لم يستطعْ العربُ المسلمون إنتاجَ نضاليةٍ شعبية ديمقراطية واسعة، فهذه ذات طبيعة اجتماعية متقدمة، تتطلب طبقة وسطى وطبقات عاملة ذات مستويات إنتاجية واقتصادية مدنية والملكيات غير ممركزة في يد دولة شمولية ذات بطش وإمكانات مالية كبيرة.
كان المعتزلة في بدء ظهورهم فئة صغيرة لكن ذات مريدين مؤثرين، وقد طرحوا منذ عملهم السياسي الأول أن يكون (فيء المسلمين) أي المال العام للناس، ويوزع عليهم، لكن لم يعرفوا الإجراءات والسبل النضالية المؤدية إلى ذلك، وقد عملتْ الخلافةُ على اقتناصِهم ورفعِهم من أوضاعِهم المزريةِ والبائسةِ وقربتهم للثراء، فأبتعدوا عن الناس وعن طرح هذه المطالب فتحولت الدعوة إلى دعوة فكرية نظرية.
حتى أن ثمامةَ بن الأشرس – أحد المعتزلة البارزين- كان يقولُ للخليفة هارون الرشيد دعكَ من الناس فهم جهلةٌ ويروي له حكايات من حياة البسطاء كالحارس الذي كان يسجن ثمامة في زمنِ نضالهِ ومعارضتهِ ويلحنُ في قراءةِ القرآن فيعدلُ له ثمامة القراءةَ الخاطئةَ فيتهمهُ الحارسُ بالالحاد، فيضحك الرشيد على مثل هذه النماذج ويقتنع برأيه.
إن خلقَ تيارٍ واسعٍ تنويري ديمقراطي أمرٌ شائكٌ من دون الطبقات التحديثية الكبيرة، وكان الفلاحون المنتجون الكبار في ذلك العصر مفتتين، جاثمين في قراهِم البعيدة، غير ذوي حضور في المدينة إلا على شكلِ أناسٍ مُقتلعين من الريف هاربين من ظروفهم.
ومع تبعثرِ وذوبانِ المعتزلة والظروف الجيدة التي ارتفعوا إليها نسوا القضيةَ النضالية القديمة وحولوا الاعتزالَ إلى فلسفةٍ مثالية متعالية، مثلهم مثل الفقهاء الذين قطعوا أجنحةَ الفقه وجعلوه في قفصِ السلاطين، ولهذا كانت الفوضويةُ هي التي تغلغلتْ في الساحة السياسية وقتذاك على شكلِ الخوارج والإسماعيلية والزيدية، ففي حين التصقتْ جماعاتٌ بالخلافة وتركتْ الساحةَ التي تضجُ بعذابِ الناس خاليةً من النقد والموضوعية السياسية وأحدثت فراغاً ظهرتْ تلك الفرقُ الجديدة واستغلتْ الظروف.
إن عدم النضال من أجل المال العام وعدم وجود قوى مدنية اقتصادية واجتماعية يحدثُ الفراغ السياسي، ويجعل الجمهور يُعجب بالخوارج الشجعان المضحين لكن الفوضويين.
وقد تغيرت الأمورُ بعض الشيء في العصر الحديث، لكن الذي لم يتغير أن الفيءَ مازال في إشكاليته، والطبقات الحاكمة تقررُ أشكالَه وتوزيعه بتفردها، ولا توجد قوى اجتماعية واسعة في البرلمانات والنقابات العربية تستطيع أن تشكلَ رقابةً حقيقية على المال العام.
والحكومات تلتقطُ الأحزابَ والجماعات السياسية حسب صمتها أو كلامها من هذه القضية، والأحزاب الدينية التي تتفق مع الحكومات في المذهب الديني أو لا تتفق وتصمت عن هذه القضية المحورية تُرفع وتُعطى المكاسب، والجماعات التي ترفعُ صوتَها وتنتقد وتبين عبث البيروقراطيات بالمناقصات أو أن تتخذ مواقف دقيقة صارمة تجاه قضايا سياسية كما يحدث في مصر تجاه قضية التوريث، تتبدل مواقعها ويتم تقليص وجودها.
وهكذا تصبح جرائد بعض قوى المعارضة خالية من المعارضة تجاه قضايا الشعب الاقتصادية الجوهرية، ويرتفع رئيس الحزب الاشتراكي إلى مجلس الشورى، ويكتب كتباً عن الصراع الاجتماعي في بلده لا يشير إلى مثل هذه القضايا المحورية!
تتقلصُ وتختفي المساعداتُ وتُقام القضايا على جرائد المعارضة المصرة في البحث عن قضايا المال العام، وتنقسم الأحزاب وتتحول إلى أجنحة متصارعة تفتتها حالما تريد أن تغدو أحزاباً حرة وتطرد الانتهازيين من صفوفها، أو أن يحدث العكس.
مثلها مثل الطبقات القديمة السائدة في العصور المنصرمة تواصل القوى الحالية الجوهر نفسه لأساليب القدماء، فمن يعترض حتى بشكلٍ قانوني ويعرضُ الحيثيات الموضوعية لبعض الفساد تتفجر في وجهه القضايا ويُجر للمحاكم.
وحتى إن حزباً كان يحكم بلداً عربياً يخسر الانتخابات بسبب صراعات داخلية لأنه يواصل الكشف عن المال العام.
استقلالُ السلطات الثلاث أمر شكلي: القضاةُ معينون من السلطات التنفيذية، البرلماناتُ ذات سلطات محدودة ومع هذا فالنواب يأتون على مقاسِ الأنظمة في خواتيم الانتخابات.
المالُ العامُ ليس عاماً وهو بيتُ القصيد.
الصحافةُ شبه حرة ومُراقبة والصحافة الحزبية الحرة غير موجودة أو لا يُسمح لها بالانتشار والتطور.
بطبيعة الحال لابد من مواجهة الظاهرات السلبية ومواصلة تكوين التيارات الديمقراطية بشكل جماهيري، حتى لا يسمح بتصاعد أثر الفوضويين.
أخبار الخليج 6 سبتمبر 2010