كان حكمُ الجمهور صعباً في التاريخ العربي الإسلامي، لأنه بلا جذور تاريخية عريقة في الحكم، وترك الحبال له وهو ينساق مع رغباته وتمرداته القبلية والشخصية المتسمة بالشطط غالباً، يلقي بالدولة في التهلكة.
وليس غريباً أن يُقتل ثلاثةٌ من الخلفاء الراشدين وهم الذين عُرفوا بالعدل والصلاح في حدود اجتهاداتهم الشخصية ومستوى قدراتهم، لأنهم لم يشكلوا قبضاتٍ حديديةً ولا مؤسساتٍ أمنيةً حارقةً تخترقُ الجمهورَ وتتحكمُ في خلجاته، وتطعنُ أولَ بادرةِ حلمٍ فيه أو استقلال.
وليس غريباً كذلك استمرار الدولِ الملكية على مدى مئات السنين، فقد اعتمدتْ على مؤسساتٍ أكثر قوة من الجمهور الديمقراطي المتصارع ذي الأهواء الفردية الجامحة والزعامات المنتفخة، فاعتمدتْ على القبائل العريضة والأسر والموالين من المستعربين.
ما قوى الجمهورية الراشدية هو نشرها أسس العدالة الاجتماعية من تملك فردي واسع، وتوزيع الفوائض النقدية بشكل عقلاني. ولم تعط للقبائل سطوة ولا لشيوخ الدين مكانة فوق الرؤوس وأبقت الجمهورَ هو سيد الموقف ببساطة أدوات السياسة لتلك الأزمنة.
رغم المشكلات الكبرى في الإمبراطوريات العربية الإسلامية فإنها صمدت أمام الزمن قروناً، على ضخامةِ المساحة وتخلف وسائل المواصلات وكثرة التمردات والنضالات.
لقد اعتمدت على تحالفات اجتماعية واسعة كتحالفات القبائل والأسر المتنفذة، ورغم تقليدية هذه التحالفات، فإنها كانت الشكل الممكن في تلك العصور التي ضمنت استقراراً طويلاً.
أما جمهورياتنا المعاصرة فهي لم تقترب من القرن الواحد، والعديد منها في السنوات الأخيرة في حالات صراعات محتدمة، ولم تقم على تحالفات اجتماعية واسعة، فإضافةٍ إلى إطاحتها بالتحالفات القبلية والأسرية التقليدية لم تشكل تحالفات جديدة مبنية على الأحزاب والتنظيمات والنقابات الحديثة، بل على جماعات الانقلابيين وعلى المتنفذين المستفيدين حسب عفوية العلاقات.
لم تقم الجمهوريات على قبائل واسعة أو أسر ذات جذور، وجاءت عبر مؤامرات مجموعات من الضباط والسياسيين المتمردين، فاهتزت بشدة فيما قامت جمهوريات أخرى على حروب وطنية شعبية متجذرة في التاريخ الحديث، لكنها هي الأخرى تحولت لدكتاتوريات أجهزة حكومية وحكومات أحزاب فقدتْ شعبيتها، ولم تحول الحروب الوطنية التحررية إلى جبهات حاكمة.
الجمهوريات المقاربة للذوبان وهي العراق واليمن والسودان شهدت استمرارية للدكتاتوريات عبر عقود، حتى وجدنا التنظيم الحزبي الجماهيري في البداية الذي قد يتحالف بهذا الشكل أو ذاك ويعزز نظامه، يتحول في النهاية إلى شخص وحيد تعود إليه كل السلطات.
شخصنة السلطات هو أمرٌ على طرف النقيض من “الجمهورية”، حيث حضور الجماهير المفترض.
وحين يسقط التحالف الطبقي الذي يدعم النظام الجمهوري في بدايته، ويقفز حزبٌ وحيدٌ للسلطة، فهذا تداعٍ للجمهورية، فتتحلل إلى كياناتٍ طائفية وعنصرية وإقليمية، ثم تعلن احتضارها عبر انسلاخ أقاليم ومناطق.
رغبة الهيمنة في الفرد تحللُ النظامَ الجمهوري الواسع، وتطيح بركائزه على نحو متدرج حتى يظهر الانهيار.
وهذا يجري في أنظمةٍ جمهورية أخرى تعششُ فيها الجراثيم نفسها حيث غدا الحزب الحاكم وحيداً وصارت جملة محدودة من العسكر هي الآمرة.
ودائماً يلاحظ ذلك في صعود الطائفية وتراجع الحزب عن مواريثه الوطنية والقومية فيدب فيه التحلل وينقسم الشعب إلى طوائف متعادية وينشط في المنطقة على أسس طائفية.
وأزمة الجمهوريات العربية وتحللها تنعكس على بقية الأقطار وتدخل المنطقة كلها في حالات تفكك واضطراب.
أخبار الخليج 8 يناير 2011