من الملفت للنظر أن المعتقلين والمساجين وما يملكون من أحاسيس ودية تجاه الضابط سميث قد تبخرت بفعل تقادم الزمن عليها وهذا شيء طبيعي لكن تبقى في الذاكرة وتكون محفورة في وجدان كل من عايش هذا الشخص.
غريب أن يتناول الإنسان شخصية مارست أنواعاً من التعذيب النفسي والجسدي في حق المعتقلين والمساجين، لكن على الإنسان وعلى الأمانة التاريخية أن توفي حق هذا الشخص.
وهذه السطور القليلة ليس مدحاً في حياة هذا الشخص، ولكن الواجب التاريخي يستوجب أن يكون منصفاً في ما عايشه من مشاكل ونزاعات امتدت بعض الأوقات بالأيدي مع المساجين وبعض المعتقلين، لكن السؤال كيف استطاع بعقله المتنور ان يتجاوز هذه العقبات وينشئ نوعاً من الألفة مع أعتى المساجين، ففي تاريخ 27/3/1972 في الصباح الباكر خرجنا من سجن القلعة متجهين إلى سيارتين من نوع (جيب) على ما اعتقد، وكنا عشرة معتقلين: علي الشيراوي، عبدالمنعم الشيراوي، جليل الحوري، احمد سند، إبراهيم رجب، عباس عواجي، عيسى زيد، عزيز جناحي، و كان معنا ثمانية شرطة مع سميث، اتجهنا مباشرة إلى جزيرة الأحلام جدا عبر شارع البديع، لم يكن الشارع بهذا المستوى العمراني حيث طرأت عليه كثير من التحسينات العمرانية.
كان شارع جميل تحفه البساتين الخضراء وكما اعتقد كان اتجاهاً واحداً، بعد قرابة نصف الساعة وصلنا إلى الميناء ونزلنا من السيارات وكانت اللنج التي سوف تقلنا واقفة والجنود يحيطون بها من كل ناحية، صعدنا إلى المركب الصغير وحشرونا في زاوية واحدة والبنادق مصوبة نحونا، وبعد ذلك قال لنا علي الشيراوي بعد ساعة سوف نصل إلى جزيرة الأحلام التي خرجت منها عام 1966 ورجعت إليها عام 1972 أكثر الظن إنها قد تغيرت وفعلاً بعد ساعة من الزمان بانت لنا جبالها الشامخة ونخيلها الواقفة التي ازدانت بثمرها المختلف الألوان، عند الوصول وضعوا لنا خشبة كبيرة وصعدنا عليها واحداً بعد الآخر، وقبل السير فيها ألقى الضابط سميث كلمة هي تعتبر الإرشاد الأول لنا، قال: (أنت في زين- أنا في زين أنت في مشكل، في رقم واحد) بعد ذلك نظموا صفوفنا وكأننا جنوداً ذاهبين للحرب.
سرنا عبر الوادي الفسيح حتى وصلنا إلى حجرة صغيرة كانت مخصصة للمقابلات، هذه الحجرة وضعت لمقابلات المحكومين للمدد الطويلة أي من عشرين سنة وما فوق وهو المؤبد، عديمة التهوية مساحتها لا تتعدى 10*8 معزولة عن السجن وتقع عند الميناء الرئيسي.
بفعل العمران وجعل الجزيرة منطقة سياحية خاصة انزاحت من الوجود هذه المعالم القمعية وهي الشاهد على استعباد المعتقلين والمساجين، سابقا كان الأهالي يأتون إلى جزيرة جدا لمقابلة ذويهم إلا أن انزلاق والدة المرحوم مجيد مرهون عند الميناء وتعسرها في النزول من القارب والصعود إلى الميناء حال دون الاستمرار في المقابلات في جزيرة جدا، الحجرة كانت مكونة من حجرتين الأولى يدخل فيها الأهل ومن ثم يأتون بالمعتقل مكبلاً بالحديد يجلس في حجرة ثانية و يكون الشباك الحديدي فاصلاً بينهم، و تدوم المقابلة ساعة بعدها يرجع الأهل إلى القارب والمعتقل إلى زنزانته حاملاً هموم الدنيا.
سرنا في هذا الوادي الواسع حتى عبرنا الحديقة التي تحفها النخيل الباسلة وأشجار اللوز والكنار، كان الجو في غاية الجمال والهواء منعشاً و كان شهر مارس وما يحاكي من نسمات الربيع حتى خيل لنا إننا ذاهبين إلى مصايف لبنان.
في الطريق لفت انتباهي كثرة اللوز([1]) المرمي في الشارع لم استطيع مقاومة نفسي في أن التقط بعض من الحبات فما كان منى إلا أحنيت ظهري على اللوز وأخذت أحشو جيبي منه، وكان سميث وراءنا فما كان منه إلا أن صرخ في وجهي وقال (ارمي ارمي- أنت في مشكل- ارمي ارمي) فرميت كل اللوز، وقال سميث هنا سجن و ليس لعبة- أنت لازم تعرف.
بعد ذلك دخلنا “الفنس” الكبير بعد أن شاهدنا شخصاً واقفاً أمام حجرة كبيرة وفي أرجله الحديد وكانت ثيابه رثة رفع لنا قبضة يده وقالوا لنا انه مجيد مرهون البطل الذي انتقل إلى جوار ربه في الأيام الأخيرة (في برلمان 1973 طالبت كتلة الشعب بإزالة القيود الحديدية من أيدي المساجين والمعتقلين السياسيين وبالأخص مجيد مرهون وفعلاً أقرت إلا إن القيود لم ترفع من يدي مجيد إلا في 1974. صعدنا بعض العتبات ودخلنا “الفنس” الكبير وما هي إلا ثواني ونسمع هتافات إخواننا في” الفنس” الثاني محمد نصر الله، محمد حميدان، احمد حارب، عبدالحميد القائد، عبدالله، يوسف الصباح وبدر ملك.
فتحوا لنا “الفنس” وكان عبارة عن ارض كبيرة محاطة بأسلاك من الحديد وفيها ست غرف وحجرتين للروشن ومساحة ارض صغيرة زرعت فيها طماطم، فلفل ونخلة زرعتها في 1972 وأكلت من ثمرها في 1974 وادخلوا كل اثنين في زنزانة واحكموا الباب الأول علينا وكان مصنوعاً من الحديد والباب الثاني مصنوعاً من الخشب وكانت فيه فتحة صغيرة للتهوية وما هي إلا دقائق حيث احضروا وجبة الغذاء وكانت عبارة عن مجبوس مطبوخ على فتات من اللحم وبقايا من العظم.
الملفت انه في نفس اليوم ان سميث حضر من أجل تفقد المعتقلين وكان في يده كيس فيه بعض من اللوز جمعه من الأشجار التي في برج العلاج وقال وين عباس فقلت نعم- قال هذا اللوز (حبان) ما في اسراوة أكل!.
تصور هذا الموقف الإنساني في أول يوم من نزولنا إلى جزيرة الأحلام جدا، يأتي سميث وفي يده كيس من اللوز ويقول لا يوجد فيه سراوة اللوز وحجمه كبير، هذا الموقف الإنساني زرع في نفسي أشياء كثيرة عنه، وهذه أولى النوادر التي أتناولها من عام 1972.
[1] فاكهة صيفية بحرينية