طرحت البرازيل مؤخراً على منظمة التجارة العالمية قضية قيام بعض المصارف المركزية للدول الأعضاء في المنظمة باتباع سياسة سعر الصرف المنخفض لعملاتها الوطنية، وطالبت المنظمة النظر بجدية في إمكانية إدراج مثل هذه الممارسة ضمن أنواع الدعم (Subsidy) المحظور بموجب اتفاقية الدعم والإجراءات التعويضية المضادة (Agreement on Subsidies and Countervailing Measures) المنبثقة عن المنظمة. وقد اشتكت البرازيل مراراً من قيام بعض الدول الأعضاء بإعطاء عملاتها الوطنية مزايا من خلال التلاعب بسعر الصرف بما ينعكس سلباً على التجارة الدولية.
وبحسـب ممثل البرازيل في منظمـة التجـارة العالميـة روبرتو أزيفيدو Roberto Azevedo فإن المنظمة قد درست الموضوع وتبين لها بأنه إذا كانت الآثار الطويلة المدى لتحركات سعر الصرف غير واضحة فإنها على المدى القصير يمكن أن تتسبب بالفعل في تغيير الأسعار وتؤثر حتى على تخصيص الموارد للقطاعات المتصلة بالتجارة والقطاعات الأخرى غير التجارية في التجارة الدولية.
وبناءً على الطلب البرازيلي فإن المنظمة سوف تعقد ورشة مخصصة لهذا الموضوع في الربع الأول من العام الجاري، ستتدارس خلالها هذه المسألة الحساسة من منظور القطاعين العام والخاص.
ونتذكر طبعاً كيف كانت ردة الفعل الغربية الغاضبة على هذا المقترح البرازيلي، عكستها صحيفة فايننشال تايمز البريطانية بافتتاحية كانت مترحة بالغضب والتهجم على البرازيل وعلى مقترحها، وهو تهجم لم يحمل أية رؤية اقتصادية البتة ذات صلة بالموضوع المثار.
مقال الفايننشال تايمز اتهم البرازيل بالخداع وأن ما تطالب به ليس له أي أساس لأنه غير موجود أصلاً. وهو تهجم وقائي يتناسب مع ما كانت البرازيل قد وصفته قبل بضعة أشهر بأنه حرب عملات (Currency War) تورط فيها عدد من حكومات الدول الغربية الأعضاء في منظمة التجارة العالمية.
من الناحية الاقتصادية الموضوعية فإن ما أثارته البرازيل في منظمة التجارة العالمية يمكن أن يندرج ضمن تصنيف الدعم غير المباشر لأنه يوفر ميزة تنافسية سعرية لمنتجات الصادرات الوطنية قبالة المنتجات الأجنبية التصديرية النظـيرة والمنافسـة. وإذا ما اسـتمرت هذه السياسـة (سياسة دولار أو يورو أو ين ضعيف) واسـتمرت مفاعيلها في التجـارة الدولية فإنها يمكن أن تشكل نوعاً من الممارسات الإغراقية (Dumping practice) التي قد تستدعي رداً مقابلا تحوطياً سريعاً (من قبيل فرض رسم جمركي إضافي على السلعة/السلع موضوع الإغراق) بموازاة رفع دعوى إغراق أمام جهاز فض المنازعات لدى منظمة التجارة العالمية.
في الواقع هنالك الآن مشكلة في النظام النقدي العالمي، وهي مشكلة تتصل بالحركة غير المعتادة لأسعار الصرف تجاه بعضها البعض، وهي حركة تغذيها ظاهرة اللاتوازن الاقتصادي العالمي التي برزت في السنوات القليلة الماضية بعد اتساع الفجوة في معدلات النمو والأداء الاقتصادي بين الاقتصادات المركزية التقليدية والاقتصادات الصاعدة. فلقد أدى الأداء الجيد للاقتصاد البرازيلي إلى ارتفاع قيمة الريال البرازيلي بنسبة كبيرة منذ عام 2009 فاقت 40%، ووصل إلى أعلى معدل له أمام الدولار الأمريكي منذ اثني عشر عاماً، وذلك بسبب ارتفاع أسعار السلع ما أضر بالمصنعين المصدرين البرازيليين، حيث انخفضت الصادرات البرازيلية بنسبة قاربت الـ 5%. فلقد انخفض مؤشر شراء المدراء (Purchasing-Managers Index) الذي يعده مصرف HSBC، إلى أدنى مستوى له منذ مايو 2009 حيث كانت قيمة الريال أخفض مما هي عليه الآن بنسبة 25%.
ليست البرازيل وحدها التي تعاني من مشكلة ارتفاع قيمة عملتها (Appreciation) بصورة مضرة بالقطاعات الاقتصادية البرازيلية المرتبطة بالتصدير. فهناك استراليا التي تشهد نمواً اقتصادياً غير عادي بفضل ازدهار صادراتها من الثروات الطبيعية، وهو ما أدى إلى ارتفاع قيمة الدولار الاسترالي بنسبة 43% منذ عام 2009 الذي شهد بداية التعافي العالمي من الأزمة المالية العالمية التي نشبت في الربع الثالث من عام 2008)، مسجلاً رقماً قياسياً بلغ في أغسطس الماضي 1.10 دولار أمريكي، قبل أن يعود في شهر أغسطس نفسه (على غرار الريال البرازيلي) إلى الانخفاض بعد الأرقام المخيبة للتعافي الاقتصادي الأمريكي والتصنيفات السلبية التي راحت تعلنها تباعاً وكالات التصنيف الدولية للديون السيادية لعدد من الدول ذات الاقتصادات المتقدمة (على اعتبار أن السوق الأمريكية تستوعب حصة مهمة من الصادرات البرازيلية والاسترالية).
ارتفـاع العملــة المقـترن والمرتبــط بالأسـاسيات الاقتصـادية (Economic Fundamentals)، أي بنمو الإنتاج الصناعي وبنمو بقية القطاعات الإنتاجية والمساندة، وبمؤشرات قياس إيجابية، ليس مثار جدل وتنازع مصلحي بين الشركاء التجاريين العالميين، إنما ارتفاع قيمة العملة بسبب قيام المضاربين بدفع سعر صرفها إلى أعلى استناداً إلى توقعات بأنها سترتفع في الغد، هو المشكلة. ثم أن تأثير الأساسيات على سعر الصرف ليس مستداماً وإنما هو مرتبط بحالة الدورة الاقتصادية.
وتختلف معالجة هذه المشكلة من دولة إلى أخرى وذلك تبعاً لظروف ومعطيات كل حالة، وإن كان شراء العملة الأجنبية من قبل البنوك المركزية لوقف هبوطها مقابل عملة البلد المعني هو الإجراء الشائع في هذا المجال. بعض الدول تلجأ إلى “إبعاد” العملة الأجنبية عن أراضيها عوضاً عن شرائها، وذلك بخلق عوامل طاردة لها مثل الضرائب والرسوم، ووضع هذا العائد الضريبي في صندوق سيادي يقوم باستثماره في أصول أجنبية. وبعض الدول تضع ضوابط على حركة رأس المال الأجنبي في أراضيها لتقليص آثار الفائض من هذه الرساميل المتدفقة على العملة الوطنية، كما فعلت تايلند وماليزيا وغيرها من الدول الآسيوية التي تعرضت لمضاربات محمومة على عملاتها أدت إلى أزمة مالية أصابتها صيف عام 1997. البرازيل الآن تضع ضريبة نسبتها 6% على المشتريات الأجنبية لسنداتها، إضافة إلى ضريبة أقل على المضاربات على الدولار في السوق المستقبلية (Future Market).
وكما قلنا إذا كان ارتفاع قيمة العملة مرتبط بالأساسيات، فإن أي إجراء لن يستطيع الحيلولة دون ارتفاعها كما هو حاصل مثلاً مع الريال البرازيلي، الأمر الذي أقنع الحكومة البرازيلية للإقرار في أغسطس الماضي بأن على قطاعات الأعمال البرازيلية أن تتكيف وتتعايش مع ريال قوي لفترة ليست بالقصيرة.
البرازيل وحرب العملات
ذاكرة النبوءات
يحمل أحد فصول آخر كتاب للراحل سعدالله ونوس عنوان «ذاكرة النبوءات»، والكتاب يضم نصوصاً وتداعيات ووصفاً لمعاناته المريرة مع المرض عندما كان على عتبة الموت. عنوان الكتاب «عن الذاكرة والموت». ونحن نقدر أن الناشر هو من اختار له هذا العنوان لا الكاتب، لأن ما بين دفتي الكتاب من مواد يشير إلى أنها لم تكتب لتنشر في كتاب واحد. ولكن الناشر جمعها في كتاب ليوثق آخر ما كتبه الراحل الكبير وهو ينتظر الموت الذي كان الأطباء قد أنبؤوه بصريح العبارة أنه لم يبق بينه وبينه سوى شهور قليلة.
في «ذاكرة النبوءات» يروي سعدالله قصة تلك اللحظات الدقيقة التي أنبأه فيها الطبيب الفرنسي في باريس أن حالته ميؤوس منها: «حالتك غير قابلة للشفاء». أحد أصدقاء الكاتب المقربين الذي نقله من المستشفى إلى البيت تمنى له وهو يودعه أمام مدخل البناية: الشجاعة. يقول ونوس: ما معنى الشجاعة؟ وماذا تفيد الشجاعة رجلاً تقرر رحيله؟ ولماذا ينبغي أن أكون شجاعاً؟ لماذا لا يحق لي أن أنهار، وأن أعول، وأن أبكي.
باغتتني رغبة حارة بالبكاء، وبالفعل ذرفت دمعتين يتيمتين، لم أجد بعدهما ما أذرفه. حقاً، ما الشجاعة في مثل هذه الحال؟! الطبيب الذي رد على اعتراض سعدالله ونوس على العلاج الكيماوي لأنه لن يفعل سوى تنغيص أيامه الأخيرة ومضاعفة أوجاع وآثار السرطان، قال له: أنت مريض غير عادي. وأنا لم التق بكثيرين مثلك. إنك مثقف ولديك الشجاعة لمواجهة وضعك بعري ومن دون تجميل. وهنا لم يتساءل ونوس: ما هي الشجاعة؟ إن سؤاله في المرة الأولى لم يكن ينبع من جهل، لأنه كان يعيش هذه الشجاعة، كان يمارسها طوال حياته، طوال كتاباته، ولكنه كان شجاعاً أكثر في مواجهة المرض، في مصارعته هو الذي خلف في سنواته الأخيرة من آثار إبداعية تفوقت على كل ما كتبه قبل ذاك، هو الذي كان دائماً في المتراس الأمامي للكتابة وللحياة.
في مواجهة المرض الذي ينهش ذلك الطراز من الكتاب الذين يفيضون موهبة وألقاً، وأكثر الناس حساسية ودعة، تتجلى شجاعة ونبل هؤلاء. هذا ما نتيقنه من تجربة فذة كتجربة سعدالله ونوس الذي لم يترك فقط، وهو يرحل، شهادة على زمن عاشه، كان للجزء الأخير منه طعم العلقم ورائحة الخيانة، وإنما ترك أيضاً وصاياه للمستقبل، وكرر في أكثر من مناسبة، بما في ذلك كلمته الشهيرة بمناسبة يوم المسرح العالمي، أنه يقاوم السرطان بالكتابة.
وهذا ما نتيقنه من تجربة بدر شاكر السياب الذي كتب من على فراش مرضه في المستشفى الأميري في الكويت عدداً من قصائده الخالدة، وأمل دنقل الشاعر المصري الذي اختطفه الموت مبكراً كتب أعماله الأخيرة وهو على سرير المرض، ومن تجربة الراحل إداورد سعيد الذي واصل نشاطه الفكري والأكاديمي بهمة رغم إصابته هو الآخر بالسرطان الذي تمكن منه أخيراً. ونعرف من التاريخ ايضاً أن المفكر الإيطالي الشهير انطونيو غراشي كتب أهم أعماله على الإطلاق، أي دفاتر السجن، وهو يعاني من أمراض مختلفة لم تمهله طويلاً بعد خروجه من السجن الذي قضى فيه قرابة عشرين عاماً.
8 أبريل 2012
معوقات العمل الخليجي
لا زالت قضية المعوقات التي تواجه العمل الاقتصادي الخليجي المشترك تفرض نفسها بقوة منذ سنوات وحتى الآن، في اجتماعات وزارية ولجان فنية على مستوى مجلس التعاون، وفي العديد من المؤتمرات والندوات والفعاليات الاقليمية، واجتماعات الغرف الخليجية.
ذات القضايا والموضوعات، وذات المعوقات نجدها تتكرر دون بلوغ المعالجات النهائية المستهدفة التي تحقق المواطنة الاقتصادية الحقيقية، وها هي ذات المعوقات تطل برأسها من جديد في الاجتماع المقرر عقده في ابوظبي غدا الاثنين بين اتحاد غرف دول مجلس التعاون وامين عام المجلس، وهي معوقات تدور حول حصر ممارسة تجارة الجملة في انشطة معينة، ووضع قيود على تملك الاراضي والاسهم واعطاء افضلية للمنتج المحلي على المنتج الخليجي بغض النظر عن الجودة والسعر، وغياب القضاء الخليجي الموحد، ووجود ثغرات في التشريع وعدم توحيد آليات التنفيذ، وعدم السماح بقيام شركات بدون شريك وطني، وعدم السماح بفتح فروع للبنوك التجارية الى جانب معوقات ترتبط بالاجراءات الجمركية والاتحاد الجمركي الموحد مثل حماية الوكيل، وتعريف القيمة المضافة والاجراءات الجمركية الروتينية، ومعاناة اصحاب الاعمال من قيود تحد من حرية التبادل التجاري.
تلك المعوقات وغيرها كانت ولا زالت مطروحة على بساط البحث والتداول على اكثر من مستوى منذ سنوات وان حدث تقدم في معالجات اي منها، الا ان هدف التنسيق والتكامل لم يأخذ مداه المطلوب ولا زال يواجه بعدم الاستجابة المطلوبة الناتجة ربما عن سوء تقدير او عدم تفهم حقيقي لمقتضيات ما تفرضه مرحلة العمل الاقتصادي الخليجي المشترك قي الوقت الراهن، او لصدور قرارات في بعض دول المجلس تتناقض مع الجهود التكاملية، او للتخوف من ان تلحق بعض القرارات الضرر ببعض المصالح المادية لبعض الدول او لبعض القطاعات فيها.
ذلك كله اخر مسيرة العمل الاقتصادي الخليجي المشترك، واعاق مشروع السوق الخليجية المشتركة التي يفترض انها قائمة منذ بداية عام 2010، وجعل مشروع المواطنة الاقتصادية، والوحدة الاقتصادية الخليجية والاتحاد النقدي والاتحاد الجمركي عرضة للمراوحة دون تقدم نوعي وفعلي منشودين. تظل تلك المعوقات قائمة، ولا نعلم الى متى ستبقى قائمة، اليقين ان المطلوب وبشكل ملح وعاجل ان نتجاوز هذه المراوحة على وجه السرعة، فالمستجدات والتطورات والتحديات الاقليمية والعربية والدولية تفرض تحركا نوعيا غير مسبوق ينهض بالعمل الاقتصادي المشترك.
8 أبريل 2012
الديمقراطية العربية جذور الأزمة وآفاق النمو
قبل تسع سنوات اصدر مركز دراسات الوحدة العربية كتاباً بعنوان «حول الخيار الديمقراطي» تضمن عدة دراسات نقدية من بينها «الديمقراطية العربية وجذور الازمة وآفاق النمو» لـ د. برهان غليون. في هذه الدراسة يرى الباحث انه بالرغم من النكسة التي تعرضت لها مسيرة الديمقراطية العربية في السنوات القليلة الماضية فان فكرة الانتقال الحتمي نحو انظمة تعترف بحقوق الفرد وحرياته وفائدة التعددية السياسية قد فرضت نفسها حتى على اعدائها وذلك بقدر ما اصبحت فكرة احتكار الحياة السياسية ومسؤولية اتخاذ القرارات العامة من قبل فئة محدودة من «الكسان» رديفة للاغتصاب والتأخر والتعلق بالقيم البائدة وهكذا فان ما كان يبدو لنا في الماضي القريب فكرة قديمة بل رجعية مخربة وسلبية اعنى الديمقراطية، اصبح الان حقيقة ملموسة على اكثر من صعيد.
الصعيد الاول هو الفكرة ذاتها. فقد اصبحت الديمقراطية هي القيمة الاولى في سلم القيم السياسية والمطلب الاول بين المطالب الاجتماعية العربية، اما على الصعيد الثاني ونقصد الصعيد العلمي فان التحول نحو الديمقراطية رغم كل المصاعب والتعرجات والتقدم والتراجع هو اليوم وسوف يبقى لسنوات طويلة قادمة محور النشاط الجماعي والقومي العربي ومفتاح العمل من اجل تحقيق الاهداف الاخرى التي لا تقل اهمية ووزناً في انهاض المجتمع اي اهداف التنمية والامن القومي ومن هنا فان التحول نحو الديمقراطية هو المطلب السياسي التاريخي اليوم فهو الهدف الذي يشكل تحقيقه مدخلاً الى تحقيق الاهداف الاخرى بينما يعنى فشله الغوص اكثر في الازمة و«التنميط» الشامل.
وعلى هذا المستوى النقدي يتحدث «غليون» عن اهمية الاصلاحات الاجتماعية والاقتصادية وهي المؤشر الفعلي لأي مقاربة جدية للديمقراطية في المجتمعات العربية. ومن هذا المنطلق ربما كان فشل الدول العربية في فتح آفاق جديدة للتنمية والتطوير الاقتصادي هو العقبة الاكبر امام توسيع الخيار الديمقراطي والسير الجدي على طريق الحريات الاساسية وهذا يعنى ضرورة تغيير السياسات الاجتماعية والاستراتيجيات التقليدية التي اتبعها معظم الحكومة العربية في العقود الماضية في هذا الميدان، وفي هذا السياق يؤكد انه ما لم تشرع النخبة، حاكمة ومعارضة في ربط الاجتماعي بالمشاركة السياسية فلن يكون البديل الا فتح الباب من جديد لنزوعات الثورات الاجتماعية سواء اتخذت هذه النزوعات شكل التمردات الدينية او الانتفاضات الدموية فاستمرار الازمة الاقتصادية والاجتماعية يزيد من تهميش الفئات الشعبية وتدمير حسها الوطني والسياسي في حين ان غياب المشاركة السياسية والحوار يدفع الى المراهنة على الجماهير المتحولة ببساطة الى كتل يسهل التلاعب بها واستخدامها في مشاريع الثورات الخاصة!! .
وعن درء «مخاطر» الفوضى والانقسام يعتقد الباحث ان في مقدمة المخاوف التي تكرر كثيراً والتي تلتقي مع مخاوف مماثلة ما زالت تتردد في العديد من الاقطار التي دخلت في طور التطبيق الفعلي للتعددية السياسية، ان تقود الديمقراطية والمشاركة الفعلية والواسعة لكل القوى السياسية الى الفوضى وان تؤدي هذه الفوضى الى انفجار النزعات الطائفية او الى استلام القوى غير الديمقراطية الحكم، وبالرغم من ان هناك جزءاً كبيراً من المبالغة المقصودة من هذه المخاوف الا ان ذلك لا يمنع من وجود مثل هذه المخاطر..
ولاشك في ان من اوائل القوى التي تثير المواقف السلبية والقلق عند القوى الديمقراطية وداخل النظم جماعات الضغط الدينية العلنية والسرية وفورة العصبيات الطائفية او القبلية او الجهوية و« الا قومية» التي تترصد فرص ضعف السلطة المركزية حتى تستقل بنفسها او تضع نفسها تحت حماية القوى الاجنبية!! .
ومن تأكيدات الباحث ايضاً ان ليس المسؤولون هم الوحيدون الذين يخشون هذه المخاطر وانما تشاركهم في ذلك الاغلبية الساحقة من الرأي العام ومع ذلك ينبغي الا يغطى في الوقت نفسه على حقيقة ان الجمود او استمرار الاوضاع السياسية على ما هي عليه لا يقدم اي حل للازمة ولكنه بقدر ما يؤجل ساعة الحسم ويعمق التوترات والتناقضات يهدد بان تبقى نار التوتر الطائفي مشتعلة تحت الرماد ولا يقلل من مخاطر الانفجار وانما يجعل منه اكثر دماراً وخراباً ومما يفيد في ذلك انه اصبحت هناك قناعة عامة اليوم انه لا وجود لمشاكل وازمات ليس من الممكن مواجهتها بصراحة ووعي وبلورة الحلول الواقعية والعملية والسلمية لها على شرط ان تكون هناك نية صادقة وحقيقية للخروج من المأزق.
وعلى هذا الاساس يرى «غليون» ان جزءاً كبيراً من المسؤولين اصبح ميالاً الى هذا الحل بل غير قادر على مقاومة اغراء مثل هذه التحولات التي تحمل في طياتها الامن والسلام لمجتمعات هدمته روحها النزعات الدامية الذاتية. وفي مقابل ذلك يقول: ان خطر انقضاض الجماعات غير الديمقراطية على الديمقراطية وانجازاتها موجود دون شك. لكن لا تكون مقاومة هذا الخطر بافراغ الديمقراطية نفسها من اي مضمون.. وبالتالي فالحل يكمن في استغلال الفرص التي يقدمها المنهج الديمقراطي والسبل التي تفتحها تنمية المشاعر الوطنية والتفاؤل والامل بالمستقبل والتعلق بالسلام الاهلي.
الأيام 7 أبريل 2012
الحرب ضد الثقافـة
إن كانت الثقافة كما عرفها مقدم السؤال البرلماني لوزيرة الثقافة هي «أسلوب حياة يلمسه الآخرون في سلوكك قبل أن يلمسوه في فكرك وحديثك، وأنها تمثل الرقي الفكري»، فإن ما يبدو واضحاً هو أن أكثر نوابنا الأفاضل لا يملكون ولو حظاً بسيطاً من هذه الثقافة! فقد حوّلوا جلسة مجلس النواب الأخيرة إلى معركة استخدموا خلالها الكلمات البذيئة والصراخ الذي ينم عن مستوى ثقافتهم وتحضرهم، بدلاً من أن يدفعوا الحجة بالحجة، والرأي بالرأي، حتى أنهم لم يتحملوا سماع الطرف الآخر، ولم يتيحوا له الفرصة لطرح وجهة نظره، بل قاموا بطرده من المجلس بأسوأ أسلوب، وبأفظع الكلمات، متناسين انهم يتعاملون مع امرأة يجب أن تعامل باحترام كإنسان، مهما بدت درجة الخلاف، قبل أن تكون وزيرةً يعارض البعض أفكارها وتوجهاتها، وبذلك أظهروا مدى احترامهم للمرأة بشكل عام.
لست في وارد الدفاع عن وزيرة الثقافة، فالوزيرة قامت كغيرها من المسئولين بفصل ما يقرب من 13 من أبناء الوطن من مثقفين وكتاب من وزارتها، أو على أقل تقدير سمحت بذلك، وهو ما يُعتبر إجراءً ضد حرية الرأي والتفكير، والتي لا يمكن لأي مثقف أو فنان أن يبدع دونها.
ما يجب الدفاع عنه هو المبدأ وحرية الناس في الاختلاف، وألا يفرض علينا فكرٌ بعيدٌ عن العصر بحيث لا نرى أو نسمع أو نقرأ، إلا ما يجيزه الرقيب، والذي يريد البعض أن يأخذ دوره ويحل محله بحجة أنه يمثل الشعب!
فعن أي ثقافة يتحدثون وهم يرون في الفن والغناء والموسيقى وحتى الرسم والنحت… كفراً وفسوقاً ومجوناً؟ لقد تميّزت البحرين بانفتاحها على الثقافات المختلفة منذ القدم، وحافظت على وسطيتها واعتدالها، وأتاحت المجال لممارسة الحريات الشخصية، بفضل طيبة شعبها وتسامحه وحضاريته، ولكن هناك من يريد أن يلغي كل ذلك ويطبق تجارب خارجية بعيدة عن طبيعة أهل البحرين ليفرض على الناس قناعاته وأفكاره الرجعية من خلال التسلط والإرهاب الفكري.
الغريب هو صمت بعض المثقفين الذين هاجموا القوى المطالبة بالإصلاح بحجة واهية لا يوجد دليل واحد يساندها، وهي السعي لتطبيق ولاية الفقيه في البحرين، فأين هم الآن ممن يريد تحويل البحرين إلى أفغانستان أخرى؟ ولماذا صمتوا عن القوى الرجعية والظلامية التي برزت بصورة جلية من خلال محاربتها للتطور والثقافة والفن؟
لا يمكن لهذه القوى الظلامية إلا أن تأخذ موقفاً موحداً من جميع أشكال التقدم والتطور والتحضر والرقي الفكري، ولذلك هي تقف ضد الإصلاح وضد الديمقراطية وضد الانفتاح والحريات، بسبب أن أقصى ما تتمناه هو الرجوع إلى الخلف، إلى عصر العبيد والجواري.
صحيفة الوسط البحرينية – 06 أبريل 2012م
مرحلة اعادة بناء أكثر منها ديمقراطية!
كما هو واضح حتى الآن، وبعد مرور عام على اندلاع موجات التغيير الكبرى في العالم العربي، فان الديمقراطية الحقيقية والناضجة التي ظلت حلما منشودا للمجتمعات العربية، والتي ناضل وضحى من أجلها الكثيرون من قادة الفكر والثقافة والمجتمع المدني على امتداد مرحلة الاستقلالات السياسية التي تربو على ستتة عقود – ان تلك الديمقراطية لن تكون صيدا سهل المنال، ولن تكون فسحةً “للراحة من عناء رحلة الجري ورائها والقبض عليها”، ومن ثم التمتع بمزاياها ورغيد عيشها ورفاهيتها كما هو حال الشعوب الاخرى التي سبقتنا بفواصل زمنية شاسعة على هذا الطريق.
انها ستكون – والحديث ينصرف الى البلدان العربية التي شهدت تغييرا واضحا في مشهدها السياسي العام مثل تونس ومصر وليبيا واليمن والى حد ما المغرب – مرحلة عنوانها اعادة البناء أو “بيريسترويكا” حسب التعبير الذي استخده ميخائيل جورباتشوف آخر رئيس للاتحاد السوفييتي السابق لتسويق “رؤيته” – آنذاك – الخاصة بتفكيك البنى الراسخة للدولة السوفييتية واشادة بنى جديدة تحاكي العصر والحداثة.
والحال ان الثورات وحركات الاحتجاج الواسعة النطاق التي شهدها عديد البلدان العربية بصور متفاوتة الحدة وبأشكال مختلفة من أدوات الصراع المستخدمة، قد أدت الى الحاق اضرار جسيمة، متفاوتة المستوى أيضا، في البنية الأساسية للبلدان العربية المعنية، بعضها دُمر بالكامل أو جزئيا جراء الصور الأكثر بشاعة للصراع، وبعضه تعرض للنهب والسرقة والأعطال، وبعضها أضحى مشلولا ومتضررا ماليا بسبب الاضطرابات والأضرابات والاعتصامات، فضلا عن الأضرار التي لحقت بالموارد البشرية وبالرأسمال الاجتماعي نتيجة للتشطير الخطير الذي أصاب البنى المجتمعية الاثنية والقبلية والطائفية، وهي تصدعات تستدعي الحاجة لاعادة ترميمها في اطار عملية “اعادة البناء” التي ستنصرف اليها وتنشغل بها المجتمعات العربية في السنوات الخمس أو العشر القادمة (بحسب الحالة والظروف التي أحاطت بكل مجتمع عربي تضرر من ذلكم التشطير).
فلقد أعقب قيام الثورات والاحتجاجات تحول قطاعات واسعة من المحتجين باتجاه مطالب فرعية ذات أجندات أضيق نطاقا من المطالب الكلية للثورات والاحتجاجات، أجندات من قبيل زيادة الاجور، وتمكين المرأة واعادة الاعتبار للأقليات والمهمشين، وتطبيق الشريعة الاسلامية.. ومطالب أخرى لم يعد المحتجون الآخرون يتظاهرون من أجلها، ما أحدث حالات من الانفلات الأمني وارتفاع نسبة الجريمة بسبب ارتخاء قبضة الأجهزة الامنية نتيجة للأضرار التي لحقت بها، وكذلك الحال بالنسبة لطائقة واسعة من المرافق والهيئات والمؤسسات الانتاجية والادارية. كما دفع زخم الأحداث والتحولات الدرامية بالتجاذبات الدينية والعقائدية والعشائرية التي شكلت أحد عناوين المرحلة السابقة لاندلاع الثورات والاحتجاجات، دفعت بها بقوة بالغة الى السطح لتنشىء حالة خطيرة من الشقاق والانقسامات المجتمعية.
وهناك المؤسسات الحيوية مثل المؤسسات القضائية والمؤسسات التعليمية التي وان لم يصبها ما أصاب المرافق والمؤسسات الكلية الاخرى من اضرار، الا انها لازالت بحالتها الراهنة تشكل أحد امتدادات حالة الاستبداد “المنتهية ولايتها” افتراضا، ما يضعها على قائمة أولويات مرحلة “اعادة البناء”.
ولعل هذه الاشكالية تثير عددا من الأسئلة الحائرة من قبيل: وماذا عن الديمقراطية التي خرجت الجموع الهادرة من أجل احلالها محل الادارات الاستبدادية؟…وهل يعقل أن يكون ثمن الاحتجاج على استمرار الجمود والركود اللذين ظلا يطاولان ما بعد المستوى السياسي ليشملا كافة مناحي الحياة المجتمعية، اما القبول بحالة “يبقى الوضع على ما هو عليه” واما حصد الخيبة والانتهاء رجوعا الى ذات المربع ولسان الحال يقول “وكأنك يا بوزيد ما غزيت”؟
أولا فيما يخص الديمقراطية وما اذا كان المآل بعد التداعيات الكبرى المنفلتة للثورات والانتفاضات، هو التضحية بها لصالح أولوية “اعادة البناء”، فان المقاربة المعنية هاهنا ليست على النحو الذي يفترضه التساؤل وان كانت الديمقراطية في السنوات الخمس الأولى ستفسح في المجال أكثر لاعادة البناء.
ما نتصوره هو حدوث نوع من المواكبة تقوم خلالها الديقراطية بمحاولة مواكبة عملية اعادة البناء، من حيث ان الديمقراطية نفسها وآليات وأدوات ممارستها سوف تُكرس نفسها في المرحلة الأولى، كأولوية قصوى، لبناء أو استكمال بناء البنية التحتية للديمقراطية، من مؤسسات وتشريعات ومنظمات مجتمع مدني. ويمكن ان تسير هذه العملية بوتيرة متسارعة ويمكن ان تسير بوتيرة بطيئة تبعا للدعم والتسهيلات التي ستتلقاها من أنساق نظم ادارة الحكم الجديدة ومن مكونات المجتمع بالاجمال.
الى ذلك أيضا يتعين عدم اغفال قضية المصالحة الوطنية (Reconciliation)، بحسبان أهميتها القصوى وباعتبارها شرطا ضروريا “لتزييت” وتعبيد طريق التقدم الديمقراطي الحثيث، وتأمين انسيابيته بازالة كافة العراقيل والمعوقات التي أفرزتها الحقبة الماضية. وهذه مهمة أخرى سوف تستهلك وقتا معتبرا، ومخصوما بالضرورة، من وقت البناء الديمقراطي المؤسسي، لأنها سستتطلب جهودا مضنية لبناء الثقة واعدة رتق ما أحدثته التحولات المضطربة من ثقوب وتشققات وتصدعات غائرة وخطيرة في بنيان العلاقات المجتمعية والرأسمال الاجتماعي.
انما هذا لا يعني، ولا يجب أن يعني، بأي حال من الأحوال، القبول بتسويغات اطفاء جذوة النزوع الديمقراطي العام الذي أطلقه الشباب العربي الغاضب في الساحات وعلى شبكة التواصل الاجتماعي، تحت ذريعة الانصراف الكلي المجتمعي لأولوية “اعادة البناء”. فمثل هذه التأويلات والتخريجات الماكرة، يمكن أن تؤسس لحالة استبدادية جديدة تخلف سابقتها وتفوقها “فهلوةً” ونكبةً !.
قبل أن نصل إلى نقطة اللاعودة
هل وصلنا إلى نقطة اللاعودة في علاقتنا مع بعضنا البعض، أم أن الأمل لايزال في قلوبنا بحيث يرجع حبنا وعلاقاتنا كما كانت قبل الأزمة ولو بعد حين؟
من الواضح تماماً إلى أين وصلنا كشعب بحريني لم يكن يعرف التشطير في السابق إلا في حدود معينة. نعم كانت لكل طرف مناطقه وقراه ومساجده ومقابره ومناسباته واحتفالاته، وكنا نختلف أحياناً في مواعيد الأعياد، وكنا نحتفل بالمناسبات الدينية في أوقات مختلفة ونتعبّد بطرق مغايرة، وربما يكون لبعضنا معتقدات لا يقرها البعض الآخر.
نعم كنا مختلفين في العديد من الأمور، وربما كان بعضنا يخطّئ البعض الآخر ويعتقد بأنه على صواب وأن الآخر مخطئ، وقد نجد كلّ طرفٍ متمسكاً برأيه ويدافع عنه.
ولكن مع كل هذه الاختلافات لم يكن أيٌّ منا يكره الآخر، أو يتمنى أن يصيبه أي ضرر، أو يشكك في وطنيته أو أصله أو انتمائه. لقد كنا مع كل هذه الاختلافات نعيش كما تعيش الأسرة الواحدة، فالدين لله والوطن للجميع. كنا نعيش كأسرةٍ واحدةٍ يحب أحدها الآخر حتى وإن كان لا يتفق معه في بعض القضايا والأمور أو وجهات النظر.
كنا نتزاور في الأعياد والمناسبات، ونفرح لفرح بعضنا البعض، ونحزن جميعاً إن أصاب أياً منا مكروه. كانت هناك الكثير من الزيجات المختلطة، والصداقات الحميمة دون أن يلحظ أحدٌ أن صديقه من الطائفة الأخرى. كنا جميعاً أبناء وطن واحد وأخواناً من أم واحدة هي البحرين.
فما الذي غيّر نفوس الناس ليشعروا بأنهم أعداء، فكيف أصبح الأخ يفرح لمقتل أخيه ويصفق لإزهاق روحه ويرقص على جراحه، وكيف أصبح الأخ يغمض عينيه لكي لا يرى ما يدور حوله ويغلف قلبه بطبقات من الحديد المصفح لكي لا يشعر بالحزن على أطفال سقطوا ضحايا بسبب جشع البعض. كيف ارتضى الأخ أن يشي بأخيه ويحرّض عليه ويحاربه في عمله ويسعى في قطع رزقه ورزق عياله.
كيف اقتنع الأخ بأن أخاه يريد الاستفراد بالوطن، وكيف صدّق أنه كان يتآمر عليه مع أطراف خارجية؟
كيف أصبح البعض يقف ضد إعادة اللحمة الوطنية، ويعرقل أي جهد للحوار؟
لقد دخل البعض في غيبوبة عقلية وقام ببناء أسوار يحصّن بها نفسه ويعزلها عن الآخر، وأصبح لا يسمع إلا ما يثير نوازعه الطائفية من أطراف هي المستفيدة الوحيدة من هذا الوضع.
فهل وصلنا إلى نقطة اللاعودة؟ وهل تفرّقنا إلى الأبد أم مازلنا إخواناً تخاصمنا لفترة ومن ثم نرجع بقلوب متسامحة لنحتضن الوطن ويحتضننا جميعاً؟
صحيفة الوسط البحرينية – 03 أبريل 2012م
انتصاراً لحـرية الثقافـة
الحريات في أي مجتمع ينشد أن يكون ديمقراطياً لا تتجزأ. وحرية التعبير هي حاكم من حواكم هذه الحرية، مثلما نطالب بالحريات السياسية، نطالب ونذود عن حرية الثقافة، بل أن في الانتصار لحرية هذه الأخيرة انتصار لأكثر القيم الإنسانية عمقاً ورحابة، ذلك أن ما في البحرين من حركة ثقافية وفنية هي نتاج تطور مجتمعي صحي وطبيعي، لم تفرضه الدولة، وإنما حققه المجتمع في مسعاه المديد للتطور والحداثة، ولم تكن علاقة الدولة بالثقافة ومؤسساتها على ما يرام في العديد من الحالات، حسبنا هنا أن نتذكر ما طبع علاقة الجهات الرسمية بأسرة الأدباء والكتاب في مراحل مختلفة من شد وجذب، وحسبنا هنا أن نتذكر ما تعرضت له أسماء لامعة في دنيانا الثقافية من معاناة وإقصاء.
إن الثقافة هي فضاؤنا الحر ويجب أن تبقى كذلك، وعلينا أن ننتصر للثقافة في مطلق الحالات، سواء أتاها العسف من أجهزة حكومية أو من كتل نيابية أو من هيئات سياسية.ولا نقول ننتصر لها ظالمة أو مظلومة، فالثقافة لا يمكن أن تكون ظالمة أبداً، لأنها تربي في الأذهان والنفوس التهذيب ورقي الإحساس والذائقة وتنمي لديهم الوعي والمعرفة، وهي الضمير الحي للناس، وبوصلتهم نحو الفطرة السوية.
من هذه الزاوية بالذات نقف ضد ما تتعرض له الثقافة من هجوم متجدد، وجدنا بعض تجلياته في الاعتصام الذي سعى أصحابه لإفشال حفل موسيقي راقٍ في مركز الشيخ إبراهيم الخليفة في المحرق، وفي التعرض لمهرجان ربيع الثقافة من قبل بعض النواب الذين أحالوا جلسة المجلس الأخيرة إلى سيرك من الزعيق، حين اعتقد هؤلاء أن انفرادهم بوزيرة الثقافة في تلك الجلسة بمثابة النصر المبين لهم، ولكنهم للأسف ظهروا بمظهر يدعو للشفقة في أعين قطاعات واسعة في المجتمع تعتبر الدفاع عن حرية الثقافة والإبداع في هذا المجتمع قضية عامة لا يصح التساهل إزائها، كما هو شأن الدفاع عن أي قضية من قضايا الحرية التي نريد لها أن تنتصر.
كما ذكرنا في مقال سابق فان مبعث السخرية الرئيسي أن أعضاء المجلس النيابي الذين لم يقوموا حتى اللحظة بأي جهد في سبيل رأب الصدع الذي أصاب الوحدة الوطنية، بل كان بعضهم في الكثير من الحالات شركاء في تأجيج الوضع واحتقانه من خلال مداخلاتهم في جلسات المجلس أو على شاشة التلفزيون أو في وسائل الإعلام المقروءة، ولم يقوموا بأي جهد يذكر في محاربة الفساد، ولا في تطوير البنية التشريعية، وإنجاز ما هو مطروح أمامهم من تعديلات على القوانين والتشريعات، يشغلون وقت المجلس ووقت المجتمع في معارك دونيكشوتية يصارعون فيها طواحين الهواء، لإخفاء مظاهر العجز الكثيرة في أدائهم.
ننتصر للثقافة ليس فقط لأن لدى المجتمع قضايا مهمة أخرى يجب أن ينصرف إليها وإلى حلها، وإنما لأن حرية الثقافة والتعبير قضية جوهرية، ففي أساس هذا الهجوم على الثقافة يقع مشروع شمولي، يضيق ذرعاً بما في المجتمع من تعددية في الوعي والسلوك، ويريد أن يملي على المجتمع نموذجاً واحداً للعيش من طراز ذاك الذي يبشر به وجدي غنيم وصُحبه.
5 ابريل 2012
تعطيل القرار الاقتصادي
التوجهات الاقتصادية المعلن عنها اخيرا الهادفة الى تنشيط الحركة التجارية واعادة العافية للوضع الاقتصادي وتعزيز الثقة في بيئة الاعمال والاستثمار، والتي ابدت غرفة التجارة ومعها اصحاب اعمال ترحيبهم بها وتأييدهم لها . هذه التوجهات وما قد ينبثق عنها من قرارات مرتقبة قد تواجه تحديا ينبغي ان يؤخذ في الحسبان، فبالاضافة طبعا الى ما يتصل بالامن والاستقرار كركيزة للنمو والتنمية وتحسين الوضع الاقتصادي وانطلاقة العمل والانتاج وتحقيق الآمال، الا ان التنفيذ الصحيح لهذه التوجهات والقرارات لكي تكون فاعلة ومؤثرة ومحققة لاهدافها هو التحدي الذي لابد من الاقرار به واعطائه ما يستحقه من اهتمام وتركيز ومعالجة.
اذن التنفيذ الصحيح هو طريقنا الى كل النتائج المستهدفة، ولذلك لابد ان يتغير الاسلوب وتتطور الادوات المسؤولة عن التنفيذ، وهذا يفرض تركيزا على الاصلاح والتطوير الاداري، فالادارة هي التي تنفذ، وهي المعنية بدفع التوجهات والقرارات الى مسارها الصحيح ومداها المطلوب، حيث لابد من الاعتراف بأن الجسم البيروقراطي الحكومي الذي دعا سمو رئيس الوزراء قبل ايام الى مواجهته، وهو الجسم الذي نرى بأن له ثقله وديموميته وديناميكيته الخاصة، وقدرته الهائلة على تعطيل اي قرار، او عدم تنفيذ القرار كما يجب، هذا الجسم البيروقراطي هو التحدي الذي يظل جاثما وقادرا على العرقلة والتسويف لاي خطوة الى الامام، ولعلها رسالة معبرة في هذا المجال تلك التي اطلقها احد تجار سوق المنامة القديم امس الاول في اللقاء التشاوري ومؤداها: شبعنا اجتماعات وقرارات، نريد تنفيذ..!!
نقول ذلك لاننا وجدنا على مر السنوات الماضية اننا امام تعطيل واضح لقرارات وتوجهات شتى، منها على سبيل المثال لا الحصر موضوع اعطاء الاولوية والافضلية للصناعة البحرينية، وللمنتج البحريني، وللمقاول البحريني، وللتاجر البحريني وللشركة البحرينية، في المشتريات والمناقصات والخدمات الحكومية، وهانحن كمثال ليس الا، نجد مجلس التنمية الاقتصادية يستعين بشركة اجنبية لتقديم خدمات العلاقات العامة بعقد لهذه السنة قيمته بالتحديد 3,973,522 دينار فيما لدينا شركات علاقات عامة بحرينية بمستوى رفيع، كما هناك مشاريع اخرى في مجالات شتى لازالت تستند الى شركات غير بحرينية بطريقة مباشرة او غير مباشرة.
ما نريد ان نخلص اليه انه يتوجب اولا مواجهة التحديات التي تواجه القرار الاقتصادي وتعطله.
5 ابريل 2012
الثورات العربية وتحديات المستقبل
بعد المنعطف السياسي الذي مرت به معظم الدول العربية ،حيث إستطاعت الشعوب في مصر وتونس وليبيا تغيير النظام السياسي وإحداث تغيير نسبي في مؤسسات الدولة، بينما الشعب اليمني عبر تدخلات خليجية وإرادة شعب محلية أستطاع إزالة رأس الدولة علي صالح وتولي نائبه الرئاسة المؤقتة حتى مرحلة الإنتخابات بالرقم أن اليمنيون يؤكدون بأن ثورتهم السلمية التي استمرت سنة من إندلاعها لم تحقق أهدافها بينما طموحهم إسقاط جميع رموز نظام علي صالح في المؤسسات وداخل الجيش ، كما شملت الإصلاحات الدستورية في الجزائر والمغرب والاردن ونأمل أن تكون مملكتنا البحرين ضمن مسار التعديلات الدستورية .
ونتيجة لرياح التغيير حصدت بعض القوى السياسية في هذه الدول على نصيب الأسد نتيجة لعمل دؤوب قامت به في أوساط الجماهير عبر الوسائل الإجتماعية والخيرية مما حصدت ثمرة جهودها والحق يقال وبغض النظر عن إختلافنا أو إتفاقنا مع توجهاتهم السياسية .
وعندما تتحول أي قوة سياسية كانت في يوم من الايام في صفوف المعارضة والآن تمثل السلطة فحتما ستخضع هذه القوى لتحديات وإختبارات وبروتوكولات وقوانين دولية و محلية بالأمس كانت ضدها واليوم هي ملزمة بمراعاتها ولذلك نقول لا توجد في السياسة مبادئ وإنما توجد مصالح فالمصلحة لهذه القــوى عندما تكون في المعارضة تختلف تماما عن المصلحة عندما تكون في السلطة ، بينما الجماهير لا تعرف هذه المجاملات وإنما تريد موقف سياسي من هذه القضية وتلك ولهذا ستواجه القوى السياسية المتربعة على قمة النظام السياسي تحديات كثيرة في الجوانب السياسية والإقتصادية والإجتماعية.
علىصعيد جمهورية مصر العربية:
أولا: ففوز حركة إخوان المسلمين في السلطة يتطلب الدعم المصري للفلسطينيين في غـــزة وفتح بوابة رفح وتسهيل مرور الفلسطينيين من قطاع غزة إلى مصر فهل سيتجاوب الإخوان مع من أقرب الناس إليهم فكرا وهي حركة حماس ,أم سيخضعون إلى مجاملات بعض الدول التي تراعي مصلحة إسرائيل في الأول والأخير لحساب الموقف المبدئي للإخوان .
ثانيا: أسعار الغاز الذي يضخ إلى إسرائيل بأسعار زهيدة ,هل سيستمر هذا العطاء والبذخ الذي كان حسني مبارك يتكرم به على حساب إيرادات جمهورية مصر وإنعكاسه على مستوى معيشة الشعب أم ستكون العلاقة مع إسرائيل هي الأساس .
ثالثا : السياحة في مصر حيث يشغل ما يقارب أكثر من مليون عامل وموظف في هذا القطاع الحيوي حيث يتدفق السياح من جميع أنحاء العالم وتوفر السياحة ومنتجاتها جزء كبير من دخل الجمهورية ، هل سيضع الإخوان قوانين جديدة تضع قيود على السياح سواء من الداخل أو القادمين من الخارج وهذه حقيقة معضلة أخرى أو تحدي يواجه السلطة الجديدة في مصر .
رابعا: حل مشكلة البطالة وهجرة الأدمغة المصرية التي تتزايد قبل الثورة وبعدها ومعدل البطالة وإرتفاعها بشكل مستمر والخريجين يتزايدون بأعداد كبيرة من الصعب السوق المحلي إستيعابهم فهل سيأتي الإخوان بإستراتيجية تنموية جديدة تضع في مقدماتها حل مشكلة البطالة .
خامسا: مشكلة الديمقراطية والإيمان بالرأي الآخر:
يردد المثقفون الليبراليون بأن تيارالإسلام السياسي عندما يكون في المعارضة يتبنى الديمقراطية ويؤمن بها ويلتزم ببعض قوانينها وبنودها وعندما يصل إلى السلطة يحتكرها وينفرد بها ويتخلى عن الديمقراطية ، أعتقد أن هذا أكبر التحديات التي ستواجه الإخوان في مجتمع مصري منفتح متعدد الطوائف والأديان حيث يوجد المسيحيين واليهود والمسلمين بتعدد مذاهبهم فهل قادرين لخلق تعايش سلمي ما بين فئات المجتمع بعيدة عن الفتن والتناحرات والذي كان آخرها الهجوم على كنيسة الأقباط ، علما بأن الشعارات التي صرح بها راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة الإسلامية في تونس يريد تغيير النظام السياسي من نظام ابتلع السلطة في شخص واحد وهو الرئيس إلى نظام يدع السلطة للشعب .
ولا تختلف هذه التحديات في مصر عن غيرها من الدول العربية التي شملها التغيير حيث تتشابه جميعها في الظروف السياسية مع بعض الإختلاف من بلد إلى بلد ,فمثلا في ليبيا تتنافس القبائل على السيطرة على الريف في الجنوب الشرقي من البلاد كما تتجدد الإشتباكات في مدينة الكفرة من قبل مليشيات وجماعات قبلية ضد المجلس الإنتقالي ، كما يواجه اليمنيون نفوذ علي صالح وأتباعه في مؤسسات الدولة والجيش
فهل تستمر التغيير من غير تطهير المؤسسات والجيش من نفوذ علي صالح وأتباعه وهل الجنوبيون سيكفون عن المطالبة بالإنفصال عن الشمال أم ستظل عقبة أخرى تواجه التغيير وكيف يتم إستقطاب كل التيارات بما فيهم الحوثيين في برنامج موحد يتعايشون فيه ، وأخيرا سيظل هذا الحراك كمقدمة لحراكات أخرى ليس بالضرورة في الوقت القريب وإنما في المدى المتوسط وستطرق رياح التغيير كل الأبواب ولن تستثني أحـــدا .