شهد التاريخ البشري في مثل هذه الأيام قبل 93 عاما ( 6-7-8 من نوفمبر 1917 التي كانت في وقته حسب التقويم الروسي القديم 24-25-26 من أكتوبر) حدثا تاريخيا فريدا من نوعه، لم يكن في حسبان الناس في كرتنا الأرضية قاطبة-يومئذٍ- عدا فكرة تخمّرت، منذ بعض الوقت في أذهان ثلّة من المثقفين الألمعيين الروس، الذين وضعتهم صدفة الضرورة الموضوعية على رأس منظمة ثورية من طراز جديد، قوامها بضع مئات من الألوف، يمثلون–وقتئذ- خميرة البروليتاريا العالمية وطليعتها.. حين أبوا -هؤلاء- إلا أن يكونون سباقين، قبل غيرهم من الأمم، في تدوين سفرٍ تاريخيٍّ مجيدٍ للبشرية.. بل وتعبيد سكة جديدة رائدة ،غير مطروقة أو مسبوقة من قبل! كان هذا ما وضعه التاريخ على أجندة حزب البلاشفة (الأكثرية بالروسية)، ليقتحم المجهول-بكل جسارة وثبات- ويبادر في الإستيلاء على السلطة السياسية من أجل وضعها في تصرف ومصلحة الكادحين في روسيا والعالم قاطبة
رُبّ قائلٍ يحاججنا هنا ( ما أكثرهم ): … “ما فائدة هذا السرد التاريخي لمعبدٍ قد غرق وفكرٍ قد أفل ؟!” .. جوابنا بسيط : لم يعرف البشر منظومة فكرية مماثلة، سيطرت على عقول وقلوب الملايين الكادحة -في فترة قياسية قصيرة- ألهمتهم للنضال الدؤوب في سبيل تجاوز المنظومة الرأسمالية المستغِلة! ولم تعرف المجتمعات البشرية نظاما سياسيا مماثلا، في: مفارقته، إلتباسه، وقصوره –أخطائه- من جهة! وفي: انجازاته- من جهة أخرى- التي يعجز المرءُ عن تعدادها، في ظروفٍ عصيبةٍ، عصيّةٍ وغير مؤاتية، في زمنٍ قياسيّ وبموارد ذاتية فحسب.. مقارنة بالمنظومة الرأسمالية السائدة العجوز، التي احتاجت لقرونٍ طويلةٍ لتصل إلى ما وصلت إليه، معتمدة على: نهب خيرات الشعوب، حرائق كونيّة مدمّرة، تلوّث ايكولوجيّ شامل ( جالب للأوبئة والأمراض) وتفسّخ أخلاقي وخُلقي لا حدود له ! وهي ما زالت- كالإخطبوط- تشطف رحيق “القيمة الزائدة”، المتأتية من عرق كادحي العالم أجمع، بنهمٍ مرضيٍّ لا يشبع، وطمَعٍ بشريٍّ لا قاع له !
بلا شك من أن ثورة أكتوبر قد دشنت مرحلة جديدة في مسيرة التاريخ المدوّن وفتحت صفحة مشرقة، لا تهترئ بتقادم الزمن.. أعطت الملايين الكادحة أملاً وإلهاماً جديدين، بُغية تحويل حلم البشرية الأزليّ في تحقيق العدل، من يوتوبيا إلى واقع فعليّ. وعبّدت: سُبُل إمكانية تشييد مجتمع جديد منصِف، إنهاء عسف القرون المظلمة ووضع حدٍّ لاستغلال الإنسان لأخيه الإنسان! وكون المقالة هذه كُتِبت أصلاً، في هذه العجالة : لا لتحليل وأسباب بُنية المنظومة الاشتراكية التي تفككت ( موضوع شائك سنوافيه مستقبلا)، لكن فقط لتبجيل مناسبة عزيزة على أفئدة كادحي ومثقفي العالم، عانقي وحاملي هذا الفكر الجديد.. ولهذا سنكتفي هنا بأهم إنجازات ثورة أكتوبر، وتفاعلاتها الحالية والمستقبلية على مصير البشرية، بغض النظر عن مكر التاريخ ، سيره الملتوي ومَتْنه الملتبس! … على أن نرجع في سانحة أخرى، في وقفة متأنية، لتحليل الأسباب والعوامل الفعلية (الموضوعية والذاتية)، خاصة الأخطاء الذاتية المتراكمة عبر فترة طويلة والتي أفضت إلى تفكك هذه المنظومة الرائدة، عمداً وفي وضح النهار!… ولعل أهم المنجزات تلك نلخصها أدناه :
في مثل هذا الأيام الخريفية العصيبة والعظيمة (قبل 93 عاماً) بعد سقوط “قصر الشتاء” مباشرة، والإعلان عن تشكيل أول حكومة للعمال والفلاحين، صُدر أول مرسوم ( مرسوم السلام الشهير)، الذي كان يعنى إنهاء الحرب من قِبَل روسيا فوراً، وتدشينا أوليا لمعنى السلم العالمي وأهميته للبشرية!.. ثم تلاه “مرسوم الأرض”، الغنيّ عن التعريف كونه يجسّد أهدافاً عظيمة وآمالاً عريضة للفلاحين الفقراء (القِنّ الروسي) ويدشّن بداية النهاية لأحقاب مظلمة من العلاقات البطريركية الروسية السوداء.
في فترة قصيرة بعد فشل الثورة المضادة (الحرب الأهلية) ودحر التدخل الخارجي المشهور من قِبَل أكثر من دستة من الدول الغربية، بدأت روسيا ( الاتحاد السوفيتي منذ 1922 ) تدريجيا بالتعافي والتطور المضطرد والسريع بحيث قُضِيَ -في فترة سنوات قصيرة- على آفة الأمية والجهل والعوز والبطالة والحاجة لسكن لائق. تلتها إنجازات في البُنية التحتيّة والعمرانية، لعل أهمها توفر شبكة مواصلات عصرية عملاقة، اتسمت برمزية أسعار تذاكرها ( ما زالت لشبكة المواصلات تلك الأفضلية على الدول الغربية). وفي فترة أقل من ثلاثة عقود استطاع الاتحاد السوفيتي الّلحاق وتجاوز الدول الصناعية الكبرى ليحل ترتيب ثاني دولة بعد الولايات المتحدة الأمريكية، في مختلف الصُّعد.. بل تجاوز الاتحاد السوفيتي الولايات المتحدة في الحقول الاجتماعية والثقافية والرياضية وبعض المجالات العلمية والطبية، العسكرية منها والمدنية، كغزو الفضاء.
توفّق الاتحاد السوفيتي، إلى حد ملحوظ، في حل المشكلة القومية والاثنية، التي ورثها من روسيا القيصرية، انطلاقا من المبدأ الاشتراكي : “حق الأمم في تقرير مصيرها”.. ومن هنا سُمِح بالخروج الطّوعيّ المبكر لفنلندة من مجموعة الأمم والشعوب، التي حاولت تأسيس الاتحاد السوفيتي ونجحت في تشييده في سنة 1922.. حتى أن بعضها أعلنت استقلالها في البداية ( جيورجيا كمثال ) إلا أنها رجعت إلى حظيرة الاتحاد بعد لأيٍ، على أثرعودة البلاشفة المحلين للحكم هناك. من الجدير بالذكر ان الاتحاد السوفيتي –بعد الحرب العالمية الثانية- رسى على 14 جمهورية مستقلة، بجانب مجموعة كبرى من الجمهوريات ذي الحكم الذاتي، بالإضافة إلى عدة عشرات من دوائر قومية وإثنية لشعوب أصغر (اليهود احدهم على سبيل المثال). ولعله من المفيد أن نذكر أن هناك كانت شعوب بدائية ورعوية، لم تملك حتى أبجديتها الخاصة في البداية، لكنها أضحت بعد سنوات تملك أكاديمية للعلوم تخصها وبلغتها! ولابد أن نسأل هنا أي منصِف محايد: هل حدث شئ من هذا القبيل في التاريخ وحتى في أعرق الدول الرأسمالية؟!.. ليس هذا فحسب بل أن شعوبا شرقية واسلامية كان وعيها الجمعي ليس بأفضل من مستوى الوعي الاجتماعي الثقافي الافغاني والباكستاني (على سبيل المثال وليس التندر)، انتقلت من حال بدائية إلى تقدم حضاري فريد من نوعه، وصلت فيه المرأة الشرقية المسلمة إلى تقدم ومساواة جنسوية لا تحلم بها المسلمات – حتى يومنا هذا- للوصول إليها في أي قطر إسلامي آخر! أكيد كان من المستحيل أن يحدث هذا التحول المعجزة تحت أي نظام آخر!
دورُ الاتحاد السوفيتي، في الحرب العالمية الثانية (الحرب الوطنية العظمى حسب النظرة السوفيتية) في هزيمة النازية وإنقاذ البشرية من تسييد منظومة متخلفة من التراتبية العنصرية البغيضة في العالم، معروفٌ للقاصي والداني (لو نجحت الفاشية في مسعاها لتأخر العالم عدة قرون إلى الوراء).. والحقيقة أن ألد أعداء الاشتراكية والإتحاد السوفيتي لا يمكنهم إنكار ذلك الدور التاريخي الحاسم، الذي وضعه التاريخ على أكتاف الجيش الأحمر وعلى أجندة المجتمع الاشتراكي الجديد!.. وأكيد أن البشرية، في مشارق الأرض ومغاربها، ستكون مدينة إلى الأبد لتلك الملحمة البطولية الخالدة، ولأكثر من عشرين مليون سوفيتي سقطوا دفاعا عن المدنية، الحضارة والتمدن الإنساني
لم يكن التأثير الايجابي لثورة أكتوبر ووجود الاتحاد السوفيتي هائلا على الُمستعمَرات السابقة ،وتقويض تلك المنظومة السخرة فحسب، بل تعداه إلى الدول المستعمِرة نفسها وغيرها من الدول الغربية الأخرى! فأكثر المستعمرات استقلت، مكونة دولاً جديدة بفضل العضد السوفيتي لحركات التحرر الوطني، في المستعمرات وشبه المستعمرات.. ونشأت منظومة جديدة من العلاقات الدولية، كحاضنة لحضور تشكيلة جديدة من الدول على المسرح الدولي. ليس هذا فحسب، بل –كما اسلفنا-أن تأثير المجتمع السوفيتي الجديد وانجازاته كان عظيما حتى على الدول الغربية نفسها، الأمر الذي أجبر ساسة الغرب المكارين – تحت هلع عنصر الجذب السوفيتي وتأثير ذلك على الوعي الجمعي لشعوبها- من تغيير سياستهم الداخلية، حيث إرتأت الاستفادة مما في جعبة الفكر الاشتراكي التعاوني، تجسّدت ذلك بتدشين ما عُرف، بدولة الرعاية والحماية الاجتماعية ، خاصة بعد الحرب العالمية لثانية.. وهو المشروع الاستراتيجي الرأسمالي،الذي هُندِس بُغية تحقيق عدة أهداف في نفس الوقت، لعل أهمها : سياسة سحب البساط من تحت أقدام الطبقة العاملة الأوروبية والغربية، بالتنازل لها عن هامشٍ معيّنٍ من الثروة (في صورة منح وحماية اجتماعية) .. اي سياسة ” برجزة” البروليتاريا الغربية، المنحى الذي مازال قائماً في السياسات الداخلية للدول الغربية، ولو أن “البحبوحة” تلك، ما فتئت تنكمش، منذ أن تفككت المنظومة الاشتراكية وأضحت الآن عُرضة للتراجع التام، على أثر الأزمة المالية العالمية الحالية .
حقق المواطن السوفيتي منجزات كثيرة بعرق جبينه وضَمَن حقوقا خيالية لنفسه، من مجانية التعليم والتطبيب وفي مختلف حقول المعرفة والفن والجمال والرياضة.. وأضحت هذه الأخيرة بالذات منتشرة للكل بل ومسنودة بقوة القانون لتكون هواية فحسب وليست احترافاً، حتى لا تتحول إلى سلعة ولا يتحول النجم الرياضي إلى فرسٍ للربح والمراهنة، حسب ما نراها في المجتمعات الأخرى! وطبق نفس التوجه على مجمل حقول الفنون والآداب.. إلى درجة أن فنونا راقية ومكلفة كالمسرح والباليه والسينما وغيرها ( في المجتمعات الغربية) أضحت في متناول المواطن العادي (بأسعار رمزية)، الذي أصبح يختار بكل حرية ما يريده، بُغية إشباع غليله الثقافي والروحي.
فيما يتعلق بحقوق المرأة والطفولة.. من المكن أن لا نبالغ إذا قلنا أن أرقى المجتمعات البشرية ( في الدول الرأسمالية المتطورة) ، لم تستطع- حتى الآن- تحقيق المساواة الكاملة والشاملة بين الجنسين كما فعله الاتحاد السوفيتي، حيث وصلت المساواة التامة بين الجنسين إلى مشارف غير مسبوقة. ولابد من ذكر حقيقة مشرقة ومشرفة في مجال تحرر المرأة وتعزز شخصيتها الإنسانية وهي إختفاء أقذر مهنة – مُهينة للمرأة- عرفتها المجتمعات البشرية منذ فجر التاريخ وحتى اليوم، ألا وهي البغاء! أما حقوق الأمومة والطفولة فقد وصلت إلى درجة كانت تذهل السواح الغربيين وقد كان بعضهم يطلق على الطفل السوفيتي كأسعد أطفال الدنيا !
لا نضيف جديداً إذا قلنا أن شُعلة أكتوبر لا تنطفئ أبداً، بالرغم من انتكاسة المنظومة التي مثلتها بعد تجربةٍ ثريةٍ ودروسٍ بليغةٍ، دامت سبعة عقودٍ ونيف.. وذلك ببساطة لأن الزمن سوف يأخذ دورته الكاملة، وتعود الأمور إلى نصابها-آجلاً أم عاجلاً- مادام في قناديل الفقراء زيت! بالرغم من أن وضع الوعي الاجتماعي الحالي متسم بالفراغ الإيديولوجي-إن صح التعبير- ، الذي امتلأ بخُزَعبلاتٍ من أفكارٍ، ضبابية الرؤية ، تتحكم –حاليا- في تشكيل رأي عام عالمي ملتبس ومسطّح! لكن يمكن للراصد النزيه أن يرى بوضوح البشائر الأولى لعودة الحرارة للفكر الاشتراكي والرؤية الماركسية من جديد.. نعم النهوض الجديد لا يبدأ من الصفر ولا ترتد المنجزات البشرية المحققة في العهد الاشتراكي وتأثيراتها الإنسانية الواسعة، من حقل التطبيق إلى حقل النظرية المجردة ثانية.. بل يُبني الجديد القادم على ما قبله من تجربة – بمآثرها وأخطائها- ويكون أكثر غنىً ومناعةً عما مضى !.. ولابد أن “العنقاء” –في نهاية المطاف-ستخرج من بين الرماد !