رجل يرتدي الدشداشة الخليجية البيضاء وعلى رأسه يضع الغترة والعقال، يقود السيارة الفارهة أو يوقع الشيكات من على مكتب أنيق، أو يُرجع كرسي الطائرة المريح الى الخلف بكبسة خفيفة على زر وينام «نوم العوافي» في الرحلة الطويلة التي تقله إلى نيويورك أو بانكوك، ويمكن لهذا الرجل، بالدشداشة البيضاء والغترة والعقال على رأسه، بعد أن يتلذذ بشرب القهوة أو احتساء الشاي.
وهكذا تكرست في المحطات التلفزيونية العربية صورة نمطية للمواطن الخليجي، الثري، المترف، ذي الملابس النظيفة البراقة الذي يوقع الشيكات وهو في كامل الاسترخاء والثقة. نموذج إعلاني جاهز أشبه بالقالب نراه في قلب كل البرامج التلفزيونية، بما فيها البرامج السياسية الساخنة وحتى نشرات الأخبار، حين يعلن المذيع أو المذيعة عن استراحة ثم «نعود إليكم بعد الإعلان».
وفق هذا الصورة يسود فهم أن كل أبناء هذه المنطقة غارقون في الرفاهية، حيث لا فقر ولا بطالة ولا مشاكل في السكن وغيرها، مع أن أبناء المنطقة يكتوون بنار كل هذه المشاكل، وحتى بنيتنا الأساسية التي يضرب بها المثل في التقدم في حال المقارنة بمثيلاتها في البلدان الأخرى، تكشف عن عيوب فاضحة مع كل رشة مطر خفيفة، بحيث تتحول الشوارع الى وديان من المياه.
اننا نقيم الدنيا ونقعدها احتجاجاً على صورة العرب المشوهة في الإعلام الغربي، ويهتم الدارسون في وسائل الاتصال والإعلام بتحديد ملامح الصورة التي يقدمها هذا الإعلام للعربي، وبشكل أخص للمواطن الخليجي، وغالباً ما يقدم هذا الإعلام كل العرب بوصفهم أثرياء ومهووسين بالنساء ومبذرين لأموال نزلت عليهم من السماء لا يعرفون ماذا يفعلون بها لكثرتها. لكننا ننسى أن الصور النمطية التي يقدمها الإعلان التلفزيوني للإنسان الخليجي هي صورة من إنتاج محلي، من إنتاجنا نحن، حتى لو بدونا محايدين أو سلبيين إزاءها، فحتى لو لم نكن نحن من ينتجها بالضرورة فإننا نشارك عبر قنواتنا التلفزيونية في ترويجها والتباهي بها، على ما فيها من” كاريكاتيرية “، فهي تقدمنا كما لو كنا ننتمي إلى زمن «ألف ليلة وليلة»، كبشر خارج الزمن، هادئي البال، لا نتردد في اقتناء السلع الفارهة والسيارات الأنيقة ووسائل الراحة والترفيه والتسلية.
هذا النمط الإعلاني يصبح مثالاً وقدوة. انه يقترح على الجميع أسلوب معيشة معيناً عليه التماهي معه، لتتطابق صورتنا مع الصورة المترفة التي يقدمها التلفزيون. والغريب أننا نظهر في حالة الكسل التام إزاء هذه الصورة نقبلها على علاتها ولا نجد غضاضة في التسليم بها، وأكاد أزعم أنها ترضي لدى بعضنا شعوراً بالفخر بأنه ينتسب إلى هذا النمط، رغم أننا لا نكف عن التذمر والاحتجاج على الصورة المشوهة لشعوب الخليج ليس فقط في الغرب وإنما لدى أشقائهم العرب أيضاً.
ولكي يكون المرء صادقاً علينا ان نعترف بأن هذه الصورة النمطية ليست افتراء بالمطلق، انها تستمد العديد من عناصرها، من نمط الحياة الاستهلاكي المدمر الذي نحياه ونحرص على تعميمه، مأخوذين بالسكرة وغافلين عن الفكرة، فنسيء إلى أنفسنا في المقام الأول قبل أن نسهم، بوعي أو بدون وعي، في تقديم أنفسنا بهذا الشكل البائس.
نعود إليكم بعد الإعلان
أزمة التيار الوطني!
بدءا لابد من توضيح أنّه عندما يتم الحديث عن أطراف التيار الوطني من جماعات وعناصر ديمقراطية وتقدمية يسارية وليبرالية، فهذا لا يعني أنّ المنتمين إلى هذا التيار يحتكرون الوطنية لأنفسهم، وإنما المقصود هو نسبتهم إلى مرجعيتهم الوطنية في إطار اشتغالهم بالعمل السياسي، مثلما يوصف في المقابل المنتمون إلى التيار الإسلامي من إخوان مسلمين وسلفيين وناشطين إسلاميين شيعة استنادا إلى مرجعيتهم الإسلامية من دون احتكارهم الإسلام.
وبعد هذا التوضيح المستحق نأتي إلى الموضوع وهو أزمة التيار الوطني في الكويت، التي برزت على السطح خلال السنوات العشر الماضية، وجاءت نتائج الانتخابات الأخيرة لتكشف مدى عمق هذه الأزمة ومقدار اتساعها… فما هي طبيعة هذه الأزمة؟ وما هي أبعادها؟ وأين تكمن أسبابها؟ وكيف يمكن الخروج منها؟!
إنّ ازمة التيار الوطني في الكويت لا تنحصر في فقدانه التمثيل النيابي بعد الانتخابات الأخيرة، ولا هي أزمة تقلّص نفوذه الجماهيري وتراجع فعاليته السياسية، فهذه بالتأكيد وغيرها بعض مظاهر هذه الأزمة، ولكن الأزمة بالأساس هي أزمة الدور التاريخي لهذا التيار وطبيعة القوى الاجتماعية التي يمثلها وما يتصل بها من تناقضات.
فلقد كان التيار الوطني بتطلعاته التحديثية منذ ثلاثينيات القرن العشرين يمثّل القوة الرئيسية للحراك السياسي والاجتماعي والثقافي في ظل غياب تام للتيار الإسلامي عن ساحة العمل السياسي وانحصار دوره في النطاقين الدعوي والخيري… هكذا كان الأمر في العامين 1938 و1939 مع “الكتلة الوطنية” التي كانت تمثّل التنظيم السياسي للنخبة التجارية المستنيرة؛ وكذلك “كتلة الشباب الوطني” التي كانت تنظيمها الشبابي، حيث قاد هذا التيار الحركة الديمقراطية المسماة “حركة المجلس” عبر إنشاء مجلسي الأمة التشريعي الأول والثاني وصياغة أول دستور ديمقراطي وإقامة حكومة برلمانية لم يمتد بها العمر طويلا، وأعقبها قمع شديد وتراجع مريع…وفي الخمسينيات مثّلت “حركة القوميين العرب” الحزب السياسي الحليف للبرجوازية الوطنية الناشئة، وهي التي أسست في العام 1958 بالتعاون مع شباب تلك الطبقةالاجتماعية الصاعدة حينذاك تنظيمها السياسي العلني “الرابطة الكويتية”… ولاحقا عندما انتقل مركز الثقل في الحراك السياسي ليس في الكويت فحسب؛ وإنما في معظم بلدان المشرق العربي، من البرجوازية الكبيرة إلى الطبقة الوسطى والفئات الشعبية أو البرجوازيتين المتوسطة والصغيرة فقد أصبحت “حركة القوميين العرب” ومن ثَمَّ التنظيمات الثلاثة المنبثقة عنها بعد انشقاقاتها في العام 1968 مثل “الحركة الثورية الشعبية” ذات الوجهة اليسارية؛ و”حركة التقدميين الديمقراطيين” ذات الوجهة القومية التقدمية بقيادة الدكتور أحمد الخطيب، و”التجمع الوطني” بقيادة جاسم القطامي، هي التشكيلات الممثلة للتيار الوطني، وهي التي تصدّرت المعارضة الوطنية للسلطة في مجلس الأمة وخارجه، خصوصا على مستوى الدفاع عن المكتسبات الديمقراطية والتصدي للنهج السلطوي، وإليها يعود الفضل في تأسيس ثم قيادة الحركة النقابية العمالية والحركة الطلابية وتكوين معظم مؤسسات المجتمع المدني الحديثة، واستمرت الحال كذلك إلى العام 1976 مع الانقلاب السلطوي الأول على الدستور، عندما شنّت السلطة أوسع حملة لتهميش التيار الوطني… وكان حلّ مركز تجمعها الجماهيري الرئيسي “نادي الاستقلال” هو الإجراء الرئيسي في هذا الاتجاه، في الوقت الذي عمدت فيه السلطة إلى دعم بعض أطراف التيار الإسلامي، وتحديدا “الإخوان” و”السلف”، وذلك بهدف محاصرة التيار الوطني وتقليص نفوذه… وكانت انتخابات 1981 بعد تفتيت الدوائر الانتخابية العشر إلى خمس وعشرين دائرة هي نقطة الانعطاف لإضعاف المعارضة الوطنية ومحاولة إقصائها عن التمثيل النيابي وبداية اقتحام التيار الإسلامي للساحة النيابية… وقد ترافق هذا مع ترتيبات مشابهة في عدد من البلدان العربية المشرقية وذلك في إطار الحرب الباردة بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي.
ومع أنّ قوى التيار الوطني استعادت تمثيلها النيابي في انتخابات 1985 وكانت لها مساهمتها الواضحة في التصدي للانقلاب الثاني على النظام الدستوري، إلا أنّها لم تعد تمثّل مركز الثقل الرئيسي في الحياة السياسية، خصوصا في ظل حالة التراجع التي شهدتها قوى حركة التحرر الوطني العربية واشتداد أزمتها… وجاء الغزو والاحتلال، وكذلك ما شهده العالم من تحولات دراماتيكية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لتعمّق هذه الأزمة وتزيدها تعقيدا… وبعد التحرير شهد المجتمع الكويتي حالة من الانكفاء على الذات والانعزال الوطني والارتباك في المواقف وتغيير الاصطفافات وتبدّل القناعات واختلاف المرجعيات، انعكست سلبا على التيار الوطني بمختلف تكويناته، على الرغم من محاولتها توحيد صفوفها عبر إقامة “المنبر الديمقراطي” في العام 1991 بعد التحرير مباشرة…فقد أصبحت النزعة الليبرالية هي النزعة السائدة في صفوف القوميين والديمقراطيين والتقدميين، بل في صفوف كثير من اليساريين السابقين، ولاحقا انتشر الميل النيوليبرالي في صفوف هذا التيار، وتمّ التخلي عن منطلقاته السابقة وتوجهاته المعادية للإمبريالية، وانعكس هذا أيضا على طبيعة اهتمامات هذا التيار ونوعية خطابه السياسي وانعكس كذلك على القاعدة الاجتماعية الشعبية التي يمثّلها، وتحوّلت معظم قوى هذا التيار الوطني وتنظيماته السياسية إلى تجمعات انتخابية ذات تكوين مناطقي محدد قاد إلى حدوث أزمة عميقة في صفوف “المنبر الديمقراطي” في العام 2000، وفي هذا السياق تأسس “التجمع الوطني الديمقراطي” بتوجهاته الليبرالية البرجوازية، ثم أقيمت صيغة “التحالف الوطني الديمقراطي”، وما تبع ذلك من مواقف ملتبسة وخطاب مختلف… وفي المقابل احتلت الأطراف الشعبوية، وتحديدا “كتلة العمل الشعبي” موقع تمثيل الفئات الشعبية وتبني قضاياها، وتحوّلت إلى معارضة جديدة أو بديلة، وذلك كله في الوقت الذي شهد فيه المجتمع الكويتي تحوّلات اجتماعية واسعة نتج عنها تبدلات سياسية واضحة زادت من عمق أزمة قوى التيار الوطني…
وللحديث صلة.
عالم اليوم الأحد 08 ابريل 2012
تراكمات تاريخية دفعت المجتمعات العربية نحو ربيع الصحوة الديمقراطية
عندما نقرأ تاريخ المنطقة العربية، نجد أنها مكتظة بكثير من الأحداث التي تعيد الكرة ذاتها، خصوصاً عندما يأتي ذكر مطالب المجتمعات المسلوبة إرادتها. ومثل هذه الأحداث تعكس مجموعةً من تراكمات وصراعات تاريخية تنعكس على واقع الشارع العربي الذي يعيش أوجهاً متعددةً لصراعات متكررة، لكنها قد تأخذ طابعاً ولوناً يتناغم مع طبيعة العصر الذي نعيش فيه، بل وشاهداً على دخول مرحلة تاريخية. كما نشهد حالياً «الصحوة العربية» نحو تحقيق الديمقراطية، والتي انطلقت عبر ربيع من الانتفاضات والثورات بدأت في تونس منذ مطلع العام 2011.
هذه الصحوة العربية الديمقراطية دخلت عامها الثاني، كان عامها الأول قد أطلق عليه «الربيع العربي». رغم أن هناك دولاً نجحت وأخرى أخفقت، ولكن هذا لا يعني بالضرورة نهاية ما يحصل في المجتمعات العربية، وإنما هي مسيرة بدأت لتصحيح أوضاع تاريخية لن تستقيم بها الحال إلا عندما تصل المجتمعات إلى مبتغاها، وهو العيش بكرامة.
وبالاطلاع على صفحات التاريخ العربي والإسلامي فإنه بلاشك يعج بكثير من قصص الدم والاستعباد والغالب والمغلوب وأنواع الحكم المشوّه الذي لا يحتاج إلى دعاية من المعارضات السياسية في أي زمن لتشويهه، لأنه أساساً مشوّهٌ لكونه قائماً على القهر السياسي. من هنا نرى أن التراكمات التاريخية في أي حراك سياسي داخل المجتمعات العربية قد يلعب دوراً في حركات تطالب بما كان ممنوعاً ضمن ممارسات ممنهجة، أو ضمن قوانين تسلب حقوق الفرد لمجرد الاختلاف في الرأي أو العرق أو الدين أو المذهب أو الجنس.
بعض التراكمات التاريخية تلعب دوراً في تفريق المجتمع ضمن أطر وقوانين تسلب المجتمع إرادته، ولكن مصير ذلك في النهاية مرتبطٌ بمدى قدرة بلداننا على حل المشكلات بشكل جذري، والتنازل لبعضها البعض ضمن توافقات تاريخية. ولكن إذا كان هذا المدخل التصحيحي غير وارد في أذهان من بيدهم القرار، فإن حركة التاريخ لها كلمتها المرتبطة بمستقبل الحريات، والديمقراطية وحقوق الإنسان العربي من الخليج إلى المحيط.
إن القوة التي تستمد منها الأنظمة في المنطقة العربية قائمة على الاستحواذ على الإمكانات، ومن ثم تفريق المجتمعات وإنهاكها، ويبدو أن هذا الخيار يبقى مفضلاً لدى البعض مقابل ما ينادي به مناصرو حقوق الإنسان لتصحيح الأمور، وهذا الإصرار على عدم تصحيح الأوضاع يجر إلى منزلقات وصراعات داخلية الشعوب في غنى عنها. وحالياً تقاس فاعلية الأنظمة على المؤشرات الإنسانية بمدى قدرتها على الاستجابة لمطالب شعوبها، وليس بمدى قدرتها على قمعها أو تفريقها وضربها ببعضها البعض.
إن عدوى الصراعات لن تكون بمنأى عن أيٍّ من دول المنطقة، لاسيما وأن غياب الحلول الجذرية للمشكلات الداخلية لا يمكن أن يؤدي إلى استمرار بعيد المدى في ظل غياب المؤسسات السياسية القادرة على استيعاب هذه المتغيرات.
وفي دراسة عن مدى «تأثير الصراعات الداخلية في العالم العربي… رؤية مستقبلية» كتبها عدنان الهياجنة ونشرت في الجزيرة.نت بتاريخ 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2004 قال «مستقبل الصراع الداخلي في العالم العربي يبشر بمزيد من الصراع، إذا ما بقي التعامل مع قضية الديمقراطية والمشاركة السياسية في العالم العربي يأتي من فوق، لأهداف سياسية آنية بعيدة كل البعد عن تجذير المجتمع المدني في تلك الدول».
وأضاف الهياجنة «إن معظم الصراعات العربية الداخلية عادةً ما تكون الحكومة طرفاً أساسياً فيها، لذا فهناك غياب لصراعات بينية بين جماعات مختلفة داخل الدول العربية. وبناء عليه فإن الحكومات العربية تتحمل مسئولية كبرى في حل هذه الصراعات».
البعض يلجأ إلى استخدام مصطلح «الديمقراطية» من دون محتوى، كأداةٍ أو كلمةٍ مطاطة لتجميل الواقع غير الصحيح، وهذا يجر البلدان إلى دوامة مستمرة من الصراعات بين من يطالب بالديمقراطية وبين من يتمسك بالدكتاتورية، وهو مشهدٌ تكرر في أكثر من بلد عربي على مدى السنوات الماضية مما مهّد لإطلاق أولى شرارات الصحوة العربية التي بادر بها الشباب العربي منذ العام 2011، وذلك بسبب استخفاف الأنظمة بمطالب وحقوق المواطن العربي والتلاعب بديمقراطيةٍ لا يريدون لها أثراً فعلياً في حياة المجتمعات العربية.
صحيفة الوسط البحرينية – 15 أبريل 2012م
استقلالية مؤسسات المجتمع المدني
من سمات الشمولية العربية هيمنة الحكومات على مؤسسات المجتمع المدني، والتي فقدت بحكم هذه الهيمنة صفتها التمثيلية للقطاعات التي تنطق باسمها، فكانت النقابات والاتحادات النسائية والشبابية والطلابية أو سواها تدار مباشرة من الحزب الحاكم في هذا البلد العربي أو ذاك، أو خاضعة للبيرواقراطية الحكومية التي تتحكم في سياسات هذه المؤسسات وتخضعها لها كلية، فلا تعود سوى صدى للخطاب الحكومي.
من الأمور التي تحسب لمؤسسات لمجتمع المدني في البحرين انها نبعت من قلب الحراك المجتمعي المستقل عن الدولة، وليس القصد هنا أنها نشأت لمغالبة الدولة، وإنما لتتوفر على أهم شرط من شروط المجتمع المدني وهو الاستقلالية، وفي المحافل العربية والدولية ذات الصلة كان ينظر للجمعيات والاتحادات البحرينية الأهلية بهذه الصورة، سواء تعلق الأمر بالحركة النقابية العمالية، أو بالجمعيات المهنية، كجمعيات المحامين والأطباء والمهندسين، وكذلك بالمؤسسات الممثلة للمبدعين والفنانيين.
المجتمع كان أسبق من الدولة في تنظيم نفسه في هيئات معبرة عنه، ومجسدة لمصالح وتطلعات قطاعاته المختلفة، ويعود الفضل في ذلك للشرائح الحديثة من الكفاءات المهنية والثقافية التي تلقت خبراتها الأولى في العمل النقابي في صفوف الحركة الوطنية والتقدمية البحرينية، واستطاعت أن تضع مداميك المجتمع المدني البحريني الحديث، مُستوحية في ذلك تراث الحركة الوطنية المناهض للطائفية والمعبر عن كافة فئات المجتمع، والمتجاوزة لآثام التخندق الطائفي البغيض.
صحيح ان هذه التجربة لم تخلُ من أخطاء لا سبيل لنكرانها في بعض الحالات، مثل غُلبة السياسي على المهني، أو انتقال عدوى المنافسات الحزبية الى بعض هذه المؤسسات، ولكنها أخطاء من النوع الذي يمكن التغلب عليه مع تعمق التجربة ونضجها، ولا يصح وضعها في سياق يعطيها أكبر من حجمها، لو قارنا الأمر بما بات يتهدد استقلالية مؤسسات المجتمع المدني في الفترة الأخيرة.
يأتي هذا التهديد من أمرين، ينبع الأول مما اعترى المجتمع من انقسام طائفي عميق وبغيض، محزن ومقلق ومخيف، شمل كل شيء تقريباً، ولم تنجوُ منه مؤسسات المجتمع المدني والنخب السياسية والثقافية في البلد، التي يفترض فيها أن تكون خط الدفاع الأخير بوجه الغول الطائفي والمذهبي، لكنها لم تظهر الحصانة الكافية التي تمكنها من أن تكون كذلك.
أما الأمر الثاني فيأتي من فهم ضيق وخاطىء لبعض أجهزة الدولة لدور مؤسسات المجتمع المدني، أدى وسيؤدي أكثر، في حال استمراره، لمصادرة الفضاء الأهلي في البلاد، وهو أمر بلغ مستويات جديدة، وجدنا لها تجليات في انتخابات جمعية المحامين قبل شهور قليلة، وتكررت أمس الأول مع انتخابات جمعية الأطباء.
ما زالت نتائج انتخابات جمعية المحامين محل سجال بين الجمعية ووزارة التنمية التي ترفض الاعتراف بنتائج هذه الانتخابات، وستنشأ مشكلة مشابهة إزاء انتخابات جمعية الأطباء، حيث يعتزم عدد ممن ترشحوا لانتخابات مجلس الادارة الجديدة، وبينهم وجوه بارزة كان لها دور مشهود في تأسيس الجمعية وبنائها، التقدم الى القضاء للطعن في قانونية هذه الانتخابات على خلفية خرق بنود النظام الأساسي للجمعية.
وهذا يعني اننا انتقلنا إلى فصل جديد من علاقة غير صحية بين الدولة والمجتمع المدني، كنا في غنى عنها.
التجربة اليابانية…
الاستفادة من الخبرات اليابانية في مجال رعاية ودعم وتنمية المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتأطير ذلك في مذكرة تفاهم بين البحرين واليابان والاعلان عن ذلك واثناء المنتدى الاقتصادي بين البلدين الذي عقد بطوكيو في 13 ابريل الجاري خلال زيارة جلالة الملك اليها، هذه الخطوة ان تحققت على ارض الواقع بمداها المأمول يمكن ان تحقق نقلة مهمة على صعيد تطور هذا القطاع الاقتصادي الحيوي في البحرين، فسر قوة اليابان هو في دعمها لهذه النوعية من المشاريع، وتجربتها في هذا المجال حظيت باهتمام كبير من اقتصاديين وسياسيين ومراكز ابحاث ومهتمين بشئون التنمية على مستوى العالم.
لسنا في وارد السرد التاريخي لاهتمام اليابان بالمشاريع الصغيرة والمتوسطة، ولكن يكفي القول انها وفرت منظومة متكاملة من التشريعات والآليات والنظم والسياسات والخطط والبرامج والكفاءات التي اثرت بشكل قوي على مسار هذه المؤسسات وعلى الاقتصاد الياباني برمته..
وفي هذا السياق يمكن الاشارة على سبيل المثال الى قانون لتطوير المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وقانون متعلق بفرص العمل للمشاريع الصغيرة والمتوسطة من خلال تكييفها مع المشاريع الكبيرة، وقانون منع افلاس المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وقانون متعلق بتطوير الصناعات اليدوية والتقليدية الوطنية، وقانون خاص بالاجراءات الاسثتنائية من اجل تطوير التكنولوجيا للمشاريع الصغيرة والمتوسطة.
الى جانب ذلك يوجد في اليابان مؤسسات داعمة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، منها منظمة المشاريع الصغيرة والمتوسطة والاختراعات المحلية smru تأسست عام 2004 كمنظمة حكومية مستقلة اداريا من اتحاد عدة منظمات، منها مؤسسة اليابان للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، وشركة التطوير الاقليمي في اليابان، تدعم تأسيس حاضنات الاعمال وتقديم التسهيلات، وتشجع على الابحاث والاختراعات وتقديم الدعم المالي وتطوير الاسواق والتسويق، وبالاضافة الى ذلك هناك شركة الحياة المالية اليابانية وهي مؤسسة مالية حكومية ساهمت وتساهم في ازدهار الاقتصاد الياباني منذ 52 عاما من خلال تمويل مشاريع صغيرة ومتوسطة كما تمنح هذه المشاريع قروضا خاصة، فهناك مثلا قروض لمشاريع الصحة البيئية، وللخدمات العامة، وقروض للتوسعة وقروض للدراسة وقروض لمواجهة الصعوبات المالية او نتيجة انخفاض المبيعات او افلاس الزبائن، وقروض لتطوير الموارد البشرية، وقروض في حقل المعرفة في الادارة والتكنولوجيا والمالية والقانون واعادة الهيكلة ورفع تنافسية هذه المشاريع وتطوير ادارتها.
كل اوجه الدعم المذكور وغيره موجه للنساء والارامل والشباب والمسنين والمتقاعدين، وذلك غيض من فيض من التجربة اليابانية في دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، فهل بمقدورنا حقا ان نستفيد الى ابعد مدى ممكن بهذه التجربة لنحقق نقلة نوعية حقيقية وملموسة في مسيرة المشاريع الصغيرة والمتوسطة في بلادنا؟.
عــــن الثــــقــافـــة مـــرة أخـــرى…!
الأمر ليس جديداً أو مفاجئاً فقد سبق لنواب الاسلام السياسي الهجوم على ربيع الثقافة الذي تحتفي به البحرين كل عام، أما الجديد هذه المرة فهو ان هؤلاء النواب قرروا في معركتهم الذكورية المقدسة طرد وزيرة الثقافة من «بيت الشعب»!!
هكذا تضافرت الجهود تحت قبه البرلمان لتتأهب لمعركة تحشد فيها كافة قواها البرلمانية وتعبّئ الاطفال ولا تدع اي معارك جانبية تشغلها عن هدفها الاسمى وهو محاربة الثقافة التنويرية والحداثة والتقدم والانفتاح الثقافي الحضاري على ارض دلمون.. ارض التعايش وملتقى الحضارات.
على أية حال ما حدث في تلك الجلسة البرلمانية يُعد مثالاً حياً على مصادرة الرأي الآخر والأمر المدهش ان يحصل هذا في «بيت الشعب»، وفي ظل هذا المناخ المليء بالتعصب والكراهية للابداع والانفتاح الثقافي الذي عرفته البحرين منذ عقود فلا غرابة ان تصفي تلك الاصوات المتأسلمة الغاضبة حساباتها مع الثقافة النيرة ومع وزيرة الثقافة مي بنت محمد التي بذلت جهداً كبيراً في تفعيل العديد من الانشطة الفنية والثقافية وترميم البيوت التراثية لمآرب ابداعية تضج بالفنون والندوات والامسيات الشعرية والموسيقية الراقية والبحوث الادبية والتاريخية والفكرية التي تجسّد الجوانب الانسانية والحضارية.
وعن الرقابة الدينية كتب د.إسماعيل سراج الدين في مقالة له: «افكار تحت الحصار» لا تقتصر اشكال الرقابة المتعددة على المؤسسات الرسمية للدولة فحسب وإنما تتجاوزها الى الرقابة غير الرسمية الموازية لسلطة الدولة والاكثر قمعاً منها في حالات عديدة، وقد تعاظم دور هذه الرقابة الموازية التي فشلت في بعض الحالات، فكانت النتيجة تشكل مجموعات ضغط معارضة للدولة وموازية لها تتخذ صبغات متعددة اهمها الصبغة الدينية التي تؤكد امكانات التعاطف بين هذه المجموعات والجماهير العريضة التي لا تزال تسود بينها ثقافة تقليدية محافظة هذا الامر الذي جعلها قادرة على الضغط والانتشار بأفكارها وليس الابتكار والابداع بما ادى الى استفحال النزعة الماضوية الضيقة لا النزعة المستقبلية المنفتحة على تجارب العالم الحي، الذي لا يتوقف تقدمه عند حد، وكانـت النتيجــة وجود اشكال رقابية جديدة مقترنة بالقمع المباشـر وغير المبـاشـر.
وأما اغتيال عشرات المبدعين والمفكرين في الاقطار العربية المصابة بالتطرف والتعصب الدينيين سوى عينات من القمع المقرون برقابة مجموعات التطرف الديني التي لا تقبل الاختلاف، وتعد كل خروج على ما تراه كفراً وإلحاداً، وقد اقترنت ممارسة العنف المادي المباشر الواقع على الابداع والمبدعين بممارسة القمع غير المباشر في محاولة الزج بالقضاء وتوجيهه في اتجاه معاقبة وفي مقابل ذلك يقول: وقد ترتب على ذلك كله ازدواج الرقابة ما بين الرسمية مرتبطة بالدولة او المتحدثة باسمها او نائبه عنها ورقابة غير رسمية مرتبطة تعمل على خنق مؤسسات المجتمع المدني وتقليص مساحات الحرية المتاحة وهو الوضع الذي لا يمكن فصله عن طبائع الاستبداد المقترن بصعوبة الاعتراف بالآخر وعدم قبول الاختلاف بوصفة الحق الطبيعي في السياسة والفكر والابداع والتأويل الديني على السواء.
على اية حال ما حدث في المحرق قد يحدث في أية مدينة خرى من مدن البحرين طالما ان الحداثة وما ينتج عنها من عمل ابداعي هو العدو الاول بالنسبة لثقافة الاسلام السياسي!! وبالتالي فلا عجب من ذاك المشهد التحريضي الاستفزازي الذي زج فيه الاطفال والناشئة ليهتفوا – دون ادراك – لا للابداع والانفتاح الثقافي!! وببساطة يعني ذلك لا للرأي الآخر!! نعم للوصاية!! .
وحول ما حدث في المحرق من الاهمية بمكان الاشارة الى ما كتبه الزميل فواز البلوشي تحت عنوان «المحرق المفتري عليها»، اتركوا المحرق وشأنها فإنكم مثلماً شوّهتم الدين ودنّستم طهره بجره الى مستنقع السياسة تقومون اليوم بتدنيس جمال المحرق وتزوير تاريخها وتحريف سيرتها لصالح سيرة ترفع من ارصدتكم لدى جمهوركم وتزيد من حشود المراهقين المقنعين آثاركم.
وقد يبدو مناسباً ان تقول: كلنا يعلم في حمأة المعركة ضد الثقافة يبدو الشاغل الاكبر لادوات الرقابة والمحاسبة البرلمانية مصادرة الرأي الآخر، خاصة اننا نسمع الآن اصواتاً نيابية تهدد باستجواب وزيرة الثقافة في حين كنا نأمل – ولا نزال – ان تفعّل تلك الادوات في عملية البناء والتطوير والتنمية وتعزيز حقوق المواطنة وقيم الحرية والديمقراطية. وعلى ضوء هذا نتساءل: متى تتفرغ تلك الاصوات الساخطة على الثقافة لمثل هذه القضايا؟ هذا ما نود معرفته بل هذا ما يطرح وبإلحاح في الشارع البحريني.
الأيام 14 أبريل 2012
الإنجرار نحو العنف الطائفي غير مقبول
استخدام العنف لإستهداف أي إنسان في أي موقع ليس مقبولاً. كما أن الهجوم على المحلات التجارية وتكسيرها وسرقة محتوياتها لا يمكن نسبته في أي حال من الأحوال لأناس لهم مطالب ينادون بها أو مبادئ دينية يعتقدون بها أو حتى ضمير إنساني يحتكمون إليه.
كما أن الهجوم بشكل همجي على الناس الأبرياء وضربهم وتحطيم سياراتهم وممتلكاتهم بتبرير الانتقام لرجال الأمن الذين أصيبوا في تفجير في قرية العكر، ما هو إلا أسلوب همجي.
أتفق تماماً مع الأخ أبوعبدالرحمن من الرفاع الذي كتب على موقع «الوسط» تعليقاً على الهجوم على محلات «24 ساعة» يقول فيه «إنهم لا يمثلون أهلنا الطيبين والمتحابين مع اخوانهم، هذه المجاميع دخيلة، ولا نتشرف بهم، أبسط الأمور أكلهم الحرام، والسرقة، ونحن نقول لإخواننا ان هذه الفئة لا تمثلنا لا بالدين ولا بالوطن، ومن يحب القيادة والبحرين لا يفعل مثل هذه الأفعال المخزية».
نعم… إن هؤلاء لا يمثلون أهل البحرين ولا يمكن أن يحسبوا على أي من الطائفتين الكريمتين.
لا أحد يقر بالعنف ومن أية جهة كانت، ولقد أصدرت جميع الجمعيات السياسية بيانات تدين حالة العنف التي سيطرت على الشارع البحريني، ومع ذلك يجب على الجميع أن يقوم بواجبه لوقف حالة الانزلاق نحو العنف وما يمكن أن يترتب على ذلك من تبعات لا يرتضيها أحد.
على الجميع أن يتذكر أن ضحايا الصراعات العرقية بين أبناء الوطن الواحد والحروب الطائفية بين أبناء الدين الواحد وعلى مدى التاريخ، قد فاقت وبما لا يقاس ضحايا الحروب بين الدول المتعادية، كما أنها كانت أكثر قسوة وحدة.
ولذلك فإن على الحكومة وقبل أن تصل الأمور إلى مرحلة لا يمكن الرجوع عنها، أن توجد حلاً سياسياً مقبولاً، وأن تطرح مشروعاً تصالحياً حقيقياً يخرج البلد من حالة الاحتقان التي نعيشها جميعاً، وبغير ذلك لا يمكن لأي طرف من أطراف الصراع الأخرى في الوقت الراهن أن يقوم بأي مسعى سواءً للتهدئة أو لإعادة اللحمة الوطنية ووقف الانزلاق نحو العنف.
كما أن على وزارة الداخلية ألا تسمح للأطراف المتمصلحة من هذا الوضع بأن تلعب دورها وأن تشيع مفهوم الانتقام، بدلاً من تطبيق القانون العادل الذي لا يفرّق بين ضحية وأخرى.
كما أن على القوى المعارضة التمسك بالخيار السلمي وعدم الانجرار للعنف وإدانته مهما كان مصدره.
وأخيراً… على القوى الموالية أن تعترف بحق الآخر في الاختلاف، وأن تؤمن بأن الوطن للجميع مهما كانت أفكاره وآراؤه وتوجهاته، وأن تعمل على لمِّ الشمل وليس العكس.
صحيفة الوسط البحرينية – 13 أبريل 2012م
هل تتم استعادة الصومال؟
مجلس الأمن الدولي يقرر في الثاني والعشرين من فبراير زيادة عدد قوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الافريقي في الصومال بنحو النصف (من 12 الفا الى 17731 جنديا وشرطيا). وقد اتُخذ هذا القرار قبل 24 ساعة من استضافة لندن لمؤتمر دولي حول الصومال استهدف العمل على المواءمة بين تقديم الدعم والمساعدات للحكومة الصومالية وبين الضغط عليها للقضاء على الفساد والقرصنة والتهديد الارهابي.
الولايات المتحدة التي أعلنت في نفس الوقت تقريبا تخصيص مساعدة اضافية للصومال قدرها 64 مليون دولار، حرصت على توجيه رسالة تحذيرية شديدة اللهجة على لسان وزيرة خارجيتها هيلاري كلينتون الى الطرف/الأطراف في الحكومة الائتلافية الصومالية التي ستعرقل عملية التطبيع السياسية، داعيةً المجموعة الدولية، في حال حدوث ذلك، الى فرض عقوبات على الذين سيعرقلون العملية الانتقالية للابقاء على الوضع القائم.
فرنسا هي الأخرى اعتبرت على لسان وزير خارجيتها ألان جوبيه أن اجتماع لندن “يجب أن يعطي دفعا جديدا لاعادة تشكيل الدولة الصومالية”. ولم يتأخر أمين عام الامم المتحدة بان كي مون، الذي يحرص هذه الأيام حرصا متزايدا على اظهار تناغمه، فعلا وتصريحا، مع ما يفعله ويصرح به كبار مسئولي الادارة الامريكية – لم يتأخر عن الادلاء بدلوه في ذات الاتجاه، ليوفر الغطاء الدولي اللازم للتوجهات الامريكية والأطلسية الجديدة. ففي اجتماع لندن سالف الذكر، بدا أمين عام الأمم المتحدة “سخيا” في اغداق الاطراء على “المجتمع الدولي” (ويقصد الولايات المتحدة التي تصر على أن يقترن لفظ المجتمع الدولي بها)، حيث أكد بأن “المجتمع الدولي فتح فضاءً للحرية والاستقرار في الصومال، وهو فضاء صغير لكنه يمثل فرصة لا يمكننا تتفويتها، فرصة لمساعدة الشعب الصومالي”.
الجامعة العربية بدورها لم تشأ، في عهدها الجديد، أن تتأخر عن ركب اجتماع لندن، حيث مهدت لتلك المشاركة باجتماع عُقد في التاسع عشر من فبراير الماضي على مستوى المندوبين الدائمين وبحضور الامين العام للجامعة نبيل العربي، تمت خلاله مناقشة “احتياجات الشعب الصومالي وبلورة الموقف العربي الذي عُرض في اجتماع لندن”.
الى ذلك كشفت صحيفة “الصن” البريطانية التي يملكها الملياردير اليهودي روبرت مردوخ المعروف بصلاته العليا، في عددها ليوم الثالث والعشرين من فبراير “ان المستشار القانوني للحكومة البريطانية أعطى الضوء الأخضر لقوات المغاوير لشن غارات على قواعد القراصنة في الصومال. وقالت الصحيفة ان النائب العام البريطاني دومينيك غرين اعتبر ان شن هجمات على قواعد القراصنة الصوماليين من حاملة الطائرات “أوشين” وبدعم من مروحيات أباتشي الهجومية سيكون اجراءً مشروعا بموجب القانون الدولي. ولا يقتصر الأمر على بريطانيا، بل ان هذا الأمر يجري تنسيقه على مستوى الاتحاد الاوروبي الذي سوف يزيد من استخدام آلته العسكرية في اعقاب الدور القيادي الذي أدته الدول الرئيسية فيه في الحرب التي شنها حلف شمال الأطلسي ضد ليبيا لاطاحة نظام معمر القذافي.
وقبل ذلك كانت القوات الموالية للحكومة الصومالية المدعومة من الجيش الأثيوبي تستعيد السيطرة على مدينة بيداوه، أهم مدن جنوب غرب الصومال، بعد أن فر منها مقاتلو حركة الشباب المتفرعة من تنظيم القاعدة الارهابي. وكانت كينيا المجاورة أيضا قد أعلنت الحرب عمليا على ميليشيا حركة الشباب وانضم قسم من قواتها بصورة رسمية لقوة الاتحاد الافريقي وبدأ طيرانها الحربي المشاركة في عمليات قصف مواقع مقاتلي حركة الشباب.
والوقع أن كثيرا من الفضل فيما تحقق على الأرض في الصومال حتى الآن والمتمثل في استمرار سيطرة الحكومة الصومالية الائتلافية على العاصمة مقديشو وتعزيز وجودها وثباتها في مواقعها في العاصمة وما جاورها، والانطلاق لتوسيع نطاق دائرة نفوذها ومد سلطتها الى بقية المناطق الصومالية التي كانت تحت سيطرة ميليشيا حركة الشباب الصومالية الارهابية، يعود الى قوة الاتحاد الافريقي التي أمّنت المواقع الحساسة في العاصمة والمؤسسات والمرافق الرئيسية ضد هجمات ميليشيا الشباب.
السؤال الآن: هل من رابط بين كل هذا الاهتمام المتزايد بالصومال والمقرون بأفعال ملموسة على الأرض؟…وهل يعني هذا التحول في الاهتمام، خصوصا من جانب الثنائي السايسي والعسكري التنسيقي التقليدي: الولايات المتحدة وبريطانيا، من درجة الاهمال التام للصومال وتركها عبرةً كنموذج فاقع للدولة الفاشلة (Failed state)، الى كل هذا الاهتمام المفاجىء الذي أوردنا بعض الأمثلة الدالة عليه؟
الراجح انه يوجد رابط ما بين كل تلك “الالتفاتات” الملموسة حتى وان لم تأخذ حظها بعد في أجهزة الميديا على النحو الذي يؤكد مثل هذا الترابط، وقد يكون تزامن حدوثها أحد الشواهد الدالة على وجود مثل هذه الرابطة، فمن غير المعقول ان تجري كل تلك الحوادث وتُعلن كل تلك المواقف في وقت واحد وبمحض الصدفة!
واذا لم يكن هذا التحول كليا وجذريا وحاسما، فهو بالتأكيد تحول واضح له بعض شواهده حتى وان كان جزئيا وذو استهدافات محددة سرعان ما سيتراجع ويخبو حال تحققها. أما الملاحظة الاخرى الجديرة بالاهتمام هنا، فهي ان “قائد الاوركسترا” في هذه الاحداث المتداعية المعبرة عن التحول المفاجىء في الموقف الدولي من الصومال، ليس الولايات المتحدة الامريكية كما عودتنا دائما، من حيث تصدرها وقيادتها لمثل هذه “العمليات” ترافقها حليفاتها الاوروبيات ومن حلفها بعض الشركاء الاقليميين، وانما حليفتها الأخلص في أوروبا: بريطانيا ومن خلفها بقية الدول الحليفة والصديقة، تماما كما حدث في الملفات الاخيرة الساخنة مثل الملف الليبي، حيث اكتفت الولايات المتحدة بدور “اللاعب الرديف”، تاركة الجزء الأكبر من العملية لحلفائها. ولكأنها اختارت اتباع ما كانت تتبعه بريطانيا في القرن التاسع عشر في القارة الاوروبية من سياسة سميت آنذاك سياسة “الانعزال البديع” تاركةً القيادة للقوى الاخرى المنافسة آنذاك مثل بروسيا وروسيا.
ولكن ما سبب هذا الاهتمام المفاجىء بالصومال والذي تتقاسمه بريطانيا وبمعيتها على مسافة غير بعيدة الولايات المتحدة؟… لا أحد بطبيعة الحال يستطيع الجزم بالهدف أو الاهداف الكامنة وراء هذا الاهتمام الزائد والمفاجىء بالصومال. فقد تكون ضغوطات لوبيات مصالح قطاعات المال والأعمال، بما في ذلك القطاع المالي وقطاع النقل والشحن البحري، المتضرر من أعمال القرصنة البحرية التي تنفذها عصابات صومالية ذات امتدادات اقليمية ودولية، وراء هذا التحرك. وهذا ما يستشفه المرء من تشديد ألان جوبيه وزير خارجية فرنسا في اجتماع لندن على انه “يجب ان نضع حدا نهائيا للافلات المعيب للقراصنة من العقاب”.. اضافة الى الاجازة القانونية التي طلبتها قوات المغاوير في الجيش البريطاني من المستشار القانوني للحكومة لشن غارات على قواعد القراصنة داخل الصومال.
وقد يكون الأمر مرتبطا بترتيبات جيوسياسية اقليمية، تتصل بمناطق في شرق افريقيا (يمكن ان تكون الاكتشافات الغازية الواعدة مؤخرا في تنزانيا واحتياطيات المكامن في القواطع البحرية للدول الشاطئية في تلك المنطقة وفي جوارها الجنوب غرب آسيوي)، بحيث يكون القرن الافريقي وتحديدا جيبوتي (المؤمنة فرنسيا وامريكيا في الوقت الحالي) والصومال، منطلقا لوضع تلك الترتيبات موضع التنفيذ، أخذا بعين الاعتبار ما يمكن ان تسفر عنه التطورات غير المستقرة بعد في اليمن من نتائج غير محسوبة خصوصا بالنسبة لممر باب المندب المائي.
بالمقابل فان تساؤلا آخر موازيا يطرح نفسه قبالة تلك الاحتمالات، المقروء منها وغير المقروء، وهو هل سيكون الطريق لاستعادة الصومال سالكا وفي متناول اليد؟
مرة أخرى.. العمل الخليجي المشترك
مسيرة التكامل الخليجي لم تكتمل، والتحديات والمعوقات لم تذلل وبعض قرارات العمل المشترك لم تنفذ ومعوقات لازالت قائمة تحول دون قيام القطاع الخاص بدوره المأمول.
كانت تلك هي الخلاصة التي خرج بها امس الاول الاجتماع الاربعون لمجلس اتحاد غرف دول مجلس التعاون الخليجي مع امين عام مجلس التعاون عبداللطيف الزياني. تلك الخلاصة ليست جديدة، فقد وجدنا موضوع الاشكاليات والمعوقات التي تواجه العمل الاقتصادي الخليجي المشترك تطرح في العديد من الاجتماعات والمناسبات، والمؤسف في الامر ان ذات المعوقات وذات الافكار وذات المقترحات تطرح مرة تلو المرة دون تقدم فعلي ملموس على طريق المعالجة.
يا ترى كم مرة يتعين ان تطرح هذه المشكلات على مائدة الحوار، وكم مرة يتعين ان تخرج قرارات، وان تشكل لجان وتنعقد وعلى مختلف المستويات اجتماعات تتبنى مشاريع استراتيجية مهمة لتحقيق التكامل والترابط المنشود فيما بين دول التعاون كالسوق الخليجية المشتركة، والاتحاد النقدي، وشبكة الربط الكهربائي، والوحدة الاقتصادية.. والمواطنة الاقتصادية…..الخ؟
في كل المرات التي شهدت اجتماعات على مستوى دول التعاون يتم التأكيد على ضرورة الانتقال من مرحلة التعاون الى مرحلة التكامل، وهو التأكيد ذاته الذي طرح في اجتماع امس الاول، وكان لافتا فيه الاقرار الصريح من امين عام مجلس التعاون بأن مسيرة التكامل لم تكتمل بعد وان التحديات والمعوقات لازالت قائمة لم تذلل بعد، واذا كان امين عام المجلس قد اكد ايضا على دور رجال المال والاعمال والاقتصاد في مسيرة التكامل سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وامنيا، وانه لا يمكن نجاح هذه المسيرة من دون المساهمة الفاعلة والمؤثرة لهذا القطاع، خاصة عبر الشراكة مع القطاع الخاص وتنويع مجالات الاستثمار والانشطة الاقتصادية والعناية بسبل الارتقاء بالايدي العاملة الخليجية.
اذا كان ذلك هو المطلوب والمستهدف فان السؤال الجوهري كيف يحقق القطاع الخاص الخليجي دوره المأمول في الوقت الذي يعاني فيه من معوقات قائمة لم تذلل تحول دون القيام بدوره والتي لاشك انها عرضت باستفاضة في الاجتماع المذكور. نخشى ان نظل نراوح في مكاننا، نجد ذات المشكلات والمعوقات والحلول في الوقت الذي تفرض التحديات التي تواجه المنطقة عملا نوعيا غير مسبوق على صعيد العمل الاقتصادي يفعّل المواطنة الاقتصادية والوحدة الاقتصادية.
النموذج التونسي
لإعتبارات عدة تُعد تونس هي أقرب البلدان العربية قاطبةً إلى الحداثة والى المستقبل. في أساس ذلك يكمن التراث المهم للحقبة البورقيبية، التي يتذكرها التوانسة اليوم بحنين، وجسدَّت الحركة النقابية بقيادة الاتحاد التونسي للشغل الثقل النوعي للطبقة العاملة التونسية في مجمل الخريطة الاجتماعية والسياسية في البلاد، ومثلها شكَّلت الحركة النسوية المستندة إلى الضمانات المهمة التي حوتها مجلة الأحوال الشخصية دوراً ليس فقط في تطوير حقوق المرأة، وإنما أيضاً في تعميق المنجز الحداثي للمجتمع عامة.
على أرضية هذا المنجز بالذات جاءت الثورة التونسية التي أسقطت زين العابدين بن علي وحلقته الفاسدة المستبدة، وهنا تصح المقولة العميقة لغرامشي عن أن القديم يموت فيما الجديد لم يُولد بعد، فكان أن قطف ثمار التحول الذي جرى قوى غير تلك التي صنعت الثورة وصاغت شعاراتها، وهو الأمر نفسه الذي حدث مع ثورة 25 يناير في مصر، فالإخوان المسلمون لم يلتحقوا بها إلا متأخرين، ولكن لأنهم القوة الأكثر تنظيماً والأقوى من حيث الإمكانيات المادية واللوجستية كانوا من حَصد غلتها، بدعمٍ مكشوف من قوى عربية وبتواطؤ أمريكي لا يخفى عن العين الفاحصة.
ثمة من أعطى الإسلاميين في تونس ميزة تقدمهم على نظرائهم في البلدان العربية الأخرى، ولا يخلو الأمر من بعض الصحة من حيث الشكل فقط، لا من حيث الجوهر، فليس بوسع مجتمع منفتح كالمجتمع التونسي أن يستسيغ خطاباً أخوانياً فجاً كذاك الموجود في مصر مثلاً، وكان على حزب النهضة أن يداري خطابه عبر استخدام مفردات حداثية، وأن يطعم قائمته الانتخابية ببعض النساء غير المحجبات، ليظهر قابليته للتكيف مع المنجز الحداثي هناك.
لكن الطبع يغلب التطبع كما يُقال، فما شهدتهُ شوارع تونس العاصمة يوم الاثنين الماضي الذي صادف يوم الشهداء من تصدي قوات الأمن وميليشيا حزب النهضة للمتظاهرين، ومن اعتداءات طالت سياسيين وصحافيين، وهو الأمر الذي نددت به أحزاب سياسية ونقابات وجمعيات، معتبرة إياه بداية العودة إلى دكتاتورية النظام السابق خاصة في ما يتعلق بالاعتماد على المليشيات لقمع المخالفين، ومن بين المنددين حزب المؤتمر من اجل الجمهورية المشارك في الحكومة.
وعلى خلاف ما يُعتقد من أن حزب النهضة قد تنازل طوعاً عن التنصيص في الدستور الجديد على أن الشريعة الإسلامية مصدر للتشريع، والاكتفاء بالفصل الأول من دستور يونيو 1959 على أن تونس «دولة حرة مستقلة دينها الإسلام ولغتها العربية»، فان ذلك لم يتم إلا تحت ضغط حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، الحليف الأول لحركة النهضة قد اعترض على مسألة التنصيص على الشريعة في الدستور، في حين ذهب الدكتور مصطفى بن جعفر، رئيس حزب التكتل الديمقراطي من أجل الحقوق والحريات الذي يتولى رئاسة المجلس التأسيسي إلى حد التهديد بالقطيعة في صورة تمسّك النهضة بهذه المسألة.
المحلل التونسي صلاح الدين الجورشي يرى أن الحراك السياسي في تونس سيستمر بنسق متصاعد، وهذا أمر طبيعي لأن تضاريس الأرض التونسية لم تتخذ شكلها النهائي، وما دامت ارتدادات وتداعيات التغيير الذي حدث متواصلة، فإن المشهد العام سيبقى بلا ريب قابلا للتغيّر والتعديل.