كيف ستتعامل القوى الليبرالية والقوى الحداثية المؤسِّسة للدولة المدنية المعاصرة في العالم العربي في أعقاب الصعود التاريخي لقوى الاسلام السياسي الى السلطة في عدد من البلدان العربية، وأرجحية تكرار ذات السناريو في عدد آخر منها هذا العام مع اقتراب استحقاق النسخة الثانية من ربيع الشباب العربي الغاضب، المتزامنة مع توالي التصدعات في جدران النظم التقليدية الشائخة التي هي نفسها من فرض التغيير بسبب خصامها العنيد مع التجديد والمواكبة؟
لاشك ان الصدمة كانت شديدة على القوى الحداثية العربية تلك التي أحدثها الصعود الجماعي اللافت والمتزامن لقوى الاسلام السياسي، لاسيما القوى المحسوبة على حركة الاخوان المسلمين، الى السلطة.. في ليبيا وتونس والمغرب ومصر وربما قريبا في اليمن ولكأن الحبل صار على الجرار وعلق به!
شدة الصدمة ليست ناجمة عن عدم توقع ذلك “الحصاد المر” للحراك الشعبي الواسع النطاق، فلم تكن تمخضات الحدث العربي الكبير مستغربة على أية حال بقدر ما كانت تندرج ضمن حدود الترجيحات التي تكاد تكون حتمية الوقوع.
الصدمة، على ما نحسب، ناتجة عن فجائية ونطاق التحول من الدولة شبه المدنية الى “بشائر” واستهلالات الدولة المأخوذة بالنزعة الثيوقراطية. فلأول مرة ربما في تاريخ الدولة العربية المعاصرة (نعني بالمعاصرة “Contemporary era”، المرحلة التي شهدت اضمحلال اسلوب الانتاج الاقطاعي ونشوء وتطور اسلوب الانتاج الرأسمالي وعلاقات السوق بين المنتجين ومستثمري المانيفاكتورة، وهي الشكل الجنيني للصناعة الرأسمالية المُمَكنَنة، وبين المنتجين ومستثمري الأراضي الزراعية وحصادها، وبدء الاندماج في السوق الرأسمالي العالمي، وذلك اعتبارا من أواخر القرن التاسع عشر الميلادي) – لأول مرة يشعر الوسط المديني والتحديثي وطلائعه ونخبه المعبرة عن مصالحه وأمزجته وأنماط معيشته وثقافته بالمجمل، ان كل مكتسبات عصر “الرينيسانس” (النهضة) العربي، أضحت تحت “رحمة” أجندات “التغيير” لدى حركات الاسلام السياسي التي حملتها احتجاجات “الربيع العربي” الى السلطة.
فالى أي حد يمكن أخذ مثل هذه الهواجس على محمل الجد؟
الى حد كبير، هذا مما لاشك فيه. فكما هو معروف فان لدى حركات الاسلام السياسي، سواءً الاخوان المسلمين الذين أصبحوا بين عشية وضحاها على رأس السلطة في تونس والمغرب وعما قريب في مصر وفي اليمن، أو السلفيين الذين حلوا ثانيا بعد الاخوان في الفوز بعدد مقاعد مجلس الشعب في الانتخابات التي أُجريت جولاتها الثلاث مؤخرا – لديها أجنداتها الخاصة بها، غير تلك البرامج الانتخابية التي سوّقت بها نفسها انتخابيا، وهي أجندات أفصح عن شذرات بعضها، بعض رموزها في تصريحات متفرقة.
ومع ذلك يتعين على قوى الدولة المدنية في العالم العربي، أن تحترم ارادة الناس الذين اختاروا التصويت لمرشحي هذه الجماعات، فهم الذين سيحكمون على أدائهم ويقررون سحب الثقة منهم اذا ما اكتشفوا الفارق بين وعودهم وأدائهم على الأرض.
وغنيٌ عن القول أن قوى الاسلام السياسي توفرت لها الأسباب الكافية لصعودها الى سدة الحكم في البلدان العربية التي أُجريت فيها لأول مرة انتخابات حرة ونزيهة، وهي أسباب على القوى المدنية التمعن فيها وأخذ العبرة منها. من هذه الأسباب ما يلي:
1- ان جزءا كبيرا وهاما من الكوادر التنظيمية لقوى الاسلام السياسي هم نشطاء محترفون، فيما كوادر التنظيمات الليبرالية والمدنية عموما، في معظمهم نشطاء هواة غير متفرغين، وانما هم يعولون على “سرقة” جزء من الوقت المتبقي لهم (Spare time) بعد عناء ساعات العمل وقضاء الحاجات المنزلية والاسرية الضرورية. وهم لذلك مشدودون لأعمالهم ومصالحهم أكثر من انشدادهم لواجباتهم النضالية. وهم بهذا معرضون للتذبذب لدن حدوث أي انعطاف مفاجىء في الأحداث، فيميلون في بعض الأحايين، والحال هذه، الى ترجيح جانب مصالحهم.
2- تتوفر قوى الاسلام السياسي على دعم مالي هائل في الداخل والخارج، على عكس القوى المدنية، وهو ما مكَّن الأولى من الاستحواذ على أفئدة وعقول البسطاء بـ “مكرماتها الخيرية”.
3- لقد عرفت قوى الاسلام السياسي كيف تستثمر الفرصة التاريخة التي أتاحتها لها ثورات الشباب العربي الجسور فقطفت ثمارها وحققت حلمها، مع الاستدراك هاهنا بأن هذا صار ممكنا بفضل مساعدة ومواكبة ترتيبات خاصة أقليمية ودولية ضمن ما يسمى بـ “جراند بلان” (Grand Plan) المراد بموجبه تغيير المنطقة شكلا ومضمونا. فالولايات المتحد وحلفاؤها الاوروبيون الذين لم يتوانوا في انشاء تنظيم “القاعدة” (باعتراف وزيرة الخارجية الامريكية هيلاري كلينتون) ودعم الحركات الاصولية والتعاون مع طالبان عندما كانت في السلطة، والتي اشترت سكوت الغرب على جرائمها بموافقتها على الصفقة الامريكية لنقل امدادات الغاز من عشق أباد (عاصمة تركمانستان) الى باكستان عبر الأراضي الأفغانية، ومنها الى أسواق الاستهلاك الاوروبية (أطراف الصفقة كانوا زلماي خليل زاد الامريكي من اصل أفغاني الذي صار سفيرا لأمريكا في العراق ثم في الامم المتحدة، والرئيس الأفغاني الحالي حامد كرزاي، وشركة يونوكال الامريكية) – لن يعدموا الوسيلة ولا تبريراتها الأخلاقية للتعاقد مع كائن من كان اذا ما توفرت فيه “شروط كفالة” مصالحها.
واذا كانت قوى الاسلام السياسي قد حصلت على الفرصة التاريخية التي انتظرتها طويلا واقتنصتها أخيرا على طريقتها الخاصة، فان هذه الانعطافة الحادة في شكل ومضمون السلطة الحاكمة في العالم العربي، توفر بنفس القدر فرصة تاريخية مواتية لاعادة اصطفاف وقيام تيار ليبرالي ومدني عريض سوف تبلوره في الامد القريب وتنتظم فيه تدريجيا الشرائح الاجتماعية الواسعة المرتبطة مصلحيا ومزاجيا بالدولة المدنية.لاشك ان التحدي كبير جدا بالنسبة لمستقبل ومصير الدولة المدنية والمجتمع المدني، مؤسسات ونمط حياة، في العالم العربي، وهو ما يتطلب كثيرا من الجدية والاحترافية من جانب القوى الاجتماعية المرتبطة بهذه الدولة، دفاعا عن منجزاتها وقيمها الحداثية المتكرسة والمتراكمة عبر عقود من العمل الشاق والمضني