المثقف الذي لا يتحسس الآم شعبه لا يستحق لقب المثقف، على حد تعبير غرامشي “المفكر الايطالي المعروف”، غرامشي فرق ما بين المثقف العادي والمثقف العضوي، المثقف العضوي الملتزم بقضايا شعبه وبالدفاع عن الفقراء والكادحين.
فالثقافة هي التعبير الحقيقي عن واقع الانسان سواء في بلداننا العربية اوفي العالم، فالثقافة تؤسس لوعي متطور في المجتمع، وبالأخص عندما تكون ثقافة تقدمية، تدافع عن حق الإنسان في الحياة.
يقول الباحث السوري د.محمد قاسم عبدالله إن عمل المثقفين والمفكرين مشروط بعدد من الشروط بعضها موضوعي “بنية المجتمع، طبيعة المرحلة، موقعهم وأوضاعهم المعيشية” وبعضها ذاتي “تحصيلهم العلمي، وعيهم لطبيعة دورهم، حالتهم السيكولوجية وسمات شخصيتهم”.
ويواصل حديثه بالقول، إلا ان هناك عدداً من العقبات تحول بين المثقف وأداء دوره يبرز في مقدمتها نخبوية الثقافة والمثقفين وتتمثل في الانفصال عن الجماهير، والانفصال بين الانتاج الثقافي، وجماهيره، حدث ولا زال يحدث في بلداننا العربية، بما فيهم بلدي البحرين.
هذا الوصف هو تعبير صادق عن أزمة المثقف وانفصاله عن واقعه المجتمعي، الذي يجسده نوع من المثقفين يعيشون حالة نرجسية لا يستطيعون الخروج منها، لأنهم قابعون في أبراجهم العالية، يصرون على البقاء فيها، ومن بعيد يكتبون وينظرون تجاه قضايا شعوبهم وما يحدث في بلدانهم، من ثورات وانتفاضات واحتجاجات، وكأنها لا تعني لهم شيئاً، وبعضهم يحاول ان يساير الوضع الناشىء أو الجديد في بلده ويركب الموجة، لكي لا يفوته القطار القادم بسرعة، والبعض الآخر، قبل ساعات من سقوط النظامين في تونس ومصر، كانوا يطبلون لهما، ويبرروا الممارسات الخاطئة لتلك السياسات، من فساد وسرقات وقمع وتعذيب وقتل للناس في بلدانهم، ولا زالت الانتفاضات والاحتجاجات مستمرة في بعض البلدان العربية، فالعديد من المثقفين في تلك البلدان لهم ارتباطات وثيقة بالانظمة السياسية الحاكمة في تلك البلدان وهم الآن قلقون على مصيرهم ومصالحم الشخصية أكثر من قلقهم على بلدانهم وشعوبهم وما يحدث لها من تنكيل وقتل واعتقال ومطاردة وتهجير وفصل من الوظائف والاعمال.
ويتجلى بؤس بعض المثقفين من كتاب وإعلاميين في الدفاع عن سياسة القمع والتعذيب الجسدي والنفسي الذي يمارس ضد المتظاهرين والمعتقلين في الساحات والشوارع وفي المعتقلات والسجون في العديد من المدن العربية، لا يحرك ساكناً، ضمير المثقفين المرتبطين بالأنظمة السياسية في تلك البلدان على ما يحدث فيها من فضائع ومآسي.
كما برزت التناقضات عند البعض من المثقفين عندما كتبوا عن الذي يحدث في بلدانهم، بأنه من فعل التيارات الإسلامية أو الجماعات المتطرفة، وهي تستغل الدين والناس لأهدافها وأجندتها، بالرغم من مشاركة القوى القومية واليسارية في البلدان العربية في الثورات والانتفاضات والاحتجاجات العربية، وهي التي دفعت ثمناً باهظاً في الماضي ولا زالت تدفع الثمن غالياً، من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والتقدم لشعوبنا وبلداننا وهي ماضية في طريقها الصعب، وأن تعثرت هنا وهناك، عليها اليوم مهام كبيرة يجب الاطلاع بها، وهي قادرة على ذلك، ان وحدت جهودها وصفوفها، لتعيد ذلك الزخم التي حظيت به في الماضي، بالرغم من التغيرات والاحداث الكبيرة في الوطن العربي والعالم، تبقى هي بارقة الامل والحلم للعديد من التواقين لاحداث التغيير والاصلاح الحقيقي والديمقراطية وتطبيق مفهوم المواطنة الحقة في بلداننا، والمشاركة في صنع القرار السياسي، من خلال تداول السلطة في البلدان التي انتصرت فيها الثورات، والتي يجب ان تكرس فيها حقوق المواطنين، متساويين في الحقوق، الثروة والعدل والقانون، لا ينتهك القانون من أجل ارضاء فئة تريد الاستحواذ على الثروة والسلطة وتصادر حقوق الانسان في الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية، على المثقفين العرب المناضلين الحقيقيين، ان يناضلوا من أجل ذلك في أوطانهم ويساهموا في تعزيز تلك الحقوق وفي بناء الدولة المدنية الحديثة القائمة على الحرية والعدل والمساواة والتعددية السياسية والفكرية، الضمانة لحق الانسان بأن يعيش حراً في وطنه، مكرماً ومعززاً لا يمارس عليه سوط الجلاد، اذا أبدى برأيه اتجاه الممارسات الخاطئة للنظام السياسي في بلده، كحق من حقوق ابداء الرأي والتعبير والتنظيم، من الحقوق المكفولة في التشريعات والقوانين والمواثيق والمعاهدات الدولية، التي يجب عدم تجاوزها في هذا العالم المتداخل والمترابط، لم تعد الجفرافيا مسافات بعيدة فاصلة بين الشعوب والدول، ثورة المعلومات المتطورة للغاية، قربت تلك المسافات.
ماذا نقول ونكتب: مثقفون يبررون سياسية قتل الناس في الشوارع والساحات وفي اقبية السجون والزنازن يصمتون على تلك الحوادث المأساوية في بلدانهم، وبعضهم تحولوا الى ابواق اعلامية مدافعة عن تلك الانظمة السياسية التي مارست القتل والتنكيل ضد شعوبهم، والاكثر من هذا، يطالب البعض منهم بتقديم قادة المعارضة، للمحاكم، بالنسبة للذين لم يعتقلون في بعض البلدان العربية التي جرت فيها الاحتجاجات، البحرين واليمن، أمثلة على ذلك، أخطر شيء في المثقف عندما يتحول إلى بوق سياسي وإعلامي يدافع عن سياسة البطش والتنكيل بالمعارضين ويبرر ذلك تحت حجج عديدة، ويسوق الامثلة والاقاويل عن هذا الحزب أو ذاك المعارض، ويحاول أن يتصيد له، إذا وجدت اخطاء أو غيرها، تحت ذريعة التحليل والتشخيص والتوثيق، أو القول بأنه مراقب سياسي، أو مراقب محايد، وبالأخص ذلك المثقف السياسي الذي كان في يوم من الأيام منتمياً إلى حزب سياسي، يكون أكثر قساوة وشدة في كتاباته على حزبه القديم وعلى رفاقه السابقين.
وفي كلمات أخرى يكون ملكياً أكثر من الملك في التعاطي مع الشأن السياسي، وتراه يتنقل يميناً وشمالاً، وكأننا به يقول، أقرءوا كتاباتي وتحليلاتي السياسية والنقدية، فأنه الكاتب المخضرم والقادر على رسم الخارطة السياسية في بلده، ويستطيع تفسير وتفكيك كل مفردة في بياناتكم وخطاباتكم يا معارضة، فبدل بأن توضع مسافات بين المثقف والسلطة، وأن لا يساهم في تمزيق وتفتيت وحدة الشعب الوطنية، وأن يكون صاحب رأي آخر، وهذا حق له، ولكن أن يدافع عن سياسة الاستبداد والظلم، هذا شيء آخر يعني بأن هناك تحول في وعيه وثقافته، و بدل أن تكون علاقة مختلفة ما بين المثقف والسلطة.
الكاتب التقدمي من المغرب العربي، جميل حمداوي، كتب في موضوعة “جدلية المثقف والسلطة”، قائلاً ” ان العلاقة بين المثقف والسلطة قد تكون علاقة جدلية مبينة على التحدي والنقد والنضال المستميت والصمود والصراع من أجل تحقيق الحرية واحقاق حقوق الإنسان وإبطال الباطل وتقويض دعائم الفساد السياسي، وغالباً ما يكون رد فعل أصحاب السلطة تجاه هذا المثقف العضوي هو استعمال الضغوطات المعنوية والمادية من نفي واعتقال تعذيب أو استعمال خطاب اللامبالاة والاقصاء والتهميش وطرده من وظيفته أو اللجوء إلى تسييجه بالاقامة الجبرية، ويصبح المثقف هنا بمثابة فاعل ملتزم بالمبادىء التي يؤمن بها.
صحيح وظيفة المثقف أو المفكر في المجتمع لا يقوم بها كل الناس حسب قول غرامشي، ولكن ليست وظيفته الدفاع عن الظلم والاستبداد والفساد وتبرير سياسة القتل أو الفصل من العمل على الهوية مثلما جرى في البحرين، اي نوع من أنواع المثقفين، يصنف هذا المثقف الذي يقف ضد حقوق ومطالب شعبه في التغيير والاصلاح السياسي، والنضال من أجل نيل مطالبه المشروعة في الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية الحقة، بدلا من انتقاد النظام السياسي الذي ينتهك حقوق الأنسان ويمارس سياسة تكميم الافواه للمعارضين، ويتراجع عن الحريات العامة وتتوقف عجلة الاصلاح من السير إلى الأمام.
المثقف، انسان مثل ذلك الطبيب أو الممرض الذي يضع برهماً أي “بلسماً” على الجرح ليشفي من المرض، ليدخل البسمة والفرح في قلب ذلك المريض، فالمثقف، عندما يبدع في كتابة قصيدة أو قصة أو رواية أو كتب سياسية وفكرية، يقدم اضافة معرفية في الحياة، من أجل الأنسان والوطن، هذا المثقف العضوي سوف تذكره الاجيال القادمة عندما تقرأ ابداعاته الرائعة في الفكر الانساني وستبقى خالدة، أما المثقف الذي يحمل المعول ليهدم البيت وكل ما هو جميل فيه أي “المجتمع”، ويزرع الاحقاد والبغضاء والكراهية، ويساهم في تفتيت وشق وحدة الوطن، أو يتحول إلى محلل أمني وشرطياً على أبناء “جلدته” أبناء شعبه، لأنهم اختلفوا معه في الرأي ومارسوا حقهم في التظاهر والتعبير الذي يكفله لهم دستور بلادهم وكل القوانين والتشريعات الدولية، فيمارس العسف والترهيب الأمني عليهم ويسوق الأوصاف والنعوت والشتائم وكل المفردات السيئة، لأنهم إختلفوا معه، وقالوا شيئاً لا يتفق مع ارائه وتوجهاته الجديدة.
نتفهم جيداً بأن ممارسة النقد البناء في المجتمع والكشف عن الظواهر والتعثرات والمعوقات وتصويب الاخطاء والأشياء نحو الافضل، للارتقاء بالمجتمع وافراده وجماعاته وغيرهم، وأن يكون الموقف واضحاً ومسئولاً وشجاعاً اتجاه سلبيات وأخطاء “المعارضة والسلطة”، وليس كيل الإتهامات والأباطيل والإفتراءات اتجاه المعارضة، ولا ينطق أو يكتب ذلك المثقف، كلمة واحدة اتجاه حماقة السلطة، وما تقوم به من فضائع ومآسٍ بحق شعبها في العديد من البلدان العربية، ماذا نقول عن ذلك المثقف الذي تبرع بنفسه ليقوم بذلك الدور المقزز اتجاه الآخرين المختلفين معه في الرأي، لماذا قلمه مسلط على المعارضين فقط.
المثقف يجب أن يكون ناقداً ايجابياً في مجتمعه وتحديداً الكاتب أو الصحفي يجتهد ويعمل من أجل الكشف عن الحقيقة، من خلال مواجهة الفاسدين وسارقي قوت الشعب من خلال تقديم البراهين والأدلة وانهم يستغلون وظائفهم ومسؤلياتهم في أجهزة الدولة المختلفة ويسرقوا ويتقاضون الرشاوي وغيرها، لا أن يتحول إلى ناقد سلبي مدافع عن السلطة ومسئوليها من أجل مصالح ذاتية وشخصية، هذه النوعية من الكتاب و المثقفين إن صح التعبير، تقتات على حساب وكدح الآخرين من فقراء وكادحي الشعب.
فالثقافة والمثقف هما الوجه الحضاري لأي وطن وشعب، فيجب أن يحافظ على نقاوة وبياض ذلك الوجه الجميل في الحياة.
يوليو 2011