هل كانت مشاركة القوى اليسارية والنقابات العمالية والاتحادات الجماهيرية مؤثرة في هذهِ الثورات؟ و إلى أي مدى؟
انه العليق عند الغارة، وفي عرف العرب ان مثل هذا العليق لا يفيد الحصان بل يجهده اكثر، فاليسار فاجأته لحظة ثورية لم يكن مستعدا لها، ورغم ذلك خاضها ولم يقدها، لأنه لم يكن مستعدا فكريا وتنظيميا لهذه اللحظة، وفي هذا قصور في الرؤية، وحسابات تاريخية خاطئة، ناتجة اما عن تكلس ايدولوجي نمطي او عن تماهي مع العولمة وحركة اللبرلة التي سرت في شرايين الفكر السائد عالميا، لذلك لم يستطع ان يكون مؤثرا في الحركة، وكان مثله مثل أي مشارك من الجمهور إلا بفارق وعي بسيط غير ان هذا الوعي كان نظريا عاما بعيدا عن امتلاك الرؤية لقيادة حرب الطبقات وأساليب إدارة العملية النضالية، لقد كان يسارا مثقفا أكثر منه يسار ممارس. هذا لا يجعلنا نغض الطرف عن استثناءات هنا وهناك لكنها لم تستطع ان تشكل الظاهرة العامة.
الثورات اليوم هي المعلم الأكبر وهي كفيلة ان تكنس ما تراكم من قشور وبثور على جسم اليسار ان أراد التفاعل الحقيقي مع الحالة الثورية وان نظر إليها كصيرورة تاريخية لا بد من الاستجابة لها بأدوات جديدة.وبوصلة جديدة مركزها الميدان الكفاحي ومحيطها الانتشار في اوساط الفقراء والمعدمين بدل الانغلاق في صالونات العواصم، لم تبدأ الشرارة الاولى من تونس العاصمة بل من بلدة نائية ربما سقطت من الخارطة فأعاد البوعزيزي تثبيتها عليها، لذلك يجب مغادرة الكلاسيكي في التحليل الطبقي والولوج الى تعقيدات البنى العربية من ناحية تشوه التركيب الطبقي، وسيادة الاقتصاد الريعي وخراب الإنتاج، وغير ذلك من المظاهر التي خلقتها عقود من التخلف والتبعية.
انها فرصة اليسار ألان في التطور حتى وان بدت الأمور وكأن الدين السياسي هو فارس الميدان، لكن الشعوب اذ تفتح عيناها على حقوقها تصبح عينا ناقدة ومسائلة، وبالتالي فان الوصول الى ديمقراطية سياسية سيفتح المجال امام تطويرها الى ديمقراطية اجتماعية شرط ان يكون الحصان قد اشبع عليقا وهذا ليس في ربع الساعة الاخيرة.
2- هل كان للاستبداد والقمع في الدول العربية الموجه بشكل خاص ضد القوى الديمقراطية واليسارية دوره السلبي المؤثر في إضعاف حركة القوى الديمقراطية واليسارية؟
لو كانت هذه الاحزاب ممتدة في شرايين القواعد الشعبية لما فعل القمع فعله، هذه تجربتنا في فلسطين، فزيادة قمع الاحتلال كانت تؤدي الى مزيد من جماهيرية أي حزب ديني كان ام يساري، ربما تختلف ظروف الاحتلال عن دول شبه مستقلة، لكن وضوح المطلب، والاستعداد للتضحية مترافقا مع التفاعل الحي مع الجماهير كان يمكن ان يحول القمع الى أداة فعالة لزيادة تأثير الحزب والالتفاف حوله، اما ما تعرض له اليسار من قمع سلطوي فهذا في الحقيقة لم يكن في بال الجماهير لان منظمات اليسار كانت نخبوية بالأغلب واعتقال بعضها لم يؤثر على اكثر من الاسر والجيران احيانا، فقد ظل يسارا تبشيريا لم يصل الى حالة تحميه الجماهير من القمع وبالتالي اثر القمع، حيث كان من المفروض ان لا يتوقع الثائر من الدكتاتور ان يؤدي له التحية.
3- هل أعطت هذه الانتفاضات والثورات دروساً جديدة وثمينة للقوى اليسارية والديمقراطية لتجديد نفسها وتعزيز نشاطها و ابتكار سبل أنجع لنضالها على مختلف الأصعدة؟
هذا اذا كان هناك استعداد لدى قوى اليسار لتعلم الدروس، فمن التجربة التونسية والمصرية وجدنا ان اليسار لم يتعلم الدرس، بمعنى انه لم يبن أي شكل جبهوي تحالفي بين قواه، ولا زالت التفاصيل الصغيرة تسيطر على فكره دون الاهتمام بالقضايا الكبرى وتغليبها على مصالح حزبية ضيقة تزيد من شقة الخلاف، ان الثورات اذ تبدأ عصرا عربيا جديدا، انما تعلم كل من استغرقته النظرية عن الثورة دروسا جديدة، اذا كان لدى هذه القوى استعداد للمراجعة والنقد لا جلدا للذات وانما لإعادة هيكلة الفكر والتنظيم والأدوات بما يلائم الظروف الجديدة، ويدفع نحو قيادة العمل الثوري، كما ان امام قوى اليسار مهمات ان لم تقم هي بها، لا يمكنها التأثير بالشارع من خلال الاعلام فقط والتبشير او التنظيم الحلقي، ان عليها مقابل نموذج الاغاثة الريعي الديني السياسي، ان تقدم من خلال قيادتها قبل كادراتها وقواعدها، نماذجها التعاونية الاشتراكية في كافة المجالات الزراعية والصناعية، لتعلم الجمهور انه كما استطاع ان يفجر ثورة يستطيع ان يبني مجتمعا عادلا، هذا من جهة ومن جهة اخرى يجب ان يولي اليسار اهمية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ويمسك بها بذراعيه وكفيه واصابعه فهي مدخله الى الفقراء وطريقه للانسجام الكلي مع فكرته وبرامجه.
4 ــ كيف يمكن للأحزاب اليسارية المشاركة بشكل فاعل في العملية السياسية التي تلي سقوط الأنظمة الاستبدادية ؟ وما هو شكل هذهِ المشاركة ؟
الانتشار في كل الميادين الانتاجية اولا والاعلامية ثانيا والثقافية ثالثا، والوضوح القاطع مع كل أشكال الانتهاز السلطوي، والاهتمام بالشباب وطلبة المدارس قبل الجامعات، النظر الى الانتخابات كوسيلة تبني قادة شعبيين لا بيروقراطيين مهندمين، وتقديم النماذج المختلفة للإنتاج خاصة في الأرياف وأحزمة الفقر حول المدن.
5- القوى اليسارية في معظم الدول العربية تعاني بشكل عام من التشتت. هل تعتقدون أن تشكيل جبهة يسارية ديمقراطية واسعة تضم كل القوى اليسارية والديمقراطية العلمانية ببرنامج مشترك في كل بلد عربي, مع الإبقاء على تعددية المنابر, يمكن أن يعزز من قوتها التنظيمية والسياسية وحركتها وتأثيرها الجماهيري؟
الشعار راهن ويجب الاسراع جدا في العمل عليه، ان قبولنا بالتعددية في المجتمع يقتضي قبولنا في اختلاف وجهات النظر داخل اليسار فهو ليس دين يعتمد على النص، وما يقرب اليساري من الليبرالي اقل بكثير مما يقرب بين اليساري واليساري، اظن ان المماحكات النظرية الزائدة هي نزعة مثقفين عجزة وغير عضويين، وهذا يعني ان ميدان الثورات سيغسل كثيرا من العوالق التي ادت الى عجز اليسار وسيفتح طرقا متعددة للوحدة بينه، الا اذا ظل هذا اليسار كحبات البطاطا في كيس من الخيش كله بطاطا ولكن لا جامع بينه.
6 ــ هل تستطيع الأحزاب اليسارية قبول قيادات شابة ونسائية تقود حملاتها الانتخابية وتتصدر واجهة هذهِ الأحزاب بما يتيح تحركا أوسع بين الجماهير و أفاقا أوسع لاتخاذ المواقف المطلوبة بسرعة كافية ؟
التجديد القيادي بات ضرورة لتنشيط الدورة الدموية للاحزاب، كفى لكثير من الكهول والشيوخ تربعا على قمة اهرام الاحزاب، ان الديمقراطية تقتضي تكافؤ الفرص وفتحها امام الجميع، وكما ان تطورات العصر بات يملكها الشباب اكثر من الكهول، فان اندفاعهم وحماسهم وانتماءهم لاحلامهم سيعطي قوة دفع هائلة في الاحزاب اليسارية، شرط تمتعهم بحدود مقبولة من الوعي السياسي والتنظيمي والفكري، يتغذى ويقوى بالممارسة، فقد اثبتت تجربتي تونس والجزائر ان غياب التنظيم في اوساط الشباب حرمهم من التأثير الحقيقي في قرارات الثورة، ولذلك جرى استبدال الفاعلين الحقيقيين بنواب عنهم من بقايا احزاب مترهلة، الامر الذي دفع الشباب مرة اخرى واخرى للميادين، ان مهمة اليسار هنا ان يكون المرشد لهولاء الشباب والقادر على استقطابهم لصالحه.
7- قوي اليسار معروفة بكونها مدافعة عن حقوق المرأة ومساواتها ودورها الفعال، كيف يمكن تنشيط وتعزيز ذلك داخل أحزابها وعلى صعيد المجتمع؟
المرأة المرأة، أي مرأة تقصد، تلك التي تدافع عن حقوق مدنية وسياسية ليبرالية فقط ام نساء الارياف والنجوع والعشوائيات اللواتي لا يعرفن غير الطاعة مع انهن منتجات وكادحات، ان المدخل الاساس للدفاع عن حقوق المرأة هو مدخل الحقوق الاقتصادية الاجتماعية، وهذا يدفع باليسار ان كان جادا ان يعمل في اوساط النساء في المناطق الفقيرة وان لا يبحث عن العمل السهل في الاوساط المدينية، حتى النساء في هذه المناطق لا زلن خارج ان يكن فريسة الدين السياسي، انهن متدينات شعبيات وسهل استقطابهن من خلال المشاريع الانتاجية الصغيرة.
8 ــ هل تتمكن الأحزاب اليسارية والقوى العلمانية في المجتمعات العربية من الحدّ من تأثير الإسلام السياسي السلبي على الحرّيات العامة وحقوق الإنسان وقضايا المرأة والتحرر ؟
هذا يعتمد على مدخل اليسار في ذلك هل هو في نقد السماء ام نقد الارض، ان الصراع مع الدين السياسي في ميدان القيم والاخلاق وغيره هو صراع نتيجته محسومة لصالح الدين السياسي الذي يعمل في بيئة مواتية، اما الصراع معه على ارضية القضايا الاقتصادية والاجتماعية وتعرية نهج الاغاثة، المغطي على الاستغلال فهو الوسيلة الانجع، فقد كان مبارك وبن علي وغيره لا زال حماة لنظام استغلال قبل ان يكونوا مجرد فاسدين، ان التعظيم من التركيز على الفساد انما هو امسك بالنتيجة وليس السبب، فالاستغلال هو اساس الفساد، وبالتالي، فالاهم هو مقاومة الاستغلال، والسعي الدائم لتحول ما يقدمه الدين السياسي من اغاثات وخدمات الى حقوق تكفلها الدولة قانونيا، بذلك يتم تحرير الفقراء من التبعية للمغيثين، ويتم بسط سيادة الحقوق محل منهج الاغاثة والحسنات.
9- ثورات العالم أثبتت دور وأهمية تقنية المعلومات والانترنت وبشكل خاص الفيس بوك والتويتر….. الخ، ألا يتطلب ذلك نوعاً جديدا وآليات جديدة لقيادة الأحزاب اليسارية وفق التطور العملي والمعرفي الكبير؟
اهمية تقنية المعلومات انها وسعت الى حد كبير من القدرة على الحصول على المعلومة، كما انها سرعت من التواصل، واستطاعت ان تفلت من الرقيب المباشر، وبالتالي لدى الجميع الان آلية تواصل سريعة وحرة وقادرة على تحوير البنى التنظيمية بما يجعلها اكثر نجاعة وتأثيرا، اما انها تصنع ثورة، فهذه مغالاة انها وسيلة تواصل تحتاج الى تنظيم ميداني يستثمرها في الاسراع في تحقيق المهمات وانجازها وتقليص الكلفة البشرية والمادية على الاحزاب الفقيرة، انها كآلة الطباعة واثرها السابق، وهي ايضا ربما تكون كأختراع البارود ودوره في انهاء الاقطاع.
10- بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس الحوار المتمدن، كيف تقيمون مكانته الإعلامية والسياسية وتوجهه اليساري المتفتح ومتعدد المنابر؟
بصراحة، تعرفت على هذا الموقع بعد سنة من انطلاقه، ومن يومها اتصفح بسرعة خمسة مواقع لاستقر متأنيا عند الحوار المتمدن وما يعطيه من تنوع وعمق في مقالات ودراسات وغيرها، وقد افادني انا الذي لم اغادر فلسطين منذ ثلاثين عاما بالتعرف على مفكرين وكتاب عرب من كافة المشارب، لقد شحذ في الذهن الناقد وهذا ما تفتقره الكثير من المواقع اتمنى ان يستمر ويتقدم الى الامام ففيه مساحة من الحرية قل نظيرها وفيه ما يوتر العقل ويقدح زناد الذهن، شكرا لكل من يعمل في هذا الموقع.
جبريل محمد
باحث فلسطيني
الحوار المتمدن
20 ديسمبر 2011