موجتان اجتماعيتان سياسيتان متضادتان في الحراك السياسي المصري النضالي الراهن، موجة الشباب المنظم في جماعات سياسية صغيرة قادت الحراك مقلدة النموذج التونسي في الانتفاضة، لكنها لم تملك الوسائل التنظيمية الكبيرة التي ملكها التونسيون وأهمها لدى هؤلاء هي تنظيمات الطبقة العاملة التاريخية خاصة اتحاد الشغل.
الموجة الثانية هي العشوائيات الاجتماعية الضاربة الجذور في مدينة القاهرة خاصة، وهي قد قادت الانتفاضة بشكل آخر سيئ عكسي تخريبي رغم انها صعدت من جهة أخرى جنين الحكم الشعبي.
موجةُ الشباب المتعلم الذي يعيش أزمة تاريخية في نظام رأسمالية حكومية منخورة متآكلة، وجناحها الآخر الرأسمالية الخاصة المستفيدة من الفساد، وقد توجهت الموجة الشبابية نحو شعارات عامة سياسية من النوع الوطني العام المجرد: تغيير الدستور، ورفض الرئاسة المطلقة، وفتح المجالات للحريات وعمل ومعيشة الطبقات الشعبية التي انهارت ظروفها بفعل الهيمنة الرأسمالية المزدوجة الفاسدة، وازدواج الرأسماليتين الحكومية والخاصة في تحالف اقتصادي – سياسي يؤدي إلى أضرار أكبر على المجتمع من تفرد الدولة فقط، وكان النموذج التونسي ذا حضور أكبر للرأسمالية الخاصة المستقلة، لكن قوة المنظمات العمالية حسمت الأمر.
واعتمدت الحركة الشبابية المصرية تكتيكات التظاهر الشجاع اليومي المباشر الصادم المنفعل كما كان الحال في تونس، وأحدثت الصدمة الأولى في اليوم الأول رجة هائلة، بحيث وقف الشعر الاجتماعي للشعب الذي لم يتوقع أبدا مثل هذه الجرأة ومن هؤلاء الناس خاصة، التي جعلت مشاعره منفعلة مبهورة، لكن جمهور الشعب لم يدخل بكثافة في الشوارع الكبرى التي اعتمدها جمهور الشباب، خاصةً لنخبوية شعاراته (البرجوازية) العامة المطاطة.
وقد تبلورت الشعارات في اليوم السادس من الانتفاضة حيث حددت إبعاد مؤسسة الرئاسة وحل البرلمان الخ.
لكن في الأيام التالية للأحداث دخل الشباب الحارات الشعبية، وقام بجذب البسطاء والعمال وكذلك (الدهماء) نظرا لمحدودية فئاته الصغيرة وسط بحر من الشعب، وهنا نلاحظ كيف أن الحركتين العمالية والسياسية المصريتين كانتا حسب جذورهما النخبوية المتعالية على الجمهور، لم تسعفا الشبابَ في حراكه إلا عبر الخطب تعبيرا عن تكلسهما البيروقراطي ونخبويتهما السياسية، ثم بعد توغل الشباب داخل الحارات وإخراج الناس من بيوتهم وسلبيتهم ونومهم حدث التضخم العددي للمسيرات وفاض الشعب وأخرج معاناته في عمومية الشعارات التي طرحتها الحركات الشبابية التي لاقت هوى عميقا في النفوس بالتوجه نحو السلطة المصرية الراهنة والمطالبة بإسقاطها بشكل كامل ساحق دون الدخول في المساومات استناداً إلى نجاح النموذج التونسي الصراعي الجبار الذي امتلك أدوات شعبية تنظيمية أكبر من الجمهور المصري، وهذا الجانب التنظيمي المفقود سوف يعرض التجربة المصرية للهزات والتذبذب وربما النجاح أو الفشل مستقبلاً، ( أكتب هذا في يوم 30 يناير ).
فالفوضى التونسية وانطلاق الزعران والمجرمين داخل قنوات النضال كانت خطرة ومضرة لكنها كانت محدودة، فالعشوائيات محدودة في تونس والسكن منظم أفضل من القاهرة، التي هجمت عليها مختلف الأرياف وتغلغلت فيها، طريقة عيش وعششاً وكذلك شعارات.
وأدت موجات الشباب والعامة المنضمين إليها إلى صدامات مروعة مع الشرطة التي تصادمت بعنف وقتلت واخترقت حتى تزعزعت، ويبدو إن ثمة خطة قد وُضعت لها للانسحاب بعد فشلها الذريع في صد موجات المتظاهرين، وتتيح هذه الخطة الانقضاض من الخلف الاجتماعي على هذه الجماهير التي تفككت بعض صفوفها بسبب انتشار الجريمة، ثم سوف تواجه الجيش آجلا أم عاجلا.
الجماهير التي فوجئت بالانقضاض الخلفي على بيوتها ومتاجرها عانت كذلك فوجعت بأعداد الضحايا المتساقطة، ويبدو هذا بشكل التفاف خبيث.
لم تستطع المنظمات الشبابية بجذورها المحدودة أن تنزل الملايين، كما أن الجماهير المصرية بطبيعة بنية الاقتصاد الاجتماعي حيث العشوائيات الضخمة وسط المدينة الكبرى القاهرة، كانت منقسمة اجتماعياً بين جمهور منظم من الفئات الوسطى وجمهور واسع من (حثالة) البروليتاريا، وقد قامت الأجهزة (الأمنية) بتضخيم هذا الجمهور الأخير ودفعه للصدام الاجتماعي لتمزيق الصفوف حتى عبر التحرير المشبوه للسجون فيما تقدم الدولة بعد عدة أيام الضربة السياسية من فوق عبر إجراءات مثل تكوين وزارة جديدة ونائب للرئيس تعزل العديد من الفئات الوسطى وتخوفهم وتمد لهم بعض الطُعم السياسي. فلم يكن سكون الدولة كما يتصور الكثيرون جموداً وعبثاً بل خطة عسكرية سياسية دقيقة.
هنا يبدو الفارق بين المجتمعين التونسي والمصري حيث التبلور الكبير للمجتمع الأول وتحديثه الواسع وقلة حثالة العمال من لصوص وزعران فيه، وضخامة القوى العمالية والوسطى المنظمة، في حين ينقص المجتمع المصري ذلك.
أخبار الخليج 1 فبراير 2011
مصر: الثورة والتغيير (2)
جسدتْ العلاقاتُ الخارجية بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية الشكلَ الخارجي للمضمون الطبقي السياسي الداخلي المصري، فهيمنة القوى الاجتماعيةِ الطفيليةِ للقطاعين العام والخاص، عبرتْ عنها سياسةٌ خارجيةٌ موالية تابعة لأمريكا.
فالسياسةُ الأمريكيةُ اليمينية أيدتْ قوى رأسمالية غير إنتاجية مهيمنة على الحياة الاقتصادية المصرية، لنشر قوى التجارة الحرة الاستيرادية للمنتجات الأمريكية والغربية عامة، وهذا جسد قوى اقتصادية مصرية نصف ليبرالية، وبرجوازية تجارية شبه صناعية، ونصف وطنية، غير قادرة على إعادة تغيير البنية شبه الاقطاعية الاقتصادية التابعة، وتشكيل بُنية صناعية قوية وطنية حرة متجذرة تسحبُ فائضَ السكان الفلاحين المعطلين والنساء والشباب والعمال اليدويين وتضمهُ لحمى الثورة الصناعية التقنية الهادرة في العالم.
هناك قوى سكان كافية لتشكيل مثل هذه الثورة الصناعية التقنية العلمية، وقد تجسد الاخفاقُ للطبقةِ القيادية المصرية في انفلات القوى الاجتماعية غير المُستوعَبةِ في هذه الثورة الصناعية، وعلى رأسها الشباب التقني العاطل، والفلاحون المطرودون من الأرض والزراعة وعمال التراحيل والعمال العاطلون، والنساء الفائضات عن الحاجة، والكثير من هؤلاء الذين تكدسوا في القاهرة خاصة.
كما عبرتْ سياسةُ كمب ديفيد وانفصال مصر عن النضال العربي القومي المشترك ضد إسرائيل، عن انقطاعِها عن الثورةِ الصناعية العربية المشتركة، وابتعادها عن قيادة هذه الثورة وهي المؤهلة لها، وابتعادها عن تأسيس السوق العربية الإسلامية الواسعة المُنتظرة، وهذا في مقابل معونة مالية للجيش وللإدارة البيروقراطية تُسمى منحة أمريكية، وقد استفادتْ منها الفئاتُ السياسيةُ العسكرية والسياسية المهيمنة، من دون أن تصل إلى الشعب.
هذا جعلَ من العلاقةِ الثلاثية بين مصر وأمريكا وإسرائيل عمليةَ إلحاقٍ ذيلية لمصر بالطرفين الآخرين، فأي حراك وتبدل كبير في الحالة المصرية لتغيير المحتوى الاجتماعي السياسي الداخلي فيها سوف يغيرُ العلاقةَ الثلاثيةَ التي جعلتْ الطرفين الآخرين وهما ممثلا الرأسمالية المتطورة صناعياً ومعرفياً وتقنياً، وبالتالي عسكرياً، فالرأسماليةُ المتخلفةُ توجهها لتقديم المواد الخام والمرافئ والأسواق لحليفيها، مما يعرقل تغيير قوى الإنتاج بشكل جذري، ومما يؤدي إلى استمرارِ التخلف والتبعية.
لكن هذا يتعارضُ مع مصر الوطنية، ومصر العربية، ومصر العالمية، عبر عدم استثمار قدراتها بشكل متفوق للتغلغل في الأسواق الطبيعية العربية والإسلامية المحتاجة إليها التي هي جزء منها، في عمليات تاريخية لإنتاج أمة عربية متقدمة.
عمليةُ قطعِ مصر عن محيطها واستمرار البناء الاقتصادي الطفيلي التابع، يتعارض أكثر فأكثر مع قوى الشغيلة والرأسمالية الوطنية وقوى الثقافة، التي تحتاج إلى تبدل هذا الهيكل المتخلف للإنتاج. واستمراره هو بقاء العاطلين والشباب المتجمد والنساء الفائضات عن الحاجة، وهي القوى التي نزلت لتغيير هذا البناء الاقتصادي، عبر إيجادِ هيئاتٍ سياسية ديمقراطية تعبرُ عن هذا التحول في المضمون الاقتصادي الاجتماعي، الذي لم يَعدْ الشكلُ السياسي الفوقي ويجسده.
كان هذا الشكلُ السياسي التابع لإسرائيل وأمريكا والمتوجه لإحداثِ ديمقراطيةٍ جزئية وتصعيد للقطاع الخاص والحريات السياسية يلائمُ زمناً مضى، بعد مركزية وطنية مفيدة كذلك وشديدة للقطاع العام ولكن مع غياب الحريات السياسة والفكرية، لكن هذا المستوى المفتوح قليلاً وذو الحريات المحدودة لدى رأسمالية استهلاكية بذخية تابعة لم يعد ممكناً الآن، ولهذا فإن المنظمات الحرة للشباب والنساء والعمال، الصغيرة، المحدودة ضمن بحر من الهيمنة الحكومية في الفترتين الناصرية والمباركية، أكبر المتضررين والمنتفضين.
ومن هنا فإن العلاقات بين مصر وأمريكا القابلة فيما مضى للتبعية لم تعد ممكنة الآن، على مستوى السياسات الاقتصادية والاجتماعية والقومية، فهناك مضمون مصري جديد قد تكوّن، وبين السياسات الناصرية الرافضة كلياً للعلاقة مع أمريكا، إلى العلاقة التابعة لها بأشكال متباينة، تتشكل الآن كما هو منتظر علاقة مختلفة تركيبية، مستقلة وذات رؤية قومية مستقلة وعروبية إسلامية مسيحية وعالمية، تسعى لتشكيل الثورة العربية الاقتصادية المشتركة وتغدو مصر بؤرة مركزية لها.
ومن هنا فسياسة الإدارة الأمريكية ليست سياسة صراعية مع الإدارة المصرية الشمولية، بل كانت مرسخة لها، وهنا في زمن الثورة تحاول أن تلعب على الجانبين جانب الثوريين وجانب الحكوميين، وهو موقفٌ تكتيكي غير جذري، لأن القوى الرأسمالية الكبرى الغربية ليست في موقع تطوير الرأسماليات الوطنية المتحررة في العالم الثالث، ودفعها للتصنيع المتقدم والثورة التقنية!
كما أن موقع مصر في حماية إسرائيل عبر الصيغة السابقة هو أمر مهم لأمريكا فمن دونها تثور الأجسام العربية الأخرى وخاصة النفطية التي هي بؤرة الاهتمام الحقيقي. إن مصر مختلفة ستؤدي إلى تغيير إسرائيل ذاتها حيث لم تعد السياسة الإسرائيلية المتطرفة غير المتنازلة عن شبر من الأرض العربية سوى سياسة تعرض الإسرائيليين لأخطار هائلة، كما أن التحولات المصرية تُلقي بآثارها الكبرى على العرب بطبيعة الحال.
أخبار الخليج 2 فبراير 2011