تدور الصراعات في تونس الآن على أملاك الدولة، القطاع العام المتشابك مع القطاع الخاص ذي النفوذ السياسي، وكما حدث في دولِ رأسماليةِ الدولةِ الشرقية بحزبِها المهيمن على الفضاءاتِ المختلفة، فإن أحزابَ القطاع الخاص الحرةِ ومعها قوى عمالية كبيرة منظمة، تسعى لهدمِ العلاقة بين الحزب المسيطر الكلي وملكيةِ الدولة التي كانت ملكهُ، وتحويلها لملكيةٍ عامة حقيقية، وهي مسألة ليست سهلة بل تاريخية.
أو ربما يجري الأمر بشكلٍ مختلف حين تسعى قوى عمالية معينة وخاصة البيروقراطية النقابية في اتحاد الشغل التونسي لاستعادةِ أملاكٍ عامة وتقوية حضور اتحاد الشغل المنظمة النقابية السياسية ذات الجذور العائدة لرأسماليةِ الدولة زمن بورقيبة وما يُسمى التجربة (الاشتراكية) لأحمد بن صالح.
ويبدو نجاح هذه الثورة مدهشاً قياساً بدولة كبيرة ذات نضال ثوري كبير وهي إيران، لكن إذا عرفنا مسارات التطور بين القطاعين العام والخاص تتضحُ المسألةُ الاجتماعيةُ التاريخية المركبة، فقضايا وصراعات المُلكية العامة بين إيران وتونس تبدو مختلفة كثيراً. فنجاحُ الانتفاضةِ الشعبية في تونس وفشلها في إيران يعودُ لعوامل موضوعية أولاً.
فالقطاع العام، رأسمالية الدولة الإيرانية، هائلٌ ومسيطرٌ على ثروة كبرى، وحجم حضور القطاع الخاص وما يتعلقُ به من حرياتٍ وتطور مستقل للجماهير محدود، فيما القطاع العام هائل الحجم وتنضوي تحت خدماته ونفوذه منظمات اجتماعية وقوى عسكرية وبوليسية قمعتْ الحراكَ الاجتماعي، ويعبر عن حجم القطاعين أحد المسئولين الإيرانيين:
(السيد عباس علي قصايي أحد أعضاء مجلس غرفة التجارة الايرانية وطهران وأحد أعضاء مجلس وضع خطط مجمع الناشطين لتقوية الاقتصاد الايراني عبر عن هذا الضعف قائلاً: إن اقتصاد القطاع الخاص في ايران ضعيف جداً، فـ 80% من اقتصادنا متعلق بمشاريع حكومية وقسم كبير من الـ 20% المتبقية يعود لمشاريع شبه حكومية). موقع إيراني.
فيما كان التطور الاقتصادي الاجتماعي يسير بشكل مغاير في تونس خلال العقود الأخيرة، فما سُمي تونسياً بالتجربة التعاضدية أو الاشتراكية بلغةِ المشرق العربي، كان سيطرة كبرى من قبل الدولة على الاقتصاد وتجسد سياسياً بهيمنة حزب التجمع الدستوري، وكان ساعده الأيمن اتحاد الشغل، لكن التجربة طورت القطاع العام والنهضة عموماً وجعلت القطاع العام أساس الاقتصاد والتنمية ولكنها كذلك قوت نفوذ البيروقراطية وأدت لخسائر اقتصادية كبيرة في النهاية وهو مؤشر الفساد المعروف في كل هذه التجارب، فيما أدت الليبرالية الاقتصادية منذ السبعينيات إلى تبدل طبيعة الحياة الاقتصادية والاجتماعية التونسية وحققت نجاحات فيها وحريات مختلفة، وقوت الفئات الوسطى والعمالية المتطورة.
فبعد تعيين هادي نويرة رئيساً للوزراء(اتخذت الحكومة خطوات عملية لتحجيم تدخل الدولة في القطاع الصناعي وتشجيع القطاع الخاص.).
وأدى دخول القطاع الخاص إلى تطورات كبيرة في الاقتصاد وخاصة في الخدمات إلا أنه ظل عاجزاً عن تطوير الاقتصاد تطويراً واسعاً رغم المساعدات والتسهيلات التي قدمت له، وظل القطاع العام مسيطراً على الشركات الكبرى والقطاعات الإستراتيجية في الاقتصاد، وهذا ما أدى إلى استمرار نفوذ الدولة القوي.
ولعبت الخصخصة دوراً في إضعاف القطاع العام في جوانب وأنعشت الفئات الوسطى ووسعت الفساد كذلك، عبر هذا التكون لشركات المسئولين الكبار وهو ما يمثل القطاع الخاص الطفيلي المتكون من ثمار القطاع العام.
هذا التطور المتصاعد المتناقض يمثل تجربة التنمية حين تبدأ بفئات وسطى فقيرة وقيادات عمالية فتنمو معاً، وتشكل تجربة نهضوية ثم تتباين المسارات، بين مسار ليبرالي يدعم تكون الفئات الوسطى الكبيرة خاصة، ومسار يقوي وضع الطبقات الشعبية، أي مسار التجمع الدستوري ومسار اتحاد الشغل، هذان الخطان بقيا متصارعين، وتنامت الفئات الوسطى الحاكمة خاصة مع الانفتاح الواسع والعولمة ودخول الشركات العالمية والعربية، فظهر اتجاهٌ استبدادي يؤيدُ إخفاءَ معلومات الثمار الاقتصادية المشبوهة، وتكرس عبر السلطة، لكن القوى العمالية والمتوسطة المنتجة توحدت لتصحيح ذلك.
صراع على السلطة في تونس(2-2)
مثلت ثورة تونس جبهة مشتركة من القوى العمالية والفئات المتوسطة لتصحيح مسار العلاقة المرتبكة بين القطاعين العام والخاص، وقد ظهر بشكل جماهيري عبر الهجوم على حزب السلطة وانتزاع مواقعه المادية الاقتصادية، وحقل هيمنته السياسي الفكري القانوني.
الرأسماليتان الحكومية والخاصة اللتان تنهضان بفضل قوى العمل المختلفة، في مستويات الإنتاج التاريخية وتطورها، تبدلان العلاقة بينهما حسب الصراعات الاجتماعية المختلفة نحو بُنية رأسمالية مفتوحة وطنياً وقومياً وعالمياً.
في الحالة الراهنة، اتضح أن المنتصرين مختلفون لتباين جذورهم الاجتماعية، وأن لديهم برامج غير متماثلة لمسار البلد المستقبلي، فظهر أن مسئولي الدولة وهم الموظفون الكبار في القطاع العام، وفي المؤسسات العسكرية والأمنية، يريدون مواصلة التحكم في أجهزة الدولة المختلفة عبر الخطوط العريضة السابقة لها، مع الإصلاحات التي استجدت في النضال العام، وعبر تنظيف القطاع العام من أشكال الفساد والمحسوبية وملاحقة المذنبين والمفسدين واسترجاع أموال الدولة التي هي أموال الشعب.
لكن الأجنحة السياسية الأخرى لم ترد أن تتم الإجراءات من حكم وملاحقات وإجراءات بنفس الأجهزة والموظفين الذين تعاملوا في الحقبة السابقة، أي أن يتم تطهير مكتمل، وأن تتشكل أجهزة جديدة هي التي تَجرد وتستقصي وتحاكم، فالعمل بنفس الأجهزة القديمة يؤدي إلى تكرار المسار حسب رأيها.
هنا تعود ذكريات الصراعات الاجتماعية والسياسية بين الجناحين المختلفين في التجربة التونسية، فجماعات التعاضدية أو الاشتراكية المؤيدة بقوة لسيطرة القطاع العام تريد تغيير أجهزة السلطة من أي اتجاه سابق حاكم، غير مميزة بين موظفين شرفاء أو موظفين فاسدين، أي تريد موظفين قياديين من جماعات الخطوط الاشتراكية والتعاضدية الصافية وهو أمر يقود إلى أقصى اليسار ومخاطره.
وهذا المنحى في حالة تفاقمه يدعو المؤيديين لسيطرة القطاع العام بشكل كلي إلى التخلص من القوى الداعمة للقطاع الخاص والتنمية الرأسمالية الخاصة، أو هو توجهٌ عامٌ لمناكفة حزب التجمع الدستوري كحزب كرس الخط الليبرالي العلماني، فيظهر هنا توجه ديني غائر لتسديد ضربة لهذه التحديثية العلمانية وإستعادة بعض نفوذ المنظمات الدينية بعد الانفتاح والحداثة الواسعة، وهي اتجاهات تأتي من مناطق الأرياف والمدن الصغيرة.
وقد كان تعاون حزب النهضة الديني المحافظ مع الشيوعيين المتطرفين (الحزب الشيوعي العمالي) شبيه بما يحدث لدى اليسار المتطرف وتأييده للقوى الطائفية المحافظة في المشرق وهو يعبر عن تخريب للتطور التحديثي الديمقراطي كله، وهو تعاونٌ يوجه نحو الإسقاط الكلي لحزب التجمع الدستوري بما يملكه من حضور تحديثي واسع النطاق بين الجمهور، لكن صُور الصراع بأنه نضال شامل ضد حزب فاسد بشكل مطلق وهو نفخٌ ايديولوجي للتوجه نحو ضرب الدعائم التي أقامتها البرجوازية التحديثية العلمانية التونسية لتشكيل مجتمع مغاير للإقطاع الديني وحلفائه من يساريي اللفظ والادعاء.
وهناك التوجه الاجتماعي الجدلي التركيبي بين الماضي والحاضر، الذي يجمع تجربة التجديد الديمقراطية الجبهوية بين الرأسماليين والعمال، لتشكيل مجتمع موحد تعاوني صراعي ضمن أسس الديمقراطية الوطنية، بين بقاء الملكية العامة وتنظيفها ديمقراطياً وتطور تجربة القطاع الخاص على أسس الاعتماد على الذات وتصاعد الحريات.
اتجاه الفوضى قد يساعد الجيش وضباطه الكبار على أن يهيمنوا على الحكم، والجيش كان لاعباً رئيساً وتخلص من الرئيس السابق بذكاء ولم يعادي الجمهور، فكان من أكبر الصاعدين.
الاتجاه نحو الملكية العامة والعاملين غالب وكبير بسبب ما يعطيه القطاع العام من أجور كبيرة ومن هيمنة على القطاعات الاستراتيجية في الاقتصاد، في حين لم يقدم القطاع الخاص تجربة قوية تدعم خطه السياسي، وهذه أمورٌ ستتبلور مع الانتخابات العامة ورئاسة الجمهورية القادمة.
صحيفة اخبار الخليج
28 يناير 2011