تسعفنا قراءة التاريخ خلال المائتي عام مضت، في إعادة النظر في المجرى التاريخي العالمي للثورات والانتفاضات الشعبية والعصيانات والاحتجاجات، وأين استقرت وكيف يتم التعاطي معها؟ ولماذا هناك انحسار عام اليوم في الإضرابات العامة والاحتجاجات العارمة التي كانت تمس مجمل السكان أو الشعب برمته؟ لهذا من الضروري قراءة التاريخ بهدوء، فما افرزه التاريخ من معطيات وظروف وشروط وقوى بات اليوم مختلفا مع لحظتنا المعاصرة، فنظرة واحدة على أوروبا المنتفضة بالثورات والانتفاضات الفلاحية والبروليتارية والجماهيرية والطلابية، نرى أنها مع التحولات الديمقراطية وترسخ البرلمانات وتطور الوعي والثقافة والمعيشة للطبقات، وترسخ أسس الحضارة والمجتمع المدني، وتوقف الحروب المضنية في القارة، خلال وبعد الحربين العالميتين، فان أي عاقل يستوعب لماذا انتهت «ثورة الخبز!» وغيرها من ثورات في مجتمعات جائعة كالنمسا وسويسرا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وروسيا وغيرها من بلدان القارة. لن نجد اليوم نمطا من تلك الشعارات ولا الثورات، فالعوامل الداخلية والخارجية التي أفرزتها انتفت، وانتفت معها شروط وظروف عديدة داخل تلك الطبقات، بل وبتنا نجد ان المؤسسات الرسمية والمدنية تبلورت إلى حد كبير، وصار من الصعب نقل الناس من حالة صراع طويل ودائم دون معنى، وتكفلت المؤسسات والإعلام والأحزاب والهيئات بامتصاص تلك الحالات من الغليان الاجتماعي والسياسي، بحيث أصبحت المفاوضات والتسويات أكثر طريقا للتسويات الجزئية أو الشاملة.
لن نجد اليوم نمطا من انتفاضة البحارة على متن المدرعة «بوتمكين» والتي حدثت في حزيران 1905، فقد وصلت المدرعة المنتفضة إلى اوديسا، حيث كان يجري آنذاك إضراب عام. بعد إحدى عشر يوما من التيهان في عرض البحر، اضطرت المدرعة نظرا لنفاد الطعام والفحم، إلى المضي إلى سواحل رومانيا والى الاستسلام للسلطات الرومانية. ظل أغلبية البحارة في الخارج، أما الذين عادوا إلى روسيا، فقد اعتقلوا وأحيلوا إلى المحاكمة. دون شك إن الانتفاضة انتهت بالإخفاق ولكن اعتبر انتقال طاقم سفينة حربية كبيرة إلى جانب الثورة كان بمثابة خطوة هامة إلى الأمام في تطور النضال ضد الاتوقراطية، وبين فترتي 1905 إلى 1917 اندلعت انتفاضة 1912، ولكن أهمها كانت الثورة الروسية التي انطلقت كانتفاضة مسلحة قادتها البروليتاريا، فتضامن معها الجنود والفلاحون المتعبون بسبب ظروف الحرب والمجاعة، هذا التقارب الزمني للانتفاضات لن ولا يمكن أن نجده في أواخر القرن العشرين ولا في قرننا الحالي، بل ولن نجد في أوروبا ثورات متكررة في البلد الواحد، فبعد كومونة باريس لم تولد انتفاضة مسلحة، بل ولن تتكرر بتلك السهولة في شوارع باريس ولندن وبرلين أو مدن أوروبية، ذلك الزخم الثوري والحماسي، الذي كانت تقوده البروليتاريا الرثة والمرهقة في المصانع الجديدة، ولا غضب وسخط الفلاحين الفقراء المعدمين، والقادمين من الأرياف نحو المدن الجديدة العامرة بالأضواء والصخب والصالونات، كما هي في بطرسبرغ وباريس ونابلي وفيينا، تلك الظاهرة بدأت تتضاءل بالتدريج مع التطور الاجتماعي والسياسي لجهاز الدولة والمؤسسات، خاصة وان بروز المؤسسة الديمقراطية في الغرب، أخذت تتموج بالتدريج عبر تلك المرحلة، حتى لحظة انهيار نظام النظامين العالميين، وبهذا لن نجد مشروعا للانتفاضات الفلاحية والبروليتارية فيها بسبب الرفاهية النسبية، بل وتراجعت وانتهت الظاهرة البونابارتية كدور العسكر والجيش في الحياة السياسية، تكون تركيا آخر حلقة تقاوم زمن التفكك والاحتضار، في مواجهة ديمقراطية جديدة تتعمق في التربة التركية.
ما حدث في عشرينيات القرن المنصرم من حروب أهلية وثورات في أوروبا وحروب تحررية، نجدها تنتقل إلى دول نامية، تشرع في البحث عن هويتها السياسية ونمط اختيارها المناسب، في ظروف دولية وإقليمية مختلفة عن ظروف القرن العشرين. لن نجد اليوم في أوروبا ثورة طلابية كما حدث في عام 1968، حيث تشتعل باريس احتجاجا، لتنقل الحمى لدول عدة، تشارك تلك الفئة مجموعات وطبقات اجتماعية مؤيدة، فيتحول الموضوع المطلبي إلى مشروع سياسي واجتماعي واقتصادي، بل ويزج الفلاسفة والمفكرين أنفسهم، في التنظير لشريحة الطلاب كقوة جديدة وبديلة عن الطبقة العاملة الأكثر طليعية في مواقعها الإنتاجية.
اليوم لن تقدر باريس على تصدير مشروعها، لا الثوري (الكومونة والثورة الفرنسية ولا العصيان الطلابي) ولا حتى ذلك الاحتجاج الفئوي الاثني، الناتج عن الفوضى في ضواحي باريس، حيث لم يجد أولئك البؤساء الشباب، إلا نقدا شرسا واحتجاجا اجتماعيا وإعلاميا واسعا، بل وعصا البوليس والأجهزة الأمنية، لكونهم باتوا جماعات مخربة تعرضت لممتلكات الناس الخاصة، فبوصلة المحتجين انحرفت نتيجة غياب مشروعهم المتكامل، بل ولم يغفر لهم وضعهم الدوني من الناحية القانونية تبرير فعلتهم، باعتبار ان المجتمع الفرنسي مجتمع مؤسساتي وله قنواته وهياكله وتعبيراته ومنابره المتعددة.
من حاولوا إحراق السيارات والاعتداءات على ممتلكات الناس افرزوا غضبا مماثلا دفع في اتجاه الكراهية بدلا من التعاطف وأنعش تيارات اليمين المتطرف، فإذا ما كان المجتمع متفقا على وجود ظواهر سلبية مجتمعية، لا بد من علاجها، فإنهم لم يوافقوا إطلاقا على طريقة التعبير الفوضوي لمعضلات شبابية وثقافية ومجتمعية، فليس بحرق وسرقة ممتلكات الناس أو تخريب المنشآت العامة، يتم إيصال أصوات الغضب المنفلتة نحو الفوضى.
تنتهي دائما مثل تلك الأعمال بإخفاق وتذمر عام من المجتمع، حتى في أوساط المتعاطفين مع المحتجين وهم يشعلون الضواحي بنيران حمقاء خسر فيها السكان ممتلكاتهم، التي ادخروها وقتا طويلا، لمجرد ان هناك شبابا يعاني من اضطهاد اثني واجتماعي وطبقي في نظام رأسمالي غير قادر على تغييره من الأساس، فيصبح الطريق الأسهل هو الهجوم على سيارات مصطفة في الشوارع العامة!! تراجعت تماما الانتفاضات والثورات والإضرابات العامة في أوروبا نتيجة التغيير في بنية المجتمع ووعيه، يكون الوضع الاقتصادي والنظام السياسي الديمقراطي احد مفاتيح تلك الحقيقة.
صحيفة الايام
10 اكتوبر 2010