطي التعددي، وفي المحصلة أضاعوا على أنفسهم فرصة أن يكونوا قوة محورية بين قوى التغيير، في إطار جبهة وطنية ديمقراطية واسعة، تنتقل بمصر، بكل ما لها من وزن سياسي وبشري وتاريخي، إلى المستقبل، مظهرين بذلك عجزهم عن الخروج على بنيتهم المغلقة، الأقرب للشمولية، ورغم انهم لمحوا أو حتى جاهروا بأنهم يرون في نموذج الاسلاميين الأتراك مثالاً لهم في ادارة الدولة والمجتمع، الا أن التجربة الوجيزة بعد ثورة 25 يناير أظهرت أنهم غير مهيئين لاستيعاب هذا النموذج.
الفترة التي مرت منذ ثورة يناير حتى اليوم فترة قصيرة، ولكن في طياتها من الدروس والعبر السياسية ما يعادل دروس عقود كاملة، فسوء تقدير الأخوان للتعقيدات المحيطة بمرحلة التحول في مصر، داخلياً وخارجياً، وما كشفوا عنه من قصر في النظر، ومن لهث وراء الغنائم السياسية لثورة لم يكونوا هم من فجرها، حتى وإن كانوا التحقوا بها، فتصرفوا كأن الثورة ثورتهم، وأن لا أحداً سواهم جديربأن يكون شريكاً لهم في رسم خريطة طريق البلد ما بعد الثورة، وإلى ذلك استخفوا بموازين القوى المعقدة في المجتمع المصري، والتي لم تلغها الثورة، حتى لو كانت قد خلقت اصطفافات جديدة، ولكن المجتمع ما زال في حالة سيرورة سياسية لم تثبت على حال بعد.
كان يمكن للأخوان لو أنهم تواضعوا وغلبوا البصيرة السياسية على الحساب المنفعي أن يكون جزءاً مما دعوناه جبهة وطنية شعبية واسعة من مختلف الأطياف الرافضة لإعادة انتاج الاستبداد في حلة جديدة، يصبح كل الحريصين على بناء مصر الديمقراطية شركاء فيها، لكنهم اختاروا الطريق الخطأ. لن نفقد الأمل في قدرة المصريين على إنقاذ ثورتهم من الغدر، لكن التجربة تعلمنا أن الحياة لاتجود بالفرص ذاتها كل شهر أو كل سنة أو حتى كل عشر سنوات، ونخشى أن تكون هذه الفرصة قد ضاعت، ولو إلى حين !.
18 يونيو 2012
ارحمونا من الإستراتيجيات
لإ يكاد يمر يوم واحد الا ونجد من يظهر لنا من وزراء ومسؤولين يبشرنا باستراتيجية وتحت عناوين مختلفة، ولا ينسى هذا الذي يبشرنا ان يذكرنا اولا وبإلحاح بان هذه الاستراتيجية منطلقة او منبثقة او مرتكزة على رؤية البحرين 2030 ، التي بات الكل يدعي وصلا بها، وقد يذكرنا ثانياً بان بيوت خبرة عالمية كلفت بصياغة هذه الاستراتيجية او تلك من دون الإفصاح عن كلفتها ولو من باب الشفافية التي هي الأخرى يدعي الكل وصلا بها. وكأننا اصبحنا في حالة نفير لاستراتيجيات شتى وكأن الاعلان عن استراتيجية صار اسهل قرار تتخذه الوزارات والمؤسسات الرسمية، ولعلها مفارقة ان نجد ان الجهات الاكثر ولعا بالاستراتيجيات والتحدث عنها وعن خطط العمل هي التي عليها من المآخذات اكثر مما لها من الحسنات او نجدها عاجزة عن تنفيذ الاستراتيجية المتصلة بكبار السن التي بشرتنا بها وزيرة التنمية الاجتماعية وقالت عنها وبالنص: انها تركز على الاعتراف بمساهمات كبار السن ومشاركتهم في عمليات صنع القرار، «كيف، الله اعلم» لا هذه الاستراتيجية ولا تلك، ولا غيرهما من الاستراتيجيات السابقة واللاحقة والمقبلة يمكن ان يجزم لنا احد جزما قاطعا وثابتا بانها أدت الغرض منها، وبأنها استطاعت ان تغادر قفص التمنيات والتطلعات وبان ما انفق عليها من وقت وجهد ومال كان في محله وانها حقا ساهمت في تقدمنا بخطوات واثقة وثابتة الى الامام.
مغرمون نحن بالاستراتيجيات .. استراتيجيات في كل شان ومجال، والذين تبنوا استراتيجيات وأعلنوا عنها وقالوا فيها وعنها الكثير سعوا الى ايهامنا بانهم يسيرون في الطريق السليم، فيما هم يثيرون جوا من التساؤلات الباعثة على الحيرة عن حقيقة جدوى هذه الاستراتيجيات، وهل نحن بحاجة حقاً لهذا الكم من الاستراتيجيات؟ وهل تخضع هذه الاستراتيجيات لأي قياس حتى لا يكون وضعها هدفا بحد ذاته بدلا عن العمل والإنجاز الفعليين.
الاستراتيجية في ابسط تعريف تعني خططا ورؤية واضحة لأهداف محددة متوسطة وبعيدة المدى، وقيل بانها تعني علم فن التخطيط والتكييف وحسن الادارة، وقيل بانها فن توزيع واستخدام الموارد ومطابقة الهدف مع الإمكانيات، وقيل بانها تعني اصول القيادة بدون عيوب وتدبيرا رفيع المستوي وفكرا تخطيطيا فاعلا، كما أشير الى انها مجموعة من الافتراضات التي تنتهجها السياسة الإنمائية في الانتقال من مرحلة التخلف الى مرحلة النمو والتطور، وأخيرا وليس آخراً قيل بان الاستراتيجية هي الفن المنطقي لاستخدام القوى لتحقيق الإرادات.
لقد وجدنا وزارات ومؤسسات وهيئات رسمية تتسابق للإعلان عن استراتيجيات شتى تعقد لأجلها المؤتمرات وتنظم لها الاحتفالات وتصدر حولها التصريحات وتطلق من خلالها الوعود، ومن لم يعلن ويلتزم باي استراتيجية وجدناه يكشف عن لجان فنية او وطنية او ما شابه أنيط بها اعداد مشروع استراتيجية ومن لم يفعل ذلك اكتفى بالإشارة وبنوع من الزهو بانه كلف بيت خبرة عالمي بوضع استراتيجية في مجال من المجالات ولا يحتاج المرء لمزيد من الجهد ليكتشف ايضا بان كماً من الاستراتيجيات ومشاريع الاستراتيجيات قفزت الى الواجهة فجأة واختفت فجأة لا حس ولا خبر من دون من يتابع او يحاسب.
الاستراتيجيات التي اعلن عنها كثيرة، وعليكم الحسبة، فهناك استراتيجية لذوى الاعاقة، واستراتيجية لتطوير المدارس الحكومية واستراتيجية لخلق بيئة عمل آمنة بلا إصابات، واستراتيجية وطنية للشباب وأخري للطفولة وثالثة للمرأة ورابعة لحقوق الانسان وخامسة للتنمية الاجتماعية، وهناك استراتيجية للنهوض بقطاع التعاونيات، واستراتيجية لزيادة الواجهات البحرية، وأخرى للصحة والسلامة المهنية.
القائمة طويلة فهي تشمل أيضاً استراتيجية للوقاية من المخدرات واستراتيجية للتنمية السياحية وأخرى للتنمية الزراعية وثالثة لنظم المعلومات الجغرافية، ولا ننسى تلك الخطة الاستراتيجية التي اعلنت عنها وزارة البلديات والتخطيط العمراني وقالت بانها مبنية على عشر استراتيجيات رئيسية اعلن بانها تشكل مخططا واحدا للبحرين يعنى بتحقيق اقتصاد متخصص ويحفظ ويدعم موارد البيئة ويحمى التراث الثقافي والأثري وتشجير البلاد والاستدامة الخ ….
كما لا نستطيع ان نتجاهل ان هناك استراتيجية للبحث العلمي واستراتيجية للتنمية الادارية واستراتيجية لتطوير القرى واستراتيجية لتعليم المواطنة وحقوق الانسان وكذلك هناك استراتيجية للتنمية المستدامة واخرى لمكافحة الفقر والحبل على الجرار.
تلك عينة للاستراتيجيات التي قفزت الى الواجهة من كل حدب وصوب واحتلت مساحات في الصحف، وكلها تضاف الى مجموعة هياكل اخرى تحت مظلة «لجان وطنية» التي لنا بشأنها حديث اخر.
ليس أمرا سيئا ان تكون لدينا استراتيجيات وخططا نعي معناها ومقتضياتها واستحقاقاتها والالتزامات المترتبة عنها، وعندما تكون هذه الاستراتيجيات لها مردود وخطى للنهوض بالمجتمع وبقطاعاته المختلفة، وعندما تكون مبرمجة ومحددة بأفق زمني وخاضعة للقياس والمتابعة والمحاسبة عن التقصير والإخفاق في تحقيق الاهداف، ولكن السيء في الامر حين تكون هذه الاستراتيجيات مجرد بهرجة إعلامية واحتفالية خالية من المضمون ومنزوعة الدسم، وعندما تفتقر الى الرؤية الواضحة والالتزامات المحددة والمدى الزمني للتنفيذ، وتكون اقرب الى الشعارات العامة الفضفاضة البعيدة عن اي «ميكانيزم» ولا تؤدي الى خطوة فاعلة ملموسة في مسار الحياة العامة. بل تكون عبئا على الميزانية العامة وعلى الدولة والمجتمع والناس. يا ترى كم من استراتيجيات أنجزنا؟ وهل كل الاستراتيجيات التي اعلن عنها طبقت بالكامل وحققت النتائج المستهدفة؟ وكم من الاستراتيجيات اجهضت فكرتها وافرغت من مضمونها لأسباب شتى، ثم من هي الجهة التي تفصل في نجاح او فشل هذه الاستراتيجية او تلك؟ وما هو المردود والعائد الحقيقي من وراء هذه الاستراتيجيات وهل من رصد وسجل وتابع ووثق بموضوعية ومسؤولية وبمعايير معتمدة نجاح هذه الاستراتيجية او تلك؟ وهل حققت اهدافها وحدد اوجه الفشل والاخفاق؟، وهل المصروف من وقت وجهد ومال عام يتناسب مع مخرجات هذه الاستراتيجيات؟ وهل تترك كل وزارة ومؤسسة رسمية تتبنى متى شاءت وكيفما شاءت من استراتيجيات بعيدا عن اي تقييم او قياس او متابعة؟ وهل هذه الجهات امتلكت كامل الكفاءة والمقدرة والإمكانية والنزاهة والمقومات التي تجعلها تدير الاستراتيجيات بمنتهى المسؤولية والفاعلية.
من حقنا ان نطرح تلك التساؤلات ومن حقنا ان نحصل على الإجابات الوافية التي تشفى الغليل، ومن حقنا ان ندعو الى عدم جعل الاستراتيجيات بديلا عن العمل والإنجاز، ومن حقنا أخيرا ان ندعو المولعين بالاستراتيجيات ان يتوقفوا ويمعنوا في واقع الحال الراهن وما يزخر به من هواجس واحتقانات وخلافات وكيديات وخصومات تختبئ خلفها الفتن بكل انواعها لعلهم يدركون مدى حاجتنا اليوم الى خطوة فاعلة ومؤثرة، سموها ما شئتم من تسميات استراتيجية او رؤية او خطة او برنامج، المهم والأهم والاجدى ان تكون خطوة توقف هذا العبث الراهن الذى جعلنا آيلين للسقوط في المزيد من فخاخ الفرقة والانقسام والرعايات الطائفية التي يدعي انتهازيون كثيرون من كل جانب الى علاجها والتصدي لها ولكن بالمزيد منها فليتكرم المولعون بالاستراتيجيات ويسجلوا في جدول اعمالهم شيئا بهذا المعنى.
18 يونيو 2012
إكراه مخملي الملمس
منذ سنوات التقيت، مرة، في لندن سيدة بريطانية تقدم بها العمر، وُلدت وعاشت طفولتها وصباها في الهند، لأن والدها كان ضابطاً في الجيش البريطاني هناك فترة السيطرة البريطانية على الهند، وأذكر أن السيدة التي يسكنها حنين مفرط إلى الهند، وذكرياتها الدافئة هناك، كانت تتكلم عن الهند كما لو كانت أرضاً بريطانية، وأنها كانت ويجب أن تظل كذلك.
تذكرت هذه السيدة حين قرأت ما رواه إدوارد سعيد مرة عن أن طالبة دكتوراه لديه، هندية الأصل، نبهته إلى قضية مهمة، حين لاحظت في أطروحتها الموسومة: «أقنعة الغزو» أن تاريخ الأدب الانجليزي ابتدأ تدريسه في الجامعات الهندية يوم كانت الهند تحت الاحتلال البريطاني، وليس في الجامعات البريطانية ذاتها، حيث يُفترض. فالمنطقي أن يتوجه الإنجليز نحو تعليم أبنائهم وبناتهم تاريخ أدبهم، ولكنهم لم يفعلوا ذلك في البداية، وإنما اختاروا أن يقوموا بذلك في جامعات الهند، قبل أن يجري تعميم الأمر في الجامعات البريطانية. استدل سعيد بهذه الحكاية لتعزيز أطروحته الأساسية في كتابه الشهير: «الثقافة والإمبريالية»، المبنية على أن الإمبراطوريات الاستعمارية الحديثة: البريطانية والفرنسية وفي وقت لاحق الأمريكية، اعتمدت على إعادة تشكيل أذهان شعوب المستعمرات بقبول الاستعمار بصفته ناقلاً حضارياً لها من التخلف إلى التقدم، من الهمجية إلى الحضارة.
ما كان يغيظ إدوارد سعيد في الدراسات التي اهتمت بكتابة تاريخ الاستعمار الحديث هو اهتمامها المسرف بدراسة التاريخ العسكري لهذا الاستعمار بصفته غزوات في نتيجته أوقع المستعمرون بلدانا بعيدة وشاسعة تحت سيطرتهم، وإغفال البعد الثقافي في الهيمنة على هذه الشعوب. لا يغفل سعيد أهمية القوة الغاشمة في إخضاع الشعوب وإكراهها وقمع مقاومتها، ولكنه ينبه إلى أن القوة وحدها لم تكن الأداة أو الأسلوب الوحيد الذي اعتمده المستعمرون لتحقيق مآربهم في بسط نفوذهم. فهو يحثنا مثلاً على ملاحظة أن الهند التي ظلت تحت الحماية البريطانية نحو ثلاثة قرون متواصلة، والتي كانت بالنسبة للإنجليز عن حق درة التاج الملكي، فإن قوة الجيش البريطاني كانت عند الحد الأدنى في أغلب الحالات خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مساحة الأراضي التي كان الاستعمار يديرها ويحتلها. لفهم آليات الهيمنة في عالم اليوم، يجب أن نوجه النظر نحو البعد الثقافي، الذي هو في الجوهر قوة إكراه، لكنها مخملية الملمس.
17 يونيو 2012
« ما وراء الطريق المسدود »
هذا العنوان لتقرير (أكثر من 30 صفحة) صدر قبل يومين عن البحرين، والجهة التي أصدرته «تشاتام هاوس»، المؤسسة البحثية القريبة من وزارة الخارجية البريطانية. التقرير كتبته الباحثة الاستراتيجية «جين كينينمونت»، وهي متخصصة في الشرق الأوسط ودول الخليج، واستعرضت من خلال هذا التقرير التطورات التي أوصلتنا إلى «طريق مسدود»، ومن ثم تطرح ثلاثة سيناريوهات محتملة، تنتظر مستقبل البحرين الغامض «ما وراء الطريق المسدود».
السيناريو الأول الذي تتطرق له الباحثة يتمثل في استمرار الوضع البحريني الراهن، وهذا من شأنه أن يتصاعد تدريجياً، وقد تزداد حالات العنف عن المستوى المنخفض حالياً وذلك مع ازدياد «طأفنة» الوضع السياسي، مشيرة إلى أن غياب الإصلاحات والمساءلة سيعني مزيداً من الاستقطاب المستمر بين الفئات المختلفة للمجتمع، وهذا سيحدث المزيد من الثغرات الأمنية على المدى الطويل في بلد مهم من الناحية الاستراتيجية.
السيناريو الثاني يتمثل في انزلاق الوضع إلى صراع طائفي يرتبط بأجواء من الحرب الباردة على المستوى الإقليمي، وفي هذه الحال – بحسب الباحثة – فإن القرار لا يعود بحرينياً صرفاً، كما أن هوية البحرين الوطنية قد تتعرض لشروخ عميقة، وهذا سيفسح المجال إلى مزيد من التطرف (من مختلف الأطراف)، وربما يتحول السخط إلى رغبة في الانتقام «على الهوية» بأبعاد إقليمية خارجة عن الإرادة المحلية. وأشارت الباحثة إلى أن استمرار الوضع في السيناريو الأول قد يفسح المجال للسيناريو الثاني.
أمّا السيناريو الثالث الذي تتعرض له الباحثة فهو «الخروج من الأزمة عن طريق التفاوض والحوار»، وتطرح وجهة نظر تقول بأن هناك اعتقاداً بأن القضايا السياسية في البحرين مازالت قابلة للحل ضمن إطار «الملكية الدستورية»، ولاسيما أن البحرين واحدة من أقدم الدول التي تأسست على النمط الحديث في المنطقة، ولها تاريخ طويل في التنوع الديني والعرقي والسياسي، وأن هذا السيناريو الثالث يحتاج إلى الإرادة السياسية للاعتراف بأن استمرار الوضع الراهن لا يساعد على تحقيق الاستقرار للبلد أو الأمن على المدى البعيد.
التقرير يتحدث في فصله الأخير عن أفكار وخطوط عريضة لتحريك السيناريو الثالث (الحل السياسي عبر التفاوض والحوار) والذي يواجه صعوبات بسبب المواقف المتصلبة التي يتسم بها اللاعبون السياسيون الرئيسيون. الباحثة تقول إن هناك حاجة إلى تحول ملحوظ لإدراك جميع الفئات بأهمية السير نحو المصالح المشتركة، والبناء على أرضية مشتركة، بدلاً من اتخاذ إجراءات من شأنها دفع الجهات الفاعلة نحو التطرف. التقرير يستحق القراءة والتمعُّن، وذلك لأهميته، وأيضاً لتأثير مؤسسة «تشاتام هاوس» على السياسة الخارجية البريطانية.
صحيفة الوسط البحرينية – 16 يونيو 2012م
«المنبر التقدمي» وإشكالية التنظير
إن موضوع عودة المنبر الديمقراطي التقدمي إلى مظلة التحالف السداسي أو البقاء على مسافة قريبة منه – على رغم أن ذلك يعتبر لدى البعض أهم خطوة يجب على المنبر اتخاذها بعد انتخاب اللجنة المركزية والأمين العام – ليس هو ما يحدّد هوية المنبر النضالية أو إن كان تنظيماً معارضاً أم محسوباً على السلطة، فلطالما اتخذ المنبر مواقف مخالفة، ومع ذلك ظل فصيلاً أصيلاً من مكونات القوى المعارضة البحرينية.
بالطبع تم تخوين المنبر على مدى تاريخه لأكثر من مرة، ولكن في أكثر المواقف يثبت المنبر وبعد مرور الزمن أن قراءته للمعطيات السياسية كانت هي الأقرب للصحة، وأن مواقفه كانت تتعامل مع الظروف بواقعية سياسية.
قبل تشكيل المنبر التقدمي دخلت جبهة التحرير الوطني البحرانية في أول مجلس وطني بعد الاستقلال والذي تم تشكيله في العام 1973 في حين قاطعت هذا المجلس القوى الوطنية الأخرى في ذلك الوقت.
كما حدث ذلك بعد عودة الحياة النيابية في البحرين العام 2002 بعد أكثر من 28 عاماً من قانون أمن الدولة، إذ قرر المنبر التقدمي الدخول في المعترك الانتخابي بخلاف القوى المعارضة ليفوز بثلاثة مقاعد نيابية كان لها الحضور الأكبر في عمل مجلس النواب في دورته الأولى، ومرة أخرى يتم تخوين المنبر، على رغم أن جميع الجمعيات السياسية المعارضة اتخذت موقفاً مغايراً وقررت المشاركة في انتخابات العام 2006 على رغم أن الأوضاع السياسية ظلت كما هي ولم تتم الاستجابة لأي من مطالب المعارضة بالتغييرات الدستورية التي دعت إليها.
ومع ذلك وعلى رغم ما وصم به المنبر التقدمي من انتهازية سياسية من قبل البعض، ظلّ محافظاً على موقفه الثابت من الانحياز للشعب وأثبت في نهاية المطاف أن قراءته السياسية للواقع البحريني هي الأقرب للصواب.
ما حدث من تطورات خلال العام الماضي وما أفرزته هذه التطورات من تشظي المجتمع البحريني إلى عدة شظايا، من الخطأ من وجهة نظري حصرها في فرقتين أو ثلاث فرق على أبعد تقدير، هي المعارضة، والسلطة، الموالاة، فحتى وإن كانت الشظايا الأخرى من الصغر بحيث لا يمكن ملاحظتها في الوقت الراهن، ولكن من المؤكد أنها ستعلن عن نفسها بشكل أكبر في القريب العاجل، فلا المعارضة مشكّلةٌ من جسد واحد، ولا الموالاة متفقةٌ تماماً فيما بينها، ولا تقتصر الحكومة على الصقور فقط، وإن بدت كذلك في هذه المرحلة.
إن ما نعجز عن رؤيته الآن بسبب الضغوط الواقعة على الجميع، كوننا في مركز الحدث والمؤثرين فيه، سيبدو لنا واضحاً حينما نبتعد عن المشهد اليومي، فلا حل إلا الحوار، وعندها يجب على الجميع أن يقدم تنازلات موجعة، الهدف منها الحفاظ على الوطن وأبنائه.
أعتقد أن هذه الصورة بدأت تظهر في المنبر التقدمي قبل غيره من التنظيمات السياسية كونه الأكثر تنوعاً من حيث أعضائه والأبعد عن الحدث اليومي، وما يراه من أن الاقتتال الطائفي بين مكونات الشعب البحريني يظل الأكثر خطورةً على مستقبل الوطن.
لقد لمس المنبر قبل الجميع ما ارتكبه من أخطاء خلال فترة الأزمة، واعترف بها بشجاعةٍ، ولكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال تحميل المنبر لوحده تبعية هذه الأخطاء، كما أن ذلك لا يبرّر تطرف بعض أعضاء المنبر في اتجاه معاكس تماماً لمبادئه، وذلك غير مقبول على الإطلاق من أغلبية أعضاء المنبر، بحيث يحيّد نفسه عن الشارع ويلغي جميع تاريخه النضالي وينسى ما قدّمه البحرينيون من تضحيات في سبيل جملة واحدة في دستور مملكة البحرين وهي أن «الشعب مصدر السلطات جميعاً» مهما كانت هوية هذا الشعب، علمانياً، أم متديناً.
صحيفة الوسط البحرينية – 15 يونيو 2012م
متى سيحين الدور على روسيا ؟
باستثناء بعض غبار الشك الذي حاول بعض المراقبين الأوروبيين للانتخابات الرئاسية الروسية التي جرت يوم الأحد الموافق للرابع من مارس الماضي، اثارته، فانه يمكن القول ان الانتخابات مرت بهدوء من دون أن تعكر صفوها أية حوادث ذات بال، وفاز فيها من الجولة الأولى، كما أراد حزب روسيا الموحدة، فلاديمير بوتين بنسبة صريحة من أصوات الناخبين بلغت 63.60%. وبذا سوف يعود رجل روسيا القوي في الألفية الثالثة الى سدة الحكم من جديد تماما كما خطط لذلك من دون أن يضطر للتدخل والعبث بمواد دستور البلاد كما حدث ويحدث لدينا في المنطقة العربية حيث يجري التعامل مع الدستور (أبو القوانين) من قبل السلطات الحاكمة بخفة تحسد عليها.
وهذا يعني ان الغرب سوف يضطر من جديد للتعامل على مدى 6 سنوات ، هي الفترة الرئاسية المقررة في الدستور الروسي (قابلة للتجديد لمرة واحدة)، مع رئيس روسي يتميز بشخصية متشككة في نوايا الغرب الأوروبي والأمريكي تجاه بلاده وتجاه مصالحها الاقليمية والعالمية.
قد يكون فلاديمير بوتين أعاد هيكلة وبناء الدولة المركزية القوية على النمط الامبراطوري الروسي لما قبل ثورة اكتوبر الاشتراكية لعام 1971 والنمط السوفييتي الذي استمر منذ ذلك التاريخ زهاء 72 سنة، ولكنه أيضا وبمساعدة الظروف الاقتصادية العالمية المواتية، خصوصا أسعار النفط والغاز التي حلقت ابان ولايتيه الرئاسيتين السابقتين على ارتفاعات شاهقة، تمكن من اعادة “تثوير” الاقتصاد وخلق طبقة وسطى واسعة كانت السند والسبب وراء ازدهار شعبية الرجل وحزبه الحاكم. وهو ما أدركه الرئيس الامريكي باراك أوباما الذي سارع لتهنئة الرئيس بوتين بالفوز اعترافا بتلك الشعبية التي يتمتع بها والتي سيتعين أكثر على الأوروبيين التسليم بحقيقتها والتعامل مع زعيم روسيا القوي كأمر واقع حتى ولو لم يعجبهم ولم تعجبهم سياسته الداخلية خصوصا المتعلق منها بالطاقة والنفاذ الى سوقها الداخلي وسياسته الخارجية التي يعتبرها الغرب عائقا أمام حرية تصرفه في الشئون الدولية كيفما يشاء.
ولكنهم، أي الأوروبيين، قطعا لن يستطيعوا تحمل هذا خصوصا بعد أن غدت روسيا بفضل غزارة خاماتها واحتياطياتها الضخمة من النفط والغاز وفوائضها المالية، احدى الدول الرئيسية المنافسة للولايات المتحدة وأوروبا فيما يخص النفاذ الى الأسواق العالمية وذلك الى جانب كل من الصين والهند والبرازيل التي أنشأت في يونيه 2009 تحالف اقتصادي سياسي عالمي أسموه بريك (BRIC – وهي الحروف الأولى من أسماء الدول الأربع الأعضاء فيه: البرازيل وروسيا والهند والصين قبل أن تنضم اليهم جنوب افريقيا في ابريل من العام الماضي 2011).
وغنيٌ عن القول ان اليابان وكوريا الجنوبية تشكلان بدورهما تحدي تنافسي لا يقل عن التحدي الذي تشكله روسيا والصين، ولكن اليابان وكوريا الجنوبية هما حليفتان استراتيجيتان – ولو اكراها – للولايات المتحدة، حيث لازالت فرق من أفرع القوات المسلحة الامريكية تشغل جزءأ من أراضي هاتين الدولتين، وبالتالي فان مواقفهما في الشئون الدولية وتصويتهما على القرارات التي يدفع بها الغرب في الامم المتحدة وبقية المنظمات الدولية، مضمونة. أما روسيا، وكذلك الصين، فهما دولتان تنهجان ما يوافق مصالحهما أولا، الأمر الذي يضعهما في غالب الأحيان في تضاد مع الولايات المتحدة وحليفاتها الاوروربيات الغربيات.
وهذا ما يدعونا للاعتقاد ان روسيا فلاديمير بوتين قد حلت محل الاتحاد السوفييتي المنهار “كهدف كبير” على الاجندة التي سوف يسعى التحالف الامريكي الاوروبي الغربي لاسقاطها. بل يبدو ان عجلة هذه “العملية الخاصة” قد وُضعت على السكة فعلا. فبخلاف تصريح جون ماكين، الصقر الجمهوري الذي نافس الرئيس أوباما على منصب الرئاسة في الانتخابات الأخيرة، والتي كان أدلى بها في بنغازي في ذروة نشوة نجاح حلف شمال الاطلسي في التخلص من نظام القذافي، وقال فيها ان الدور سيأتي على روسيا والصين (ولم ينس سوريا بطبيعة الحال) – بخلاف ذلك هناك استمرار لغة الحرب الباردة المتسمة بالكيدية الفاقعة في الميديا الأوروبية والأمريكية المحرضة والمسلطة الأضواء بصورة شبه يومية على الجوانب السلبية في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الروسية. وهناك العمليات السرية الجاسوسية وغير الجاسوسية التي تتخذ أشكالا مختلفة، حيث كُشف النقاب مؤخرا عن نجاح المخابرات الروسية في احباط أكثر من سبعين عملية تجسس داخل روسيا قامت بها في العام الماضي أجهزة مخابرات أجنبية هي في معظمها غربية. وهناك اللعب على ورقة الحساسيات القومية للدولة الفدرالية الروسية، بما يشمل ذلك تقديم الدعم السري للجماعات الارهابية في الشيشان وداغستان وأنغوشيا بهدف زعزعة استقرار الدولة والهائها عن أداء مهامها التنموية وممارسة دورها الكامل والفاعل في الشئون الدولية.
الآن.. هل هذا يعني ان لدى حلف شمال الأطلسي هدف تحوَّل أو قابل أو جاهز للتحول الى خطة تتوفر لها الموارد المالية والبشرية والفواصل الزمنية (اذا ما كانت الخطة ستُنفذ على مراحل) لاعادة اضعاف روسيا وادخالها في الفوضى في تكرار لسيناريو انهيار الدولة والنظام السوفيتيين، بما يفضي الى التخلص من منافس عنيد وقدير ويُمَكِّن من سهولة الاستحواذ على أنصبة معيارية من خيراتها الهيدروكربونية والمعدنية الوفيرة؟
لا أحد بالتأكيد يعلم عن الأجندات السرية للدول وعن مخططاتها الاستراتيجية اللهم ربما بعض المعلومات غير المكتملة وغير الموثوقة المتوفرة لدى الأجهزة الأمنية المعنية بحماية الأمن القومي. انما الأكيد ان اضعاف روسيا وان اقتضى الأمر تشجيع انقساماتها القومية (ماديا وسياسيا واعلاميا في اللحظة التاريخية المناسبة)، هو هدف قائم وقادم أيضا، وذلك برسم التيقن الروسي من أن من غير المتصور أن يكون الاندفاع المحموم لواشنطن وحلفائها الأوروبيين لمحاولة تغيير الخريطة الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط، مقطوع الصلة عن “الجوائز” الأكبر في الاقليم الأوروآسيوي وتحديدا روسيا وكذلك الصين التي صارت تعدها “خزانات الأفكار” (Think Tanks) الامريكية الشهيرة بصوة متزايدة كأكبر تحدي معادي للولايات المتحدة. ولعل الردود القوية والمحسوبة التي اتخذتها الدولتان مؤخرا في شأن عدد من القضايا لخلافية الدولية مع المعسكر الغربي، تشي بأن قيادة الدولتين تدركان الأهداف النهائية للسيناريوهات التي يجربها الأمريكيون والأوروبيون لاحداث تغيير جيوسياسي شرق أوسطي نوعي مُتوافق مع مصالحهم.
وبما ان الراجح أن يتوجه الاستهداف صوب الهدف “الأسهل” فان روسيا قياسا للصين، هي المحطة الأكثر ترشيحا لهذا الاستهداف. انما السؤال الذي يطرح نفسه هاهنا: وهل روسيا رخوة الى الحد الذي يغري المتربصين لأن يطمعوا في “مشهياتها”؟.. واذا كانت رخوة بالفعل فالى أي حد هي كذلك؟.. وهل هي قابلة، ترتيبا، للاختراق والكسر؟
هذه بالتأكيد قضية أخرى تحتاج الى بحث وتحري دقيق مُدَعّم بالقرائن المساندة.