فقدت مصر وفقد العرب بوفاة البابا شنودة رئيس الكنيسة القبطية رمزا دينيا وطنيا و» قائداً روحيا عظيما, مؤمنا بالتعايش السلمي بين أصحاب الديانات, ومخلصاً لوطنه «حسبَ الأمين العام لمنظمة التعاون الاسلامي أكمل الدين أوغلو».
وبرحيل هذه القامة تثار من جديد مسألة الموقع الديني كأحد أهم وأخطر المواقع في المجتمع وأكثرها التصاقا وتماسا معه ومن حيث كونه رسالة تستمدّ قيمتها من ارتباطها بالعقيدة الدينية وبوجدان المؤمنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والمذهبية.
ومنذ البداية ارتبط الموقع الديني بالسياسي سواء بالاندماج او بالتبعية أو التضاد, في خدمة السلطة السياسية أو بمحاربتها. وفي المرحلة التاريخية الراهنة فإن الموقع الديني يبقى في صلب معادلة النظام، الشعب، الدين. واذا كان الدين من حيث كونه هو عقيدة, يتصل بعلاقة المخلوق بالخالق إيمانا وطقوسا وسلوكاً فإن الموقع الديني كإطار وظيفي في خدمة العلاقة الإيمانية للمؤمنين بالمقدَّس, يؤثر ويتأثر بحركة المجتمع وعلاقاته وقواه السياسية والاجتماعية ومراكز القوى وطنية كانت أم أجنبية, فضلا عن التكوين النفسي والتربية الأسرية والموقع الطبقي والاجتماعي والمستوى التعليمي والثقافي والخبرة الحياتية.
وبالتالي يتحتم الفصل بين الدين والموقع الديني ومقاربة الأخير في إطاره الزمني وبارتباطه بالواقع الملموس بكل مكوناته كي نفهم أسباب التمايز والصراع لحد الاقتتال بين مختلف المواقع الدينية في الاديان والمذاهب المختلفة وضمن الدين والمذهب الواحد, واصطفاف البعض الى جانب الحق والعدالة والمساواة والانفتاح الاجتماعي والتسامح في حين ينحاز اَخرون الى الاستبداد والظلم الاجتماعي والتزمُّت والعنف.
وفي كل المراحل التاريخية شارك العديد من رجال الدين في النضال من أجل الحرية والاستقلال والسّلم العالمي والتقدم الاجتماعي وساهموا في نشر الفكر التنويري والحداثي وقدموا تضحيات جمّة في التصاقهم بهموم مجتمعاتهم وشعوبهم وفي الحفاظ على وحدة أوطانهم وسيادتها. بينما وقف اخرون في الضفة الأخرى في خدمة الغزاة والطغاة من كل لون, وهم اليوم يقودون حربا على كل ما هو تنويري وحداثي وتقدمي, وينقضّون على المكتسبات الحضارية والانسانية للشعوب وينشرون روح الكراهية ونهج العنف والاقصاء وينتجون فتاوى التكفير والقتل, ويعملون على تمزيق النسيج الوطني ويغتصبون لأنفسهم حصانة فوق القانون والمجتمع ويتحكمون في المنابر والفضائيات للتحريض واثارة النعرات والفتن باسم الدين وحقوق إلهية لا يستحقونها.
انهم يشرّعون لقانون الغاب ويعيشون زمنا لا يعرف الدساتير والحقوق الانسانية فينزلون العقاب بمن ليس معهم, فهم المشرعون والمُدعون والمحامون والمنفذون. هذا المنزلق عابر للأديان والطوائف فهم متساوون في ذلك أيا كان دينهم ومذهبهم, فالهدف واحد في التسلط والهيمنة والاستحواذ على المكاسب الدنيوية بينما هم يبيعون العامّة خيرات الاخرة على حساب روح التسامح والعفة والمحبة التي تنادي بها كافة الأديان.
لذلك نراهم يتسابقون اليوم على المناصب السياسية والحزبية موظِّفين في ذلك كل أساليب التدليس والرشوة بالمال وبمفاتيح الجنة والتهديد بعقاب الدنيا والآخرة.
ما أحوجنا اليوم لرجال دين يحملون في قلوبهم ومسلكهم بساطة الأولين ونزاهتهم ويردفون تطلعات شعوبهم نحو الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي وتعزيز السيادة الوطنية وحماية الأوطان من طمع الطامعين وخطر الحروب. ما أحوجنا الى العاقلين من رجال الدين الزاهدين في السلطة والمال والوجاهة الكاذبة, المؤمنين حقا بالتسامح والتعايش بين الطوائف والأديان والذين يوظفون الماضي لخدمة الحاضر والمستقبل وازدهاره وليس لتدميره.
البابا شنودة لم يكن رئيسا لطائفة او كنيسة بقدر ما كان أبا لكل أبناء مصر التي خدم في جيشها ودرس في جامعاتها ورفض التنازل عن سيادتها, واختلف مع النظام في منعطفات مفصلية من تاريخ مصر, ورفض زيارة القدس بتأشيرة اسرائيلية, وعارض كامب ديفيد, لكنه كان متسامحا ومنفتحا على المسلمين كما الاقباط وناضل للإبقاء على وحدة الشعب المصري في مواجهة التطرف ومحاولات التقسيم حتى حينما هُدمت وأُحرقت الكنائس, ورفض توظيف كنيسته وطائفته ورقة في أيدي المتربصين بوطنه في الخارج فكسب احترام شعبه والعالم.
31 مارس 2012
الــــبابــــا شـــــنـــــودة
محمد إبراهيم نــقد زعـيماً تاريخــياً ومــفكـراً
لم يكن محمد ابراهيم نقد، السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني الذي رحل عن عمر ناهز 82 عاماً مناضلاً عادياً بل كان زعيماً تاريخياً ومفكراً من مؤلفاته ” قضايا الديمقراطية في السودان ” و”حوار حول النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية” و”علاقات الارض في السودان: هوامش على وثقائق تملك الارض” و”علاقات الرق في المجتمع السوداني” و” حوار حول الدولة المدنية”.
نقد، الذي كان ملتزماً فكراً وممارسة بحزبه الشيوعي الذي ارتبط به عام 1949 قضى قرابة الثلاثين عاماً من عمره في المخابئ ابان الحقب الدكتاتورية المتعاقبة على السودان. كانت حياته سلسلة متصلة بالنضال الوطني والقومي والاممي، وفي عام 1971 أعدم الطاغية الديكتاتور جعفر النميري الضابط الوطني هاشم العطا وقادة الحزب وعلى رأسهم المناضل السكرتير العام للحزب الزعيم عبدالخالق محجوب والقائد النقابي الشفيع احمد الشيخ، ومنذ ذلك الحين تولى نقد سكرتارية الحزب وطوال 14 عاماً اضطر فيها الى العمل متخفياً ادار شؤون الحزب في احلك الظروف السياسية.
واذا ما معنا النظر في اهم اعماله النظرية والفكرية فإن «حوار حول النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية» يأتي في مقدمتها. في عام 1992 كتب المفكر محمود امين العالم عن هذا الإصدار وفي مقدمته اشار كانت مفاجأة مدهشة سارّة، ان أتبيّن بهذا الكتاب، جانباً جديداً بالغ الغنى والخصوبة للمناضل الكبير «محمد ابراهيم نقد» كنت اعرفه محلّلاً عميقاً عارفاً بأسرار مختلف حقائق الواقع السوداني والعربي في انحائه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكنت أتابعه بإعجاب شديد في سجون السودان المختلفة، او متخفياً من حكومات البطش والاستبداد مواصلاً اينما كان وكيفما كان قيادته للحزب الشيوعي السوداني، باعتباره اميناً عاماً له فضلاً عن مبادراته المتعددة الرصينة لتوحيد وتنشيط مختلف الفصائل والقوى السياسية والاجتماعية الحيّة في السودان، من اجل سودان ديمقراطي متحرر متقدم. ولعلي التقيت به لقاءً سريعاً في زيادة خاطفة للسودان منذ سنوات استشعرت فيها بشخصيته الدمثة وتألقه الذهني على اني – اعترف – لم أكن اتوقع ان يكون وراء هذا كله هذا المفكر الكبير الذي يستوعب استيعاباً نقدياً عميقاً القضايا الاساسية للفلسفة الغربية والفلسفة العربية الاسلامية على السواء.
ويرى «العالم» ان الجانب الفكري لنقد يتثمل في هذا الكتاب الذي يحاور فيه باقتدار فكر الشهيد «حسين مروه» حول بعض ما جاء في كتابه الموسوعي «النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية»، وباختصار كتاب نقد يصدر في جوهرة عن تقدير عميق للجهد الابداعي الكبير لكتاب حسين مروه ولما حققه من إضاءة موضوعية لتاريخ الفلسفة العربية الاسلامية منذ نشأتها الاولى، وعبر تجلياتها المختلفة مستنداً في هذا الى المنهج الجدلي ولما اتاحته هذه الاضاءة التاريخية من اضافة فلسفية الى هذا التاريخ نفسه. ومن هنا، فالمفكر نقد ينعش معرفتنا بهذا الصنيع الفكري الكبير الذي خلفه لنا حسين مروه بتناوله النقدي لبعض جوانبه بما لا يقلل من تقديره لهذا الصنيع.
ومن ابرز مظاهر هذا النقد – وفق منظور العالم – يتعلق بالجانب المنهجي اي يقدم بوعي عميق ورحابة افق حقيقة المنهج الجدلي في مواجهة العديد من التشويهات التي تعرض ويتعرض لها عند بعض الكتاب والباحثين!! ونقد في هذا الكتاب ينأى بالفكر الفلسفي عن ان يقتصر على صيغة اصطلاحية محددة، كما يرفض ان يتم حصر تاريخه واحتباسه في تحقيب معيّن مفروض عليه من خارجه، ولهذا هو يتبين ان القول بمرحلة «ما قبل النظر الفلسفي التي يقصد بها كتاب حسين مروه المرحلة الجاهلية الاولى، وجزءاً من المرحلة الجاهلية الثانية من تاريخنا العربي يُغفل عما كان هناك من نظر فلسفي في تلك المراحل الاولى كذلك وهو نظر فلسفي له خصوصيته التي لا ينبغي هدرها باسم تعريفات توفيقية تجعل من العقل اليوناني – الروماني المصدر الوحيد الاول للفكر الفلسفي الانساني أو تقصر دلالات الفلسفة على مفاهيم وتصورات ومناهج محددة، فهناك في تلك المرحلة التي تسمى ما قبل النظر الفلسفي ممارسات ذهنية سابقة متبلورة في رؤى ومفاهيم وصراعات فكرية لا سبيل الى انكارها او تجاهلها وهنا – كما يؤكد العالم – يسعى «محمد ابراهيم نقد» الى تخليص دراسة العقل العربي من ذلك التحقيب التاريخي الذي يجرّد العقل قدرته على النظر الفلسفي في التاريخ القديم. وعلى هذا الاساسي لا بد التمييز بين ما هو ايديولوجي وما هو علمي.
ويتابع العالم هذا الكتاب – على صغره – يفتح صفحة جديدة من الحوار النقدي الخصب في فكرنا العربي الاسلامي المعاصر. وأتمنى ان يكون هذا الكتاب بداية لإضافات فلسفية اخرى تكون استكمالاً للمشروع العظيم الذي انجز جانباً كبيراً منه الشهيد حسين مروه، وفي مقابل ذلك يقول نقد: ان فات هذه الصفحات ان تكون مادة حوار مع مروة فلتكن مشروع صفعة على العقلية المريضة الآثمة التي استهدفت دماغه فأرسلت من اطلق عليه الرصاص واغتاله لأنها ادركت – في ظلاميتها – خطورة ومضاد سلاح الفلسفة العربية الاسلامية في معركة العقل والعقلانية في حاضر ومستقبل المجتمعات العربية والاسلامية.
خلال العام الحالي فقد الحزب الشيوعي السوداني ثلاثة من اعضائه (الفنان محمد وردي، الشاعر محمد سالم حميد ثم أخيراً المفكر محمد ابراهيم نقد)، وهو خسارة كبيرة للشعب السوداني والقوى الديمقراطية والفكر التحرري التقدمي. وفي وداع المناضل والمفكر نقد هتفت شبيبة الحزب: إننا على الدرب سائرون، وأن كفاح الطبقة العاملة سيعيش الى الأبد.
الايام 31 مارس 2012
ما بعد تقرير اللجنة الوطنية
انتهت اللجنة الوطنية لمتابعة تنفيذ توصيات لجنة تقصي الحقائق من أعمالها وبغض النظر عن بعض الاشكاليات التي حامت ودارت منذ الاعلان عن تشكيل هذه اللجنة الى انتهاء اعمالها، فإن موضوع الملف الحقوقي لم يسدل الستار عليه، ومازالت هناك ملفات تحتاج الى جهد للبدء في حلحلتها بطريقة يشعر فيها المواطن ان هناك تغييرا ملموسا على مستوى الحقوق.
وزير العدل الشيخ خالد بن علي اكد ايضا جدية الحكومة في تطبيق التوصيات بحيث يستشعر المواطن باثر ذلك التنفيذ. نعم، ان المواطن يحتاج ان يشعر بتنفيذ هذه التوصيات، وهو ما اكد عليه عاهل البلاد ايضا. اليوم ما نحتاج اليه هو ان يستشعر المواطن العادي التغيير في السلوك العام، والبدء الفوري في (المصالحة الوطنية)، توازيها عملية اصلاح سياسي ودستوري، من خلال عقد لقاءات التواصل للبدء في حوار توافقي بعيدا عن اية شروط قد تتنادى بها اية جمعية سياسية سواء كانت محسوبة على هذا الطرف او ذاك، حتى يتمكن الجميع من حصول التوافق الذي جبل عليه شعب البحرين، كما حدث في ميثاق العمل الوطني وأجمع عليه الشعب، نتيجة للحوار والتواصل والتفاهم بين الجميع.
اليوم نحن أمام مرحلة جديدة، والوطن لا بد ان يسير للامام، بكل اهله وطوائفه ومكوناته. لسنا مستعدين ان نعيش باقي عمرنا وسط تشطير وتشظ وازمات وعدم استقرار سياسي واقتصادي، صحيح ان الاحداث التي مرت ببلدنا ليست بالهينة واثارها طالت الجميع، ولا يمكن نسيانها بين ليلة وضحاها، إلا اننا لا بد ان نستشرف المستقبل، ونحدد خياراتنا من الان، إما نحو البناء والتقدم، او مكانك سر، ويزداد حينها الاصطفاف ويقتات على آمالنا من يقتات، ويستمر المسلسل المظلم.
ثقوا احبتي ان الوطن بحاجة لكل فرد، بغض النظر عن معتقداته التي أكد الدستور صيانتها واحترامها، وإن كان هناك من لا يقبل بان نكون في مركب واحد نسهم في ابحاره جميعا، فعليه ان ينزل ويترجل عن سفينة الوطن، ويختار له أقرب مرفأ لينزل بمفرده وحيدا غريبا، لذلك لم نسأم من الدعوة الى الحوار بين الجميع، دون اقصاء لأحد، وبعيدا عن كل الشروط التي تقدمها اية قوة سياسية.
الكل لديه مرئيات ولديه ملاحظات ومقترحات، لنناقشها ونحدد اولوياتنا في التعاطي مع الشأن الوطني، في كيفية الدفع بعجلة الاصلاح لما فيه خير الوطن والمواطن، ذلك المواطن المسكين الذي نريد له ان يهنأ بعيدا عن التجاذبات السياسية، نريد له ان يعيش في بحبوحة من العيش والكرامة، في ظل اجواء ديمقراطية اصلاحية.
السبيل الوحيد للانطلاقة السريعة نحو التنمية التي نريدها على كافة المستويات، هو الحوار الحقيقي. نقولها امانة للتاريخ، لا مفر من الحوار، هو الخيار الاسلم والأعقل، وسنظل نطالب بعقد طاولة الحوار يوميا حتى يتحقق املنا.
الأيام 30 مارس 2012
ارتداد مُنافٍ لمنطق الأشياء
في ليبيا معارك بين فصائل مختلفة شاركت في إطاحة نظام عائلة القذافي شملت العاصمة طرابلس ومعبر رأس جدير الحدودي مع تونس، ومدينة الكفرة في أقصى الجنوب الشرقي التي جرت فيها اشتباكات عنيفة أودت بحياة أكثر من 100 قتيل وهجرت الآلاف حسب الأمم المتحدة . وفي الخامس من مارس/آذار الجاري أعلن زعماء سياسيون ورؤساء قبائل عن ميلاد فيدرالية إقليم برقة الواقع إلى الشرق من ليبيا وعاصمته بنغازي، يمتد من الحدود المصرية شرقاً إلى مدينة سرت غرباً، وذلك في مؤتمر عُقد بمشاركة قرابة ثلاثة آلاف شخص من إقليم برقة الذي يشكل عدد سكانه 25% من سكان البلاد، لكنه يحوز نحو 66% من احتياطات النفط الليبي، واختاروا أحمد الزبير الشريف السنوسي رئيساً لمجلسه الأعلى .
ومن تونس تنقل لنا الأجهزة الإعلامية بين الحين والآخر أنباء عن هجمات مسلحة تشنها جماعات سلفية ضد مرافق حكومية ورموز أخرى للدولة التونسية، وعن اشتباكات مسلحة بين أجهزة الأمن التونسية وجماعات سلفية مسلحة . كما صار لافتاً تزايد دعوات وقضايا التكفير إلى الحد الذي دفع الرئيس التونسي الجديد منصف المرزوقي الذي كان أحد النشطاء العرب البارزين في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، إلى إصدار بيان في يوم 25 فبراير/شباط الماضي دعا فيه أعضاء المجلس الوطني التأسيسي إلى سن قانون جديد يتم بموجبه تجريم التكفير في البلاد باعتباره “تهديداً للسلم الأهلي ومثيراً للفتنة بين مواطني البلد الواحد ومقدمة للعنف” .
وكان الرئيس المرزوقي نفسه قد طالته دعوات التكفير من قبل السلفيين المتطرفين . وهناك أنباء عن احتلال بعض المجموعات السلفية للمؤسسات التعليمية لفرض النقاب على الطالبات، وعن وجود تهديد حقيقي لقانون الأحوال الشخصية، وعن تهديدات أطلقها أحد أعضاء المجلس الوطني التأسيسي ضد العاطلين عن العمل والمحرومين والعمال المحتجين متوعداً إياهم بالصلب وبتر اليدين أو الرجلين .
وفي المغرب دعا رئيس الوزراء المغربي والأمين العام لحزب العدالة والتنمية عبدالإله بن كيران أعضاء شبيبة حزبه للتصدي لما أسماها “جيوب مقاومة”، وأكد استعداده لمواجهة المتربصين بأداء حزبه وذلك على خلفية دعوة جمعيات حماية المال العام في المغرب إلى فتح تحقيق في الطريقة التي أسندت بها رخص النقل إلى عدد من العائلات الكبيرة والنافذة ومن الميسورين والوجوه المعروفة .
وفي مصر ربما كان الحال أكثر إثارة للقلق، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، وهي ساطعة سطوع الشمس .
فهل هو قدر شعوب هذه البلدان التي اعتقدت لوهلة، أنها تحررت من خوفها بعد زوال أنظمة الاستبداد التي ظلت جاثمة على صدورها لبضعة عقود، فإذا بها وجهاً لوجه مع مخاوف جديدة أكثر إفزاعاً من مخاوفها السابقة؟
هذا على الأقل ما تشي به حوادث الأشهر القليلة الماضية، وما يبدو عليه حال “التحولات” ما بعد الصعود التاريخي لقوى الإسلام السياسي، وتحديداً الإخوان المسلمين، لسدة الحكم في البلدان المشار إليها آنفاً . وهي وقائع لم تستطع المفردات الفضفاضة والعمومية لرموز أنظمة الحكم الجديدة في هذه البلدان، التهوين منها وتبديد المخاوف والهواجس التي بدأت تساور قطاعات واسعة من مجتمعاتها .
فلقد كان الأمل يحدو الناس بعد زوال الاستبداد، بالسير قدماً بخطى حثيثة، واثقة ومنتظمة الإيقاع، بعد التخلص من احتكارية الاستبداد ومركزية ممارساته المعطلة لطاقات الإنتاج المادية والبشرية والكابحة لحركتها السلسة والمرنة . . وبالتالي فقد كان الأمل يحدوها للبناء على ما كان قد تحقق من منجزات حداثية صنعها العمل المنتج (بكسر التاء)، والمبدع وليس أجهزة الاستبداد الفاسدة التي كثيراً ما يحلو لها نسبة هذه المنجزات إلى عبقرياتها الفذة، فإذا بالناس يفاجأون بما يشبه الانتكاسة والنكوص عن الوعود الانتخابية البراقة، وذلك في “انسحاب سريع ومنظم” لقوى الإسلام السياسي التي قيضت لها ظروف المرحلة الاستثنائية الصعود إلى الحكم، من الأجندات الوطنية الكلية الجامعة إلى أجنداتها الخاصة الضيقة التي تضعها في تضاد مشدود ومتوتر ومفتوح مع عديد المكونات المجتمعية ومع مقومات بناء وإعادة بناء الدولة الحديثة وأساس تقدمها واستدامتها، وذلك بالانشعال عوضاً عن هذا المسار، بصغائر وتوافه الأمور . وبدلاً من أن تُعِدّ العدة لإطلاق مسيرة التقدم نحو آفاقها الرحبة، يتم البدء بالعد التنازلي لتراجع البلدان المعنية عن مكتسباتها الحداثية .
نعم هي مؤشرات ارتداد مقلقة، إذ كيف لثورات تنشد التغيير التقدمي أن تنتج مثل هذه الارتدادات المنافية لمنطق الأشياء كما يفترض؟ ولكن، ومع ذلك، نرى أنه مازال الأمر مبكراً للحكم على هذه التجارب الجنينية التي لا ننسى أن صناديق الاقتراع هي التي زكّتها، والعبرة دائماً بخواتيم هذه التوجهات التي إن استمرت، فإنها لن تصمد طويلاً أمام حقائق الحياة على الأرض .
30 مارس 2012
جلسة البرلمان التاريخية
في الحقيقة لا يوجد مثال أوضح يحمل دلالات لا تخطئها العين تلخص الوضع الحالي في البحرين، مثل ما حدث في جلسة النواب يوم الثلثاء الماضي، فالجلسة لخّصت مواقف عدد من القوى اللاعبة في الساحة السياسية وبينت مصالحها وأفكارها ومبادئها بكل دقة.
ربما يمكن أن تكون جلسة الثلثاء الماضي أهم جلسةٍ يمكن من خلالها استخلاص نوعية وماهية نواب المجلس ومعرفة نفسياتهم ومواقفهم، والمفترض فيهم تمثيل الشعب البحريني بكامل أطيافه، فخلال هذه الجلسة تم طرح ثلاث قضايا مهمة هي التعديلات الدستورية، وقضية «الطفل عمر»، وقضية «طفل السنابس».
فيما يخص التعديلات الدستورية، لن أعلّق عليها ويكفي ما قاله النواب أنفسهم عن مواقف بعضهم البعض، فرئيس المجلس خليفة الظهراني أشار بوضوحٍ إلى وجود ضغوطات خارجية على النواب لتأجيل مناقشة التعديلات الدستورية. فيما رأى نائب آخر أن مجلس النواب البحريني هو المجلس الوحيد في العالم الذي يرفض أن تكون له صلاحيات أكبر! وهناك معلوماتٌ مؤكدةٌ تقول ان هذه التعديلات لن ترى النور في ظلّ وضع المجلس الحالي، وان هناك قراراً بحفظ هذه التعديلات في الأدراج حتى إشعار آخر.
ما يثير الاستغراب حقاً هو موقف النواب من قضيتي الطفلين واللتين كانتا حتى ذلك الوقت في طور التحقيق، الأولى هي قضية «طفل السنابس» الذي وجد مقيداً وشبه عارٍ في أحد الكراجات في منطقة السنابس، وقد وجدت عليه آثار الضرب والتعذيب بآلات حادة.
الطفل قال ان ثلاثةً من رجال الأمن اعتدوا عليه وهدّدوه بالاغتصاب إن لم يتعاون معهم ويقوم بالإبلاغ عن من يخرجون في المسيرات.
أما قضية الطفل عمر فتشير رواية والده إلى أن معلمته في الروضة تجبره على تقبيل قدمها منذ خمسة أشهر.
وفيما استنكر نائبٌ واحدٌ فقط من أصل 40 عضواً في مجلس النواب حادثة طفل السنابس، وقال «إن حادثة السنابس غريبة على مجتمعنا ولا يمكن القبول بها ولابد من التحقيق فيها بشكل جدي». انسحب اثنان من أعضاء المجلس من الجلسة احتجاجاً على قضية الطفل عمر وعدم السماح لهم بالحديث عن الموضوع، فيما طالب ثلاثة أعضاء آخرين باتخاذ الإجراءات الرادعة ضد المعلمة، ولجأوا إلى التهديد بقولهم: «إن لم تتحرك وزارة التربية بهذا الشأن فإنهم سوف يستجوبون الوزير»! وأكدوا أن ما قامت به المعلمة هو انتهاك لحقوق الطفولة وأنهم لن يأمنوا بعد اليوم على أطفالهم بوجود مثل هذه المعلمة!
بعد هذا… ألا تلخص هذه الجلسة الوضع السياسي في البحرين وما يشهده من تجاذبات وتنافرات واصطفافات؟ وألا تعكس مواقف النواب مصالحهم ومبادئهم؟
صحيفة الوسط البحرينية – 30 مارس 2012م
النواب والشأن الاقتصادي
تشكيل لجنة حكومية مصغرة مكونة من وزراء ومسئولين ومجموعة من اصحاب العمل والمجتمع المدني ذوي العلاقة بالشأن الاقتصادي بهدف التركيز والنظر في الاوضاع الاقتصادية الصعبة التي مرت بها البحرين، وحلحلة هذه المشكلة.. استجابة لاقتراح برغبة مستعجلة وافق عليها مجلس النواب بحسب ما اعلن أمس.. هل تكون خطوة لها أثر ونتائج؟.
لا نعلم حقيقة الى اي مدى يمكن التعويل على هذه اللجنة في تعزيز الوضع الاقتصادي والنهوض بأوضاع قطاعات التجارة والاعمال، خاصة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي بات كثير منها في وضع حرج للغاية يصل الى حد الافلاس، والى درجة المطالبة بخطة انقاذية وانعاشية كانت قد طرحت الدعوة اليها مرارا دون نتيجة تذكر.
نطرح السؤال لسببين جوهريين؛ الاول ان هذه اللجنة الجديدة ان شكلت فهي ليست الاولى من نوعها سعيا وراء ذات الهدف، فقد تشكلت على اكثر من مستوى لجان عهد اليها النظر في الاوضاع الاقتصادية واقتراح السبل الكفيلة بتجاوز تداعيات الاحداث وتعزيز قدرات مختلف القطاع، ولكن دون نتائج فعلية ملموسة على ارض الواقع حتى الان.
اما السبب الثاني، فهو يتمثل في ان الذي أخذ على عاتقه هذه المرة تشكيل لجنة للنظر في الاوضاع الاقتصادية الراهنة وتحريك خطوات معالجة مشاكل القطاع التجاري، هو مجلس النواب الذي كان اتهم قبل مدة فيما سمى بالتفرد في صناعة القلق الاقتصادي من جانب الغرفة واصحاب اعمال كثر انتقدوا مجلس النواب في اكثر من مناسبة على مستوى وكيفية تعاطيه مع الشأن الاقتصادي، حيث جاءت اثارته وطرحه وتبنيه القضايا والموضوعات ذات الصلة وذات البعد الاقتصادي بشكل وصف بانه باعث على القلق الاقتصادي ومضر بالحركة التجارية والاقتصادية ومسيء الى مناخ الاستثمار، ولم يراع فيها حالة الحرية والانتاج التي ينعم بها المجتمع البحريني.
ولذلك وجدنا نوابا بعينهم وكأن لهم ثأرا شخصيا مع كل شأن اقتصادي. المؤكد، اننا فعلا بحاجة وعلى وجه السرعة للخروج من الحالة الاقتصادية الراهنة التي تسيطر على البلاد، ولبلوغ هذا الهدف لابد من عمل مشترك مدروس وملموس وقبل ذلك ارادة القرار.
29 مارس 2012
” ابدأ حكايتك من ثانياً “
الحقيقة واحدة لكنها تتكون من بنود، من حيثيات وتفاصيل وأمور جزئية، حاصل جمْعُها هو الحقيقة كاملة، أو هو الحقيقة في اللحظة التي يجري فيها الحديث. إن أنت ألغيت قاصدًا أو غير قاصد، أي بند من البنود، أي تفصيل من الصورة العامة، الشاملة، التي هي الحقيقة، تكون قد أصبتها بتشويه في أحد مواقعها. وليس الأمر بهذه البساطة. إنك لا تلحق التشويه وحده بها، إنك قد تقلب الحقيقة كلها رأساً على عقب. المقدمة الصحيحة تفضي، في حال اليقظة والنباهة وحسن النية، الى نتيجة صحيحة. حتى الفكر ما هو إلا نمو اعتيادي للأشياء، كل فكرة تنبني على فكرة سابقة لها، والثانية تفضي، هي الأخرى، إلى فكرة ثالثة وهكذا دونما نهاية. تلفيق الحقائق، وهي مهمة جزء من الإعلام الموجه، الإعلام المغرض إنما يقوم على طمس هذه الحقائق، وتقديمها مقلوبة في مغزى نقيض لمغزاها الأصلي، «وابتكار» وقائع ليست قائمة. هذا النوع من التلفيق سهل الفضح، مكشوف. الأخطر منه ذاك النوع من الكذب القائم على تقديم شيء من الحقيقة، جزء من أجزائها وإغفال الأجزاء الأخرى. الجزء حين يؤخذ معزولاً عن السياق العام يعطي دلالة مغايرة وتفسيراً آخر. الجدل مع هذا النوع من تقديم الواقع أكثر صعوبة وأشد تعقيداً، لأن جزء الحقيقة الذي يقدمه حدث فعلاً ولا سبيل لنكرانه، ولأن الأمر كذلك فإن الحيلة يمكن أن تنطلي على المتلقي المحايد أو البريء أو الساذج أو طيب النية أو ذاك المتلقي السلبي الكسول الذي لا يعنيه تتبع الأمور من بداياتها، ويمتص المعلومة التي تقدم له من دون أن يبذل جهداً في التحقق من مدى صحتها.
في كتابه: «رأيت رام الله» صاغ الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي هذه الفكرة التي تبدو طويلة وبحاجة إلى إسهاب في شرحها، في كلمات مقتضبة، موجزة، معبرة حين قال: من السهل طمس الحقيقة بحيلة لغوية بسيطة: ابدأ حكايتك من «ثانيا». وهو الأمر الذي يعني تجاهل ما حدث أولاً، فغالباً ما يكون أولاً هو المقدمة و” ثانياً ” هو النتيجة، حين تلغي أولاً تصبح النتيجة سبباً وردة الفعل تصبح هي الفعل، وما أكثر التجليات لهذا الأمر في الحياة، كم من «الوقائع» تفبرك دون أن تكون قد حدثت أصلاً، وكم من الوقائع تُخرج من سياقها، وتُسقط بعض عناصرها، فتحمل من الدلالات نقيض ما كانت عليه في الأصل.
كم مرة تظلم الحقيقة في اليوم الواحد، وكم حجم الأذى الذي يلحق بأبرياء جراء هذا النوع من التلفيق، الذي يمارسه ذوو منافع أو باحثون عن أدوار، وكم من الجهد يجب أن يبذل في سبيل كشف الزيف الذي يحيط بهذا النوع من الدجل الذي يحمل في طياته من الآثام والمفاعيل التي عليها يقتات المقتاتون.
إن عدم رد الأمور إلى أصولها، إلى جذورها، إلى أسبابها الأولى هو النقيصة الكبرى التي تطبع أموراً كثيرة في حياتنا، في الفكر وفي السياسة وفي السلوك وفي العلاقات اليومية المباشرة بين الأفراد والجماعات، والتي تجر خلفها، ما تجر، من عواقب تبلغ في بعض الحالات حد الكارثة.
28 مارس 2012
الاقتصادات العربية و”الربيع العربي”
تبرز التحديات الاقتصادية التي تواجهها البلدان العربية منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية العارمة في عديد البلدان العربية مطلع العام الماضي، كتحديات محورية بالنسبة لآفاق مستقبل التحولات السياسية والاقتصادية التي أملتها تلك الثورات والاحتجاجات .
والحال أن الثورات وحركات الاحتجاج الواسعة النطاق التي شهدها عديد البلدان العربية بصور متفاوتة الحدة قد أدت إلى إلحاق أضرار جسيمة، متفاوتة المستوى أيضاً، في البنية الأساسية للبلدان العربية المعنية، بعضها دُمر بالكامل أو جزئياً جراء الصور الأكثر بشاعة للصراع، وبعضها تعرض للنهب والسرقة والأعطال، وبعضها أضحى مشلولاً ومتضرراً مالياً بسبب الاضطرابات والإضرابات والاعتصامات، فضلاً عن الأضرار التي لحقت بالموارد البشرية وبالرأسمال الاجتماعي نتيجة للتشطير الخطر الذي أصاب البنى المجتمعية الاثنية والقبلية والطائفية، وهي تصدعات تستدعي الحاجة لإعادة ترميمها في إطار عملية “إعادة بناء” شاملة ربما استغرقت عقداً تنموياً بأكمله .
الأمر يتعلق هنا بطائفة واسعة من المرافق والهيئات والمؤسسات الإنتاجية والإدارية التي أصابها الشلل التام أو الجزئي نتيجة لجسامة الأحداث وتداعياتها، فضلاً عن بعض أبرز المؤسسات الحيوية مثل الجهاز القضائي والمؤسسات التعليمية التي وإن لم يصبها ما أصاب المرافق والمؤسسات الإنتاجية والتسييرية الأخرى من أضرار، إلا أنها بقيت تعاني حالة “ضياع” بين استمرار انشدادها لعقلية التسيير الإدارية والإنتاجية للعهد البائد وبين موجبات إصلاحها لمواكبة استحقاق التحول الاقتصادي الجديد .
وإلى جانب هذه الأعطال الناتجة عن حالة الاضطراب والتفلت الاقتصادي، هناك المشكلات الأخرى العالقة التي ظلت تراوح مكانها بسبب مزدوجي الاستبداد والفساد، ومنها النمو البطيء، والبطالة، واختلال الموازين التجارية بسبب عدم مواكبة قطاعات التصدير للطلب المتنامي على الواردات، وتراجع حجم الاستثمار لاسيما الاستثمار المباشر، وإصابة القطاع السياحي بحالة ركود قسرية أملتها ظروف الاضطرابات، خصوصاً بالنسبة إلى دول مثل مصر التي تشكل مساهمة القطاع السياحي فيها نسبة 4% من إجمالي الناتج المحلي، وتونس التي يشكل فيها نسبة 6%، وهو قطاع معروف باعتماده على كثافة العمالة، كما أنه يعد مصدراً أساسياً لإيرادات الدول من العملة الصعبة اللازمة لمقابلة جانب المطلوبات في ميزان المدفوعات .
وبسبب عدم معرفة طول وأجل انتهاء المرحلة الانتقالية بما يهيئ لعودة الاستقرار للاقتصاد، فإن المؤشرات الأولية المتوافرة تشير إلى أن البلدان العربية غير المنتجة للنفط مثل مصر وتونس والمغرب والأردن واليمن وسوريا، ستظل تعاني في المدى القصير ضعف الأداء الاقتصادي العام المنعكس بدوره سلباً على المستويات المعيشية لعموم السكان لاسيما الطبقات الفقيرة والمتوسطة .
في تونس على سبيل المثال، انخفض النمو في عام 2011 من النسبة المتوقعة وقدرها 3% إلى صفر في المئة حسب تقديرات صندوق النقد الدولي . بل إن تقديرات الحكومة التونسية تذهب إلى أن الاقتصاد التونسي انكمش بنسبة 8 .1%، وهو ما يفسر هروب ما نسبته 25% من الاستثمارات الأجنبية المباشرة بما يشمل 120 شركة أجنبية ترتب عليها خسارة 000 .40 وظيفة . وفي مصر تراجع النمو في العام الماضي من 5% إلى 1%، وتراجع حجم الاستثمار الأجنبي من 4 .6 مليار دولار إلى نصف مليار دولار فقط، فيما انحسر احتياطي النقد الأجنبي من 36 مليار دولار إلى 15 مليار فقط . أما في ليبيا فقد بلغت نسبة الخسارة في النمو أكثر من 50% بعد ستة أشهر من الحرب الأهلية وتوقف كامل إنتاج ليبيا النفطي، بخسائر قدرت بنحو 15 مليار دولار، ويأمل حكام ليبيا الجدد في استعادة 170 مليار دولار جمدها الغرب في مصارفه إبان حرب إسقاط نظام القذافي، لعلها تساعد في إعادة تنشيط دورة النمو الإنتاجية وتعوض الخسائر ومنها خسارة 8 .3 مليار دولار استثمارات أجنبية مباشرة . ولا تخدم الأوضاع السياسية والاقتصادية غير المستتبة بعد، الحكومات على المدى القصير في تأمين مصادر التمويل المطلوبة لإعادة تحفيز محركات النمو، فأسواق الأوراق المالية في الدول المعنية مازالت تحت تأثير “خضة” التحولات المضطربة، والتمويل الدولي سيكون مُكلفاً نتيجة هبوط تصنيفها المالي الدولي، فلابد، والحال هذه، من مقاومة إغراء التمويل الدولي لما له من عواقب اقتصادية واجتماعية غير محمودة بحسبان قياس العائد والتكاليف، والاعتماد بدلاً من ذلك على مصادر التمويل المحلية المتاحة، ومواكبة ذلك باتخاذ إجراءات سريعة تقابل تحديات المدى القصير، مثل تسهيل التمكين من الوصول إلى المعلومات وإزالة كل معوقات تأسيس الشركات ومشروعات المبادرين بصورة سريعة، وإنهاء الحالة الاحتكارية للاستحواذ على الأصول الثابتة والمشروعات والفرص الاستثمارية الواعدة وعلى المعلومات الخاصة بها من قبل حفنة المتنفذين والعوائل المنتخبة، وإنشاء برامج عملية لمساعدة العاطلين، يدعمها صندوق وطني للتوظيف . فلا ننس أن هبات “الربيع العربي” الشعبية قد اندلعت على خلفية تفاقم مشكلات الفقر والتهميش وغياب العدالة وتفشي البطالة في أوساط الشباب . ومن التوقعات بأن المنطقة العربية بحاجة لإيجاد مئة مليون وظيفة خلال السنوات العشر المقبلة، وفي ظل الوضع الديموغرافي الضاغط، فإن التحديات التي تواجه تشكيلات الحكم الجديدة أبلغ أثراً في هياكلها الاقتصادية وبنيتها الاجتماعية .
وعلى هذا الأساس، وإزاء الهشاشة التي أظهرتها الاقتصادات العربية غير النفطية في مقاربتها للأحداث وتداعياتها، فإن انكشافها هذا قد أظهر بالمقابل إلى أي حد يبدو العالم العربي، كإقليم اقتصادي متصل جغرافياً، مجزأ، حيث لا تشكل تجارته البينية سوى 10% من إجمالي تجارته الخارجية، كما أن أسواقه معزولة عن بعضها بعضاً . والغريب أن هذه الحالة الجامدة للروابط الاقتصادية الحقيقية، مستمرة منذ ستينات القرن الماضي حين أعلن عن هدف إنشاء السوق العربية المشتركة .
وعلى ذلك، فإنه وبرغم أهمية المقاربات الوطنية للتعاطي مع المشكل الاقتصادي والاجتماعي داخل كل بلد عربي عانى (بصور مختلفة ومتفاوتة من تداعيات ‘الربيع العربي’)، فإن هذا ليس بديلاً لربط ودمج الأسواق العربية والاستفادة من اقتصادات الحجم ومن تكامل الطاقات البشرية وقواها العاملة مع رؤوس الأموال الفائضة، وهما العنصران الأساسيان في عوامل الإنتاج .
27 مارس 2012
نحن والربيع العربي…!
لا ندري من أضفى مصطلح الربيع على التطوّرات العاصفة على امتداد البلاد العربية والذي استطاع أن يطمغ الحراكَ عامّة, قبل أن نسمع وصفاً آخر من رئيس الحكومة الفلسطينية المقالة إسماعيل هنيّة هو الشتاء الإسلامي بعد عودته من زيارة الى طهران واجتماعه بمرشد الاخوان في مصر.
أيّا كان مسمّى هذه التطورات فإن زلزالا مدويّا هزّ الواقع العربي, وأطاح بحكّام وأطلق حمَم الغضب المتراكم من عقود القهر والفساد والنهب المنظم لخيرات الأوطان واحتكار السلطة, وارتهان السيادة الوطنية وبيعها في مقابل بخس.
سنحتاج الى زمن ليس بالقصير لدراسة وتحليل التطورات الراهنة, والتي هي في بداياتها بعد. ولم تخرج معظم التحليلات وردود الأفعال, حتى الآن, تجاه ما يحدث, عن إطار الانفعال والعاطفة والأمنيات, وإطلاق الأحكام المتسرّعة في وصف هذا الحدث واستقراء توجهاته وآفاقه.
الحراك السياسي والاجتماعي عملية في غاية التعقيد تسير في خط متعرّج وبوتائر متباينة من السرعة والحدّة والمدّ والجزر. وتتباين القوى المحرّكة والأدوار وتتغير التحالفات والخصومات فضلا عن الدّور الخارجي عربياً كان أم أجنبياّ.
على أن العنصر الاساسي في تقييم طبيعة التطورات ومحتواها هو مستوى التطوّر السياسي والاجتماعي والاقتصادي في هذا البلد أو ذاك والخصائص التاريخيّة والأهميّة الجيوسياسيّة بالنسبة للقوى الاقليمية والدولية. فلا يمكن إسقاط الواقع التونسي أو المصري أو المغربي على الواقع البحريني أو أي مجتمع خليجي آخر واعتبار ما يحدث هنا امتداداً أو رديفاً للحدث المصري أو التونسيّ أو غيره.
وهذا يفرض الحذر في توصيف الحركة الاحتجاجية ومنطلقاتها وجذورها الاجتماعية وأسبابها وشروطها الموضوعية والذاتيّة في كل بلد بعيدا عن الحماس العاطفي ولَوي المفاهيم لإلباسها على واقع مغاير, بما يؤدي في المحصّلة الى نتائج كارثية على المجتمع بكل مكوناته تُؤذي حركة التغيير وكل مكتسباتها المتراكمة خلال عقود من التضحيات والعمل الوطني.
بدءاً ينبغي التمعّن فيما اتفق على تسميته بثورات الربيع العربي وما اذا كانت تلبّي جميعُها المفهوم العلمي للثورة من حيث الشروط الموضوعية والذاتية لقيامها وإذا ما أقامت حقاً انظمة جديدة على أنقاض القديمة. وهل أن قواها المحركّة تمثل حقّا قوى التغيير, بمعنى, هل حُسم الفرز بين الجديد والقديم, وهل تبيّنت معالم المجتمع الجديد أم أن الآتي ينبئ بارتداد المجتمع الى نُظم أشدّ تخلفاً وبؤساً ممّا أريد الاطاحة به؟ وماذا عن التغيير القسري المعبّد بالدم ورائحة البارود والنفط وفتاوى القتل؟
أسئلة عدّة تحتاج الى الإجابة, منها ما يرتبط بالعامل الداخلي وبعضها بالعامل الخارجي وانعكاساته على آفاق الحركات الاحتجاجية والانتفاضات الشعبية في العالم العربي, ومدى التواطؤ بين العاملين لإحباط الأهداف الجذرية في المجال الاقتصادي والاجتماعي وفي السياسة الخارجية بما يخدم الأهداف الاستراتيجية للأجنبي على حساب المصالح الوطنية لشعوب المنطقة..
إن واقع الانتفاضة (الثورة) المصرية التي قامت بعد تراكم سلسلة طويلة من النضالات, شاركت فيها الطبقة العاملة وفقراء الفلاحين والطلاب والشباب والمهنيّون والموظّفون وسكان الأحياء الشعبية, حيث شهدت السنوات الثلاث السابقة على الانتفاضة أكثر من 2500 تحرك احتجاجي, يؤكد أن أحداً من الشعب أو من القوى السياسية لم يتوقع أن تتطور الاحتجاجات الى هذا المدى, بل وفاجأتهم وأصبحوا يلهثون وراءها. لم ينضج العامل الذاتي للثورة لبلورة قوى سياسية موحّدة هيكليا وبرنامجاً تقود ثورة ضد نظام لتقيم نظاماً نقيضا له. وفي المقابل لم يصل النظام الى درجة العجز عن ادارة المجتمع ولم تنخره تناقضاته الداخلية فلم يسقط, وإن أجبر رأسُه وبعض رموزه على التنحّي. لقد بقي النظام بسياساته الاقتصادية والاجتماعية وارتباطاته السياسية الخارجية, ولم تمسّ البنية الاقتصادية ونظام الملكية ونتائج الخصخصة والاستيلاء على الملكية العامة والمال العام. واستطاع الاسلام السياسي بتواطؤ مع المجلس العسكري والقوى الخارجية وبسبب تدنّي مستوى الوعي عند شرائح واسعة, واستغلال العامل الديني وضعف القوى الوطنية والتقدمية وتشرذمها, أن يبسط هيمنته على السلطة التشريعية تليها السلطة التنفيذية ببرامج اقتصادية واجتماعية لا تختلف عن التوجهات التي قامت الانتفاضة ضدها. وكانت باكورة انجازاتهم مشاريع القوانين المُجحفة الخاصة بحق التظاهر والاضراب عن العمل والهجمة الاعلامية المكثفة على اعتصامات وإضرابات العمال والموظفين المطالبة بأجور عادلة وإبعاد الفاسدين عن إدارة المصانع والمؤسسات الإنتاجية وتحسين ظروف العمل, وهو ما يتكرر اليوم في تونس. بل ويتسع هذا العسف لينال المثقفين والفنانين والاعلاميين والحريات الشخصية والمدنية للمواطنين.
وفي الواقع فإنه قد تمّ اختزال صراعاً بهذا الحجم من الزخم والتضحيات في كونه صراعا على الانتخابات وتداول السلطة وكما يُظهره الاعلام على أنه واقع قد تكرّس, في حين أن للصراع بعداً اجتماعيا واقتصادياً أكثر عمقاً وأشدّ ضراوة يزداد اتساعاً مع استمرار تفاقم الأوضاع المعيشية والاحساس المرّ بأن الثورة قد سرقت.
إذن نحن أمام حالة لم تستقر ولم تنجَز ومن الصعب التكهّن بمخارجها, في المنظور القريب على الأقل, بالرغم من كل ما فينا من تفاؤل وأمل. هذه الحالة التي نجحت في إسقاط رئيس أكبر دولة عربية وقبله زين العابدين بن علي, خلقت نوعاً من الوعي الزائف بأن ما جرى في مصر وتونس والحراك في المغرب واليمن إنما هو ربيع عربي أو شتاء إسلامي ينبغي ملاقاته هنا بعد أن أزفَ زمن الثورات.
هناك مقولة هي أقرب إلى الحكمة بأنه لا يجوز اللعب بالثورة. فالثورة بخلاف الانقلابات العسكرية, ليست نزهة ولا قراراً يتخذ في غرف مغلقة, وهي لا تحتمل قراءة خاطئة للواقع الاجتماعي والسياسي, تخلطُ بين المطالب الاصلاحية الآنية المشروعة والطموحات البعيدة. هذه القراءة الخاطئة للثورة مدعاةٌ للتطرف, وافتقادٌ للمرونة السياسية وحرقٌ للمراحل ونوع من التضليل, وازدراءٌ للواقع لأنها تدّعي وحدة الأهداف بين المكونات السياسية للمجتمع في حين أن هناك تمايزاً جوهريا بين هذه المكوّنات في الشأن الاجتماعي والاقتصادي والحقوق المدنية وطبيعة الدولة والولاءات. ولا تغيّر من ذلك المطالب المشتركة بترسيخ الحياة الديمقراطية وتوسيع المشاركة الشعبية في القرارالسياسي, وفي الحركة المطلبية المتّصلة بحقوق وحياة المواطنين. وأخيراً فإن هكذا قراءة تضرّ بمجمل الحراك الوطني والوحدة الوطنية وتبرر لجهات مسؤولة عرقلة التوجهات الاصلاحية العامة في الدولة والمجتمع وعزل قوى الاصلاح لصالح التشدد وقوى الفساد.
الأيام 27 مارس 2012
أين الحقيقة في قضية الطفل عمر يا وزارة التربية؟
لم يكن من المفترض أن تأخذ قضية الطفل عمر ذي الأربع سنوات كل هذا المنحنى التصعيدي والتفسير الطائفي حتى وإن كانت قد وقعت بالفعل، مع أن المعلمة المعنية نفت في مقابلةٍ معها تنشر اليوم في صحيفة «الوسط» نفياً قاطعاً، طلبها من الطفل عمر أو أي طفل آخر في المدرسة تقبيل قدمها.
المعلمة وفي ردّها على الاتهام الموجه إليها قالت إنها «مستعدة للقسم على كتاب الله أنها لم تقم بذلك العمل» وأن «الحادثة مختلقة ولا أساس لها من الصحة أبداً، وإنه تم استغلالها طائفياً باستغلال الظروف التي تعيشها البحرين».
القصة انتشرت بشكل واسع ليس في البحرين فقط وإنما على وسائل الاتصال الإلكتروني في جميع أنحاء الخليج، ووجدت فيها بعض القنوات التلفزيونية والصحف المحلية فرصةً ذهبيةً للانقضاض على طائفةٍ بأكملها، في حين أصدرت جمعيات سياسية ومنظمات حقوقية بيانات الشجب والاستنكار، وطالب البعض بأقسى العقوبات على المعلمة والمدرسة، فيما تطوّع البعض الآخر برفع القضية إلى النيابة العامة وربطها البعض الآخر بما أسماه «أعمال العنف والتخريب» في البحرين، وذلك حتى قبل أن يسمع أحدٌ رأي المعلمة المعنية أو المدرسة أو حتى قبل أن تصل وزارة التربية إلى نتيجة من خلال التحقيقات التي تجريها، وإن كانت هذه الحادثة قد وقعت أصلاً أم لم تقع. الجميع اكتفى بما قاله والد الطالب عمر وبنى على ذلك موقفه.
ما صدر حتى الآن من وزارة التربية والتعليم يزيد الأمر غموضاً، بدل أن يكشف الحقيقة، فهل من المعقول أن الوزارة لم تعرف حتى الآن حقيقة ما جرى، حتى أن بيان الوزارة المنشور أمس لم يكن مفهوماً وإنّما زاد الأمر تعقيداً، والقضية غموضاً.
فالوزارة تقرّ في بيانها أمس بأنها «شكّلت فريق عمل لمتابعة الموضوع وصولاً إلى اتضاح الصورة بشكل نهائي ودقيق»، كما تقر بأن هناك «تضارباً في المعلومات». ففي حين تقول مديرة المدرسة إن المعلومات التي لديها تؤكد واقعة تقبيل الطالب لقدم المعلمة، يؤكّد مدير القسم العربي الذي قام بالتحقيق في القضية مع المعلّمة أن «الواقعة تتمثل في قبول المعلمة بتقبيل الطلبة لوجنتيها بشكل منتظم». ولم يُشِر بيان الوزارة إلى ما دار من حديثٍ حول الموضوع خلال اجتماع الوزير ووكيل الوزارة كل على حدة مع مالك المدرسة ورئيس مجلس إدارتها ورئيس المدرسة ومدير القسم العربي الذي قام بالتحقيق في القضية.
كما ذكرت الوزارة في بيانها أنها وجهت إنذاراً للمدرسة بسبب عدم إجرائها تحقيقاً رسمياً ومكتوباً، كل ما نفهمه من بيان الوزارة هو أن القضية مازالت في طور التحقيق وأن التهمة لم تثبت على المعلمة حتى الآن.
ما نطالب به المدرسة ووزارة التربية والتعليم هو إجراء تحقيق عادل إظهاراً للحقيقة ولكي يأخذ كل ذي حق حقه، وأن تقوم الوزارة بالكشف عمّا قد يتوصل إليه التحقيق، حيث إن القضية أصبحت الآن قضية رأي عام.
صحيفة الوسط البحرينية – 27 مارس 2012م