حسب إحصائية لليونسكو تعود إلى سنوات قليلة خلت، فإن نسبة من يستفيدون من الاحتمالات الكاملة لشبكة الإنترنت على المستوى العالمي لا تزيد على 2%. إن بدت لكم هذه النسبة للوهلة الأولى متواضعة جداً، فتريثوا في قراءة العبارة أعلاه التي تتحدث عن الاستفادة الكاملة من خدمات هذه الشبكة، وليس الاستفادة الجزئية، وهي استفادة متفاوتة النسب والمستويات، تبعاً لتفاوت مهارات من يتعاطون مع تقنيات عالمي الكمبيوتر والإنترنت.
لدى الناس أمور كثيرة أخرى في حياتهم أفضل من مجرد الجلوس أمام شاشات الكمبيوتر، ورغم وجود مُدمنين كثر على ذلك، فإن عدداً كبيراً من الناس يكتفون باستخدام التكنولوجيا الجديدة وسيلة لتوفير جهد العمل أو كمصدرٍ للترفيه، وحتى الآن فإن شعبية ألعاب الكمبيوتر وتحميل المواد من على الإنترنت لم تؤد إلا إلى هبوط هامشي في مشاهدة التلفزيون، كما ان مبيعات الكتب لم تتأثر بصورة ملموسة، ومازالت دور السينما والمسرح والحفلات الموسيقية تستقطب أعداداً كبيرة من المشاهدين. ورغم أن كثيراً من الكتب موجودة على الشبكة العنكبوتية كما تسمى، لكن صعوبات تقنية مثل مستوى وضوح الرؤية في شاشة الكمبيوتر وبطء تحميل البرامج أو المعلومات وتكلفة طباعتها من الكمبيوتر، تعني أن الكثيرين مازالوا يُفضلون شراء الكتب في صورتها التقليدية، أي الكتاب الذي نعرفه جميعاً، كما إن متعة التفرج على الكتب وتصفحها في المكتبات ومعارض الكتب تظل من المتع الرئيسة، كما كانت خلال القرون الماضية منذ أن ظهرت المطابع.
هذا القول لا يرسم صورة نهائية لصيغة العلاقة بين المتلقي والتكنولوجيا الحديثة، ذلك بأن التحول الاجتماعي يتأخر دائماً عن الإمكانات التكنولوجية، والناس لا يقبلون على استخدام التكنولوجيا إلا عندما تصبح مناسبة لهم، ويسقط الحاجز النسي بينهم وبينها، ولا أحد يستطيع أن «يتنبأ» كيف ستكون عليه الأحوال في المستقبل، حيث تختفي الأجيال الكبيرة، وتصبح الأرض مُلكاً لأجيال أخرى تشربت التقنيات الجديدة منذ الصغر. في كل الأحوال، فإن وضع اليوم يبدو إلى حدود بعيدة وضعاً مركباً أو توليفياً بين عادات قوية راسخة موروثة لا يمكن إزالتها بقرار أو برغبة، وبين عادات جديدة توفرها التقنية تشق طريقها قُدماً للأمام، ومن عادة التوليف أن يُنشئ وضعاً مزيجاً، لا هو بالجديد تماماً، ولا هو بالقديم تماماً، هو نفسه الوضع الذي نحياه اليوم، ولا نعلم إلى متى سيستمر.
22 مايو 2012
أمام شاشة الكمبيوتر
منتدى رواد الأعمال
منتدى مستقبل رواد الاعمال بدول مجلس التعاون الخليجي الذي تستضيفه البحرين يومي 30-31 مايو الجاري، هو اول منتدى اقليمي من نوعه، اهم ما يمكن ان يكون مرجوا منه هو الخروج برؤية او توجه او خطة- سموها ما شئتم- المهم هو ان يتبلور عمل خليجي مشترك قائم على الجدية والدراسة والتخطيط وادراك للبعد الاقتصادي والتنموي والاجتماعي للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
دول مجلس التعاون دون استثناء لها من البرامج والمشاريع والسياسات التي تخدم قطاع هذه المؤسسات لديها، وتدفع بالمزيد من رواد الاعمال الى الانخراط في العمل الحر، ولكن المتغيرات المتسارعة على مستوى المنطقة والعالم، والتحديات التي تواجه المنطقة، ومقتضيات التوجهات الاقتصادية الخليجية، كل ذلك وغيره يفرض ايجاد رؤية تعزز اطر التعاون المشترك في تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وتوفير آليات جديدة ومبتكرة توفر لها المزيد من الرعاية والدعم والمساندة والتمويل الميّسر.
لا يكفي بمناسبة انعقاد اي فعاليات محلية او اقليمية او دولية طرح دعوات وتوصيات تصب في مجرى العمل المشترك والتأكيد على الاثار الايجابية بعيدة المدى لهذا العمل، وحث دول التعاون لايجاد خطط مشتركة تجمع وتنمي هذه المؤسسات وتعزز التعاون والتكامل في هذا المجال، بل لا بد ان يكون هناك من يتبني رؤية ومشاريع بعينها ويعمل على تجميع المعنيين بها والدفع بعمل مشترك حقيقي وملموس يفتح آفاقا نوعية جديدة من التعاون والتنسيق والعمل الخليجي المشترك يخدم نمو وتطور هذه المؤسسات ويوسع من قاعدتها بالشكل الذي يعزز ويخدم هدف تحقيق المواطنة الاقتصادية من خلال عمل فاعل يخدم ريادة الاعمال ورواد الاعمال أينما كانو في اي من دول مجلس التعاون.
اذا كان هذا المنتدى القريب يسعى ضمن اهدافه المعلنة الى وضع استراتيجية موحدة لدول مجلس التعاون لتنمية وتطوير اداء المؤسسات الصغيرة والمتوسطة من خلال توحيد الجهود والمبادرات في هذا المجال، ويبحث في الرؤى الاقتصادية لهذه الدول بما فيها الخطط والبرامج الخاصة بتطوير بيئة ريادة الاعمال، بجانب استعراضه لقصص النجاح ذات الافكار المبتكرة لرواد اعمال متميزين، فان الاهم من كل ذلك ان يخرج هذا المنتدى الاول من نوعه بنتائج ملموسة يقطف ثمارها رواد الاعمال ومؤسساتهم الصغيرة.
22 مايو 2012
دورية أسعار النفط
أسعار النفط لازالت محتفظة بزخمها الصعودي على الرغم من الانتعاش الهش للاقتصاد الامريكي وحالة انعدام الوزن التي تمر بها بلدان الاتحاد الاوروبي صاحبة الاقتصاد الأكبر حجما في العالم من ناحية اجمالي الناتج المحلي، والقلق الذي يساور الأسواق من احتمال حدوث هبوط ارتطامي (Hard landing) للاقتصاد الصيني.
ولذلك فان كثيرا من الزخم الصعودي لأسعار النفط يمكن أن يعزى الى الجوانب السياسية أكثر منه الى الأساسيات الاقتصادية (Economic Fundamentals)، والتي تجد تفسيرها في انخفاض امدادات النفط الى الأسواق من كل من ليبيا وايران وسوريا والسودان واليمن. وهو ما يعني ان الأسعار سوف تعود لتستقر ما ان تتم تسوية الأزمات السياسية في البلدان المذكورة.
واذا ما أضفنا الى ذلك الانتاج النفطي الجديد في كل من كندا والولايات المتحدة والنرويج وروسيا ودول أمريكا للاتينية، حيث حفزت الأسعار المرتفعة للنفط الكثير من الأنشطة الاستثمارية في أعالي البحار والزيت الرملي (Oil sands)، فيمكن القول ان هنالك ما يكفي من العوامل للاعتقاد بأن سوق النفط العالمية سوف تبقى تراوح بين الشد والجذب .. شد العوامل الكابحة للنمو العالمي (وهي عديدة) ونمو الطلب على النفط ترتيبا، وجذب العوامل الاخرى الموازية والمحفزة لهذا النمو.
على المدى القصير حصل النفط وبقية السلع المتداولة في البورصات العالمية على عامل مؤازر حين أعلن صنَّاع السياسية النقدية في مجلس الاحتياطي الفدرالي الامريكي بأنهم يتوقعون ارتفاع وتيرة نمو الاقتصاد الامريكي وانهم يمكن ان يتخذوا خطوات اضافية لحفز هذا النمو اذا تطلب الامر ذلك. فقد اعلن بن برنانكي رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي تحديدا بـ”اننا لا نزال مستعدين تماما لاتخاذ خطوات اضافية اذا اقتضى الأمر”، موضحا بأن ذلك يشمل اطلاق جولة شراء جديدة للسندات بهدف خفض تكاليف الاقتراض. وبدورها اصدرت لجنة السياسة النقدية في البنك بيانا بعد يومين من تقييم أداء الاقتصاد الامريكي، انها تستبعد رفع أسعار الفائدة قبل نهاية 2014.
أما على المدى المتوسط فانه اذا ما تعززت الأجواء التي أشاعها المقترح الروسي المتعلق بحل أزمة البرنامج النووي الايراني والقاضي بتوقف ايران عن انتاج أجهزة الطرد المركزي (Centrifuges)، والعِدد والآلات المستخدمة في تخصيب اليورانيوم، وحفظ تلك التي لم تستخدم بعد، فان ايران سوف تستعيد كامل طاقتها الانتاجية بعد أن تراجعت ووصلت في شهر مارس الماضي الى 3.39 مليون برميل يوميا هو الأخفض منذ يونيه 2002 وفقا لمجموعة بلومبيرغ، وهو ما يرجح معاودة سعر برميل النفط للمراوحة حول مائة دولار.
ومع ذلك هناك من يعتقد بأن العوامل السابقة ومنها تزايد أنشطة التنقيب عن النفط في القواطع البحرية على أعماق سحيقة، وبداية ازدهار صناعة استخراج النفط الرملي، والاكتشافات النفطية الجديدة، ستؤدي الى انهيار الأسعار في غضون السنوات القليلة المقبلة، بل ان هنالك من يزيد على ذلك باضافة الوضع الهش للنمو الاقتصادي العالمي ويتنبأ بأن الانهيار لن يكون بعيدا عن عام 2012 الجاري. فالنفط هو السلعة المتميزة بدورية سعرها في سوق البترول الدولية، حيث ان سعرها المرتفع يحفز على زيادة الامدادات وبدء ضعف الطلب، ليتبع ذلك فائض في المعروض وبدء انهيار السعر قبل ان يعود الطلب للنمو ثانيةً وارتفاع السعر من جديد. وكان العالم شاهدا على هذا السيناريو حوالي خمس مرات خلال السنوات الأربعين الأخيرة.
بكلمات أخرى فان من الصعوبة بمكان التنبؤ بمصير سعر النفط على المدى المتوسط ناهيك عن المدى البعيد.
22 مايو 2012
لقطات محزنة في جنيف أمس
الجلسة الصباحية لمجلس حقوق الإنسان يوم أمس الإثنين (21 مايو/ أيار 2012) خصصت للمراجعة الدورية لملف البحرين الحقوقي، وجلس وفد البحرين المكون من عدد كبير من ممثلي الوزارات والهيئات الرسمية يستمعون إلى مداخلات الدول الواحدة تلو الأخرى. وبدا واضحاً أن معظم دول العالم تعرف ما يجري في البحرين، وأن قلقها ازداد بسبب عدم تنفيذ توصيات لجنة تقصي الحقائق بصورة مرضية، وبسبب استمرار أوضاع غير صحيحة لا تتناسب مع أي دولة عصرية تود أن تحظى بمكانة مميزة في المجتمع الدولي.
ربما أن عدد البحرينيين المتواجدين في جنيف أمس يزيد على الستين، أكثر من نصفهم يتبعون الجانب الرسمي، والآخرون ينتمون إلى المعارضة ونشطاء المجتمع المدني الذين حملوا معهم ملفاتهم، كما حمل الوفد الرسمي ملفاته، لعرضها على وفود الدول.
ومع الأسف، فإنّ ما حدث أمس يحكي قصة حزينة جدّاً. أفراد الوفد الحكومي ينتمون – بصورة عامة – إلى فئة واحدة من المجتمع، وأفراد المعارضة ينتمون – بصورة عامة – إلى فئة أخرى. هذا لا يعني أنه لا يوجد مؤيدون لوجهة النظر الرسمية من الفئة غير المعتادة، أو للمعارضة من الفئة الأخرى، لكن الفرز أصبح واقعاً يدمي القلب، ولا يمكن لأي شخص من أي مكان في العالم إلا ويرى ما يحدث في بلادنا.
جميع ممثلي دول العالم المتقدم والدول الأخرى التي التحقت بالديمقراطية في الفترات الأخيرة، انتقدت الموقف البحريني الرسمي وأبدت قلقها وحثت على تصحيح المسار بحسب التزامات البحرين الدولية، وسجلت أمام العالم موقفها بكل وضوح، وعبّرت عن عدم ارتياحها من طريقة التعامل الحالية التي تعيش حالة من الإنكار الشديد لما نمر به من أزمة متواصلة بسبب عدم الاستعداد لمعالجة جذور المشكلة، بل وتركها تتفاقم وتتعمق مع الزمن، والتعويل على الحل الأمني وتقسيم المجتمع.
يوم أمس، شاهدنا أيضاً أن عدداً من ممثلي الدول الذين حاولوا التركيز على الثناء فقط، طالبوا أيضاً بالتسريع في تنفيذ توصيات لجنة تقصي الحقائق، وهي توصيات أصبحت من تكرارها – بدون أثر ملموس على أرض الواقع – لا تعني الكثير، وهو أمر مؤسف لأن البحرين كانت قد حصلت على المدح والثناء من جميع دول العالم لقبولها بالتقرير في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، ولكن الآن تحصل الحكومة على انتقادات لا تنقطع من المجتمع الدولي بسبب التلكؤ في تنفيذ توصيات التقرير، وعدم القبول بإجراء حوار ذي مغزى.
صحيفة الوسط البحرينية – 22 مايو 2012م
عن آليات الفساد العربي
مرةً، وعلى خلفية تقرير للمنظمة الشفافية الدولية المعنية بمراقبة الفساد والحث على محاربته، والذي أعطى الدول العربية معدلات عالية في انتشار الفساد في أداء أجهزتها الحكومية، أجرت شبكة «بي بي سي» على الانترنت استطلاعاً لزوارها حول رؤيتهم لاستشراء ظاهرة الفساد في بلدانهم، وكان مثيراً ولافتاً للنظر قراءة شهادات المواطنين العاديين حول هذا الموضوع، الذي عزوه للعديد من الأسباب بوسعنا أن نستعرض هنا بعضها على سبيل المثال لا الحصر:
– غياب العدالة الاجتماعية التي تحقق المساواة في الفرص بين المواطنيين.
– فساد القضاء وعدم استقلاليته، خاصة وأن القضاء بالذات هو المعني بتطبيق التشريعات التي تحارب الفساد والفاسدين، فإذا كانت جهة الرقابة ذاتها فاسدة، فكيف لنا أن نتوقع إمكانية القضاء على هذا الفساد أو الحد منه على أقل تقدير.
– فساد الهياكل البيروقراطية والحزبية الحاكمة في العديد من البلدان العربية، التي أصبحت هي ذاتها مضخة للفساد وبيئة ملائمة لتعميمه وإشاعته في المجتمع برمته.
– تفشي مظاهر غسيل الأموال والعمليات المالية غير المشروعة والاستثمارات المزيفة واختلاس أموال البنوك بالغش الإداري، مما يؤدي إلى إهدار أموال صغار المستثمرين والفئات محدودة ومتوسطة الدخل.
– بقاء المسؤولين والوزراء في مناصبهم لسنوات طويلة وأحياناً لعقود متوالية، مما يخلق شبكات من المنافع الراسخة العصية على الرقابة والمساءلة، ويؤدي إلى تراكم الثروات غير المشروعة ويغري بالتطاول على المال العام واستنزاف ميزانيات الدول في أعمال ومصالح خاصة.
– عدم اعتماد معايير الكفاءة ونظافة اليد ونزاهة الضمير والحرص على المصالح الوطنية العليا في التعيينات الإدارية، وتفضيل القرابات العائلية والولاءات الشخصية في اختيار العناصر المسؤولة، خاصة في المواقع الإدارية الرفيعة، مما يُثقل الجهاز الإداري بالأشخاص الفاسدين ويعمم شبكات الفساد القائمة على الولاء وتبادل المنافع.
– غياب حرمة القانون، والتطاول الصريح عليه علانية والتحايل على بنوده، خاصة مع ضعف أو حتى غياب المؤسسات البرلمانية ذات الصلاحيات التشريعية والرقابية، وتفشي الرشاوى والعمولات، بل إن كثيراً من الدول العربية تعاني من نقصٍ في التشريعات الصارمة للتضييق على الفساد والمتورطين فيه، وفي الغالب فإن الفساد يبدأ من أشخاص متنفذين غالباً ما يكونوا «فوق» القانون ويعجز القضاء عن ملاحقتهم، مما يسهم في جعل الفساد ممكناً في الحلقات الأدنى.
طبعاً بوسعنا أن نسهب في هذه الأسباب والعوامل بحيث لا يعود بوسع مساحة هذه الزاوية أن تغطيها، ولكن لو دققنا فيها لأمكننا حصرها في غياب الهياكل الديمقراطية الحقيقية التي تؤمن الرقابة الشعبية والبرلمانية على الأداء الحكومي وطرق التصرف بالمال العام، فمع غياب فصل السلطات وضعف المؤسسات البرلمانية ومحدودية صلاحياتها أو حتى غيابها بالكامل، وفساد القضاء أو هشاشته، يصبح المال العام مهدراً، وتصبح الموازنات العامة للدول عرضة للنهب الدائم منها بأساليب شتى، فضلاً عن تلك العوائد المالية الكبرى التي لا تُرصد أصلاً في الموازنات وتذهب في مسارات أخرى خاصة.
إحدى المشاركات في الاستطلاع المشار إليه ذكرت بأحد التقارير الذي يشير إلى أن أرصدة بعض الأثرياء العرب تساوي مجموع القروض والمساعدات المقدمة للدولة !
21 مايو 2012
المؤسسات الصغيرة والمتوسطة
ربما على المعنيين بأمر وشئون المؤسسات الصغيرة والمتوسطة من مسئولين وجهات رسمية ومؤسسات مالية ومصرفية واصحاب اعمال وباحثين، والمدركين لأهميتها وحجم مساهمتها في الاقتصاد وفي توفير فرص العمل. والساعين الى توفير كل أوجه الدعم والمساندة لها ان يلتفتوا الى الخطوة التي اقدمت عليها الكويت القريبة في هذا المجال.
لقد تم مؤخرا في الكويت الاعلان عن انشاء صندوق وطني لرعاية وتنمية المشاريع الصغيرة والمتوسطة وصدر قانون بهذا الشأن من 6 أبواب و31 مادة بهدف تنمية الاقتصاد الوطني من خلال خلق فرص عمل وتنويع مصادر الدخل وهي المؤسسات التي تشكل نحو 97% من العدد الاجمالي للمنشآت القائمة في الكويت وهي ذات النسبة تقريبا في البحرين.
التفاصيل تشير الى ان هذا الصندوق برأسمال مليارا دينار كويتي يؤخذ من الاحتياطي العام للدولة او من المبالغ المخصصة لهذا الغرض في الميزانية العامة، وان شروط وقواعد ادارة تمويل المشاريع يضعها مجلس الادارة بما يتفق واحكام الشريعة الاسلامية وتعليمات بنك الكويت المركزي.
من بين التفاصيل الاخرى المهمة ان الدولة تخصص لمصلحة الصندوق اراض لا تقل مساحتها عن 5 ملايين متر مربع قابلة للزيادة. لخدمة نشاطه وموزعة جغرافيا وفق خططه، وتحوي كل منطقة حاضنة ومجمعا تسويقيا، وهذا الصندوق يمول المشروع بنسبة لا تزيد على 80% وبما لا يتجاوز 15 سنة. والى جانب ذلك فانه بموجب هذا الصندوق فان التمويل حدد برسم لا يزيد عن 2% لتغطية مصاريف الصندوق، مع جواز اتباع نظام المشاركة بما لا يتجاوز 80% من رأس المال، مع راتب يخصص لاصحاب المشاريع المتفرغين يضاف اليه حافز يستقطع من الارباح التي يحققها المشروع، ويقضي الصندوق بمنح المشاريع تيسيرات واعفاءات ضريبية وجمركية ودعم الصادرات والمواد الاولية، ويمكن اصحاب المشاريع الحصول على مواقع في الجمعيات التعاونية بايجار رمزي.
ذلك يعني ان ثمة خطوة متقدمة على صعيد تنمية وتشجيع ودعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة تستحق النظر اليها والاستفادة منها كتجربة، ومن التجارب الاخرى المعتبرة في بقية دول العالم التي تشجع على الاستفادة منها. نعلم ان في البحرين العديد من الهيئات والمؤسسات التي تدعم رواد الاعمال والمشاريع الصغيرة والمتناهية ألصغر ونعلم ان هناك استراتيجية وطنية لتنمية هذه المؤسسات، ونعلم ان مجلس النواب وافق على انشاء هيئة مستقلة تضطلع بشئون هذه المؤسسات برئاسة وزير الصناعة والتجارة، ونعلم ان هناك لجنة تنسيقية قائمة برئاسة الوزير من عدة جهات تعنى بدعم هذه المؤسسات وتذليل الصعوبات التي تواجهها. ونعلم بان مركزا لتنمية صادرات هذه المؤسسات جار انشاؤه حاليا. ولكن ما ليس معلوما هو ان تظل هذه الجهود مشتتة، ولا تأخذ مداها المطلوب خاصة في ظل مؤسسات تعاني من التعثر او عرضة للتعثر.
21 مايو 2012
مجتمعات قـلقـة
استوقفني مقال صغير، ولكنه غاية في العمق، للمفكر المغربي عبدالكبير الخطيبي، كُتب في الأصل بالفرنسية وعرَّبه فريد الزاهي تحت عنوان: «صورة المغربي». ينطوي المقال على تحليل لشخصية المواطن المغربي البسيط، من وجهة نظر مفكر يشتغل في حقول عدة بينها علم الاجتماع والفلسفة وعلم السياسة، وتحليله هذا منصبٌ على ما أدت إليه صدمة الحداثة من ارتجاج وحيرة بالغة في سلوك مجتمع اعتاد توازناً مُعيناً، تعرض لاختراق مساره المألوف. ويُقدم المقال مفاتيح مُفيدة في معرفة خصائص المجتمعات المتحولة، وهي سمة تنطبق على مجتمعاتنا العربية كافة ومن دون استثناء، حتى لو كان الأمر بنسب مختلفة، فإن الجوهر يظل واحداً.
يسوق الخطيبي مثالاً على ما يقول في علاقة المواطن في بلاده مع شيء نتعامل معه كل يوم هو الإشارة المرورية، حيث يُلاحِظ أن المواطن إن لم يتجاوز الضوء الأحمر، وهي ظاهرة مألوفة في مجتمعاتنا، فإنه يتوقف تاركاً إشارة الضوء خلفه. برأيه أن الأمر ينطوي على حيلة بصرية تكمن في عدم رؤية القانون وجهاً لوجه، ولذلك يكون احترام القانون وخرقه متواشجين في النظرة نفسها والحركة نفسها، في رغبة واضحة لمحو وتعطيل الحدود بينهما.
لا أعرف لماذا حملني هذا المقال على تذكّر المقاربات العميقة التي جاء بها عالم الاجتماع الفذ علي الوردي وهو يحلل طبيعة المجتمع في بلده العراق، وسلوك الإنسان فيه. على مقربةٍ من تحليل الخطيبي نجد الوردي يتحدث عما يُسميه: «الطاعة والأُمْرة»، في إشارة إلى النفور من الأوامر ومن الطاعة القسرية لها، ومن الميل إلى الزعامة، الذي تحدث عنه ابن خلدون مطولاً في المقدمة، وهو ميل يجد تعبيراً له في المثل البدوي القائل: «الأمارة ولو على الحجارة»، وهو، حسب ابن خلدون، السبب الذي أدى الى فشل العرب القادمين من الصحراء في إدارة البلدان المتحضرة التي حكموها، حيث أدى تعدد الزعماء وتنافسهم إلى سقوط سلطتهم في أكثر من مكان.
عودةٌ إلى الحاضر، نجد أن في أطروحات الخطيبي والوردي وغيرها من أطروحات رصينة كتلك التي قام بها جلال أمين في كتابه: «ماذا جرى للمصريين»، مداخل ضرورية تُعين في التعرف إلى أسباب الكثير من مكامن الخلل في مجتمعاتنا، التي مازالت في المرحلة الحرجة لخلق التوازن المطلوب بين ما ورثتهُ من جينات في السلوك، وما هي مُجبرة على التعامل معه بفعل جبروت الحداثة ، فلا هي قادرة على التخلص من تلك الجينات والقطع مع السلوك الذي تأخذه اليها، ولا هي قادرة على أن تزج بنفسها في أتون الحداثة كلية مع ما يترتب على ذلك من اكلاف، لابد من دفعها، إن ارادت هذه المجتمعات تجاوز حالة القلق والتذبذب بين قطبين، أحدهما يجر بالقوة إلى الخلف والثاني لا يظهر ما هو لازم من حسم لجرها نحو الأمام.
20 مايو 2012
الاستثمار الخليجي الآسيوي
التوجه البحريني، والخليجي بوجه عام نحو العلاقات التجارية والاقتصادية والاستثمارية مع دول رابطة جنوب شرق آسيا «آسيان» بات واضحا انه اخذ منحى تصاعديا لاعتبارات شتى، ربما من اهمها النمو الاقتصادي الذي سجلته تلك الدول.
هذا التوجه فيما يخص البحرين تحديدا عكسته هذه الزيارات المتتالية التي تمت في الآونة الاخيرة التي بدأت بزيارة عاهل البلاد الى اليابان، ثم زيارة سمو ولي العهد الى كوريا الجنوبية، ثم زيارة رئيسة وزراء تايلند الى البحرين، وكان الشأن الاقتصادي حاضرا وبقوة في هذه الزيارات التي كانت خلاصتها اتفاقيات والتحضير لمشاريع هي محط انظار المستثمرين.
على الصعيد الخليجي وجدنا توجها مماثلا، ولكن الملاحظ في هذا التوجه ان القطاع الخاص هو الذي يمسك بزمام المبادرة، هو الذي يزور ويجتمع ويتباحث ويعد دراسات الجدوى لمشاريع بعينها ويتبنى المشاريع ويبني تحالفات وشراكات استراتيجية مع شركات من الصين، وتايلند والفلبين، والهند، ولعل الندوة التي عقدت قبل ايام في دبي بعنوان طريق المستثمر العربي الى آسيان قد اكدت على توافر فرص استثمارية واعدة للمستثمرين الخليجيين، رغم ان استثماراتهم في الاسواق الاسيوية محدودة، وقد اكد لنا رئيس مجلس ادارة اسيا للاستثمار، الشركة الكويتية الصينية للاستثمار سابقا احمد عبداللطيف الحمد ان هذه الاستثمارات صغيرة جدا مقارنة مع الاستثمارات الخليجية في اوروبا والولايات المتحدة. الحمد استفاض في شرح مزايا الاستثمار في الاسواق الاسيوية وخاصة قطاعات الطاقة، والبنى التحتية والعقارات، والمصارف، والقطاع الاستهلاكي، وهو في الوقت الذي يؤكد ان هذه المنطقة هي المنطقة الوحيدة التي تحقق نموا اقتصاديا في العالم في ظل ازمات في اوروبا وامريكا التي تعاني من مشاكل في العقارات والبنوك، وان قواعد الاسواق الاسيوية سليمة، وعدد سكانها يشكل سوقا كبيرة وهو تقريبا ذات الرأي بالنسبة للرئيس الاقليمي لبنك اتش اتش بي سي.
من ذلك المنظور، ومن ذلك التوجه ومن واقع المعطيات الراهنة والمؤشرات الاقتصادية، نرى ان من المهم التركيز على اقامة تحالفات وشراكات ومشاريع برؤوس اموال خليجية وآسيوية تقام في المنطقة، اي لا بد من الدفع نحو اقامة مشاريع استثمارية بينية تخدم التنمية والاقتصاد في المنطقة وتنمي المصالح المشتركة.
20 مايو 2012
حفاظا على السيادة الوطنية
يطرح الموقف الأمريكي من التطورات الراهنة في دول المنطقة ومنها البحرين جملة من التساؤلات الكبرى حول حقيقة الاستراتيجية الأمريكية و إدارتها لتحالفاتها القديمة والجديدة سواء من الزاوية المصلحية أو من منظور الصدقية في الوفاء بهذه التحالفات بما يراعي مصالح الأطراف الأخرى طبقا للقانون الدولي والمبادئ التي استقرت عليها الأسرة الدولية.
من الوهم والسذاجة بمكان أن يراهن أحد على مصداقية في السياسة الأمريكية أو مراعاة لمصالح الحلفاء أيا كانت صلة الرحم بهم. اذ تطغى مصلحة أمريكا واحتكاراتها المدنية والحربية على أية مصلحة أخرى، و توظًف كل الوسائل العلنية منها والسرية، الناعمة والدموية، ويُرمى بالحلفاء في مقابل تحالفات مع خصومهم.
اللافتة المرفوعة لهذا الانفلات اللا أخلاقي واحدة، حرية- ديمقراطية- حقوق الانسان، والجوهر واحد، المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة وشركاتها الاحتكارية. في التاريخ المعاصر أمثلة صارخة من المواقف الامريكية على ما نقول، في إيران والفلبين وبَنما وأخيرا وليس آخرا في تونس ومصر وليبيا.
من يحتج علينا في الأمثلة عن الموقف الأمريكي من «الربيع العربي» وسقوط بعض حلفاء أمريكا المقربين، نورد ما قاله السيناتور الأمريكي جون كيري، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ بعد زيارته الأخيرة الى مصر ودول أخرى في المنطقة، من أن المصريين بعد تشكيل حكومتهم وانتخابهم للرئيس «اذا قاموا فجأة بشد البساط من تحت اتفاقية السلام مع اسرائيل، أو وضعوا فجأة قوانين مقيدة، واذا أصبحوا غير قادرين على إبرام قرض صندوق النقد الدولي، فاننا ساعتها سنبدأ في التساؤل عما نفعله». ليس لدى أمريكا مشكلة أن يتولى الاخوان أو غيرهم الامساك بمفاصل الدولة المصرية، شريطة استمرارهم في نهج الرئيس المخلوع بما يخدم المصالح الاسرائيلية ومصالح صندوق النقد الدولي ويبقي الاقتصاد المصري تحت رحمة الاحتكارات المالية الغربية وسلطة الاقتصاد الطفيلي الليبرالي.
تعتبر الولايات المتحدة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقا مناطق حيوية لمصالحها وهذا مؤكد بحكم موارد الطاقة الهائلة التي تملكها أراضي و بحار هذه المنطقة ناهيك عن الأهمية الاستراتيجية الفريدة التي تتمتع بها. وقد أضيف الى احتياطات النفط و الغاز المعلنة في بلدان منطقة «المصالح الحيوية للولايات المتحدة» الاكتشافات الجديدة لما يسمى بالحوض المشرقي، الذي يحوي، وفقا لهيئة المسح والجيولوجي الأميركية، 122 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي و107 مليارت برميل من النفط في مياه كل من سوريا و لبنان واسرائيل و قبرص.
هذا الاحتياطي في هذه المنطقة من العالم يمكن أن يخدم هدفين بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين. فهو يلبي جزءا هاما من احتياجات أسواقهم من الطاقة ومن جانب آخر ينهي أو يقلص الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي وبالتالي ضرب روسيا اقتصاديا، اذا ما تدفق غاز البحر المتوسط ونفطه عبر أنابيب تبدأ من حقول الغاز في مصر واسرائيل ثم لبنان وقبرص لتمر عبر سوريا الى اليونان، اذا ما تسنى إسقاط النظام السوري وانتقال السلطة الى الاسلاميين منفردين او ضمن تحالف مع قوى سورية قريبة من الغرب أو شملتها حالة الفوضى الليبية أو ما هو أسوأ. هذا الواقع يطرح بالحاح موضوع العلاقة بين المصلحة الاستراتيجية للدول الكبرى وسياساتها البراغماتية التي تخدم هذه المصالح. ولقد رأينا أنه حين تم سحب البساط من تحت أقدام أقرب الحلفاء لم تدمع عين أحد في الولايات المتحدة أو الغرب. حتى في أفغانستان التي قتل فيها حتى الان أكثر من 3000 جندي من التحالف الغربي المعروف بايساف، يواصل الأمريكيون حوارهم مع طالبان خلف الكواليس وفي العلن حتى لو كان ذلك على حساب حليفهم كارزاي. ولا يبدو الأمر مستغربا فالأمريكيون وقفوا وراء تكوين حركة طالبان في بداياتها في الكتاتيب الدينية في باكستان و تنظيم تدريبها وتسليحها وتقديم الدعم اللوجستي لها، لاسقاط حكم الرئيس الأفغاني نجيب الله واخراج الاتحاد السوفياتي من أفغانستان، وقد كانت الولايات المتحدة في طليعة الدول التي اعترفت بحكومة طالبان، ولا يمكن أن نتصور الآن بأن حبل السر بين الجانبين قد قطع. ومن هنا يمكن رصد امكانية بروز تحالفات جديدة للولايات المتحدة مع الاسلام السياسي وانظمة اقليمية في المنطقة تلبي حدا من الاستقرار يضمن الانقسام المجتمعي على أسس طائفية ومذهبية، ولكن في الحدود التي لا تعرقل المصالح الحيوية والاهداف الاستراتيجية الغربية.
خطورة الأمر تكمن في أن الاحتكارات والادارات الأمريكية المتعاقبة تنظر الى الأنظمة السياسية الحليفة على أنها حارس لمصالحها، وحين يتوعك هذا الحارس لن يتوانى الأمريكيون عن استبداله بحارس آخر، فهم لا يتعاملون مع الدول على أساس أنها كيانات سيادية حرة في تقرير مصيرها ونمط وسبل تطورها السياسي والاقتصادي، وقد تنكروا للقانون الدولي ومزقوا المواثيق التي تحكم العلاقات الدولية ومبدأ السيادة الوطنية وعدم التدخل في شئون الدول واحترام قراراتها وخياراتها الوطنية.
بمعنى آخر فانه من منظورالاحتكارات ليست دول منطقة «المصالح الحيوية» سوى مساحات جغرافية تختزن ثروات طبيعية ينبغي التحكم بها واستغلالها من قبل الدول «النخبة»، ولا يحتاج الأمر لأكثر من إدارة محلية تلبي ضرورات التدفق الآمن للثروة، فاذا تبين أن الإدارة «السلطة» الراهنة عاجزة عن توفير الاستقرار لدرجة تتهدد فيها مصالح «الدول النخبة» حسب تعبير هنري كيسنجر، فلتأت ادارة محلية أخرى قادرة على تأمين استمرار التدفق الآمن للثروات الطبيعية وعلى رأسها مصادر الطاقة ضمن ترتيبات جديدة لا تستبعد التواجد العسكري المباشر.
ليس فيما نعرض أوهاماَ، فالمعطيات والتقارير لم تعد سرية بل متداولة في الاعلام الغربي والعالمي ومسيرة التطورات الراهنة تنبئ بالاحتمالات التي نثيرها. يبقى السؤال هل يدرك المعنيون في بلادنا، سياسيون ودينيون، سلطة وموالاة ومعارضة، حجم المخاطر التي تترصد بنا وبسيادتنا الوطنية وحريتنا في اختيار طريق تطورنا السياسي والاجتماعي وبما يجنبنا الانقسام الطائفي وانكشافنا أمام المتربصين بنا وبخيراتنا؟
الأيام 19 مايو 2012
هل تركيا نموذج؟
تتويجا للنجاحات الباهرة التي حققتها تركيا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان، على الأصعدة الاقتصادية والعلاقات الدولية (منذ عام 2002 حتى اليوم)، فقد أسالت كثيرا من الحبر وحفزت الكثير من المتخصصين في علم الاقتصاد وعلم العلاقات الدولية للاجتهاد في دراسة وتقييم تلك التجربة التركية التنموية اللافتة ومستقبلها..وعما اذا كانت تمثل نموذجا تنمويا يمكن تمييزه على غرار ما هو حادث بالنسبة لبعض بلدان جنوب شرق آسيا (مثل تايوان وسنغافورة وهونج كونج وكوريا الجنوبية)، وبعض بلدان امريكا اللاتينية (مثل البرازيل).
التعريف العلمي للنموذج، على اختلاف التنظيرات، يجمع على انه نجاح الدولة في تعلية معدلات التوفير (Savings) التي تقرر بدورها حجم التراكم الرأسمالي (Capital accumulation)، وتدفق الابتكارات التي تلعب الدور الحاكم في تعلية معدل نمو الانتاجية (Productivity Growth Rate) ومعدل النمو السكاني، وحصة الأجور والأرباح من اجمالي الناتج الوطني. ولسوف تجد هذه المقومات متوفرة في التجارب التنموية لعدد من بلدان جنوب شرق آسيا وتحديدا تايوان وهونج كونج وكوريا الجنوبية وسنغافورة التي أدركت حكوماتها محدودية قدرة أسواقها الوطنية على تخصيص الموارد الشحيحة أصلا في اقتصاداتها فتصدت هي بنفسها لأعمال التنمية الاقتصادية، فكانت ولادة ما يسمى بنموذج الدولة التنموية. وقد بدأت تايوان نموذجها التنموي، الصناعي تحديدا، في جنوب شرق آسيا بعد هونج كونج وقبل كوريا الجنوبية، مستفيدة من ارتفاع الاجور في اليابان ومن بعد هونج كونج ومن تحديد حصص تصدير المنسوجات والملابس الجاهزة من الدولتين الى أمريكا وأوروبا. وخلال نصف القرن الماضي رفعت تايوان اجمالي ناتجها المحلي من 6 مليار دولار الى 300 مليار وحصة الفرد من 700 دولار الى 13 ألف دولار، وبمعدل نمو يتـراوح بيـن 6-8%، واعتمدت الاصلاح الزراعي، وتطوير التخطيط العائلي، وربط العدالة بالنمو من خلال خلق شواغر وظيفية خارج القطاع الزراعي ونشر التعليم والتوزيع العادل للثروة والأراضي الزراعية، والاعتماد على المبادرة الخاصة عوضا عن الاعتماد على القطاع الحكومي، والتصنيع الموجه للتصدير، وتحفيز التوفير والبحث والتطوير (R&D). ولعل أكثر ما يميز هذه النماذج بصورة مشتركة هي: الاستدامة، وخفض معدل النمو السكاني كشرط لجعل النمو مستداما.
ومنعا للاسترسال غير الضرورى، وبقليل من التدقيق يمكننا القول ان النموذج التنموي الذي أشاده حزب العدالة والتنمية في تركيا ما هو في التحليل الأخير سوى النسخة الشرق أوسطية لنماذج الدولة التنموية التسلطية في جنوب شرق آسيا، وتحديدا نماذج هونج كونج وتايوان وكوريا الجنوبية قبل تحولها للديمقراطية التمثيلية. فلقد اعتمدت التجارب التنموية في هذه البلدان على مقايضة الديمقراطية التمثيلية بالرفاه الاجتماعي الذي كانت الدولة المركزية، الشمولية ان شئتم، عماد تأمينه وازدهاره.
ميزة أخرى تميز النموذج التنموي (السياسي والاقتصادي والاداري الكلي) التركي لحزب العدالة والتنمية، هذا ان كان يصح بهذه المقومات العمومية تمييزه كنموذج ذي علامات فارقة، وهي استغراقه المفرط لحد الاستمراء في العمل بالمذهب البراغماتي حتى صار قادة الحزب والدولة التركية يتفوقون أحيانا على البراغماتية الامريكية التي هي بالأساس البلد الذي صدَّر هذه الفلسفة ذات المحتوى النفعي الغير بعيد عن مذهب صاحب كتاب “الأمير” الشهير نيكولو ميكافيلي وقاعدته “الذهبية” التي دبجها في متن رسالته الى “بيير سوديريني وفحواها ذلكم التبرير الذي ساقه ميكافيلي لاقدام الأمير على أي عمل لتحقيق ما أسماه “هدف تقوية الدولة والحفاظ عليها حتى ولو كان مخالفا للقوانين والأخلاق”، حيث سطّر مقولته الشهيرة في هذا الاتجاه والقائلة بأنه “في الأمور ينبغي النظر للغاية وليس للوسيلة”.
وهنا لعلنا نتذكر كيف كان رئيس الحزب الحاكم في تركيا ورئيس وزرائها اللامع رجب طيب أردوغان في السنوات الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية، يدير علاقات تركيا مع اسرائيل بشكل جيد ومع الغرب الأوروبي بشكل أفضل، وكيف لبى معظم مطالب الأوروربيين من أجل أن يقبلوا بلاده عضوا في الاتحاد الأوروبي، وهو الانجاز الذي كان سيدخل به التاريخ التركي الحديث من أوسع أبوابه بما يقربه من “اسطورية” شخصية أتاتورك في عيون الأتراك. لكن اللوبي اليهودي الصهيوني والأرمني في أوروبا والولايات المتحدة حرماه من هذا الفخر، فكان أن أعادته براغماتيته الى المربع الأول ولكن بأدوات ادارة للسياسة الخارجية التركية جديدة.
فلا فرادة، بهذا المعنى، في النموذج التنموي التركي اللهم الا اذا وُضع قبالة نظرائه من النماذج التنموية العربية التي أفرزت نفسها كأمثلة نموذجية على الفصل بين النمو والتنمية. فاذا ما تفحص المرء قليلا في النموذج التنموي التركي وتعمق في بعض حيثياته على أصعدة الادارة الاقتصادية الكلية في اتصالها خصوصا بالعدالة الاجتماعية (التي تعمل على تحقيقها المؤسسات المتفرعة عن هيكل البناء الديمقراطي للدولة المعاصرة وليس الصناديق الخيرية)، وصيانة الحقوق المدنية الأساسية للسكان، والعلاقات الدولية التي نسجتها الدولة التركية في عهد حزب العدالة والتنمية تدعيما لطاقاتها الداخلية، فانه سيكون أمام نسخة متجددة من دولة الشرق “المتعملقة” والمتوغلة في معظم مناحي الحياة التركية، لاسيما الحياة الاقتصادية، حيث لازالت الدولة، تحت تأثيرات وأعباء الموروث التاريخي العثماني على الأرجح، تهيمن على عصب الاقتصاد التركي متمثلا في قطاع الصناعة وقطاع النقل والمواصلات والقطاع المالي وقطاع الاتصالات، وذلك رغم حزمة الاصلاحات التي طاولت جوانب عديدة واستهدفت تعظيم وزن القطاعات الخاصة في الحياة التركية. ومع ذلك فان هذا لا يقلل بأي حال من قوة الدفع الداخلية التي يتمتع بها النموذج التركي في التنمية الشاملة والآفاق الرحبة التي يحوزها.