كيف نقرأ تحول تركيا اللافت من عرّاب مشروع النهضة الشرق أوسطية، العربية تخصيصاً واستهدافاً، والدفاع الجسور والمتألق عن قضية وحقوق الشعب الفلسطيني في المحافل الدولية، وقبل ذلك في مواجهة “إسرائيل” عبر خوض جولات صراعية ساخنة معها (انسحاب رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من اللقاء الذي جمعه مع الرئيس “الإسرائيلي” شيمون بيريز على هامش أعمال مؤتمر دافوس الذي يجمع سنوياً نخب الأعمال والسياسة في العالم، وتسيير تركيا سفينة مرمرة ضمن أسطول الحرية لكسر حصار غزة، والذهاب لحد المجابهة مع الكوماندوس “الإسرائيلي” في عرض البحر)، إلى عرّاب “عملية” التغيير السياسي الهيكلي الشامل في العالم العربي؟
هل هي الظروف الموضوعية المتمثلة في “الربيع العربي” التي فرضت نفسها على القيادة التركية لتغيير دفة سياستها من التقارب والتآلف، وحتى التحالف، مع أنظمة الأمر الواقع العربية، إلى الانخراط الكامل والفاعل في المجهود الغربي- الأمريكي والأوروبي الغربي، الرامية إلى تغيير هذه الأنظمة إما كلياً وإما جزئياً، حسبما تمليه المصلحة الحالّة والاستراتيجية؟ أم أن دوراً كان قد توصل إليه الاستراتيجيون الغربيون وتوافقوا عليه مع تركيا من قبل حدوث متواليات ذلكم “الربيع العربي” في عموم الساحات العربية؟
سؤال سوف يظل حائراً وسط جدل ظهر تواً وراح يتخذ له هامشاً معتبراً في مداولات الإعلام العربي، إلى أن يُقيض للحقيقة، سواء بدواعي زخم الأحداث وتداعياتها القاهرة، أو بمحض المصادفة التاريخية، أن تُجلي ما هو خافٍ، حتى الآن، على المتابع النبيه الحصيف .
غنيّ عن القول أن البنيان المؤسسي للنظام السياسي التركي هو في الواقع أكثر تقدماً بكثير من متوسط نظرائه من الأنظمة السياسية السائدة في بلدان “العالم الثالث”، فلابد، والحال هذه، أن تكون الرؤية المستقبلية والاستراتيجية حاضرة بقوة في ممارسته السياسية الدولية، الأمر الذي يعني أرجحية “انفتاح” الطبقة السياسية التركية، بغض النظر عن الطيف السياسي الذي تنتمي إليه، وعلى الخيارات البراغماتية كافة، التي يمكن أن تسهم في خدمة هدف يعزز مواقع وإمكانات تركيا على الصعيدين الإقليمي والدولي .
وقد يشط بنا الخيال في محاولتنا رصد وقراءة التحولات والتبدلات المفاجئة المصاحبة للحدث العربي الكبير، وبضمنها المتغير الأبرز في المعادلة الشرق أوسطية الجديدة، وهو المتغير التركي – بمعطى فكري استشرافي وليس بهوس التفسير التآمري للتاريخ الجاري والمستقبلي – فنذهب بذلك في فرضيتنا إلى القول إن الولايات المتحدة التي تعتمد كثيراً على ما يسمى خزانات أو مستودعات الأفكار (Think Tanks) التي يبلغ عددها زهاء 1000 مركز نصفها تابع للجامعات، ونصفها الآخر يعمل كمؤسسات خاصة مستقلة، 25% من هذه المراكز المستقلة موجود في العاصمة واشنطن وأبرزها “بروكينز انستيتيوشن” ،1927 و”أمريكان إنتربرايز انستيتيوت” ،1943 ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية ،1962 وهو تابع لجامعة جورج تاون، وهيريتيج فاونديشن ،1972 و”راند كوربوريشن”، نقول إن الولايات المتحدة التي تعتمد كثيراً على هذه المراكز البحثية الاستراتيجية، قد درست الخريطة الاجتماعية للمجتمعات العربية المثقلة بخزين وافر من المواريث الدينية والعصبيات “العضوية” المختلفة، بهدف تحويلها ووضعها على مسار النهضة العالمي، قد اهتدت وتوصلت إلى خلاصة مفادها أن الجماعات الإسلامية التي تنتظم الشرائح الأوسع من الطبقات الفقيرة والمتوسطة، هي القوى الاجتماعية الأكثر نفوذاً وتأثيراً في مسارات وأنماط واتجاهات الحياة العربية، وأن جماعة الإخوان المسلمين هي الجماعة الأكثر تنظيماً وتأثيراً من بينها، كما أنها الأقل تطرفاً وغلواً وأكثرها استعداداً للتعاطي مع الآخر والقبول به، ولو إكراهاً تكتيكياً .
وفي التنفيذ، كان يتعين على الولايات المتحدة التي أقامت الدنيا ولم تقعدها، هي وحليفاتها الغربيات عندما فاز حزب الإخوان المسلمين (جبهة الإنقاذ الوطني) في الانتخابات التشريعية التي جرت في الجزائر في عام ،1991 ما حفز المؤسسة العسكرية التي تهيمن على كل مناحي الحياة الجزائرية، إلى رفض نتائج الانتخابات وخوض حرب أهلية راح ضحيتها مئات الآلاف من القتلى والجرحى، والتي (أي الولايات المتحدة) اتخذت موقفاً عدائياً مماثلاً من فوز حركة المقاومة الفلسطينية “حماس”، (النسخة الفلسطينية من الإخوان المسلمين)، في الانتخابات التشريعية الفلسطينية في عام 2006 جسدته في الحصار الإجرامي المفروض على قطاع غزة منذ ذلك الحين، كان يتعين عليها أن تغير موقفها وتفتح قنوات اتصال وتتفاوض مع الإخوان المسلمين، وهو ما فتح الباب واسعاً أمامهم للوصول بسهولة إلى السلطة في تونس (حزب النهضة)، وتقريباً في ليبيا، وفي مصر (حزب الحرية والعدالة الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين الذي شكلته الجماعة بعد الثورة، وحزب النور السلفي اللذان فازا بنحو 65% من أصوات الناخبين في الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية المصرية)، وفي المغرب (حزب العدالة والتنمية الذي فاز في الانتخابات المغربية بعد التعديلات الدستورية الاستباقية بأغلبية مقاعد البرلمان: 107 مقاعد من إجمالي مقاعد البرلمان المغربي البالغة 395 مقعداً)، والمتوقع في سوريا إذا ما سارت الأمور حسبما هو مخطط لها .
حتى إذا ما صحّت هذه الفرضية، فإن ترتيباتها تفترض الاستعانة بتطبيقات النموذج التركي لطريقة إدارة الإخوان المسلمين الأتراك (حزب العدالة والتنمية) دفة الحكم في تركيا، وهو حزب كان قد تشكّل، كما نعلم، على أيدي مجموعة من النواب الذين انشقوا عن حزب الفضيلة الإسلامي الذي كان يترأسه نجم الدين أربكان، والذي تم حله بقرار صادر من المحكمة الدستورية التركية في 11 يونيو ،2001 حيث تخلّى الحزب الجديد بزعامة رجب طيب أردوغان عن راديكالية أربكان الإخوانية، وتبنّى نهجاً تصالحياً مع العلمانية التركية التي يعد كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة، الأب الروحي لها .
وهذا ما تم التوافق عليه، على ما يبدو، مع زعامة حزب العدالة والتنمية التركي بزعامة أردوغان، وذلك برسم الدور المحوري الذي تلعبه تركيا في إذكاء وتحفيز و”إدارة” حراك “الربيع العربي”، (في ليبيا دور نشط وفعال في الجهد الأطلسي لإطاحة القذافي، وفي الجامعة العربية حضرت بصفة مراقب حين وجهت الجامعة إنذار ال 24 ساعة الشهير إلى سوريا بالعقوبات الاقتصادية إذا لم تستجب لشروط الإنذار العربي . . على سبيل المثال لا الحصر) .
تبقى مسألتان أساسيتان بالنسبة إلى الأمريكيين الذين لا بد أن يكونوا قد طرحوهما خلال حواراتهم مع الإخوان كشرطين يتعين استيفاؤهما لتبديد قلق واشنطن وحلفائها بشأن مصيرهما، وهما العلاقة المستقبلية مع “إسرائيل”، وعدم المساس بالقاعدة الأساسية للمقاربة الديمقراطية التي ستوصل الإخوان إلى السلطة وهي التداول السلمي المنتظم- غير المنقطع- للسلطة، واحترام التعددية السياسية والدينية والثقافية .
قد تكون هذه الصفقة- إذا ما صحت فرضيتها- صفقة القرن بالنسبة إلى العالم العربي، من حيث إنها ستدشّن عصراً جديداً في تاريخ التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للمجتمعات العربية، بما لها من إيجابيات وما عليها من سلبيات .
تركيا في قلب الإعصار العربي
المفصولون واللجنة الوطنية لتنفيذ التوصيات
من المفارقات المضحكة والمبكية في الوقت نفسه أن اثنين من أعضاء اللجنة الوطنية لتنفيذ توصيات لجنة تقصي الحقائق هما من المفصولين أو الموقوفين عن العمل في حين أن أهم توصية ملحة خرجت بها لجنة تقصي الحقائق هي إرجاع المفصولين إلى أعمالهم والطلبة إلى مقاعدهم الدراسية وبشكل فوري.
العضوان هما الأستاذ الجامعي والأمين العام السابق للجمعية البحرينية لحقوق الإنسان عبدالله الدرازي والعضو الآخر هو الأمين العام لجمعية المنبر التقدمي الديمقراطي حسن مدن الذي أوقف عن عمله في وزارة الثقافة.
لجنة تقصي الحقائق أوصت «بتكوين لجنة وطنية مستقلة ومحايدة تضم شخصيات مرموقة من حكومة البحرين والجمعيات السياسية والمجتمع المدني لمتابعة وتنفيذ توصيات اللجنة على أن تعيد اللجنة النظر في القوانين والإجراءات التي طبقت في أعقاب أحداث شهري فبراير/ شباط ومارس/ آذار بهدف وضع توصيات للمشرع للقيام بالتعديلات الملائمة للقوانين القادمة ووضع تشريعات جديدة».
هذه اللجنة تم تشكيلها بمرسوم ملكي، حيث اختار جلالة الملك أعضاءها وفقاً لما يتمتعون به من مكانة سياسية واجتماعية لتحظى بالصدقية والقبول من مختلف فئات المجتمع وقواه السياسية، وبحسب عدد من أعضاء اللجنة فإن جلالة الملك طمأنهم بأنه «يريد لهذه اللجنة أن تكون جسرا نحو تنفيذ توصيات تقرير لجنة بسيوني ومدخلا لحل سياسي يعيد الأوضاع في البحرين إلى طبيعتها ويحقق التوصيات التي نص عليها التقرير».
مثل هذه المفارقة لا يمكن أن تحدث إلا في البحرين، فليس هناك من دولة تقصي أهم الكوادر الوطنية لديها من أطباء وممرضين وأساتذة جامعيين ومدرسين بسبب آرائهم السياسية مع أنها تعاني نقصا حادا في هذه التخصصات.
ومع أن جميع المنظمات الحقوقية والعمالية طالبت البحرين بالرجوع عن قرارات الفصل ورغم صدور توجيهات عليا ومن جلالة الملك شخصيا بإعادة المفصولين إلى أعمالهم، فإن المسئولين في الوزارات وديوان الخدمة المدنية وعدد من الشركات سواء الحكومية أو الخاصة يرفضون تنفيذ هذه التوجيهات.
لا أحد يعرف بالضبط من الذي يعطل إرجاع المفصولين إلى أعمالهم، ولكن من يفعل ذلك يتعمد وضع العراقيل لتنفيذ توصيات لجنة تقصي الحقائق التي تعهدت البحرين أمام العالم أجمع بتنفيذها.
من المفترض أن يكون تقرير لجنة تقصي الحقائق بداية الطريق للخروج من المأزق الذي تعيشه البحرين ومدخلا لمصالحة وطنية ولكن لن يحدث ذلك إلا حين يقتنع الجميع بأهمية ذلك
صحيفة الوسط البحرينية – 16 ديسمبر 2011م
ندوة لندن عن البحرين ما بعد تقرير بسيوني
المؤسسة البحثية «تشاتهام هاوس» نظمت ندوة لندن في 13 ديسمبر/ كانون الأول 2011 تحت عنوان «البحرين ما بعد تقرير بسيوني» وحظيت الندوة بحوارات ساخنة على مدى خمس ساعات، تحدث في الجلسة الأولى أحد مفوضي لجنة تقصي الحقائق البروفيسور نايجل رودلي وسفيرة البحرين في لندن ألس سمعان، وفي الجلسة الثانية تحدث كلٌ من الشيخ علي سلمان والشيخ عبداللطيف المحمود، وتحدث في الجلسة الثالثة سهيل القصيبي ومحمد مطر ومريم الخواجة (وأُضيف لهذه الجلسة تعقيب مطول للأخ زايد الزياني).
الجلسة الثانية التي جمعت سلمان مع المحمود أوضحت أنه على رغم تقرير بسيوني، إلا أن القصص المكررة التي كانت تقال قبل إصدار التقرير لاتزال هي الطاغية على التفكير، وهو ما حدا بمدير الجلسة إلى القول إنه يأسف لأن الاختلاف في فهم ما حدث في البحرين لايزال كما وصفه التقرير قبل إصداره.
عوداً على الجلسة الأولى، فبعد أن تحدث نايجل رودلي، تحدثت السفيرة ألس سمعان وسردت الخطوات التي «اتخذتها الحكومة استجابة للتقرير»، وذكرت أن البحرين «تعاقدت مع خبير بريطاني لإصلاح القضاء»، إضافة إلى تعاقدها مع مفوض شرطة أميركي وآخر بريطاني لإصلاح جهاز الشرطة. وقالت إن الحكومة رغبت في أن تبدأ بإصلاح الوضع بعد الاستماع إلى لجنة تقصي الحقائق وإن الأحداث بالإمكان أن تكون فرصة لإحداث إصلاحات دستورية وسياسية، ولكن حدث ما كان مخيباً للآمال، وإن الآن لدينا تقرير، و «يمكننا أن نستفيد من التقرير كخطوة أولى للمصالحة الوطنية».
بداية الندوة كانت مع خبير حقوق الإنسان نايجل رودلي الذي قال بأنه كان يطالب طوال التسعينيات من القرن الماضي بزيارة البحرين وذلك عندما كان مقرراً خاصاً للأمم المتحدة مسئولاً عن ملف التعذيب، ولكن الحكومة البحرينية لم تسمح له بزيارة البحرين، ومن مفارقات القدر أن تتم دعوته ليكون أحد المفوضين في لجنة تقصي الحقائق، والتي تعتبر أول تشكيل في العالم من نوعه، إذ لم يسبق أن تشكلت لجنة تحقيق مكونة من مفوضين دوليين بمبادرة من حكومة بلد ما، وهذا بلاشك يعطي سمعة حسنة للحكومة، ولاسيما أن ما حدث في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 كان اجتماعاً ليس عادياً في أحد القصور الملكية، وكان الدبلوماسيون والإعلام وممثلو المجتمع المدني، والمفوضون والملك وولي العهد ورئيس الوزراء، جميعهم جالسين يستمعون إلى ملخص قرأه رئيس اللجنة البروفيسور محمود شريف بسيوني ذكر فيه تفصيلاً لانتهاكات قامت بها الحكومة، وكان نوعاً من الإدانة لها، ولكن الملك رد بشهامة، وكان هذا شيئاً مثيراً للإعجاب، إذ اعتبر أن احترام حقوق الإنسان يتخطى الحدود السيادية – كما هو الحال في أوروبا عندما تحقق المحكمة الأوروبية في تجاوزات حقوق الإنسان في أي بلد أوروبي.
رودلي قال إنه لا يعرف كيف تم اختياره، وإنه فقط دُعي للمشاركة في لجنة يرأسها بسيوني، الذي يعرفه منذ عدة عقود، وإن اللجنة لم تكن لها سكرتارية واحتاجت إلى توظيف موظفين لذلك، وهؤلاء تعاملوا مع آلاف الشكاوى خلال 4 أشهر، وعقدت عدة اجتماعات في البحرين وفي لندن، وكان عملاً مضنياً، والمفوضون كانوا على علم بهشاشة الوضع البحريني وانعدام الثقة بين مختلف أطراف الأزمة، إذ كان الوضع يقترب من الكراهية، وكانت الخطابات مختلفة والقصص متضاربة وحاولت اللجنة أن تعكس المنظورَين من أجل التوصل إلى فهم لما حدث في البحرين منذ اندلاع الاحتجاجات في 14 فبراير/ شباط 2011، وإن التقرير صدر على أمل أن يكون «بداية لمصالحة وطنية»، وليس من صلاحيات اللجنة أن تشرف على هذه المصالحة الوطنية، كما إنه لا يستطيع أن يعلق على ما حدث بعد إصدار التقرير من إجراءات حكومية لتشكيل لجان وغيرها، وهو يأمل أن تنفذ التوصيات كما وردت وأن تتحرك الجهود البحرينية نحو إعادة التفكير فيما حدث، وأن يستمع كل طرف للآخر، وإن آخر توصية في التقرير توجهت إلى جميع الأطراف بأن يتم تطوير التعليم بما يحقق الاندماج المجتمعي المؤسس على فهم واضح لحقوق الإنسان واحترام الأديان ووجهات النظر المختلفة، وأن تباشر الحكومة البدء بالمصالحة الوطنية والتحدث إلى الفئات التي تشعر أنها متضررة من طريقة التعامل معها.
هكذا بدأت الندوة التي أشعلت نقاشات ساخنة بين من حضرها، وكان واضحاً أن التقرير يمثل مرحلة جديدة. ويجب أن أشير إلى أن الخطاب الحكومي الجديد يمثل تحدياً للمعارضة، إذ إنه يفسح المجال للحكومة لطرح شيء مختلف عن الأسلوب الحكومي الفاشل سابقاً، وهو طرح يجد له صدى في الأوساط العالمية. كما إن الطرح يمثل تحدياً للحكومة ذاتها لأن الفسحة التي تحصل عليها ربما تنتهي بسرعة وإذا لم يتحقق شيء فإن الوضع سينقلب سلباً عليها.
وفي الحقيقة، فإن أكثر ما أخشاه هو أن الحكومة قد تحاول الاستفادة من التقرير للتسويف وعدم تنفيذ أي شيء نحو المصالحة الحقيقية، وفي الوقت ذاته فإن البعض الآخر لن يستفيد من التقرير وسيستمر في تكرار ما كان يقوله قبل إصدار التقرير، وهذا ينطبق على المعارضة وعلى الفئة الأخرى المضادة للمعارضة… وأعتقد أن جميع هؤلاء سيكتشفون – إذا استمروا هكذا – أنهم يضيعون فرصة حقيقية للخروج من أزمة خانقة لاتزال جذورها باقية لتنتج لنا مزيداً من الأحداث المؤلمة.
صحيفة الوسط البحرينية – 15 ديسمبر 2011م
مظلة الاحتجاجات العربية الاجتماعية
أقف عند مقالة البروفيسور فالح عبدالجبار في صحيفة «الحياة» يوم الأحد (11 ديسمبر/ كانون الأول 2011) بعنوان «الأصولية والديمقراطية» إذ جاء في مطلعها: «ما فعلته حركات الاحتجاج الاجتماعية (لم يقل السياسية) في العالم العربي، هو فتح القلاع الأوتوقراطية التي تذكرنا مداخلها ببوابات الحديد المسنن التي تحمي قلاع الأمراء القروسطيين في أوروبا. هذا الفتح إنجاز عملاق بكل المقاييس. والخشية من الغليان القابعة وراءه لا تبرر الإحجام عن أو التردد في قلع الأبواب؛ أو الندم عليه».
الحركات الاحتجاجية في العالم العربي، لم تبرز هكذا بمحض الصدفة؛ أو هبطت بمظلة من مكان قصيّ ومجهول. أتت بعد عقود من المصادرة وتأميم الإرادات والأرواح والخيارات. أتت بعد عقود من السرقات والقمع والتجاوزات والاستباحات. ومازالت الأنظمة العربية ترى في الحركات الاحتجاجية تلك صفاقة وقلة أدب وانعدام تربية في التطاول على أولي الأمر؛ فقط لمجرد الاحتجاج؛ لأنه يراد لتلك الجماهير أن تموت بشكل جماعي، وفي هدوء تام، حسرة وغصّة للأحوال التي آلت إليها، ثم عليها ألاّ تقلق نوم أولي الأمر؛ لأن ذلك من أكبر الكبائر عند الله وأنبيائه ورسله والراسخين في العلم والقناعة في الوقت نفسه.
تنظر إلى خريطة الاقتصاد لتتأكد أن الجغرافية العربية لا تعاني من شح في الثروات أو الموارد. الذي يراد السكوت عنه، أن مجمل تلك الثروات وعوائدها تذهب إلى النخب الحاكمة، ولتمت الشعوب ولتعان الأمة من سوء التغذية أو عسر الهضم حتى في بلع ريقها.
تنظر إلى خريطة التعليم، مقارنة بحجم الثروات فلا يصدمك المشهد؛ لأن الموازنات مخصصة للحروب المقدسة: مواجهة احتجاجات كالتي تشهدها جغرافيتنا العربية.
تنظر إلى خريطة الخدمات الصحية فلا تفاجأ بفقر الدم والاضطرابات النفسية. تنظر إلى خريطة الحقوق فلا ترى إلا بلقعاً، والبوم هو الحمام فيها.
تنظر إلى خريطة «الخيار» فلا ترى إلا بصلاً وثوماً وكل مشتقات الرائحة، وليست أي رائحة! ويراد لتلك الشعوب أن تأوي إلى نومها مبكراً، وأن تقرأ المعوذات، وألا تنسى الدعاء لمن يساهم كل يوم في استمرار كوابيسها! والذين يتحدثون باسم الدين وادعاء الوكالة عن الله جاهزون بنصوص لن يجدوا رفة رمش لضمير حين يمارسون التأويل الذي يرونه غير جائز في موضع وجائزاً بل واجباً في مواضع بحسب الظرف والمصالح!
هذا الجزء من الجغرافيا منشأ ومنبع الكوميديا السوداء. الكوميديا التي لا تنتهي ويبدو ألا مؤشر على انتهائها باستمرار وغلبة الذهنيات والعقليات التي تهيمن على جماهير تظل تنظر إليها باعتبارها قطيعاً لا حول له ولا قوة. ذهنية كتلك تراهن على زوالها أكثر من مراهنتها على زوال تلك الاحتجاجات التي تأخرت لأكثر من ستة عقود من وهم ومهزلة ما يسمى بالدولة المدنية المزعومة. تأخرت لدرجة اعتقد كثيرون أنها بالفعل قطيع بهويات ومسميات وظيفية وأحياناً من دون ذلك.
نعم، هذا الجزء من جغرافية العالم منشأ ومنبع الكوميديا السوداء من دون أن ننسى الدم الذي يراق بسهولة، سهولة إراقة الماء على الأعتاب أول الصباح. هذه الجغرافية هي المنشأ بسبب بعض حراس النصوص ومفسريها. بسبب من اختطفوا حراسة الدين، الذين يسهمون اليوم في شرعنة القتل بالجملة والذهاب إلى آخر الشوط في مهرجانات الدم.
من طبيعة الإنسان الجنوح إلى السلم، ومن طبيعته في كثير من الأحيان التغاضي عما يراه ليس ضرورياً وأساساً من حقوقه، ومن طبيعته أيضاً أن ذاكرته لا تنسى وتختزل كل ما تنازل عنه عن طيب خاطر، ولكنه لن يحتاج إلى الاتكاء على ذاكرته كي يسترجع ما تنازل عنه عن طيب خاطر، ولن ينتظر اللحظة التي تهينه وتضعه في مرتبة دون الأشياء.
البروفيسور فالح عبدالجبار الذي بدأت مقالتي باقتباس مطلع مقالته: «الأصولية والديمقراطية» وصف الحركات تلك بالاجتماعية – ليس تحيزاً لاختصاصه – والأنظمة السياسية العربية تصر على أن قوى خارجية ترفد المعارضة السياسية في الداخل حتى بخطاباتها وليس بأساليب احتجاجها ومعارضتها!
العام 2011 أفرز حركات احتجاجية اجتماعية باغتت القوى الرئيسة في المعارضة قبل أن تباغت الأنظمة التي احتجت ومازالت تحتج عليها؛ إذ كثير من قوى المعارضة كان بمنأى وانفصال عن تحركات الشارع وتفاصيل معاناته.
«الربيع العربي» ميزته أنه انطلق بتحركات احتجاجية اجتماعية وذلك ما يمنحها حقاً وبراءة في صدق المطالب وتوجهها مهما احتقنت أوداج المكنة الإعلامية العربية الرسمية بوصم المحتجين بالخوارج والإرهابيين وقيام أكثر من معركة جمل هنا وهناك وقاموس من الشتائم الذي تظل متمكنة منه؛ إذ تلك موهبتها الوحيدة في الحياة
صحيفة الوسط البحرينية – 15 ديسمبر 2011م
المفصولون من أعمالهم
تنص التوصية رقم 1723 من تقرير اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق المتعلقة بإنهاء خدمات الموظفين في القطاعين العام والخاص وفصل الطلاب وإنهاء بعثاتهم الدراسية على اتخاذ ما يلزم نحو ضمان ألا يكون بين الموظفين المفصولين حالياً من صدر قرار فصله بسبب ممارسته حقه في حرية التعبير وحق إبداء الرأي والتجمع وتكوين جمعيات، وأن تستخدم الحكومة كل صلاحياتها لضمان عدم معاملة الشركات الخاصة وأصحاب العمل الآخرين الذين قاموا بفصل موظفين لعدم حضورهم للعمل في وقت المظاهرات بطريقة أقل، وإعادة كل الطلاب المفصولين الذين لم يتم اتهامهم جنائيا بارتكاب عمل من أعمال العنف إلى وضعهم السابق، مع ضرورة إيجاد آلية تسمح للطلاب الذين فصلوا أن يتقدموا بطلب لإعادتهم إلى الجامعة بعد انقضاء فترة معقولة مع اعتماد معايير واضحة وعادلة للإجراءات التأديبية ضد الطلاب، وضمان أن تطبق هذه المعايير بطريقة منصفة ومحايدة.
وقد خولت لجنة متابعة توصيات تقرير بسيوني رئيسها الأستاذ علي صالح الصالح بأن يتولى متابعة التنفيذ العاجل لهذه التوصية مع الجهات الحكومية المعنية، الذي بادر، بدوره، إلى عقد لقاءات مع بعض هذه الجهات، حيث تم التوافق على تولي اللجنة التنسيق المباشر مع الجهات المعنية في الدولة، وعلى وجه الخصوص وزارة العمل، وديوان الخدمة المدنية، من أجل إيجاد حلول عاجلة وعادلة لقضايا المفصولين في القطاعين العام والخاص.
وتختلف الرواية الحكومية حول عدد الموظفين والعمال الذين لم يُعادوا إلى أعمالهم عن تلك الأرقام التي يقدمها الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين بناء على القوائم المتوفرة لديه، وهذا يتطلب من الدولة ومن الشركات الكبرى المملوكة للحكومة في المقام الأول أن تكون شفافة بإعلان قوائم تفصيلية لمن لم تجر إعادتهم لوظائفهم، فتلك مقدمة ضرورية لتسوية هذا الملف الإنساني الشائك.
وليس صحيحاً القول أن من تبقى من مفصولين هم فقط العاملون في تلك الشركات الكبرى، فهناك أعداد كبيرة من المفصولين حتى هذه اللحظة في العديد من وزارات الدولة ومرافقها، ومن بينها وزارات البلديات والتربية والتعليم والصحة وغيرها من الوزارات، بل حتى من الجهاز الإداري والفني لمجلس النواب، وهو أمر طرحه عدد من النواب أنفسهم، بمن فيهم أعضاء في مكتب المجلس.
كما أن هناك جانباً مهماً من الموضوع لا يصح أن نغفل عنه يتمثل في أن عدداً ممن أعيدوا للعمل لم يعودوا إلى وظائفهم السابقة، التي جرى إحلال آخرين فيها، وإنما إلى وظائف أقل وفي مواقع أخرى غير تلك التي كانوا فيها، كما حرموا من الدرجات والترقيات، وحُمل الكثيرون على توقيع تعهدات مُهينة، أو تحويل عقوباتهم من الفصل إلى الإنذار النهائي.
إزاء هذا الموضوع نحن بصدد ملف إنساني على درجة كبيرة من الأهمية والحساسية لأنه يتصل بأرزاق الآلاف من الناس الذين قُطعت أرزاق معوليهم، واستمرار هذا الملف مفتوحاً بدون حل يعني تراكم المزيد من المرارات والغضب في النفوس، بالطريقة التي تجعل من المصالحة الوطنية أمراً متعذراً، فمثل هذه المصالحة لا يمكن بلوغ أولى درجاتها إلا بحل مشرف وعاجل لأمر يُعيد الحق إلى نصابه، وفق المنهاج الذي رسمه تقرير بسيوني.
“الهويات القاتلة”
هذا كتاب نعود إليه مراراً ولا نمل. ليس فقط لأنه كتاب مضيء، وإنما لأنه كتاب نحتاجه، لأنه يعنينا، بل أنه عنا، وهو يعنينا اليوم في البحرين أكثر مما كان يعنينا قبل أمد ليس بعيداً.
انه كتاب”الهويات القاتلة” لأمين معلوف، الذي اشتغل في عمله الروائي على تتبع مسار تشكل الهويات وعلى تجاورها حينا، وعلى تنافرها حيناً آخر. لكنه في هذا الكتاب لا يكتب رواية، كما أنه لا يكتب بحثاً أيضاً، وإنما يكتب تأملات عميقة، تتقاطع فيها التجربة الشخصية للكاتب مع حصيلته المعرفية العميقة، ومن خلالهما يُشخص كيف يمكن للهوية الثقافية والدينية للأفراد والجماعات، التي تبدو مسألة طبيعية ومشروعة، حيث ليس بوسع أي منا أن يرى نفسه خارج هوية معينة، أو على تخوم هويات متعددة، أن تتحول، أي هذه الهوية، إلى هوية مُدمرة، أو قاتلة على نحو ما يذهب إليه عنوان الكاتب.
يتكثف جوهر المشكلة في تلك اللحظة التي ينقسم فيها المجتمع إلى “نحن” و”هم”، حين يصبح قسم من المجتمع يعرف نفسه أمام أفراده ب”نحن” ويومئ إلى القسم الآخر ب”هم”، والعكس صحيح بطبيعة الحال، وكما يذهب معلوف فان جماعة “نحن” في هذه الحال يقدمون أنفسهم في مظهر الضحايا والأبرياء، أما “هم” فإنهم مذنبون، حتى لو كشفت المعاينة التاريخية أو الراهنة أن كلا الفريقين على خطأ، أو أنهما يتقاسمان هذا الخطأ إما بالتساوي أو بنسبة تزيد هنا وتنقص هناك تبعاً لواقع الحال الملموس.
لا صراع بين الهويات الثقافية أو الدينية أو ما هو في حكمهما يُمكن أن يُفهم بمعزل عن جذره الاجتماعي الكامن أساساً في صراع المصالح، ودائماً فان من مصلحة أصحاب هذه المصالح تأجيج المشاعر الطائفية لصرف الأنظار عما ندعوه التناقض الرئيسي في المجتمع، وهو أمر رغم وضوحه يبدو شديد التعقيد حين يُراد شرحه للجماهير، فالجماهير لا يمكن إقناعها عادة، وإنما يكفي تعبئتها وإطلاق ما في دواخلها من مكبوت قد يمتد عميقاً وبعيداً. الجماهير أميل إلى أن تتلقى الرسالة التعبوية السهلة، بينما لا تبدي الحماسة ذاتها لفهم الظواهر المعقدة عبر أدوات التحليل.
ولكن هذا الجذر الاجتماعي لصراع الهويات أو تنافرها، لا ينفي أن هذا الصراع، أو التنافر، يصبح مع الوقت ظاهرة على قدر كبير من الاستقلالية بحاجة إلى الوقوف المتأني أمامها، لأن هذا التنافر يمكن أن يمر بحالات مختلفة، يخبو حيناً حتى لا نكاد أن نراه ظاهراً ونحسب أننا قد تجاوزناه، وأنه أصبح في ذمة الماضي، حتى نفاجئ، في حينٍ آخر، بأواره وقد استعر من جديد، حين يأتي باعث أو محرض عليه.
استوقفتني عبارات بليغة وردت في رواية “الإمبراطور الصغير” لكاتبنا المعروف محمد عبد الملك تتحدث عن الظاهرة الطائفية أنقلها هنا حرفياً، لأنها تكاد توجز تحليلاً مُطولاً عن الموضوع: “من أين جاءت الطائفية؟ في الأغلب دفنوها لكنها لم تمت. كان الأهالي ينتصرون عليها دائما، لكنها مثل بعض أنواع البكتيريا تعود للتكاثر بسرعة. هي أخطر أنواع البكتيريا الضارة لأنها تتولد داخل الجسم دون أن نراها”.
«المنبر التقدمي» وبلورة الدور المستقل للتيار الديمقراطي
العديد من التساؤلات يطرحها عدد من الأصدقاء حول موقف المنبر التقدمي الديمقراطي بعد الأزمة في البحرين ولماذا ابتعد المنبر عن الجمعيات السياسية واتخذ موقفاً منفرداً، حتى أصبح لا يشارك في التوقيع على البيانات المشتركة التي تصدرها هذه الجمعيات بما في ذلك وثيقة المنامة التي وقعتها جميع الجمعيات المعارضة باستثناء المنبر التقدمي وعدم إرسال ممثل عن المنبر في الوفد المشترك الذي زار عدداً من الدول لشرح موقف المعارضة من الأحداث الجارية في البحرين.
البعض اتهم المنبر بالسعي لشق موقف المعارضة فيما رأى البعض الآخر بأن السلطة في البحرين استطاعت أن تجذب المنبر إلى جانبها أو أن تحيده على أقل تقدير.
ما يحدث الآن يعيد للأذهان موقف المنبر خلال أول انتخابات برلمانية خاضتها البحرين في العام 2002 وكيف اتخذ المنبر موقفاً مخالفاً للجمعيات من خلال إعلانه المشاركة في هذه الانتخابات رغم مقاطعة جميع الجمعيات السياسية المعارضة لهذه الانتخابات، وحينها أيضاً تم اتهام المنبر بالرضوخ للضغوط الحكومية، ورغم ذلك شاركت جميع الجمعيات السياسية في انتخابات العام 2006 بالرغم من عدم استجابة الحكومة لمطالب المعارضة بحصر التشريع في المجلس المنتخب وإعطاء صلاحيات أكبر لمجلس النواب كما أن الظروف السياسية لم تتغير للأفضل بين عامي 2006 و2002 ما أكد صحة موقف المنبر ولو بعد حين.
فيما يخص موقف المنبر الأخير يشير الأمين العام للمنبر الدكتور حسن مدن في مقابلة مع «الوسط» ستنشر خلال الأيام القليلة المقبلة إلى أن مواقف المنبر الأخيرة اتخذت تماشياً مع الظروف والبنية التنظيمية الداخلية الخاصة بالجمعية وأن القرار في جمعية المنبر التقدمي ليس قراراً يتخذه فرد أو مجموعة من الأفراد وإنما هو قرار الهيئات التنظيمية المنتخبة من هذا التنظيم.
ومع ذلك يؤكد مدن على حاجة التيار الديمقراطي للبروز كقوة مستقلة, لأنه هو الوحيد المؤهل لأن يطرح الطرح المنفتح على مكونات المجتمع البحريني كافة حيث أن الأزمة الأخيرة التي حدثت في البحرين كشفت عن خلل جوهري في هذا الجانب وهو أنه في لحظة الانقسام الطائفي العميق في البلد لم يجد المجتمع قوة تطرح نفسها ممثلة للطائفتين إذ تخندق الجميع في طوائفهم.
المنبر التقدمي اتخذ موقفاً وعليه أن يدفع ضريبة هذا الموقف وسواء استطاع المنبر أن يلعب دوراً كبيراً في إعادة اللحمة الوطنية أم لم يستطع فنحن بحاجة إلى أن يبرز الوجه المستقل للمنبر التقدمي وللتيار الديمقراطي وذلك لا يعني بأي حال من الأحوال التخلي عن المطالب المشروعة للبحرينيين
صحيفة الوسط البحرينية – 14 ديسمبر 2011م
ما بعد التقرير
كثيرون، على ما يبدو، لا يريدون أن يستوعبوا بعد أننا في مرحلة ما بعد صدور تقرير اللجنة الوطنية المستقلة لتقصي الحقائق، الذي تعارفنا على تسميتها بلجنة بسيوني، وبالتالي فإنهم يصرون على مواصلة التخندق في الاصطفاف الذي نشأ كنتيجة للأحداث التي شهدتها البلاد في المرحلة السابقة، والإمعان في تقسيم المجتمع البحريني إلى فريقين، فريق الدوار وفريق الفاتح، في إعادة إنتاج ممجوجة للخطاب التحريضي الذي ساد طوال شهور، واحدث ما أحدث من شرخ طائفي عميق في المجتمع.
الدولة، ممثلة في جلالة الملك، أعلنت تبنيها لما جاء به التقرير من وقائع ومن توصيات، وفي أكثر من مناسبة عبر العاهل عن حرصه على أن تجد هذه التوصيات طريقها للتنفيذ، ولكننا، رغم ذلك، نجد من يجادل في أن أننا لسنا ملزمين بهذه التوصيات، وأن الدولة حرة في أن تطبقها أو لا تطبقها.
وفي هذا انحراف عن الأهداف التي نشدها جلالة الملك حين أراد من تشكيل اللجنة ومن إصدارها لتقريرها أن يؤسس لخريطة طريق تُخرج البلاد من أزمتها، مستنداً في ذلك على ما للجنة من صدقية دولية ومحلية، أهلتها لأن تكون جهة مقبولة من الأطراف المختلفة التي نظرت إليها كجهة محايدة هدفها مساعدة البحرينيين على تجاوز مناخ عدم الثقة الذي يهيمن على المجتمع.
آن الأوان لكي يدرك الجميع أن مرحلة ما بعد صدور التقرير تتطلب خطاباً آخر يضع نصب عينييه مصلحة البلد العليا ومستقبلها في أن تعبر برزخ المحنة بدون خسائر إضافية، فما خسرته البحرين كان مكلفاً على كل الأصعدة، الإنسانية والمعيشية والاقتصادية والمجتمعية، وما لم تتحرك نوازع الضمير عند الجميع في إنقاذ البلاد من الأزمة، فإننا سنظل نراوح في المكان نفسه، ومن التجربة تَعلمنا أن المراوحة، هي في نهاية المطاف، عودة إلى الخلف، فيما البلد بحاجة لأن تذهب للأمام.
هناك من استمرأ لعبة التشفي والتحريض تحت رايات مذهبية وطائفية أو حتى سياسية ولم يعد بوسعه أن يغادرها، لأن مهمة مداواة الجروح أصعب بكثير من مهمة نكأها المستمر، وإزاء ذلك فان المجتمع بحاجة للحذر واليقظة إزاء هذا النوع من الخطابات، بأن يفطن إلى أن لا مستقبل للبحرين خارج سياق المصالحة الوطنية التي تتطلب الإقرار بالأخطاء والتجاوزات والانتهاكات التي حدثت، والتي توقف تقرير بسيوني أمام الكثير من تفاصيلها، لا من أجل توثيقها للتاريخ فقط، وإنما لكي نستخلص منها العبرة التي تعين البحرين على أن تسير في طريق الإصلاح السياسي والدستوري، وهذا لن يتم إلا عبر تسوية الملفات الإنسانية الموجعة العالقة والتي تتطلب قراراً سياسياً حكيما وشجاعاً في الآن ذاته.
هي مرحلة جديدة إذن، هكذا نريدها نحن الذين نرغب في أن تستعيد البلاد عافيتها، ولأنها كذلك، أو هكذا يفترض، فإنها تتطلب القطع مع أنماط الخطاب الصانع للكراهية والبغضاء الذي تعب منه البحرينيون، والعمل على بلورة خطاب يليق بهذه المرحلة، ويرتقي إلى استحقاقاتها، وما أكثرها.
جمال مرهون
ليس بالوسع أن تغادر صورته المخيلة، آخذاً مكانه في أريكته الأثيرة في صالة بيته، التي لا يتنازل عنها لأحد، كما كان يُردد دوماً، محاطاً بزملائه وأحبته الكُثر، مطلقاً بين الحين والآخر واحدة من دعاباته الساخرة التي لا تنتهي، فقد كانت تلك الدعابات التي تنم عن روحً جميلة شفافة لازمة من لازمات حديثه.
لا أستطيع تَخَيُل هذه الأريكة بالذات، في الموقع الذي تقع فيه بالذات، وقد غاب عنها صاحبها، الذي جعل منها مكانه الصديق الذي لم يعد يقوى على مفارقته، إلا على الكراهة، إذا ما استعرنا هذه المفردة من المعجم الشعري للجواهري الكبير.
في الذهن الآن صورة ذلك الشاب الذي يضج بالحيوية والإقبال على الحياة في زمنٍ مضى. كان زمناً اخضر، ذاك الذي كان فيه وجه الفتى جمال يشع بين رفاقه، من الشباب والصبايا، في حلمهم الجميل الذي وجد في مدينة بونا الهندية فضاءً له، يوم كانوا يتلقون العلم في جامعاتها ومعاهدها.
إلى هناك ذهبتُ أكثر من مرة يوم كانت راية اتحاد الشباب الديمقراطي البحراني تظللنا في المنافي أو تحت قبضة القمع في الوطن، كانت أعمارنا غيرها هي الآن، ولم تكن الدنيا تتسع لأحلامنا الكبيرة، مُفعمين بالثقة التي لا تحدها حدود في قرب تحققها. وكان من المستحيل أن يخطىْ بصر العين وبصيرة الروح، وسط ذلك الحشد من الشبان والفتيات وجه جمال، وجمال روحه.
في الذهن أيضاً صورته وهو يخطو خطاه بقامته الطويلة الرشيقة في اتجاه مكتبة المنبر التقدمي في الغرفة الخارجية من مبنى المنبر القديم في الزنج، وفي الذهن، كذلك، صورته في مسيرات الأول من مايو كل عام تجوب شوارع العاصمة بين رفاقه وزملائه من أعضاء المنبر التقدمي ومن الشبيبة، يوم كانت روحه لا تزال متقدة بالأمل، وكان من الصعب التصديق أن جمال الذي أنهكه المرض في أيامه الأخيرة، على سريره في المستشفى، هو نفس ذلك الشاب الحيوي الذي كانهُ قبل حين قريب.
جامع النقائض هو: رقيق وجميل وشفاف ومشاغب ومشاكس وعنيد، حتى في إصراره على الرحيل عنا وعن الحياة كان عنيداً، للدرجة التي تجعلنا نحار كيف لجمال المحب للحياة، والمُقبل عليها بجنون، أن يختار الذهاب في إصرار عنيد إلى الموت. كيف أمكن له ذلك، في الوقت الذي كان متاحاً أن يتمسك بتلابيب الحياة، الجديرة بأن تُعاش ما استطعنا إليها سبيلا.
وهبْ أننا غفرنا له ما خلفه في نفوسنا من حسرة، كيف لنا أن نغفر لأنفسنا خطيئتنا، نحن رفاقه ومحبوه، أننا لم نبذل من الجهد ما كان ضرورياً لثنيه عن هذا العناد، ولأن نظهر ما يكفي من الحرص على أن نُبقيه بيننا في الحياة التي تزداد وحشة، كلما غادرنا وجه عزيز مثل وجه جمال، وحلقت في السماء روح شقيقة كانت لنا مصدر بهجة مثل روحه.
العلة في تأبيد الاستبداد
ما الذي جرى هكذا فجأة وبلا مقدمات؟ ما الذي حمل تركيا على هذا التحول الدراماتيكي في موقفها تجاه بلدان المنطقة العربية لاسيما أكثر الدول العربية صداقة وقرباً لها لحد الاقتراب من إقامة شراكة استراتيجية، اقتصادية وسياسية، ونعني بذلك تحديداً سوريا؟
كما هو معروف فإن تركيا ومنذ أن استتب الأمر لحزب العدالة والتنمية في السلطة في تركيا في عام ،2002 اتجهت للتقرب من عمقها الجيوسياسي العربي وإعادة توجيه جزء مهم من اهتماماتها الإقليمية والدولية نحو المنطقة العربية، فكان أن عززت مواقعها الاقتصادية وحضورها السياسي والثقافي والاجتماعي في الحياة العربية، وقد نجحت أنقرة بالفعل في استمالة القلوب قبل العقول العربية على المستويين الرسمي والشعبي بفضل النجاحات الاقتصادية الباهرة التي حققها حزب العدالة والتنمية الحاكم داخل بلاده والمواقف العدائية الصارمة التي اتخذتها تركيا ضد “إسرائيل”، واليوم ما أن بدأت علاقات تركيا تسوء مع النظام السوري وتتدهور لحد تحول تركيا إلى مركز الثقل الإقليمي والدولي الرئيسي الضاغط باتجاه تغييره، حتى بدأت بعض الأقلام والمعلقين والمحللين الإخباريين تعيد طرح نوايا تركيا الحقيقية تجاه بلدان المنطقة العربية للنقاش، “فتفتشها” وتشكك فيها وذلك من خلال إعادة تركيب وتفسير السياسات والمواقف التركية المستجدة من الحدث العربي الكبير المسمى بالربيع العربي .
البعض ذهب في تفسيراته إلى ما أسماه انبعاث الروح العثمانية ونزعتها التوسعية في بلاد المشرق والمغرب العربيين، فيما ذهب البعض الآخر في تفسيراته إلى أن التحول المفاجئ في الموقف السياسي التركي، من سوريا خصوصاً، إنما هو تأكيد لتغليب تركيا لأطلسيتها (أي انتمائها لحلف شمال الأطلسي “ناتو”) والتزاماتها تجاه سياساته وخططه التنفيذية على ما عداها من انتماءات تعتبرها النخبة التركية انتماءات فرعية بمقتضى فلسفة بناء الدولة التركية الحديثة التي دشنها مصطفى كمال أتاتورك . حقاً من كان يتصور أن تركيا التي فتح لها النظام السوري فرصة النفاذ إلى السوق السورية لحد التضحية بصناعة النسيج والملابس الجاهزة السورية لمصلحة الواردات التركية الأكثر تنافسية، يمكن أن تحول علاقتها الحميمة مع سوريا إلى علاقة عدائية تصل لحد تهديدها بقطع الكهرباء عن سوريا (وزير الطاقة التركي “تانز يلديز” 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011) .
نعم قد تكون لتركيا حساباتها الإقليمية والدولية، وقد يكون من بينها استغلال فرصة التصدعات الحاصلة في بنيان النظام العربي، بمحاولة مقايضة اشتراكها في الجهود الغربية لتغيير بعض الهياكل السياسية في العالم العربي مقابل تخلي بعض بلدان الاتحاد الأوروبي، لاسيما فرنسا وألمانيا، عن اعتراضاتها على عضوية تركيا الكاملة في الاتحاد الأوروبي .
ولكن الواقعية السياسية التي لا تستقيم مع الشطط العاطفي والعصبوي الفزعوي، تطالعنا بمعطى آخر مختلف، ويتمثل في أن البحث عن العلة يجب ألا يتوقف عند ثنائية العلاقة التركية – السورية التي بدت ملتبسة بعض الشيء، على الأقل لدى البعض منا، المأخوذ على ما يبدو بعسل الاستقرار المستدام ظاهراً والواهي مستقراً .
فبعيداً عن حسابات واستهدافات تركيا بتجربتها التنموية، السياسية والاقتصادية اللافتة، كان لابد لسوريا، وغيرها من الدول والجهات والكيانات المتشككة، بحق ومن دون وجه حق، في النوايا التركية الإقليمية، من أن تكاشف نفسها وتحاسبها على كل ما فات، هل هي متوافقة ومتصالحة مع معطيات واستحقاقات ومستجدات العالم المعاصر أم أنها مازالت تجتر أوهامها في عزلة خانقة بين مؤسستها الاحتكارية للإدارة المجتمعية الكلية، وهي هنا مؤسسة الحكم تحديداً، المتضخمة لحد التوحش، وبين الكتلة العظمى من مجتمعها التي لم تعد تحتمل حالة الخنق المدمرة تلك .
لا جدال في أن كل هذا التركيز الإعلامي والسياسي والدبلوماسي الأمريكي والأوروبي الغربي على سوريا، ليس مبعثه الحرص على إشاعة الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان في سوريا، فلو كانت واشنطن وحليفاتها العواصم الأوروبية الغربية مهمومة لهذه الدرجة بحرية وحقوق وكرامة الإنسان لكان الشعب الفلسطيني المسحوق من قبل العنصرية “الإسرائيلية”، قد نال ولو جزءاً يسيراً من هذا “العطف والحنان” الأمريكي والأوروبي الغربي المتدفق بغزارة هذه الأيام على الشعب السوري .
لا أحد يجادل في ذلك، إنما ليس هو بيت القصيد، فلم يعد مقنعاً ولا مقبولاً الخلود للاطمئنان بالجلوس فوق العروش العاجية والاكتفاء بترداد ذات الخطاب المتكلس بمفرداته المتمحورة حصراً حول منافيات الشموخ والصمود والتصدي، فهذه أهميتها سوف لن تساوي شيئاً إذا لم تسندها تغييرات ملموسة تحوز رضا وقبول الناس، بل إن المؤسسة السلطوية حين تكتشف، متأخرة طبعاً، أن هذه الطنطنات لم تعد تجدي في استدراج الدعم والمؤازرة الشعبية، وبعد أن تكون الملمات قد اشتد وطيسها وتم إحكام طوق الخنق والعزلة عليها، ستتحول من تمثل دور الصامد المتصدي إلى تقمص دور الضحية المتكالبة عليها قوى الاستعمار والاستكبار، وذلك استدرارا لتعاطف وتضامن الرأي العام .
تأسيساً على ذلك وعملاً بالحكمة العربية الرشيدة “صديقك من صدّقك لا من صدْقك”، نقول إن ما لم تدركه النظم التسلطية هو أن هذه التشكيلات التسلطية قد تجاوزها الزمن وأنه لم يعد لها مكان بين نظم الإدارة الكلية الحديثة، وأنه ما لم تبادر هي من تلقاء نفسها لإعادة هيكلة مؤسساتها وأجهزتها الاستبدادية وإفساح المجال أمام القوى الحية الجديدة الصاعدة للانخراط فيها والاسهام في تحويلها ودمقرطتها، فإن العالم الذي لا يحتمل طويلاً تباطؤها، سوف يعمد، بحسب الشواهد الشاخصة، للتدخل لإيقاع التغيير المنشود فيها، وتحديد مستواه إن اقتضى الأمر .
حرر في 8 ديسمبر 2011