لابد أن نقول كلمة عن بعض التأثيرات الدعائية الأجنبية في الأحداث المصرية، فقد رأينا قبل فترة كيف أن محطة الجزيرة وقفتْ صامتةً صمت أبي الهول تجاه الثورة الإيرانية ولم تستدع أي مفكرين وباحثين ولم تحشد كل هذه الحشود من المعلقين، لكنها فجأة اشتعلتْ تجاه الثورتين التونسية والمصرية رغبة في هدم النظامين فيهما لأنهما يسيران في الاتجاه التحديثي الديمقراطي العلماني العربي، ويسيران في مسار تغيير الهيمنة المحافظة التقليدية، ولهذا فإن المحافظين الدينيين المناوئين للحداثة الوطنية العربية اشتعلوا حماسة تصيداً داخل التجربتين لهدمهما، بدءًا من الدعاية المكثفة لتنظيمِ النهضة في تونس وكأن كل الأحداث العظيمة فيها هي من تدبير جماعة المحافظين التونسيين، إلى التركيز في الإخوان المسلمين في مصر، محاولة لإعادة سيناريو الثورة الإيرانية الأولى في السبعينيات وتصعيد المحافظين الدينيين العرب وتشكيل هيمنة هذه الدولة الدينية العسكرية على المنطقة، مثلما كان الأمر قبل سنين من التركيز في القاعدة والنفخ فيها.
حدثت المقاربة بين مخابرات إيران ومحطة الجزيرة والاخوان المسلمين، من منطلقات أوسع، فموقع مصر رئيسي في المنطقة، وقواعد المحافظين الدينيين فيها أكبر بما لا يُقاس عن تونس، وتأثيرها لو تمكنت الدولة الإيرانية وتوابعها مثل حماس وحزب الله إضافة للبعث السوري، من وقفِ موجات الديمقراطية والحداثة والعلمانية الهادرة على قلاعِهم المنتمية للاستبداد المحافظ، إضافة بطبيعة الحال للعداء الطائفي الغائر.
وتشققتْ حناجرُ مذيعي الجزيرة في الدفاع عن الثورة المصرية في فيضان عفوي صادق من قبل الكثيرين ضد القمع والهيمنة، وتم رصد مواقع مهمة من البطش والدكتاتورية، وهي لم تعرض واحدا بالمائة من ذلك عن إيران وبطش الدولة فيها أثناء ثورتها من أجل الديمقراطية وتجاوز النظام التقليدي الديني العسكري، وهذا يؤججُ الطائفيةَ المتعصبة لدى الكثيرين وتُلقى العملية على طائفة السنة خاصة في حين تجرى فيها العملياتُ الأكثر تطوراً ديمقراطياً وتحديثياً، وتقومُ تلك الأطراف بذلك من أجلِ إبعاد الشيعة والعلويين وغيرهم من الإماميين والدينيين المأزومين من هذه السيطرات الشمولية، عن تلك الموجة الديمقراطية التحديثية العربية لتحبسهم في الطائفية، فلا تُعرضُ المسائلُ بشكلٍ موضوعي طبقي تاريخي للثورتين المصرية والتونسية، وتستهدف المتابعة التلفزيونية تعبيد الطرق للاخوان والمحافظين والقاعدة في مصر، وهذا من جهة أخرى يتداخل مع رغبة الأغلبية الشعبية المصرية في التخلص من التسلط.
وهذا يترافق كذلك مع تحجرِ الدولة المصرية التي تكلست في الهيمنة والفساد ولم ترتقِ للأشكالِ الديمقراطيةِ التحديثية ولم تشكل طبقة وسطى حرة، وراحتْ ببطءٍ شديدٍ تستجيب لجوانب من التحول تحت الضغوط الشعبية الهائلة ونصائح الغرب الميكافيلية النفعية.
ليس للحلف المحافظ الطائفي سوى تجميد التطور الديمقراطي التحديثي، وليس للدعاية المُشكّلة النافخة على نار الثورة من هدف سوى تصعيد القلاقل الطائفية وليس تكوين تحولات تحديثية وبحث مشكلاتها الحقيقية، حيث ان بلدان المنطقة تواجه وضعاً متماثلاً وهو استئثار القلة بالثروات وضعف الهياكل السياسية المغيرة لهذا، أما التركيز في أنظمة بعينها وطوائف بعينها فهي جهود ذاتية دعائية.
المنضوون تحت لواء الدول الغربية من الدول والجماعات العربية فوجئوا من تفجر الموجات الثورية داخل أنظمتهم وهم الذين أعطوا بعض (الهبات) الديمقراطية، الأمر الذي صوَّر لهم الصراعَ بين المحورين الشرقيين في المنطقة بشكلٍ غير دقيق، وهذا جاء نتيجة عجزهم عن المقاربة الكبيرة للديمقراطية الحداثية العلمانية، وتشبثهم بالسلطاتِ ومنافعِها الكبرى وبجذور التخلف الاجتماعي الطائفي وعدم تطوير حياة العاملين.
ولهذا فإن التدخلات ضد التجربتين المناضلتين لمقاربة الحداثة في تونس ومصر هي كثيرة ومتعددة، فالقوى المحافظة جميعها تسعى لوقف تطور التجربتين لما تمثلان من تغيير مخيف عليها، وتستغلال الأديان والمذاهب واختلافاتها لوقف تحرر الأغلبية الشعبية من نساء وفلاحين وعمال وعقول في جميع سكان وأديان المنطقة، ومحاولة تفجير الخلافات وليس اتحاد العرب والمسلمين على برنامج العصر الديمقراطي.
لا يمكن استدراج مصر لحالة التشظي وهي تسعى لنظام ديمقراطي حداثي متجاوزة عالم الفساد وهيمنة طبقة صغيرة على الموارد وهي القضية الكبرى التي تواجهها دول المنطقة، وليس القضايا المؤدلجة المسقطة بأهداف خارج التاريخ.
وكلما تمت العملية من خلال تنظيمات سياسية ديمقراطية وطنية تتصارع ضمن الوحدة كان ذلك مفيداً. اما تنظيم العملية من خلال الحرب الأهلية والعنف فهو مفيد للحلف الطائفي المحافظ المرعوب من الثورات وهو يتغنى بها زيفاً.
مصر: الثورة والتغيير (10)
هل هي نهايةٌ للعصرِ التسلطي ونهايةٌ لحكم الفرد الذي خيمَّ قروناً طوالاً أم هي جولةٌ أخرى من جولات صراع الديمقراطية والتسلط في عالم الشرق المحافظ؟
إن شعبَ مصر يمتلك قدرات للمقاربة مع الحداثة الغربية – العالمية ولتداول السلطة وللديمقراطية الحقيقية وإنهاء الديمقراطية الديكورية، حيث الشريحة الحكومية البيروقراطية مع أغنياء المال الفاسدين مسيطرين على الزمن السياسي.
جرتْ تراكماتٌ كبيرةٌ عبر القرنين الميلاديين الأخيرين، وإتسعت حداثةُ الطبقتين المعبرتين عن العصرِ الجديد، البرجوازية الحرة والعمال، وجاءتْ الأشكالُ السياسية: المَلكية والجمهورية العسكرية بتطوراتٍ إقتصادية وإجتماعية وثقافية كبيرة، ولكنهما لم تستطيعا إزالة العلاقات الاقطاعية، في الزراعة والعلاقات الإجتماعية وشكل الحكم ومضمونه.
إن النظامَ المحافظ بلوَّرَ سلطةً متعالية وعرقل نمو العلاقات الحديثة في المجتمع، وفيما كان المجتمع التركي يفجرُ هذه العلاقات المحافظة في المدن خاصة، لم يستطع العسكر المصري الانقلابي أن يوسعَ إصلاحاته في الريف وأن يشكلَ المساواةَ بين الرجال والنساء، وبين الحكام والمواطنين، وحوّلَ الثروة العامة إلى رأسمالية حكومية راحتْ الفئاتُ المسيطرةُ تنخرُها على مدى العقود.
لم يقم لا السادات ولا مبارك بتوسيع الليبرالية التي تبنياها بحيث تغدو ثورةً ديمقراطية، بل إلتصقا بالرأسمالية الحكومية الشمولية، وبالهيمنة على هذا القطاع العام المُستَّنزف، وأعطيا الفئات الوسطى قليلاً للفئات الخاصة حريات إقتصادية، لكنها كانت مرعوبة من الانغمار في التصنيع، بعد أن تم دهسها في الزمن العسكري السابق، وجرتْ نحو الأشكال الطفيلية والأرباح السريعة ووضع الملايين في الخارج.
قاربَ الاتحادُ الاشتراكي المُلكيةَ العامة شبه الكلية في النظام، وكان رمزاً لتوسعِ ثم لتحجر الملكية العامة، ولم تستطعْ الدكتاتوريةُ العسكرية بطبيعةِ الحال أن تزعزعَ العلاقات التقليدية في الريف والعلاقات الإجتماعية ونمط الحكم، فيما جاء الحزب الوطني الديمقراطي الساداتي بتفكيك للملكية العامة والسماح لنمو المُلكيات الخاصة وجوانب من العلاقات الرأسمالية المُهيمن عليها من قبل الدولة.
حدثت شراكةٌ مشبوهةٌ بين القطاع العام والقطاع الخاص، وغدا الحزب الوطني رمزها السياسي.
وظل الدينان الإسلامي والمسيحي لايدخلان في خلاف مع الحكام مثلما كان الأمرُ في العصور السابقة، يعبران عن إنتاج العلاقات المحافظة التي تشكلها الدول، وفي كلِ زمنِ ثورةٍ حين يظهر مذهبٌ مغايرٌ يريدُ تغييرَ الحياة ومساعدةَ الأغلبية الشعبية تتم السيطرة عليه فيما بعد ويغدو رسمياً، وشكلاً عقائدياً لهيمنةِ السلطة، ولهذا فإن المذاهبَ في معارضتِها هي مماثلة جوهرياً لدكتاتورية الحكم.
إن عدم إنفصال مؤسسة الرئاسة عن الحزب الحاكم والسلطة التنفيذية شكلَّ الشموليةَ الواسعة في الحياة السياسية، ووسع أشكالَ الفساد، وفيما كانت في عهد عبدالناصر مع الشعب صارت ضد الشعب بعد ذلك، ولكن النظام العسكري هو الذي وضعَ الأسسَ السياسية والاقتصادية للدكتاتورية، وأبقى الكثيرَ من علاقات النظام الإقطاعي السابق فيما تعلق بأسسِ الحكم وبالعلاقة مع المحكومين وبإستغلال العمال والنساء والفلاحين والمثقفين.
لم تستطعْ العلاقاتُ الرأسماليةُ الديمقراطيةُ أن تنمو بسبب تلك الهيمنة الحكومية – الخاصة، حيث أن عملية تبادل السلطة والديمقراطية كان يمكن أن تشيعَ برامجَ سياسية حكومية مختلفة، مغيرة لجوانب الفساد والبيروقراطية، وتوجه الفوائض نحو الإنتاج، وتحرك فوائض السكان خاصة الشباب والنساء نحو بؤر الإنتاج الجديدة الحديثة، وتقود إلى تبدل مخلفات الإقطاع وتجعل المجتمع أكثر ديمقراطية في علاقاته السياسية والاجتماعية والثقافية.
الآن في الثورة الراهنة يجري التشديد على فصل مؤسسة الرئاسة عن الأحزاب وأن تكون حرة، ومنتخبة من قبل الشعب، وأن تنفصل الطبقة البيروقراطية الحاكمة لمدى عقود عن منافع ومصالح الجهاز الإداري، الذي يصيرُ مؤسَّساً ومُنتخباً ومراقباً من قبل الشعب.
فليست الثورة وتضحياتها هي حول مواد دستورية وتضييع وقت الناس وإستعادة نفس الجهاز الإداري الهائل ليواصل دوره في تسريب الأموال العامة للجيوب الخاصة.
كذلك فإن تحريك الأديان وصراع المذاهب وإدخالها حومة التغيير هو شكلٌ آخر من الفساد السياسي، أي هو عباءةٌ لاستغلالِ الثروة والثورة من أجل الوثوب نحو الجهاز الإداري، في وقت تحتاج الأديان لثورة داخلية تواكب الثورة العامة، لإبعادها عن عمليات الاستغلال، والقيام بإنتاج عميق فيها يعيدُها للشعب بدلاً من القوى المسيطرة.
أخبار الخليج 11 فبراير 2011