قبل اكثر من نصف قرن في الستينيات.. رأيته في دمشق.. وكان شعره يساوف شحمتي اذنيه.. وكان يرتدي «جاكيتاً» بُنياً وقميصاً ناصع الأكمام.. وكان كل شيء فيه مستعجلا: حركة جسده وايماءة يديه ونظراته وتلفتاته حتى روحه اراها فيه تتدفق استعجالاً لضم الآخرين بحميمية الى قلبه… وكان يحمل اسفار لوحات فنيّة سوريالية بذل جهد تصوراته الخيالية لإخراجها…
وكانت السوريالية يومها لها اوزارها الفنية لدى الشيوعيين واليساريين لمُناكفتها مدرسة الواقعية الاشتراكية… اعترضه «يوسف» اعتراضاً نزراً مُتبرماً والقى بلوحاته بجانب الاحذية تحت السرير!! وراح احمد يبلع ريق مرارة اتعابه الفنية… هكذا كانت العلاقة الرفاقيةّ فجّة قاسية رفاقيتها!!
احمد معرفي يومها كان طالباً بحرينيا في جامعة دمشق.. وكان يُشكل وهج حركة مباركة طيبّة راسخة التأمل والعطاء بين صفوف الطلاب البحرينيين وكان يُشار الى بعضهم وهو منهم شبيبة جبهة التحرير البحرينية. هذا البحريني المتدفق حركة وحيويّة وكرماً وطيبة ووطنية وعزّة نفس وكبرياء وطن بحريني ونشاط طلابي لا يهدأ… وكان مباشراً في ايصال وجهة نظره وصريحاً في اقواله وآرائه لا يخشى لومة لائم من احد ولا يُجامل احداً ولا ينافق احداً في قضيّة وطنه…
وقعت نظراته المتدفقةُ عشقا عاجلاً لا آجلاً على (مريم) واقتطفها وردة بحرينية ندّية الى قلبه من على ادراج جامعة دمشق.. وقد ضجّ بها في قلبه.. وضجّت به في قلبها حتى اصبحا صجيج ايقاع سمفونيّة عذبة التجاذب في الحب والعشق للوطن.. وكانا في حبِّهما وعشقهما وزاوجهما سُقيا بهجة ونكران ذات نضالي للبحرين والانسانية التقدمية على وجه الارض!!
هكذا كانا صبوة بذل رحمة وعطاء بركة ومغفرة تسامح كانهما يترهّبان جلل عشقهما عشقا في الحياة على شطآن الوطن. احمد تتجسدهُ نفس مرهفة الاحاسيس في لمسات ذبذباتها.. وتراه يشف احاسيس الآخر في احاسيسه ويتفقدها باحاسيس مرهفة الحميمية وله قلب لا يحقد وسجيّة لا تكذب وروح تتجلى البحث عن الحقيقة وتُديرها حقائق لمنفعة الآخرين من الاصدقاء والاعداء على حد سواء!!
ما اشد الفراق على الجسد الذي توحّد في الجسد والتفّتْ الروح بالروح وتشاكل الجسدان في جسد واحد لا يفترقان ابدا!!
ويوم ان رحلت مريم وتركت احمد وحده… راح احمد كالمجنون يبحث عن الحقيقة.. حقيقة الموت في الحياة.. وحقيقة الحياة في الموت حتى استبدّ به الفكر وراح يبحث عن الفكر في الفكر… ويتذكّر لوحاته السوريالية.. وكان يبحث عن الواقعية في السوريالية والسوريالية في الواقعية وهو يصفق بكفيه لا سوريالية ولا واقعية بعد ان رحلت عنه مريم وتركته وحده يضرب اخماساً في اسداس… وكان يصمت.. ويصمت.. ويغيب في صمت ذاكرته وهو يتلمس مريم وحده في زوايا البيت.. فقد ذهبت عنه جسداً… الا ان منزلة روحها ما برحت يتلمس احمد منزلتها زاوية زاوية في زوايا البيت!! لقد تمريمت روحه بمريم وتأحمدت روح مريم باحمد.. فأين المفر… لا مفرّ الا الى المفر الذي فرّت اليه مريم!!
رفعت نعيمة الهاتف وصوتها يشلُّه النشيج المر وهي تقول لقد ذهب أحمد الى ملاقات حبيبته مريم!! هل سيلقاها.. لا ادري.. حقاً لا ادري!! رحم الله احمد واسكنه فسيح جنّاته والهم اهله واصدقاءه ومحبيه الصبر والسلوان.
الأيام 30 أبريل 2012