المنشور

أزمة اليمن (1)

تكونت أزمة اليمن الراهنة من قيام حكومة صنعاء بفرضِ نظامٍ شمولي عسكري على اليمن ككل، متخليةً بهذا عن مواثيق الوحدة اليمنية وعن تشكيل نظام ديمقراطي تعددي ينمو في ظل العلاقات الرأسمالية الحرة.
حدثَ هذا الانقلاب على صعيدي الجنوب والشمال بعد صراعاتٍ كبيرةٍ بينهما وبعد مقاربات للوحدة ومفاوضات ومواجهات دموية.
بالنسبةِ إلى مقاربةِ اليمن الجنوبي للوحدةِ والقبول بها، جاءتْ بسببِ العقليةِ الفكريةِ السياسية السائدة في الحزب الاشتراكي، فقد عاشَ على وعي (الاشتراكية) وإزالةِ الطبقاتِ والبرجوازية الاستغلالية خاصة، وشكلَ دكتاتوريةً سياسية عسكرية، جعلتْ السلطةَ في يدِ المكتب السياسي للحزب الاشتراكي، الذي راح أعضاؤه يتصارعون بشكلٍ مستمرٍ مدمر، مما عبر عن عدم وجود ملكية عامة كبيرة ومؤثرة، وعدم القدرة على تحويل نسيج البلد الاجتماعي البشري للتطور الحديث الديمقراطي، ولعدم وجود علاقات اجتماعية شعبية ديمقراطية مزدهرة.
إن العقلية القومية النخبوية كانت هي جذر تفكير القادة (الاشتراكيين) وهي التي أدت إلى المغامرات السياسية والقفز فوق الظروف الموضوعية، فغدت رؤيتهم للشعب اليمني بأنه شعبٌ موحد، يستطيع أن يشكلَ وحدةً فيما بينه، كأن ثمة عناصر من الدم هي التي تلعبُ الدورَ الحاسمَ في التكوينات الاجتماعية – السياسية.
إن غياب الوعي الديمقراطي الاجتماعي لديهم جعلهم يتعاملون مع شعبهم بطريقة نخبوية إدارية، وأحلوا قراراتهم محل الدرس الموضوعي لقوانين التطور الاجتماعي، وهذا بدأ منذ عمليات الصراع المسلح ضد الاستعمار، وترسختْ عقلية النخبة والمغامرة وقدرتها على تفجيرِ وتغييرِ العلاقات الموضوعية، في عالم الطبقات والبشر، عبر الشعار والحركة السياسية المفصولة عن قوانين الواقع.
لقد أسسوا حسبَ تصورِهم نظاما اشتراكيا، ثم توجهوا للوحدة مع نظام (رأسمالي) كما قيل وقتذاك. أما هم فقد أسسوا نظاما رأسماليا حكوميا عسكريا شموليا لايزال متشربا بالعلاقات القبلية، والحياة الاجتماعية الإقطاعية، وأعطوا كذلك الأغلبية الشعبية العديدَ من المكاسب كتشكيل ملكيات عامة وتحديد الأجور وتخفيض الأسعار والتعاونيات وغيرها.
لم يكن النظام الرأسمالي الحكومي وقتذاك يستندُ إلى ثروةٍ كبيرة، كما أن المساعدات من الاتحاد السوفيتي وألمانيا الديمقراطية كانت هي التي تبقيه حيا، مع معاركه المستمرة وعدم القدرة على تشكيل نظام رأسمالي ديمقراطي، يُصعدُ من مختلف أشكال الإنتاج، ويطور مستوى الحياة الاجتماعية والثقافية المتخلفة للشعب في الجنوب.
كانت المهماتُ الأولى لتشكيلِ نظامٍ رأسمالي ديمقراطي هي المطلوبةُ في بدءِ الاستقلال، وهو أمرٌ لم تفهمهُ هذه النخبُ اليساريةُ الطفولية وصارعتْ القوى التي طرحت ذلك.
وفي لحظةِ التوحيدِ مع الشمال عادتْ فجأة وبلا مقدمات إلى طرح النموذج الرأسمالي الديمقراطي وتجاوز تجربة (الاشتراكية)، وبشكل هو ذاته قفزة يسارية أخرى، ونخبوية مماثلة لطريقة عملها، بدلاً من أن تجعل ذلك فترة انتقالية مطولة ريثما تتركز هذه السمات التطورية في الجنوب وترى تطبيقها ونموها في الشمال كذلك.
هكذا قامتْ بالدخول في نظامٍ رأسمالي ديمقراطي موهوم عبر وحدة مع نظام إقطاعي عسكري.
أي أن تلك العملية التطورية التدريجية لم تكن قادرة عليها، وهي كانت سوف تسببُ تصدعاتٍ داخلية كبيرة، لهشاشة المبنى السياسي القائد، وكثرة المغامرين الذين سوف ينتهزون فرصة هذا التحول للوراء و(ضرب التجربة الاشتراكية) نظراً لعقلياتِهم المتخلفةِ في فهمِ الاشتراكية والديمقراطية، كما أن الظروف الاقتصادية كانت صعبة، ولهذا وجدت قيادة الحزب الاشتراكي اليمني في عملية الوحدة قفزة الهروب الكبير للإمام، وتحويل الأزمة إلى انتصار موهوم، وطمعت في البقاء على قمة السلطة وتقاسمها مع قوى الإقطاع العسكري وقوى الإقطاع الديني في الشمال.
وحين تحققت تلك التجربة – الكارثة تقاسمت النخبة الاشتراكية الحصصَ والكراسي مع قوة الدولة الحاكمة الحقيقية في الشمال التي أعطتها وهمَ الحكم، حيث أمسكت بالجيش والداخلية وتركتْ لها المناصبَ الشرفية، ثم أجرت لها عمليات الاغتيال الواسعة في ظرف زمني بسيط كانت استئصالاً مبرمجاً.
فالطبقة الحاكمة الإقطاعية سواءً العسكر الحاكم أم شيوخ القبائل وشيوخ الدين لا يمكن أن تتوافق مع تجربة نضالية شعبية مهما كان مستواها خاصة انها اتسمت بتاريخ من المغامرة والفوضوية والحدة، فجعلتْ من الوحدة مصيدة قاتلة.
كان تاريخ التحرر عبر الجبهة القومية يحملُ تلك الجراثيم ورفضَ هذا التاريخُ طريقةَ جبهة التحرير اليمنية الجنوبية عبر الليبرالية ونشر الديمقراطية بشكلٍ متدرجٍ واختارَ حكمَ الجملة الثورية المنتفخة فكان في الوحدة يحصدُ ثمارَ تلك التراكمات السلبية، وضاعتْ كلُ دروس الفكر التقدمي من توصيفِ الطبقات وعلاقات الإنتاج وقراءة وعي الجمهور.

صحيفة اخبار الخليج
7 اغسطس 2010

اقرأ المزيد

الليبرالية والتطرف الديني

«الليرالية والتطرف الديني» مقالة كتبها «فكري اندراوس» في مجلة الهلال في عددها الاخير. في البداية تحدث «اندراوس» عن تعريف الليبرالية الشامل وعن الليبرالية الحديثة التي يعتقد انها تعني كيفية التفكير لحل المشاكل المعقدة وهذا كما يقول يقتضي التفكير خارج الحدود المعتادة في تفكيرنا وعدم قبول المسلمات كأمر واقع.
وتحدث ايضاً عن فشل الأيدولوجيات السياسية المختلفة وكذلك الليبرالية الحديثة في تحسين مستوى معيشة اغلب البشر إلا في بقع قليلة على سطح الارض وعن وجوه الليبرالية العديدة ويعني بذلك الليبرالية في شقها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي ما علاقة ذلك بالتطرف الديني وخصوصاً المسيحي في امريكا والاسلامي في شرقنا العربي؟ الاجابة عن هذا السؤال يقول: في ظل المناخ المليء بالشكوك ظهرت شخصيتان اثرتا في جذور التطرف الديني الذي نراه الآن الاولى في الامريكي «ليو ستراوس» 1899 – 1973 والثانية في المصري «سيد قطب» 1906 – 1966 الاول هو الاب الشرعي للمحافظين الجدد كان ستراوس حتى وفاته استاذاً جامعياً تخصصه في فرع فلسفة التاريخ ويعتقد ان الليبرالية التي تدعو لتقديس الحرية الفردية كما هو الحال في الغرب ستؤدي الى التقدم بل ستؤدي ايضاً الى تدمير الحضارة الغربية ويُعتقد ان نظرية ستراوس في حقيقتها نظريتان الاولى «الغاية تبرر الوسيلة» والثانية هي «حكم الطليعة مظهره ديمقراطي حقيقته اتوقراطي» أي ان مذهبه يؤيد ان يقول خلاف ما يبطن ويقول «ناعوم تشو مسكي» في هذا الشأن ان نظرية ستراوس تقود النخبة الطليعية لحماية المجتمع الحر من خطر الحرية الفردية ولخلق اسطورة يقتنع من خلالها انها تحارب لحماية الديمقراطية ولحماية مصالحها.
اما عن سيد قطب يقول: انه اديب ومفكر اسلامي له الكثير من الكتب ادت بعض كتاباته الى اعطاء شرعية دينية للارهاب. واثناء دراسته في امريكا كتب مقالات عديدة عن الحياة في امريكا ما بين 1948 – 1951 وفي تلك الفترة كان قناعته ان التقدم الامريكي خلفه حرية بلا حدود وان الاهتمام بالماديات ادى الى انانية اعمت المجتمع عن رؤية حقيقة التدني في السلوك الانساني ومن هنا اعتقد «قطب» ان الحضارة الغربية ستنهار فخشي ان ينتقل الانهيار الى المجتمع العربي نتيجة التغلغل الغربي في حياه العرب.
ومن هنا ايضاً اصبح لسيد قطب مشروع اسلامي اصولي يعتقد بانه لابد من ان توجد طليعة اسلامية تقود البشرية الى الخلاص. وبعد انضمامه الى الاخوان المسلمين اصبح مسؤولاً عن قسم الدعوة واصبح من اوائل منظري فكر السلفية الجهادية والتنظيم الخاص.
ويشيد «اندرواس» هنا الى تأثر قطب بافكار ابن تيمية التي تسمح بمحاربة المسلم المنحرف عن العقيدة وتدعو الى محاربة جاهلية الناس والدولة لان الجاهلية هذه تقوم على اساس الاعتداء على سلطان الله في الارض أي ان سيد قطب كان يدعو لحكم رجال الدين وان كانوا في آخر الامر ليسوا إلا بشراً. ويعتقد ان التشابه بين قطب وستراوس ان كليهما تقاربا في الزمن والفكر وكلاهما رفض الحرية الفردية وأمنا بوجود طليعة تحكم وتؤدي الى خلاص المجتمع وكلاهما اعلن خلاف ما يبطن وكلاهما يؤمن باستقلال الدين في السياسة وزرع الخوف في قلوب الناس من الخطر الآتي. كلتا المدرستين ادتا في النهاية الى احتلال افغانستان ثم العراق وفي حالة سيد قطب يقول «اندرواس» ترعرعت افكاره في افغانستان بقيادة مفكرها ايمن الظواهري التلميذ الروحي لقطب وادى ذلك الى احداث 11 سبتمبر. في هذه المقالة استعرض الكاتب تطور افكار الارهاب الديني والخلاف بين الجماعات الاسلامية المتطرفة والتطرف الديني في امريكا وكل الاكاذيب التي اختلقوها في ذاك الوقت ضد السوفييت اثناء حربهم في افغانستان والتحالفات الاستراتيجية بين امريكا وتلك الجماعات في تلك الحرب. واستعرض ايضاً حقيقة تنظيم القاعدة الآن.. واخيراً وبالرغم من نهج الكاتب التبريري للحركات الاسلامية المتطرفة فانه يقر بأن هذه الحركات فشلت، يقر ايضاً بان الارهاب الذي سببته وتستمر تسببه له الكثير من الاضرار والمآسي.
 
صحيفة الايام
7 اغسطس 2010

اقرأ المزيد

قاطرة أم مقطورة

لم تكن الثقافة قاعدة قيام الاتحاد الأوروبي، إنما الاقتصاد. بشكلٍ عام لم يجر النظر إلى الثقافة بوصفها قائداً للوحدة أو القاطرة التي ستأخذها للمستقبل، وإنما جرى التعويل على الاقتصاد. أدرك الأوروبيون في مخاض مفاوضاتهم الطويل أن السوق الأوروبية المشتركة هي التي ستؤسس لقيام كيان أوروبي وحدوي.
سيكون الاقتصاد هو القاطرة، وكل ما عداها سيكون مقطوراً، تجره عربة القيادة حيث يقع الاقتصاد، وما السياسة بتعبير فيلسوف عاش بين القرنين التاسع عشر والعشرين الا التعبير المكثف للاقتصاد.
لكن حذار من الاستخفاف بالعامل الثقافي، واعتبار الثقافة، شأنها شأن سواها من الأمور والظواهر، مقطورة تجرها عربة الاقتصاد.
لم يكن بوسع الأوروبيين أن يذهبوا في الوحدة الثقافية القسرية، لأن جوهر الثقافة هو التنوع، والتنوع لا يمكن الغاءه بالقسر.
أكثر من ذلك فان الثقافة ليست الشعر والرواية أو التعبيرات الأدبية الأخرى، فهي أوسع من ذلك بكثير، أنها التاريخ بكل ثقله ووطأته، ففي القارة العجوز فسيفساء من اللغات والعادات والتقاليد والأديان وميراث من الحروب الدينية يمتد عمرها لألف عام.
والأوربيون يخشون على ثقافتهم وهوياتهم من هيمنة النموذج الثقافي الأمريكي الزاحف عبر السينما والميديا المتفوقة والوجبات السريعة، وهي خشية تتبدى أكثر مما تبدى في الحساسية الثقافية الفرنسية الأكثر صراحة ووضوحاً في التعبير عن نفسها، لكنهم بالمقابل يضمرون تناقضات بينية في المجال الثقافي مردها ذلك التنوع الخصب في اللغات وأشكال التعبير والفولكلور والعادات وما إلى ذلك. علينا الوقوف تحديداً أمام اللغة. ويمكن الاستشهاد بمثال من خارج أوروبا، من الهند البعيدة عنها، فلو أن طاغور كتب ما كتب بالانجليزية لما كان طاغور الذي قدمته الهند إلى الثقافة الانسانية كلها. كان سيصبح شاعراً متميزاً بالانجليزية، لكن لن يجري النظر إليه على انه ممثل عظيم للثقافة الهندية، العظيمة هي الأخرى. باحث هندي كتب مرة أنه ما من شيء أعاق تقدم الهند السريع وحال دون وعيها لذاتها أكثر من الخسوف الذي تعرضت له اللغات المتعددة للهنود، لصالح هيمنة لغة المستعمر البريطاني، وعلينا هنا تذكر أطروحة ادوارد سعيد بهذا الصدد، وهو يطبق مقولات غرامشي على الهند.
هل يمكن لمثل هذا الخسوف أن يحيق بالتعدد اللغوي في أوروبا، إذا ما مضت القاطرة الاقتصادية بسرعتها المعهودة، أم أن الثقافة ستقاوم بعناد كل من يريد أن يجعل منها مقطورة؟
 
صحيفة الايام
7 اغسطس 2010

اقرأ المزيد

(طنين) محاولة روائية سعودية

تتسعُ دوائرُ الروايةِ في السعودية وتتوجهُ لتحليلِ الحياة الاجتماعية، بل لسبرِ أغوارِ التاريخ الصعبة.
(طنين) روايةٌ تقومُ بعرضِ وتحليلِ التاريخ الحديث للمملكة، وهي بقلم سيف الاسلام بن سعود بن عبدالعزيز آل سعود، فهو شخصٌ من التاريخ الداخلي للمملكة بل من صميم هذا التاريخ، رغم هذا فهو باحثٌ في قضايا الحياة الاقتصادية المعاصرة، ولكن يبدو أن له اهتماماً عميقاً بتاريخ بلده، ولهذا قامَ بعرضهِ في أولِ روايةٍ له التي عنونتْ باسم (طنين).
يعودُ المؤلفُ سيفُ الإسلام إلى حقبةٍ بدا انها قد دُفنت، وأن لا أحد يمكن أن يعودَ إلى تفاصيلها، وهي غزو حاكم مصر وهو محمد علي في القرن التاسع عشر الجزيرة العربية، والآثار والمعارك والتغييرات الاجتماعية والسياسية التي ترتبتْ على هذا الحراك التاريخي الخطير.
محمد علي رجلٌ خطيرٌ في تاريخِ المشرق العربي خاصة، ولعبَ دورَ المؤسسِ للحداثةِ وبصيغتها الأوروبية التقليدية المتداخلة المتصارعة، ومهد حتى للثورات العسكرية التي جرتْ بعد ذلك.
إن المؤلفَ قرأ بعمقٍ الأحداثَ بتفاصيلها الدقيقة، بين الجزيرةِ العربية ومصر، ووقف عند أحداثها المباشرة، ومسارات الصراعات السياسية فيها، أي بين هجوم القوات المصرية ونسفها مدينة الدرعية عاصمة الوهابيين واحتلالها الحجاز وضمه إليها، وبين أسر العائلات السعودية الحاكمة وعائلات علماء الدين الوهابيين التي شاركت في الصراع والدفاع عن المدينة، ومن ثم متابعة عيشها في أرضِ الكنانة بالقاهرة، وكيف تبدلتْ أحوالُها واطلعتْ على صنوفٍ من العيشِ والحداثةِ لم تخطرْ لها ببال، فيما قُطعت رؤوسُ القادة في عاصمة الخلافة (الآستانة).
المؤلف سيف الإسلام ولأنها تجربته الأولى في العمل الروائي فقد اعتمد أسلوباً تقليدياً في إنشاءِ الحبكة الروائية، فقد شكلها من خلالِ أسلوبِ الرسائل الموجهةِ من طرفٍ واحدٍ الى مرسلٍ إليه، وهي رسائل لا دور فنياً لها، فكأن المرسلَ للخطابات يحدثُ نفسَهُ، أو يتكلمُ بشكلٍ منولوجي، ذاتي، مع أفكارهِ، من دون وجود طرفٍ آخر مختلفٍ أو مصارعٍ أو مضاد يحاوره ويختلف معه، أو أن يظهر رواة آخرون، لكن بطبيعة الحال أسلوبه أفضل بكثير من أساليب السرد الأولى.
بطلُ الروايةِ أو شخصيتُها المحوريةُ الأميرُ خالد بن سعود كاتبُ الرسائلِ المطولةِ لأحدِ معارفه في مدينة الرياض، لا ينتظر إجاباتٍ، لأن رسائَلهُ كانت تُقرأ من قبلِ سجانيه في المدينة، التي حُبس فيها بعد أن فشلَ مشروعهُ السياسي وتم سجنه ونفيه للحجاز حتى وفاته.
أي إن رسائلَهُ لم يكن لها دورٌ روائي بنائي، يهيجُ الأحداثَ ويطورُها، بل كان لها دور الروي الصامتِ، الساكنِ، التعريفي بالشخصية الكاتبة وحراكها، بدءاً من نضالها في الدرعية ودفاعها عن الدولة السعودية الأولى حتى نفيها، ورؤيتها مدينة القاهرة المختلفة، وتبدلها من خلال هذا العيش، عبر قراءات مطولة للأفكار الحديثة سواءً على المستوى العربي القديم النهضوي أم على المستوى الأوروبي.
وكذلك متابعتها لما آل إليه مصيرُ مؤسسي الدولة السعودية الأولى من نفي الى مصر ثم الى تركيا، ومن ثم القضاء عليهم في الآستانة عاصمة الخلافة الإسلامية كما ذكرنا التي ترفضُ ظهورَ قيادةٍ إسلامية أخرى منافسة لها خاصة من الجزيرة العربية.
خالد بن سعود الشخصية الكاتبة للرسائل، محور الرواية، وراويها الأوحد، يعرض عروضاً ثقافية غير بنائية روائياً، أي أنه يخلط بين الموسوعة والعمل الروائي، فهو يستعرضُ عصرَ النهضة العربية القديمة وما ظهرَ فيها من تياراتٍ ثقافية وفلسفية، وما جرى من تطور حال الخلافة التركية والصراعات فيها بين المستبدين المتخلفين والمصلحين، وما أحدثهُ محمد علي حاكم مصر من تطورات حضارية، وما قامَ به من حروب، وهي كلها معلومات تتشكل خارج السرد الروائي.
أما حراكُ البطلِ خالد بن سعود فهو حراكٌ ضئيل، لكونِ شخصيتهِ مأخوذة من الخارج، ويتم التركيز في ظروفها الخارجية وليس في صراعها الداخلي، ليس على التناقض الكبير بين أحلامها وبين الواقع المتخلف، بين تعلقها بحداثةٍ غامضة وبين واقع يحتاج إلى رؤية دينيةٍ تحديثية إصلاحية، لم تكن هذه الشخصية قادرة على تجسيدها فنياً ولا على إنتاجها ممارسة.
كانت الظروف بطبيعة الحال صعبة جدا، لكن هذا لا يمنع من جعل الشخصية بؤرة العرض الروائي، وتجسيد تناقضاتها، وخاصة أن الفترة المختارة والشخصية المعروضة تمثلان منطقتين روائيتين خصبتين.
هي محاولةٌ مبكرةٌ للكاتب في دخول دهاليز التاريخ العسرة وهي تنبىءُ بموهبةٍ وبغزارةِ معرفة.

صحيفة اخبار الخليج
6 اغسطس 2010

اقرأ المزيد

الصراع على “التاريخ” (1)

 تكاد دولة اليوم في عالمنا المعاصر تخلو ساحتها السياسية من الصراع الفكري – الاجتماعي حول الموقف من التاريخ الذي يتخذ أشكالا مختلفة متعددة، منها الموقف من كيفية تدوين أحداثه وبأي منهج يكتب، والموقف من مساحة الحرية في توثيق ونشر الأحداث، ومدى إتاحة الحق لعرض ونشر الوثائق المتصلة بأحداث التاريخ السياسية والاجتماعية التي مر بها أي بلد، وكفالة حق الناس في الاطلاع عليها كحق دستوري ديمقراطي أصيل إذا ما كانت الدولة تكفل هذا الحق في دستورها، والموقف من عرض وقائع التاريخ نفسه، كاملا أم منتقصا أم مشوها، ويندرج في ذلك أيضا تناول أي واقعة من الوقائع التاريخية، القريبة منها أم البعيدة، وكذلك تناول أي حقبة من حقب العهود والأنظمة المتعاقبة على حكم البلد المعني.
لكن هذا الصراع يتفاوت تمظهره وحدته على الساحة السياسية من دولة إلى أخرى، وبطبيعة الحال فإن الدول ذات التجارب الديمقراطية العريقة لا تظهر فيها الأزمة التاريخية، إن صح القول، بالدرجة المتفاقمة كالتي تظهر في دول العالم الثالث المعروف جلها بالأنظمة الاستبدادية والشمولية مع نسبة صغيرة من الأنظمة الديمقراطية الفتية أو الشكلية. فحرية البحث العلمي وحق الحصول على المعلومات والوثائق التاريخية وحق نشرها.. كل ذلك متاح ومتوافر في الدول الديمقراطية الغربية بصورة أكبر من دول العالم الثالث، فتلك الدول الغربية لا تسعى ولا تستطيع على الأدق تأميم التاريخ وامتلاكه كما يروق لها بحيث تزيف ما تود تزييفه وتحجب ما تود حجبه عن عامة الناس، حتى مناهج الكتب التاريخية التعليمية ثمة في الغالب حد أدنى من الموضوعية في التعاطي مع الوقائع والأحداث التاريخية وطريقة عرضها، وعلى سبيل المثال وأنا أكتب هذه السطور بجانبي على أحد أرفف مكتبتي عينة من الكتب الأمريكية المترجمة شبه الرسمية – إن لم تكن رسمية بالفعل – تقر بحقائق تاريخية معروفة للعالم بأسره، ومنها استرقاق الزنوج وما واجهوه من عسف ومظالم يندى لها جبين البشرية على أيدي المهاجرين البيض الذين استوطنوا الأرض الجديدة، وقبل ذلك ما فعلته موجات الهجرة الأولى من آبائهم وأجدادهم الفاتحين بحق الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين من جرائم إبادة واجتثاث لم يستطيعوا إنكارها.
لكن هذا لا يعني أن مناهج التاريخ الرسمية في الدول الغربية الديمقراطية هي دائما وبالمطلق موضوعية ونزيهة وصادقة أو محايدة بريئة من الباطل، فثمة نسبة دائما – تزيد أو تنقص – في هذه الدولة أو تلك من اللاموضوعية أو التزييف أو حجب الحقائق لكن تظل هذه النسبة بالتأكيد لا تقارن بالنسب الملاحظة أو اللافتة للنظر على مناهج التاريخ في مختلف المراحل التعليمية بدول العالم الثالث ومنها عالمنا العربي.. فإذا افترضنا أن نسب التشويه والحجب في المعلومات التاريخية في الدول الديمقراطية العريقة تتراوح مثلا بين 30% و50% فإنها في الدول العالمثالثية الشمولية لا تقل في معظم الأحيان عن 70% سواء في نسبة حجب المعلومات وطمسها وعدم نشرها كاملة ومصادرة ما ينشر أو فيما يتعلق بالحدث التاريخي أو نسبة التشويه والطمس في المعلومات الخاصة به.
على أن ما يميز الدول الغربية الديمقراطية عن الدول الشمولية العالمثالثية ليس فقط تدني نسبة التشويه والحجب في مناهجها التاريخية أو في إعلامها بل إنها تتيح الحرية والحق للباحثين والكتاب لكتابة ما يفند ذلك التشويه وكشف وعرض ما حجب أو طمس من معلومات في الوقائع التاريخية.
ونحن لا نضيف جديدا إذا ما قلنا إن الصراع على “التاريخ” أضحى اليوم جزءا لا يتجزأ من الصراع السياسي – الاجتماعي العام على الساحة السياسية في أي دولة من دول العالم بأسره، بل إنه يأتي ضمن جوهر ذلك الصراع، وسواء تمظهر هذا الصراع في إطار الصراعات بين القوى السياسية – الاجتماعية المتصارعة والمتضاربة المصالح على الساحة السياسية أم تمظهر بين بعضها أو كلها من جهة وبين النظام الحاكم في أي بلد من جهة أخرى.
وعادة ما يبرز الصراع على التاريخ وتزداد حدته عند المحطات أو المنعطفات التاريخية الصعبة التي يأخذ منها الصراع السياسي – الاجتماعي العام حدته وتزداد في مناخه الحساسية في المواقف من التاريخ وأحداثه، وذلك بفعل زيادة حدة ذلك الصراع السياسي – الاجتماعي ذاته، ويبرز ذلك بوجه خاص في البلدان التي تعرف أشكالا من التعدديات الاثنية والعرقية والقومية والدينية والطائفية. وفي بلداننا العربية لعل من أبرز النماذج على ذلك النموذجين اللبناني والعراقي.
لذا سنتناول في مثل هذا اليوم من الأسبوع القادم النموذج اللبناني من واقع برنامج لمحطة الـ “بي.بي.سي” البريطانية لجنة تقصي الحقائق حول غياب التاريخ الموحد في لبنان جرى بثه في 23 مارس الماضي.

صحيفة اخبار الخليج
5 اغسطس 2010

اقرأ المزيد

هل ضاعت بوصلة الإصلاح؟

الكلُ يريدُ التغييرَ، والكلُ يريدُ تجاوزَ السابقَ لما هو أفضل، لكن هل الجميع يضحي ويتفهمُ الواقعَ وظروفَ المنطقة ويدركُ كم نحن محاصرون في محاولةِ التقدم، وكم أن المنطقةَ ملغمةٌ بآلاف الألغام، وإنه يجب أن يُخفف من غلوائهِ وأن يُكثر العمل والإنتاج ويكافح الأخطاءَ والسلبيات بأسلوب بناء وبتصعيد للديمقراطية؟
لقد حدثت بدايةٌ متواضعةٌ ولكنها مهمة، وأحياناً تقترب من المفاجأة الكبيرة، وقد قال رجلٌ لا نشك في فهمه، فقد خرجَ رياضُ الترك من المعتقل في سوريا بعد عشرين عاماً، وكانت سوريا واعدةً بالتحولات قبل عدة سنوات سابقة، قال هذا المناضل المشهود له: نحن لا نريدُ سوى أن تقلدَ سوريا البحرينَ في تغييراتها السياسية.
سوريا ذات التاريخ السياسي العريض بأحزابها القومية وبمعاركها التاريخية العظيمة يُطلب منها أن تُقلد جزيرة صغيرة في الخليج!
إذاً العملية السياسية الوطنية مهمة وكبيرة ولكن معقدة بكل الجوانب فيها، وتحتاج إلى أدمغةٍ مركبة، لا تكتفي بالمبسط وتتطلب الحفريات العميقة، فأهازيج المديح لم تعد مجدية، وصرخات الرفض الحارقة مضرة وغير نافعة.
والقضيةُ المحوريةُ هي كيفيةُ الجمعِ بين القطاع العام والقطاع الخاص ومصالح الأغلبية الشعبية في وحدةٍ مشتركة. هذا هو برنامجنا المستقبلي الطويل.
إن المجلسَ التشريعي والوزارات الحكومية لم تصنع تعاونا تغييريا لمصلحة الأغلبية الشعبية البحرينية.
أين هو الخلل؟ ما هو السر في بقاء الحال على ما هو عليه؟ هذا هو مجالُ البحث الذي يجب أن تتغلغلَ فيه العقولُ بحثاً عن الخللِ وتصعيداً لتعاون هاتين السلطتين وتوسيعاً للحريات ولتطوير مستوى العيش للناس.
اقتصر أغلب مجال السلطة التشريعية على الأسئلة والمقترحات برغبة، وقليل جدا من الاستجوابات، وفي الفضاء الدفاعي عن المناطق المذهبية، أي بما يحركُ بعضَ الهواجس ما قبل الوطنية، ويكتسبُ شرعيةً وتجذرا بين القواعد المذهبية، فتتوجهُ كتلةٌ هنا إلى انتقادات تصب في الدفاعِ عن طائفةٍ في مشكلاتها، وخاصة عن غياب المساواة لها في الوظائف، وهو حقٌ مشروعٌ في الانتقادات وفي الدفاع عن بعض القواعد الشعبية، لكن يعوزه الاهتمام بالدفاع عن قضايا الشعب ككل، فهذه نظرات جزئية قاصرة، فيُفترض بمشرع برلماني أن يتجاوز مثل هذه الجزئيات فهو ليس نائبا طائفيا بل هو مشرعٌ وطني، يمكنه أن يقدم مشروعات قوانين تغير طابع الوظائف في الوزارات ككل بل تغير طابع الحياة السياسية عبر الممكن وبتصعيد ثقافة النضال الوطني المشترك.
هذا شكلٌ من العمل البرلماني الضيق، وعدم قدرة الموجة الأولى من المعارضة المُنتخبة على أن تصعدَ إلى المهمات العامة للتغيير، قد شكله هذا المستوى من القراءاتِ الضيقةِ ومن عدمِ وجودِ ثقافةٍ وطنية وتحصيل قانوني كبير، وضعف مستويات من القراءات الكبيرة في الاقتصاد والشركات الحكومية وقضايا الأجور والوظائف والعمالة الأجنبية وغيرها من القضايا المحورية.
أما التبسيط والتوحيد للجماعات البرلمانية فسوف تجدهما في معارضة اقتصاد الفنادق والحريات السياحية وغيرها من دعائم الاقتصاد الوطني، فقط لكون هذه الجماعات لا تطيق بشكل شخصي مثل هذا الاقتصاد. ويُفترض أن يرتفع البرلماني عما هو ذاتي وديني ضيق ويتغلغل حتى في هذه المؤسسات ويعالج الأخطاء فيها، ولا تكفي هنا عقلية الحلال والحرام، بل عقلية التغيير الوطني ورفع مستوى معيشة الأغلبية الشعبية البحرينية، ولماذا لا يسود أبناء البحرين في هذه المؤسسات؟
كان يُفترض أن تغوص هذه الجماعات في الاقتصاد وترى كيف يحدث التلوث للعمال وكيف يعطون الأجور الهزيلة وكيف تتناقض المؤسسات التعليمية ولا تستطيع أن تقدم العمالة البحرينية التي تسود في الإنتاج.
وأن يحدث الصراع بلغة النضال الوطني العام المسؤول، فنحن لا نهدف إلى التجريح والصدام بل لمعالجة المشكلات والتغلب على الأخطاء، لكن هذا يتطلب اتساع رؤية سياسية.
إن النواب يعتقدون ان الكتل التي لم تحصل على نصيب في مقاعد البرلمان تهدف دائما إلى التجريح والهجوم بغرض إفشالها وعدم حصولها على مقاعد في المجلس القادم.
لكن الأمر ليس هكذا، بل الأمر هو في تطوير هذه الكتل المذهبية السياسية، وفي تقدم رؤاها، ونضج برامجها، فليس الأمر هو إضعاف الكتل التي انتشرت في زمن قانون الدولة، وان الكتل التي هُضم حقها في ذلك الزمن تريد إرجاع مكانتها بأي شكل، الأمر ليس هكذا، بل الأمر هو تقوية العمل الوطني وتطوير الاقتصاد وتصعيد البحرنة من أي جهة يأتي ذلك.
ومن الواضح ان ثمة اختلالات كبيرة في العمل السياسي البرلماني وخاصة من جهة التفكك للقوى البرلمانية وعجزها عن التوحد وإطلاق مشروعات قوانين مهمة جذرية حول بناء الدولة، ووقوفها عند الأسئلة وهو شكلٌ أولي بسيطٌ من العمل السياسي البرلماني، وعدم تجاوزها ذلك يشيرُ إلى المستوى ما قبل الوطني في فكرِها السياسي، أي اقتصارها على التعبير عن الطوائف، والطوائفُ لا تحتاج سوى إلى لهجةِ الشعارات والتسخين ودغدغة المشاعر والدعوى بالاهتمام بشعائرها، والرجوع للمراكز الدينية لسد النقص في المستوى السياسي، والأداء البرلماني، ولكن لا يحدث شيء في قضايا العيش وتغيير الظروف!
ولكن المضمون هو أكبر من ذلك أيضا وهو التعبير عن القضايا العامة لشعب يحتاج إلى السيطرة على موارده وأمواله وعمالته وخريطة بلده فنريد مستوى برلمانيا متوحدا عقلانيا يوجه البلد إلى مستوى جديد من التطور السياسي.
وهو أمر مفتوح للأجيال ولدورات قادمة فلسنا نحن من يقرر كل شيء.

صحيفة اخبار الخليج
5 اغسطس 2010

اقرأ المزيد

المكاسب وإعادة الزخم

أنهى ميثاق العمل الوطني عهدا كانت الناس تساق فيه إلى السجون والمعتقلات بسبب آرائها ومواقفها السياسية، وتتعرض للتعذيب الجسدي والمعنوي، وكانت المنافي تستقبل العشرات من النشطاء السياسيين، أما الحياة النيابية فمعطلة والدستور موجود لكن مع وقف التنفيذ، واحدث الميثاق حالةً من الحراك السياسي والاجتماعي النشط، وتفاعلا غير مسبوق مع القضايا السياسية، وتشكلت الجمعيات السياسية وسواها من مؤسسات المجتمع المدني والنقابات وجمعيات جديدة للنساء والشباب، وشهدت البلاد فعاليات جماهيرية كبرى، وصدرت صحف جديدة، ومن بين هذه التطورات الايجابية يبرز إلغاء قانون ومحكمة أمن الدولة، وعودة الحياة النيابية التي عطلت نحو ثلاثة عقود.
في كلمات نشأ وضع ايجابي عام في البلد، وما أشرنا إليه أعلاه هي مكتسبات يجب الحفاظ عليها والتمسك بها، والعمل الدؤوب دون أي عودة عنها في أية صورة من الصور، وهذا لن يتحقق بصورة تلقائية، وإنما من خلال إعادة الزخم، التي يفترض أن تكون عملية مستمرة، تفضي كل مهمة فيه إلى مهمة تالية، فلا يمكن الركون إلى ما تحقق، على أهميته، فكل مكسب عرضة للتآكل إذا تمت المرواحة عنده، هذا أولاً، وثانياً فان الحراك يجب أن يكون عملية متكاملة تغطي الأوجه المختلفة، إذ لا يمكن له أن يتقدم في وجه من الوجوه طالما كانت آليات نقيضة له تعمل في وجه آخر.
هناك ملفات كبرى مازالت بحاجة إلى حل والى بلوغ توافقات بشأنها بين الدولة وبين القوى الاجتماعية والسياسية المختلفة، ويمكن لذلك أن يتم من خلال القنوات الدستورية القائمة، بما فيها مجلس النواب، لإعادة النظر في العديد من التشريعات والقوانين النافدة، والتي تتضمن في الكثير من أحكامها ما يناقض فكرة الإصلاح وجوهره، فكثير من هذه التشريعات وضع في المرحلة السابقة ولم يعد مقبولاً أن يستمر العمل بها دون إعادة نظر في الوضع الجديد، كما إن أحكام بعض التشريعات التي اقرها المجلس الوطني في الفصلين التشريعيين الماضيين ظلت محملة بروح الحذر في التعاطي مع المجتمع المدني، ولا تؤسس لمناخ الثقة المنشود.
والمكاسب، في أي مجتمع، لن يكون منجزها مستمراً إذا لم يقم على أساس الشراكة مع المجتمع المدني، والبحرين ليست استثناء من هذه القاعدة، لا بل إن الأمر عندنا يكتسب أهمية إضافية بالنظر للتراث الحي والتقاليد الراسخة لمؤسسات مجتمعنا المدني وتبلور الحركة السياسية في البلاد منذ وقت مبكر، لذلك فان العلاقة مع المجتمع المدني يجب أن تبنى على قواعد الثقة والحرص على إشراكه في صوغ القرارات المتصلة بعملية البناء الديمقراطي.
والإصلاح السياسي لن يكون محميا إلا بإصلاح اقتصادي جدي، يجب أن يكون موجها نحو تأمين الحماية الاجتماعية للفئات الكادحة، وتوسيع قاعدة الضمانات والخدمات التي تقدمها الدولة لمواطنيها، لا ترك آليات اقتصاد السوق تنطلق على حساب الشرائح البسيطة لصالح شرائح اجتماعية جديدة، في غياب المعالجات الحقيقية لمشكلة الفقر وما هو على صلة بها من أزمات البطالة والسكن وسوء الخدمات.

صحيفة الايام
5 اغسطس 2010

اقرأ المزيد

هل كان على فيروز أن تأخذ أذناً؟

عليَّ أن أشرح أولاً أنه سبق لي، في عام 2008 على الأرجح، أن كتبت مقالاً في هذا المكان تحت العنوان أعلاه.
مناسبة ذلك المقال كانت الضجة التي أثارها بعض الساسة في لبنان ضد السيدة فيروز لأنها ذهبت لتغني في الشام بمناسبة اختيار دمشق عاصمة للثقافة العربية، وأستخدم هذا العنوان اليوم في مناسبة الضجة الأخيرة المثارة ضد جارة القمر، جارة قلوبنا وأفئدتنا كلنا.
كتبت في حينها أن فيروز أكبر من أن تأتمر بأمر زعيم سياسي، كائناً من كان هذا الزعيم، أو تكون رهينة مزاج قائد ميليشيا يخرج من حرب ويتهيأ لأخرى، ويريد للجميع، بمن فيهم فيروز، أن يكونوا رهن إشارته، تغني وقت يشاء وتكف عن الغناء وقت لا يشاء، تذهب حيث يريد، ولا تذهب حيث لا يريد.
لا شبه بين تلك الضجة وبين الضجة التي أثارها مؤخراً ورثة الراحل الكبير منصور الرحباني ضد أن تقدم السيدة فيروز مسرحية: «يعيش.. يعيش» في كازينو لبنان إلا في وجه واحد هو أن المطلوب في الحالين ألا تغني فيروز، حين تريد أن تغني، تارة قبل أن تأخذ أذناً من ساسة، وتارة قبل أن تأخذ أذناً من ورثة.
ليس شأننا هنا أن ندخل في تفاصيل الجدل المثار حول الجوانب القانونية في الموضوع، فهو أمر لا نفقه فيه ولا نريد أن نفقه أصلاً، فالأمر حين يتصل بفيروز يتجاوز كل هذه الاعتبارات، فهي بالنسبة للبنانيين جميعاً، وبالنسبة للعرب أجمعين، قيمة فنية وإنسانية مطلقة، لا يمكن أن نخضعها لحسابات الربح والخسارة في معناهما المادي المبتذل.
فيروز أيقونة مقدسة مقامها الإجلال وحده، ولو أن الراحل الكبير منصور الرحباني مازال على قيد الحياة ما كان سيرضى لرفيقة مشوارهما الفني هو وأخوه الراحل الكبير أيضاً عاصي الرحباني، أن تنال كل ما تناله الآن من إساءة، بعد رحلتها الفنية المضنية، وهي المعروفة بترفعها عن الصغائر، وبعدها عن بريق الإعلام وتعففها عن خوض معارك هواة الإثارة.
فيروز هي الضلع الثالث في مثلث المدرسة الرحبانية، ولا يستقيم هذا المثلث بدونها، فما كان لموسيقى وكلمات الأخوين رحباني، بكل عبقريتهما التي لا جدال بشأنها، أن تنال الصيت الذي نالته لولا صوت فيروز، العبقري هو الآخر.
ليس هذا هو «التكريم» الذي استحقته فيروز بعد كل هذا العطاء؟
 
صحيفة الايام
4 اغسطس 2010

اقرأ المزيد

وقفة مع مشاريع الاستثمار العقاري.. !!


منذ  انقشاع الطفرة العقارية التي نحمد الله أنها وصلت إلى نهايتها مع بروز الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، والتي فرضت بعدها ضرورة إجراء مراجعات على مجمل توجهات ومشاريع الاستثمار العقارية، حيث توقفت بعض تلك المشاريع لحين انقشاع مسببات ذلك التوقف، في حين توقفت العديد من تلك المشاريع إلى غير رجعة، أقول منذ ذلك الحين والناس تتساءل عن طبيعة  ومستقبل تلك المشاريع العقارية الضخمة بل والأسطورية، والتي أثبتت التجربة أنها لم تكن محل دراسة ،إلا بقدر ما هي سوى شطحات أملتها حاجة رأس المال الأجنبي في إغواء واستنزاف ثرواتنا من دون طائل حقيقي! وأنا هنا أتحدث عن البحرين  على وجه الخصوص، فهل كانت تلك المشاريع التي بدأ  بعضها يعود تدريجيا وإن على استحياء، مستفيدا من حالة الفراغ الاستثماري الموجودة، حيث لا خطط استثمارية واضحة المعالم، ولا إستراتيجيات أو حتى أفق واضح المعالم باتجاه تنويع القاعدة الاقتصادية وتقليل الاعتماد تدريجيا على النفط كمقوم أساسي بل ووحيد تقريبا لإيراداتنا الوطنية، ويظهر ذلك جليا في حجم التباين الذي تفرضه تقلبات أسعار النفط على موازناتنا العامة وخطط الإنفاق العام لدينا.

 نقول ذلك ونحن نشهد تداعيات الطفرة العقارية التي ضربت اقتصاداتنا، كنتيجة طبيعية للفراغ الاستثماري كما أسلفت، وكذلك بسبب ما فرضته أحداث الحادي عشر من سبتمبر من هجرة قسرية للثروات المالية الضخمة الباحثة عن مواقع أكثر استقرارا ولو إلى حين، فالظروف التي نشأت بعد تلك الأحداث المأساوية يمكننا القول أنها خلقت  بدورها واقعا مأساويا في مناطق عديدة من العالم لعل من بين أبرزها منطقتنا الخليجية والعربية على وجه التحديد، والتي كانت ولا زالت تفتقد الخطط والبرامج الاستثمارية، فهي بكل بساطة ساحة استثمارية مشوهة غير واضحة المعالم، نظرا لغياب السياسات والنهج الاستثماري الرصين، الذي لو أن بعض معالمه كانت موجودة لاستطعنا أن نخلق من كل تلك الأموال المهاجرة مواطن استثمار حقيقية قابلة للاستدامة، وان نخلق من خلال تلك الثروات الضخمة القادمة إلينا واقعا مغايرا لما خلقته  لنا من تشوهات مزمنة طيلة السنوات القليلة الماضية، والتي  يبدو أن علينا  أن  نتعايش مع كل ما أحدثته من  خراب وتشوه ودمار لفترة زمنية يبدو أنها ستطول، لأننا ببساطة لا زلنا نعيش واقع التشوه والارتجال.  من بين تلك الانعكاسات ما يمكننا ملاحظته من مشاريع بعضها متوقف وبعضها تمت المباشرة فيه، لكن تابعوا معي أين تقع تلك الاستثمارات وعلى حساب  من أو ماذا؟ إنها مشاريع  تتنافس في حجم ارتفاع أبراجها ومستوى مفاهيم الرفاه المرتبط  بها، ونوعية وطراز البناء المأمول فيها، دون أن نسأل عن مغزى وقيمة ما ستقدمه من قيم مضافة لاقتصاداتنا الوطنية وما ستوظفه لنا من عمالة وطنية، خاصة  إذا علمنا أن كل الدراسات التي أجريت في محيطنا الخليجي والعربي تنبئنا عن حجم مهول من الخريجين الجامعيين والعمالة الأجنبية القادمة لأسواقنا، وهي كلها عوامل ضغط اجتماعية واقتصادية  وأمنية  وسياسية لا يبدو أننا تهيأنا لها  جيدا.  وهنا نتساءل بمشروعية حول ما الذي  يمكنها أن  تقدمه لنا  مشاريع الاستثمار العقاري الضخمة  تلك، حيث يجري الآن التسويق لها مجددا، وكأنها خيار ابدي لا مناص من اللجوء إليه، وباعتبارها عنوان وحيد لنهوض أسواقنا من جديد، دون أن نمعن التفكير في ضرورة وأهمية تحجيم تلك المشاريع والاتجاه بعيدا عنها، لنجرب عوضا عنها قنوات استثمارية أكثر جدوى وإبداع، مثل مشاريع الاقتصاد المعرفي، والاستثمارات والصناعات المتوافقة معنا بيئيا، والصناعات الصغيرة  والمتوسطة ذات القيمة المضافة العالية، والصناعات التكنولوجية صديقة البيئة، فهي استثمارات بحسب  بطبيعتها لا تتطلب أراض شاسعة كتلك التي تحتاجها الصناعات الضخمة ولا حتى رؤؤس أموال كبيرة جدا أحيانا،  على أن الجانب المهمل في كل ما يجري بكل أسف، هو أننا في الوقت الذي نتعذر بعدم وجود أراضٍ كافية  للمشاريع الصناعية الصغير والمتوسطة، إلا أننا  في المقابل نخلق عنوة وبقسوة غير مقبولة مساحات شاسعة تمتد لعشرات بل ومئات الكيلومترات في أعماق بحرنا، هي عبارة عن مشاريع دفان بحري بدأت منذ سنوات معدودة لكنها نجحت بامتياز وبعناد وعدم رحمة في تطويق مدننا وسواحلنا على قلتها، وعاثت تدميرا في بحرنا  وبيئتنا البكر، وتكفي زيارة خاطفة لبعض مشاريع الدفان البحري تلك، كتلك التي اصطحبنا إليها مؤخرا مشكورين أعضاء التكتل البيئي، لتشعرنا بالأسى عن حجم الدمار المهول التي أحدثته، لنكتشف معا حجم الخسران وفداحة المصيبة التي ألمت ببحرنا وقبلها بشواطئنا، حيث يجري الآن وسط حسرة البحارة والناس تدمير فشوت ومصائد الأسماك وإزالة حظور الصيد  بالعشرات بوعد إقامة بدائل صناعية باهظة التكاليف بطبيعتها، لتكتفي الجهات الرسمية بتعويض أصحابها بمبالغ زهيدة، تبقى عنوانا ومؤشرا فاضحا على الكيفية التي  أصبحنا نتعامل فيها مع ثرواتنا ومستقبل أجيالنا، وحقهم كما هو حقنا في بيئة بحرية نظيفة وشواطىء  تصلح للاستهلاك الآدمي.. كل ذلك يجري تحت يافطات الاستثمار وجلب المستثمرين؟!

إنها دعوة لاستعادة العقل والتفكير في البدائل الاستثمارية أمام سطوة رأس المال وجشع الضمائر.         

اقرأ المزيد

الوعي السياسي للناخبين.. كيف سيكون؟ (1)

كان وعي الناخبين في اوائل سبعينيات القرن الماضي، وتحديدا عشية اول انتخابات برلمانية حرة في تاريخ البلاد على درجة كبيرة من النضج السياسي والوعي الانتخابي لمصالحهم، وهذا يعود بالدرجة الاولى إلى فضل القوى السياسية الفاعلة على الساحة السياسية حينذاك وعلى رأسها القوى اليسارية والقومية، وحيث لم تكن قوى الاسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني والمعروفة بتوجهاتها التشطيرية الطائفية ذات وزن على الساحة السياسية، فهذا الوزن لم يبدأ بالتنامي الا في اعقاب الثورة الخمينية عام 1979 حتى بلغ ذروته على النحو الذي نشهده الآن مستفيدا في ذلك بانحسار قوة ونفوذ القوى اليسارية والقومية وبخاصة في اعقاب الضربات المتلاحقة التي واجهتها منذ حل برلمان .1973
وبفضل ذينك النضج والوعي السياسي اللذين تميز بهما ناخبو برلمان 1973 نجح – كما نعلم -بعض المرشحين في دوائر لا ينتمي ناخبوها الى ذات المذهب الذي ينتمون اليه.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: كيف وهو وعي الناخبين في مختلف الدوائر الانتخابية بعد مرور عقد واحد على خوضهم تجربتين انتخابيتين برلمانيتين (انتخابات 2002، وانتخابات 2006)؟
وكما نعلم فإن الوعي الديني ذا المنحى الطائفي هو الذي حدد في الغالب موقف وتوجه الناخب لانتخاب مرشحه المفضل خلال دورتين انتخابيتين.. فهل سيكون هذا الوعي ذاته هو الذي سيفرض سلوك الناخب وتوجهه خلال عملية التصويت في مراكز الاقتراع اثناء الانتخابات المقبلة الوشيكة؟
للأسف فإنه بالرغم من مرور نحو عشر سنوات على استئناف الحياة البرلمانية وخوض الناخبين تجربتين انتخابيتين فإن وعيهم السياسي – بغالبيتهم العظمى – مازال وعيا دينيا مذهبيا تتحكم فيه وتشكله القوى الدينية السياسية، هذا على الرغم مما انكشف للناخبين خلال تينك الدورتين الماضيتين من ضعف اداء غالبية النواب الذين وصلوا الى كراسي المجلس النيابي بناء على التحشيدات والاصطفافات المذهبية خلال الحملات الانتخابية لكلتا الدورتين الانتخابيتين الماضيتين في عام 2002 وعام .2006
وبالتالي فعلى الرغم من مرور 30 عام منذ بداية تنامي صعود مد الاسلام السياسي مازال وعي الغالبية العظمى هو وعي ديني طائفي سياسيا، وحينما يكون الوعي الانتخابي السائد في صفوف الناخبين هو في الغالب وعي ديني طائفي، وحينما يكون هذا الوعي سهلا للانقياد خلف الشعارات والتحشيدات الدينية والمذهبية، وحينما تكون تعبئتهم وغسل ادمغتهم سهلين على اساس الايمان والدين وتوظيف سلاح التكفير تجاه المرشحين الوطنيين الآخرين.. فمعنى ذلك ان المعركة الانتخابية بين مرشحي الاسلام السياسي ومرشحي القوى الوطنية والليبرالية عامة لن تكون متكافئة لتخاض مثلا على اساس التنافس بين البرامج الانتخابية واستقامة المرشح وكفاءته السياسية، فمن البديهي ان ميزان القوى سيميل بقوة لصالح مرشحي قوى الاسلام السياسي المذهبي، فلن يستطيع مرشحو القوى الوطنية والليبرالية مجاراة منافسيهم من مرشحي جمعيات الاسلام السياسي في معركة سلاحهم لكسب افئدة وعقول الناخبين هو إشهار سلاح التكفير او الايمان ودغدغة مشاعر بسطاء الناخبين الدينية ولاسيما في اوساط النساء اللاتي يتم احضارهن بعشرات الالوف بالباصات في يوم الانتخابات الى مراكز الانتخابات ولا تتخلف واحدة منهن عن التصويت للمرشح الذي تم تلقينها بأهمية التصويت له كواجب ديني مقدس وحيث المشايخ والعلماء ورثة الانبياء يأمرون بالتصويت له كمرشح مؤمن تقي.
لكن هل معنى كل ذلك ان يستسلم مرشحو القوى الليبرالية لهذا الوضع المعقد بكل سهولة؟
ان مرشحي القوى الوطنية عليهم ان يعلموا ان المعركة الانتخابية التي سيخوضونها ليست سهلة وهي ليست معركة من اجل الفوز ببضعة كراسي في المجلس النيابي فحسب، بل هي معركة من اجل احداث ثغرة ولو صغيرة في تغيير وعي الناخبين وتقويض بنية معمار الوعي الديني الطائفي المزمنة فإذا ما استطاعوا ببرامجهم وبشعاراتهم المبسطة التي تلامس مباشرة هواجس الناخبين ومصالحهم وآمالهم وهمومهم ان يحدثوا مثل هذه الثغرة وان يكسبوا قطاعا ولو محدودا من المضللين بالوعي الديني الطائفي فإن ذلك ليعد مكسبا تاريخيا اعظم من مجرد كسب كرسي او كرسيين في مجلس النواب، لأن مثل هذا التغيير مهما يكن نسبيا سيكون بداية يمكن البناء عليها ومراكمتها تدريجيا نحو تحرير اوسع قطاع من الطبقات الشعبية وبسطاء الناس من اسر الوعي الديني والطائفي الذي لطالما جاء على حساب مصالحهم الحقيقية مهما تسترت القوى الطائفية بالشعارات المطلبية السياسية البراقة والوعود المجانية لتغيير حال الجماهير الى الافضل والمطالبة بحقوقها الاقتصادية والاجتماعية الآنية.
ويمكن القول إن ثمة ما يلوح في الافق بوجود بوادر أولية من التملل الجماهيري لدى عامة الناخبين على اختلاف انتماءاتهم الطائفية من اجترار التحشيدات المذهبية الموسمية الانتخابية التي تعكس افلاس الجمعيات السياسية الدينية الذين زجتهم لانتخاب مرشحيها بناء على تلك التحشيدات المفتتة للنسيج الاجتماعي الوطني، وعلى سبيل المثال لا الحصر ففي احد المجالس الشعبية لقرية مقابة تم توجيه اصابع الاتهام صراحة الى “الوفاق” كجمعية طائفية، كما تم نقدها لحشدها كثرة من المعممين ضمن مرشحيها (انظر الوسط – 30/7/2010).
 
صحيفة اخبار الخليج
3 اغسطس 2010

اقرأ المزيد