المنشور

ظواهر طلابية

لاحظ الملكُ الأردني الراحلُ، الملكُ حسين شيئاً غريباً متناقضاً يبعث على حيرته وأسفه فقال: إنني كلما بعثتُ طلبةً للمعسكر الشرقي عادوا إليّ مرنين مطيعين، وكلما أرسلتُ طلبةً للمعسكر الرأسمالي عادوا إليّ متصلبين مناضلين.
بطبيعة الحال لم يقرأ الملكُ الراحلُ إشكاليات التطور التاريخية، وهو رجلٌ نافذ البصيرة، دقيق الملاحظة، فما بالنا بالراصد التسجيلي البسيط؟
لم يقرأ الملكُ الإشكاليةَ العميقةَ فيما أسماه المعسكر الشرقي وحتى كذلك الدول العربية الوطنية و(التقدمية)، فهو ليس معسكراً اشتراكياً، هو أنظمةٌ رأسمالية عامة، غابتْ منها الحرياتُ والمراقبةُ الشعبية والصحافةُ الحرة الناقدة، وخضع لأدلجةٍ متضادة، فيها نضالٌ كبير مؤسس وفيها هيمنة شديدة، وفيها انتهازية واستثمار للجو في المكاسب الذاتية، وقد أوجد هذا التضادُ طلبةً في حالاتٍ عديدة مختلفة، بين الاستمرارِ في صلابتِهم الوطنية التي جاءوا بها وكرسوا أنفسهم للتطور في الدراسة، وبين التضحية الكبيرة كما كان يفعل الطلبةُ الفيتناميون الذين يتبرعون بجزءٍ من مخصصاتِهم لبلدهم الذي يجابهُ هجمةً استعمارية شرسة.
العديد من خريجي هذه الدول أحضر شهادات ومعرفة كبيرة، وواجه مشكلات خطيرة في دوائر الشرطة التي اعتبرتهم عناصر خطرة ومناضلين رهيبين، بينما هم طلبة فقراء وجدوا فرصةً للدراسةِ المجانية في تلك الدول، والبعض الذي يخاف منهم يتبرأ تبرؤاً كبيراً من هذا الانتماء المزعوم ويعترف ويكتب الكثير بتزوير أو بمحاولة لرشوة الشرطة والتعاون معها.
أما المناضلون الحقيقيون فيعانون كثيراً تسلط هذه الأدوات العنيفة ضدهم، التي تحاول تحطيمهم بأي شكل، وثمة أناس يتحطمون، وثمة أناس قليلون يقاومون إلى درجة رهيبة حتى الاستشهاد.
إن الأغلبيةَ طلبة عاديون جرتْ بهم الظروفُ في الحرب الباردة، وكانوا على المسرح المضاء بلافتات النضال المُبهرة، والعديد من الجمهور العادي ينبهرُ بهم ويرفعهم لمقام الأولياء، لكن التاريخ يكشف انهم أناسٌ عاديون مثل غيرهم من الطلبة لكن تسلطتْ عليهم في بلد الدراسة الايديولوجية الشعارية الصارخة، وتسلطت عليهم في بلدانهم الأصلية القبضاتُ الحديدية.
والتناقض في هذا ان البلدان (الاشتراكية والقومية التقدمية) أعطتهم فرصاً ذهبية ومعيشةً جيدة، فاسترخى البعضُ وظهرتْ إغراءاتٌ كبيرةٌ من اللهو والعلاقة بالدول، فحدثت أنانياتٌ وانتفاخات وتزييفات، مضادة للروح النضالية المطلوبة، في حين ان البلدانَ الرأسمالية التي استقبلتْ الطلبةَ العاديين غيرَ الرسميين لم تكرسْ نمطاً طلابياً سياسياً أو تميزه عن غيره، وواجه حقيقةَ الرأسمالية العارية الصلدة، بما فيها من استغلال بشع ومساواة كذلك ليس فيها أثرة أو تميز، وبما فيها من حرياتِ القولِ والتظاهر والنقد للمؤسسات الحاكمة وللجامعة وللسلطات والبرامج وهذا ليس هو المناخ في المعسكر الآخر.
وذلك القادمُ من البلدان (الاشتراكية والقومية التقدمية) اكتسبَ خوفاً من بلدانهِ العائد إليها وطمعاً في التسلق إلى مراتبها العليا كما شعر أثناء دراسته، وعاش ظروفاً انعكس فيها فسادُ تلك البلدان الشرقية عليه وبغيابِ الحريات والنقد فيها، فتناقضتْ الاراءُ والنفسيات وتشوه البعضُ منها، وظهرت الطبائعُ الحقيقية بعيداً عن الأدلجة المؤقتة، وتمددتْ بين صلابةٍ نادرة ورخاوةٍ منتشرة واسعة، وجاءت مطارقُ الدولِ التي ينتمي إليها بين الترهيب والترغيب، فلم تصمد إلا القلة، ولهذا يصدمُ البعضُ لهذا التناقض بين خريجي الكتلتين العالميتين المتصارعتين وقتذاك، وكأن العائدَ من الدول الاشتراكية ينبغي أن يكون جيفارا والعكس صحيح، وذلك بسبب الدعايات والمؤثرات الايديولوجية، ولا يُنظرُ للواقع الحقيقي، فهؤلاء طلبة عاديون تعرضوا لحالةٍ باردة عسلية ظنوها أبدية، ثم تعرضوا لحالةٍ نارية كاسحة، ففصلتْ الحَب عن القشور.
ولهذا كله وجدَ بعض خريجي الدولِ الرأسمالية أنفسهم يناضلون حقيقةً ضد الرأسمالية وهم الذين كانوا لا يخافون من العودة لبلدانهم، ويعملون بشكل قانوني للوصول إلى ظروفٍ أفضل، بينما وجدَ بعضُ خريجي الدولِ (الاشتراكية والقومية والتقدمية العربية) أنفسهم يناضلون من أجل الرأسمالية الخالصة وأحياناً بشعاراتٍ اشتراكية!
صار العديد من كوادر الدول الاستغلالية والتابعة من خريجي بلدان النضال السابقة، ولم تعطِ هذه الفترة نضالاتٌ عميقةٌ خاصة في الوعي والنتاجات الفكرية إلا فيما ندر وقد كتبها خاصة مناضلون في السجون وفي الخلايا الصامدة في الأزقة، أي أناسٌ عاشوا على اللظى وفي قلبِ المعاناة الشعبية والتضحية.

صحيفة اخبار الخليج
12 اغسطس 2010

اقرأ المزيد

المجلس السابق والمجلس الأسبق


منذ أربعة أعوام، غداة الانتخابات النيابية والبلدية السابقة تحدثنا في هذا المكان عن تجربة مجلس النواب خلال الفصل التشريعي الأسبق، لننطلق من هذا التقييم في رسم الآمال من المجلس القادم، الذي أصبح بدوره سابقاً اليوم، ونحن في انتظار المجلس الجديد الذي ستتضح صورته النهائية بعد نحو شهرين أو ثلاثة من اليوم.

أذكر التقييم السلبي الذي قدمناه حينها لأداء المجلس الأسبق، تمييزاً له عن السابق، الذي جاء في الكثير من أوجهه مخيبا للآمال، بحيث أن المجلس الذي كان يفترض فيه أن يكون رقيباً ومُحاسبا للسلطة التنفيذية على أدائها، كما يليق بأي سلطة تشريعية ورقابية منتخبة أن تفعل، مرر العديد من التشريعات التي مست من جوهر الحريات، ألا أننا سعينا للقول أن علينا البحث في الظروف المعقدة التي أحاطت بعمل المجلس، في ظل ما بتنا نعرفه ونكرره عن الحاجة لتوسيع الصلاحيات المتاحة لسلطتنا التشريعية.

كما سعينا للقول إن المجلس الأول عانى من التركيبة غير الملائمة بسبب إفرازات عملية المقاطعة في أول انتخابات التي حرمت قطاعات شعبية واسعة من أن توصل ممثلين لها للمجلس، وهي خدمة مجانية قدمت للسلطة التنفيذية، لذلك فإن الكثير مما كانت السلطة التنفيذية ترغب فيه قد تم لها بسهولة ويسر.

صرف الأعضاء الكثير من الوقت في مناقشات عقيمة، فكان يكفي لقصف على الفلوجة أو انفجار في النجف في العراق أن يشعلا أتون جدل، لا بل ومواجهة طائفية ومذهبية، ينشغل بها النواب لأسابيع عن أداء ما هو ملقى على عاتقهم من مهام في التشريع والرقابة، وكان يمكن لحفلة غنائية لمطربة أن تحتل صدارة الأحداث في البلد، لأن مجلس النواب قرر أن يجعل من منعها قضيته المركزية، فلا يعود بوسعنا رؤية القضايا الكبرى التي تمس مصالح الناس وتتصل بجوهر عملية البناء الديمقراطي التي يجب على النواب أن يكون دعاة لها وعاملين من أجلها.

وقتها، منذ أربع سنوات، في مناخ مشابه لمناخ اليوم حيث الاستعدادات على أشدها للانتخابات الوشيكة القادمة، آملنا أن يكون المجلس الثاني أحسن حالاً من سابقه، خاصة بعد أن تأمنت مشاركة جزء رئيسي من المعارضة فيه، وليست هذه العجالة مكان تقييم أداء المجلس الذي انتهت ولايته تواً، ولكن ما يمكن قوله، انه بصرف النظر عن أهمية بعض الملفات التي طرحها نواب المجلس الأخير، ولعل في مقدمتها ملف أملاك الدولة.
إلا أن المجلس أخفق في الأمر الأساس وهو أن يشكل بديلاً لسابقه في تجاوز حالة الانقسام الطائفي التي طغت على الغالب الأعم من طريقة تناوله للملفات، ولم يستطع النواب أن يشكلوا رافعة استنهاضية للوحدة الوطنية، بل على العكس أدت شجاراتهم إلى تسميم الشارع بالمزيد من أهواء الفرقة والانقسام.

وبتجرد موضوعي نقول إن وجود كتلة النواب الديمقراطيين على قلة أعضائها في المجلس الأول، وهي الكتلة الوحيدة المختلطة التي لم تقتصر على لون مذهبي بعينه، أعطت مثالاً طيباً على روح التعاطي الوطني مع أشد الملفات تعقيداً، دون أن يجرؤ أحد على الزعم بأن هذه الملفات تخص طائفة بعينها، وهذا أمر سنعود لطرقه في حديث لاحق.
 
صحيفة الايام
12 اغسطس 2010

اقرأ المزيد

تاجرُ الورقِ المفلس

كانت الثقافةُ هي السائدة، المنتجون في البحر يغنون، المزارعون يحتفلون ويدقون الحَب ويطلقون الرقص، ثم صارت الثقافةُ أشرطةً تجري محترقةً لتسجيلِ تراث يغرقُ تحت الماء، ودوراً تُباع وتصير مطاعم وغرفاً.
انتشرت المكتباتُ في زمنِ بدءِ الحداثة، والجمهورُ يحتشدُ لتسلم الجرائد والمجلات، الوهجُ السياسي الوطني يتعانقُ مع الورق، وفروع المكتبات تُفتح، وقراءة الكتب علامة المثقف.
ارتبطت الثقافة بالوطن والتغيير، بموجات الحداثة في العالم، بأسماء شوامخ، بمفاتيح تُظهرُ كنوزاً ومعارف.
بدت العقلانيةُ قادرةً على حل المشكلات الاجتماعية، وبدا الناس يرون المستقبلَ بأملٍ في تغييرِ الحُجر الضيقة، والحقول التي تموت، والمستشفيات التي لا تعالج، والحرية الوطنية صارت حلماً قريب المنال.
هنا كان المبدعُ زهرةَ المرحلة، صوتَ الغواصين، لغةَ الريفيين الحالمين بمزرعةٍ ذات محاصيل، رغم انه لم يظهرْ في التلفزيون، ولم يُكرم في غرفةِ الإذاعة، لكنه كان يُحمل في قلوب الناس، وتتهافت الإيدي لورقه.
انطلقتْ الأموالُ بقوةٍ فيما بعد، في الحقول وقتل النخيل، في التهامِ البحر والمصائد والجزر، في بيعِ الكلام المقدس، في بيعِ الكائنات الصغيرة في الداخل والخارج، في نشرِ الإيدي العاملة العظمية وإسكانها في البيوت القديمة والأزقة الرثة وبيوت التراث، وتحولت المدن العتيقة إلى دورِ أشباحٍ أو أبراج بابل، أو مخازن خرافية لمالٍ هائل لا يصلُ إلى أقربِ حارة، ولا يغذي أقرب سمكة بل راحتْ الأسماكُ تحتج وتهرب.
لم يعدْ الإنسانُ جميلاً، لم يعد يرى وجهَهُ الذي حملَ صورةَ بضاعةٍ، حذاءً مرةً وسوطاً مرةً أخرى.
الإنسانُ الأجير المسكين، بائعُ العظمِ والكلمة والورق واللوحات، يمشي في السوق محني الظهر من ثقل السنين وكساد التجارة الثقافية.
لايزال المجنونُ يحلمُ بالوطن الجميل، بمصائد لا تخترقها السفن الحديدية، بشواطئ تطلقُ الأكسجين، بضمائر يقظة، وبقارئ حميم مستمر.
مكتباتهُ الوفيرةُ تقلصتْ، تحولتْ إلى مشروعاتٍ تجارية استهلاكية مهلكةٍ ناجحة، وكل شهر تتغير، وتصيرُ متاجرَ أخرى مفلسةً هي الأخرى، والأموالُ تذهبُ لفوق، للبنايات العالية، لكن مكتبات الورق انحصرتْ وذابت، ولحسن الحظ جاءَ قراءٌ من بلدان أخرى لاتزال فيهم رائحةُ الحياة، ومتعةُ البصر، وجمرة الفكر، جعلوا هذه المكتبات القليلة الباقية تتنفس تحت العناية المركزة.
لم يعدْ منتجُ الكلامِ الجميل، والخطِ الأنيق، والصورِ الذهبية الحارقة، قادراً على إطعامِ عائلته، من الحروفِ والكلماتِ والبشرِ، إنه يعرضُها في السوق، يمرُ كثيرون جداً لا ينطقون لغته، وكثيرون لا يفهمون لغته، وكثيرون يكرهون لغته.
(اخوتي اشتروا هذه اللوحات، لقد اشتغلت فيها عشر سنوات، لقد صبغتها بدمي، لقد غذيتها بأحلامي وشراييني).
(اخوتي اشتروا كتبي المستعملةَ هذه، لقد عشتُ سنواتٍ طويلةً وأنا أجمعُها، إنها كتبٌ ثمينة، هذه آخرُ ما أملكُ من الزمن الجميل، اشتروها لأشتري الخبزَ لأطفالي، لأسددَ الإيجارات المتراكمة، لأشتري الألوان لعالمي).
من بقي يغني؟ هل بحتْ أصواتُهم أم انقطعتْ أوتارُ حناجرهم؟
هل رحلتْ الإذاعةُ عنهم أم أن شركات الأغاني والكاستات تريدُ أثماناً باهظةً للتجارة في كلماتِهم وعروقهم؟
لماذا لا يطبع المؤلفون؟ هل تراكضوا لبناءِ البيوتِ الغالية أم تكدستْ كتبُهم في بيوتِهم وعزفتْ الوزارات والمكتبات عن شراءِ نسخٍ منها؟
ما بالهم لا يطبعون أم (طبعوا) في بحرِ الديون والافلاس والرواتب الهزيلة؟
هل بقي أحدٌ من دور الغناء القديمة أم أن المطربين والنهامين رحلوا وتواروا في عالم الغيب والشهادة؟
أين القراء؟ هل باتوا يقرأون أم يغيبون وعيَهم في الدخان وملء الأجساد بالسُكرِ والقهرِ؟
أين القوم المحبون للكلمة والورق والكتاب؟ هل انقرضوا؟!

صحيفة اخبار الخليج
11 اغسطس 2010

اقرأ المزيد

لا تعدوا الناس بالمن والسلوى!

القارئ للأحاديث الانتخابية المفعمة بالوعود التي تكاد الأرض تهتز من ثقلها، يحسب أن بعض المترشحين، فيما لو قدر لهم الوصول إلى المجلس النيابي، سيقلبون الأرض عاليها سافلها، ولا ينجو بعض مترشحي المعارضة من هذا الداء، الذين يبالغون في إزجاء الوعود للناخبين، ويكادون يغفلون عن التعقيدات الكثيرة في آليات عمل المجلس المنتخب التي كانت محط انتقادهم خلال السنوات الماضية المنصرمة من عمر الحياة النيابية.
لاشك أننا نتفهم إننا في حملة انتخابية، ونتفهم كذلك حاجة المترشحين إلى مخاطبة الناخبين بالبرامج والشعارات الجذابة التي يمكن أن تدفع هؤلاء الناخبين للتصويت لهم، ولكن من الضروري أن ننبه إلى مخاطر زرع الأوهام في أذهان الناس، وان ندعو الناس إلى عدم الانسياق وراء هذه الأوهام، لكي لا ينصدموا بعد حين لن يطول حين يجدون من استوى إلى مقاعد المجلس أعجز من أن ينفذ شيئا من الذي وعد به في حملته الانتخابية.
على الناخب أن يثق أكثر في المترشح الذي يقول له إن المجلس القادم بحاجة لمترشحين أكفاء يدركون صعوبات وتعقيدات العمل البرلماني، ويقولون هذا بوضوح للناخب، ويوضحون له أكثر أن وجودهم في هذا المجلس سيكون عاملاً مساعداً في السعي للتغلب على هذه الصعوبات، ومهمتنا اليوم تبرز في التأكيد على معيار الكفاءة والانحياز الوطني في اختيار من يجب أن يمثلنا في المجلس القادم.
في كلمات أخرى، علينا أن نثق أكثر في المترشح المفعم بروح المسؤولية بحيث يكون صادقاً مع أبناء دائرته في تبيان الحدود التي بوسعه التحرك فيها، لا ذلك المترشح الذي يحسب أنه كلما أكثر من الوعود صدقته الناس فيروح يبالغ فيها، دون التبصر في حقيقة أن الكثير من هذه الوعود غير ممكن من الناحية العملية.
نريد نواباً أقوياء من أصحاب الكفاءات الذين يفهمون في الاقتصاد وفي أمور الميزانية، نريد نوابا محامين وقانونيين، نريد نوابا هم في الآن ذاته قادة سياسيون عرفوا بإخلاصهم للوطن وتفانيهم في العمل من أجل سعادة شعب البحرين وحريته.
ولأننا ابتلينا في السنوات الماضية بمجلس تحول إلى عامل فرقة طائفية وأداة تباعد بين مكونات المجتمع، بدل أن يكونوا جسراً واصلاً بين هذه المكونات، فان الحاجة اليوم باتت أكثر نضوجاً إلى نواب يجسدون في الوعي وفي السلوك روح الوحدة الوطنية، بأن يكونوا دعاة جادين لها وعاملين مخلصين في سبيلها.
مثل هؤلاء النواب الأقوياء لا يُمنون الناس بالمن والسلوى وليسوا في حاجة إلى إزجاء الوعود الفارغة ولا إلى تقديم رشاوى المال السياسي للناخبين، ولا إلى أن يمنحوا أنفسهم صفة الواعظ الذي يكفر من يشاء لأنه يختلف معه في الموقفين السياسي والاجتماعي، وهؤلاء النواب بالذات هم من يعلم الناخبين أن النجاحات تتحقق بالتكامل بين العمل البرلماني والعمل الجماهيري، لأن نشاط النواب وحده بدون سند ودعم شعبيين لن يكون فعالاً.
 
صحيفة الايام
11 اغسطس 2010

اقرأ المزيد

معارضتنا الوطنية وتساؤلات الناس!!

كقوى وطنية تتحمل مسؤولياتها بأمانة وتحترم تاريخها الناجز وتتمسك بثوابتها بصدق، أين تكمن مسؤولياتنا في انتزاع دورنا الذي يراد له أن يكون مصادرا وغائبا على الدوام حتى تستكمل القوى المهيمنة بسطوتها وفوقيتها مشروعها المضاد لحركة التاريخ والزمن، بل كيف لنا أن نحافظ بهكذا حال وتمزق على مكتسباتنا الحضارية وتاريخنا الوطني، والتصدي لمهام عملنا الوطني بثبات وقدرة لا تهزها أو تغويها دعاوى التخوين الرائجة والسهلة هذه الأيام؟! وهل باستطاعتنا أن نبقي للناس أملا بغد أفضل ومعارضة مسؤولة تعرف أدوارها وتتعاطى بحنكة ودراية مع متغيرات المشهد وتقلبات الأمزجة؟ وهل فات الوقت فعلا حتى نستطيع أن نصغي لبعضنا كقوى وطنية معارضة، عليها أن تتحمل تبعات قراراتها المصيرية في فترات التحول السياسي المشحونة بالتحديات والمصاعب، أم علينا أن نجد ضالتنا في حكمة مفتقدة لازلنا نراهن على تأصلها في إخلاص ورشد المعارضين من الساسة والنخب حتى نُبقي للعمل المعارض المسؤول زخمه وألقه المفتقد في ظل ما تموج به الساحة من تشوهات وزيف وخواء؟!
تلك أسئلة تترى لازالت تشغل حيزا مهما من فكر وهواجس المخلصين ممن يرون حتمية بلوغ قناعات لازالت مشتتة ومتباعدة بفعل عوادي الزمن «الأغبر» الذي بات يلح علينا بالعودة مجددا إلى حيث يحتاجنا الوطن وينشدنا الناس رغم جبل المصاعب من حولنا. وكقوى وطنية تمتلك إرثا نضاليا وتجارب غنية يفتقدها من يتصدرون المشهد وتجلياته، هل باستطاعتنا أن نمتلك الحكمة ونتعلم من قدرة أولئك الرجال الأفذاذ عندما طوعوها في أزمنة ملآى بالخوف والقلق والظلمة لصالح الناس والوطن؟! أم علينا أن نساير طبائع الغرور والتيه والدوران إلى ما لا نهاية في شراك التوجس المصطنع واستنطاق الماضي وأمراضه حتى الثمالة، والخوف من الآخر واصطناع الضغائن واختلاق دوافع للتنافر تغنينا عن أي عمل حقيقي ينتظره الناس من قبل قواها الحية القادرة وحدها على أن تعيد للمشهد حضوره وللزمن نضارته وان تكتب سطرا جديدا بعد أن توقف الزمن وتجمد الفكر وانتفت ضروراته، وضاعت الرؤية وتفتت قوى كانت قادرة أن تكون وعاء حاضنا للجميع دون نوازع طائفية أو اقصائية، لتذبل معها بذور أمل سقيناها معا بتعب السنين وبرودة المنافي وضنك العيش وعذابات السجون!
ترى هل من أمل لنا في أن نُبقي جسدنا المعارض منسجما بعض الشيء في ظل ما تبقى لنا من خيارات في مواجهة حجم التحديات المعاشة والمتوقع تفاقمها خلال الشهور والسنوات القادمة؟! وهل علينا أن نعي أننا وقد بتنا الحصن الأخير للدفاع عن المكتسبات، فان مسؤولياتنا حتما ستتعاظم وعلينا بالتالي أن نبتدع الحلول ونقدم البدائل القادرة على النأي بشعبنا بعيدا عن نزعات الفرقة والتشرذم والانقسام؟ وأين تكمن مسؤوليتنا كقوى وطنية وديمقراطية وأين تتماهى معها أو تبرز مسؤولية الشارع والنخب من كل ما يجري؟ باختصار كيف لنا أن نصوغ معا وعيا مغايرا ينحو باتجاه الوطن وقضايا الناس بعيدا عن تمايزات الطوائف وزعاماتها؟
وثمة سؤال آخر يزاحم ما سبقه من تساؤلات.. أليس أجدى وأكثر نفعا لقوانا السياسية المعارضة أن لا تدير ظهرها باستمرار إلى شارعها ومناشداته المستمرة في الالتحام ووضوح الهدف والتوجهات؟ خاصة وهو يتابع بمرارة ضياع العديد من المكتسبات، علاوة على إهمال الكثير من الملفات، فالأراضي والبحار والأملاك والمال العام وقضايا الإسكان والقضايا الحقوقية والمعيشية الأخرى، باتت جميعها تحتاج منا إلى وقفة، بل الى وقفات لا تقبل التوظيف الخاطئ أو ابتسار الحلول، وهناك قضايا البيئة والشواطئ والبحار والثروات المضّيعة، فإنها تستصرخنا العودة إلى المنطق والدفاع بشجاعة ومسؤولية دون التفريط في المكتسبات، التي عجزت عدمية الكتل المتصارعة عن إدارتها، وما زاد عجزها عجزاً هو تلك الانقسامات المجتمعية التي نجح أمراء الطوائف في تلويث عقدنا ونسيجنا الاجتماعي بها وهي مرشحة للاستمرار لسنوات أربع قادمة فنخسر ما لدينا من مكتسبات.
تلك، وغيرها تساؤلات تطرحها مجالسنا وتجمعاتنا وندواتنا، وأبناء شعبنا مجاميع وأفراد، نخب وعامة الناس في البحرين من أقصاها إلى أقصاها لكنها تبقى في انتظار مرير للإجابة عليها، رغم أنها لا تحتمل التأجيل أكثر مما هي مؤجلة، في ظل هذا الجو المشحون بالكراهية والطائفية ومصادرة عقول الناس وإراداتهم، دون التمعن ولو قليلا في الماضي وتحقيق قراءة حكيمة للقادم من الأيام بدلا من استسهال التفرد في القرار ومسايرة الغرور ونوازع الاستحواذ إلى حيث يكمن السقوط.
 
صحيفة الايام
11 اغسطس 2010

اقرأ المزيد

يحدث هذا في عز الأزمة

في المقالين السابقين حدثتكم مرة عن بيل غيتس، مدير شركة مايكروسوفت كأحد أهم أعضاء نادي بلدربيرغ – وهي الجماعة التي تقف خلف ما يسمى بـ «الحكومة العالمية» وتسعى إلى تسيير أحداث العالم من وراء ستار، وأخرى عن وارن بافيت، رئيس شركة Berkshire Hathaway الاستثمارية المالية الكبرى – كأحد أهم المسئولين عن مبالغات شركة Mody»s في تصنيف عشرات الآلاف من الشركات على غير حقيقتها قبل انفجار الأزمة المالية العالمية.
اليوم سنعود إلى هذين الشخصين من واقع آخر، يعكس غرابة ما يدور في النظام الاقتصادي العالمي، بل ونظام القيم الإنسانية القائم والعصي على الفهم.
خلال العام الماضي أجرى بافيت وغيتس وزوجته عددا كبيرا من اللقاءات مع مليارديريين أميركيين بهدف اجتذابهما للمشاركة في مبادرة اعتبرت بـ «الإنسانية»، أطلق عليها «عهد العطاء» (Giving Pledge). تقضي هذه المبادرة بأن يلزم كل من مشاركيها بالتبرع بما لا يقل عن نصف ثروته للعمل الخيري. وقد وقع على هذه المبادرة حوالي40 مليارديرا أميركيا. وكان من بين الموقعين عليها المخرج السينمائي جورج لوكاس ومحافظ نيويورك مايكل بلومبرغ.
وقد بدأت الحملة الحالية لاجتذاب مساهمين جدد منذ شهر يونيو/ حزيران الماضي عندما أطلق وارن بافيت نداء بهذا الصدد: «لقد باشرنا هذا العمل للتو، وها نحن نجد تجاوبا يفوق التوقعات». وحسب بافيت أيضا فإن «عهد العطاء» يعطي الإمكانية للعائلات الغنية الأميركية لتهتدي إلى طريقة مثلى للتصرف بثرواتها.
وتعتبر هذه المبادرة مواصلة لتقليد «إنساني» قديم بين الأغنياء «الميغا» الأميركيين، الذين يفضلون دفع الأموال إلى الأعمال الخيرية بدلا من تقديمها لهيئة الضرائب.
وقد وضع المبادرون شرطا وحيدا فقط، وهو أن على الذين يلتزمون بدفع أموالهم للأعمال الخيرية أن يعلنوا على الملأ نهارا جهارا نيتهم تلك بالتوقيع كتابيا على هذا العهد.
ولا بأس من أن يرمي كل منهم إلى هدف محدد من وراء تبرعاته: «إنني أهب القسم الأكبر من ثروتي من أجل تحسين نظام التعليم. فهذا هو المفتاح الحقيقي لاستمرار بقاء الجنس البشري» – كتب المخرج السينمائي جورج لوكاس في رسالته.
وقد أصبح معروفا أن كثيرا من المتبرعين يقدمون التزامات بمبالغ تفوق بكثير الحد الأدنى المتفق عليه، وهو 50 % من إجمالي ثروة المتبرع. فوارن بافيت نفسه التزم بتقديم 99 % من ثروته لصندوق الزوجين غيتس ومنظمات خيرية أخرى.
وكانت مجلة فوربس قد قدرت ثروة بافيت بسبعة وأربعين مليار دولار. أما بيل غيتس الذي اعتبرته فوربس ثاني أغنى أغنياء العالم فقد تبرع بمبلغ 28 مليار دولار للصندوق الذي أسسه بنفسه. ولايزال السعي جاريا لاجتذاب المزيد من المساهمين في المبادرة، حيث يبلغ مجموع الأثرياء «الميغا» في الولايات المتحدة الأميركية 403 مليارديرات.
لاشك أن هناك حاجة إلى المزيد من البحث في تفسير هذه الظاهرة، وخصوصا في تزامنها مع الأزمة المالية الاقتصادية الخانقة من جهة، والدعوة إلى فرض المزيد من الضرائب على المصارف والمؤسسات المالية بعد اتهامها بالتسبب في الأزمة بشكل رئيسي.
غير أن محللين آخرين وجدوا في هذه الظاهرة طريقة مدروسة من أجل تدوير بعض الزوايا الحادة في الأزمة العالمية، وخصوصا لتفادي انفجار الاحتجاجات الاجتماعية.
أحد النقاد اللاذعين شبه هذه العملية بعملية سريان التيار الكهربائي. فبعد قفل الدائرة يجري تناوب «صفر – دفعة»، حيث عن طريق هذا التناوب فقط يتم تأمين الضوء الدائم.
هذه التجربة – المبادرة مهداة إلى رجال المال الذين تزخر بهم منطقتنا، وهم من «الميغا» بقياس ثرواتهم إلى اقتصادنا الخليجي، وخصوصا مع غياب الضرائب المباشرة لدينا.
 
صحيفة الوسط
9 اغسطس 2010

اقرأ المزيد

أزمة اليمن (3)

كان حراكُ الحوثيين مغايراً للحراكِ الشعبي الجنوبي من خلالِ جوانب عديدة.
فالصراعاتُ الشماليةُ اليمنية هي صراعاتٌ مريضة، هي تفسخاتٌ سياسيةٌ واجتماعية، هي مناوراتٌ ومؤامراتٌ في جسدٍ اجتماعي يتحللُ وبلا جذورٍ حضاريةٍ صاعدة مستقبلية.
إنهُ الإقطاعُ الديني السياسي القبلي يتحللُ دماً ويتناثرُ أشلاءً.
فليس صحيحاً القول إن الحوثيين شكلوا تطوراً من فكرةٍ دينيةٍ إلى فكرةٍ دينية أخرى متقدمة، وان الزيدية في فرقتِها المسماة(الجارودية) التي لا تؤمنُ بغيرِ إمامةِ سلالةِ الحسن والحسين، قد بدأوا يثرون أفكارَهم، فالفرقُ المعاصرةُ غيرُ قادرةٍ على التطورِ الديني العميق، غيرُ قادرةٍ على التأصيلِ الديني والدرس، فما هي سوى جماعات سياسية اجتماعية شعارية، توظفُ بعضَ الكلماتِ والشعاراتِ بسببِ نشوء أوضاعٍ سياسية جديدة تتيحُ التوظيفَ لها.
وهذا يعودُ عموماً إلى طموحِ زعماء فرديين جددٍ تم استغلالهم سياسياً وظهرت لهم مصلحة في أدلجة المذهب المعني، فحين كانت الزيديةُ بشيوخِ دينِها القدامى المعتقين عاشتْ مع فصائل الشعب اليمني الأخرى بسلاسة وتعاون ورفضت إدخال المقولات المذهبية المُسيسة تلك في حومة الحياة الاجتماعية الصراعية، وهذا ديدنُ المشايخِ الكبار وآياتِ الله العظمى، الذين يتخوفون من المغامرات السياسية وأخطارها على الدينِ والعباد.
لكن الحكومة الشمولية في صنعاء التي بعثرتْ النسيجَ الوطني الاجتماعي راحتْ تتلاعبُ بمكونات الشعب وخريطته السياسية الاجتماعية، فبعد أن قضتْ على تجربةِ الجنوب وامتدادها الديمقراطي المُفترض في الشمال، توجهتْ للقضاءِ على حزبِ الإصلاح الديني، الخصم الذي برزَ كبيراً بعد تحجيم الحزب الاشتراكي، واليمن تتقمصُ ظاهرات الصراع الشرقي بين الرأسمالية الحكومية والرأسمالية الخاصة، بشكلٍ كاريكاتيري دموي، فلم تقدرْ على تصعيدِ العناصرِ الديمقراطيةِ في الجنوب ولا قامتْ بزرعِها في الشمال وداخل حزب الإصلاح وفي الحياة الاجتماعية المتخلفة عامةً، بل عملتْ على ضرب تلك العناصر السلمية والمعتدلة وبذور الديمقراطية من خلالِ تصعيدِ وتغييرِ المنحى السلمي للزيديةِ المعروفة بتوجهاتِها المعتدلة السلمية، وتفجير الصراع بينها وبين السنة.
هنا ظهر الانقلابُ المفاجئ للجارودية الزيدية، التي حوتْ البذرةَ المناسبةَ للتآمرِ الحكومي، الدراماتيكي المفتعل، فالمدارسُ التعليميةُ الدينية العادية لها انقلبتْ إلى حزب، وبعد مدةٍ وجيزةٍ أعلت من شعاراتٍ حادة غريبة لم يسبقْ طرحها في اليمن، خاصة الهجوم على السنة في اليمن وما حولها من بلدان، وتصعيد الصراع مع حزب الإصلاح، ونزع تلك العناصر المختلفة في الانفصال المذهبي عن عموم المذهب الزيدي نفسه وتحويلها لعناصر كليةٍ مطلقة.
كان يترافقُ مع هذا تمركزٌ شديدٌ في السلطة وفرديةٌ قويةٌ فيها وبدء طرح مسألة التوريث، وظهرَ الصراعُ في العائلة الحاكمة، وهكذا فإن لعبةَ استخدام المذهبيين السياسيين في الصراع السياسي الوطني تواصلت واتسعت داخل الشمال نفسه.
إن تفككَ أجهزة السلطةِ هنا ترافقَ مع تفككِ أجهزتِها الايديولوجية، فهي لم تعدْ سنيةً محافظة، وهي كالحوثيين والإصلاح، الفاقدين للرؤية الديمقراطية العلمانية الإسلامية، بل غدتْ رؤيةُ السلطةِ برجماتيةً انتهازيةً ضيقة الأفق، تحاول فقط التشبثَ بالحكم وديمومته.
وبهذا فإن القوى المذهبية السياسية السنية لم يكن لديها قدرة على فهم الإسلام وتغيير السلطة أو الصراع معها بشكل قوي، وهي التي تعيشُ بينها وفي مدنِها وأريافِها، في حين توفر ذلك للحوثيين الذين أعطتهم تضاريسُ منطقتِهم الجغرافيةِ الوعرة وأعدادُ السكانِ وظروفُ الفقرِ وغيابُ الخدماتِ، الظروفَ المناسبةَ لتحويل (النزق) التسييسي المذهبي إلى ايديولوجيةٍ (متكاملة) زائفةٍ وتمرد مسلح.
السلطةُ التي استخدمتهم انقلبوا عليها، بعد أن شكلوا جنينَ سلطةٍ في الشمال، فهي التي دفعتهم للنمو والاستقلال، فصاروا شوكةً في خصرِها، وهي شوكةٌ داميةٌ صعبة النزع.
وبهذا فإن الحكومةَ قامتْ بحرقِ أرضِها السياسيةِ داخل الشمال، فأغرقتْ اليمن في أزمةٍ شاملة، وجرتْ المنطقةَ لأتونِ هذه الأزمة، فالحراكُ الحوثي غدا مستقلاً عبرَ آلتهِ العسكرية، ويمكن استخدامه لمن له أغراض أخرى، أي دخلَ الصراعُ اليمني الوطني في خريطةِ الصراعات الإقليمية والعالمية، وتم استثماره، نظراً لأن الدولةَ والأحزابَ اليمنية لم تقمْ بتصعيد البذور الديمقراطية ورعايتها بعدمِ توظيفِ المذاهبِ في الصراعِ السياسي، وبتعميقِ الوحدةِ الشعبية الإصلاحية، وباستقلالِ الأجهزةِ الحكومية عن الصراع الأهلي وبعدم شخصنة الحكم.

صحيفة اخبار الخليج
9 اغسطس 2010

اقرأ المزيد

أزمة اليمن ( 2)

كانت فرصة لقوى الإقطاعِ المختلفة في اليمن الشمالي أن تحضنَ إلى درجةِ الصهرِ والإذابةِ الحزبَ الاشتراكي اليمني الذي افتقد رؤيتَهُ الطبقيةَ الشعبية، نظراً للفساد والتعالي على النضال مع الجمهور العامل.
وكانت قوى الإقطاع في الشمال تتصارعُ هي نفسُها، فشيوخُ القبائل وهم المادةُ الأرضيةُ المؤسسة للإقطاعِ العشائري المقسم لليمن إلى قطائع، وأسر ذكورية متخلفة، ونصوصية دينية صفراء، وفقر تاريخي، قد أنتجتْ العسكرَ الحاكمَ والدينيين المحافظين، فهم كلهم يمثلون عجزاً عن إثراء الواقع وعن تغييرِ حياةِ الناس، بل هي طفيلياتٌ تمتصُ رحيقه بأساليب عتيقة انتهى زمانُها وشاختْ أعمارُها، وتمكن العسكرُ بسببِ آلياتهِ الحربية من الصعود لمفاتيح السلطة والقبض عليها بشدة، وانهارت أحلامُ السلال والحمدي بتفتحٍ ونمو نهضوي ديمقراطي وطني، وجاء عسكرُ الهيمنة المطلقة، والعصبة الصغيرة والتوريث السياسي، وكلها تعفنتْ في الشكلِ المُستعاد لمَلكيةٍ أكثر قهراً للشعب من جمهورية مُصابة بفقر الدم الديمقراطي.
الثورتان في الشمال والجنوب رفضتا الثورةَ الحقيقية، أي تشكيل نظامٍ ديمقراطي علماني ليبرالي متدرج ينشرُ الحريات والتوحيدَ والوظائفَ قافزتين إلى سلطةٍ فردية مطلقةٍ لم تَتحققْ في الجنوب نظراً لعنادهِ الثوري المتأصل ولوجودِ حرياتٍ وليبرالية ومنظمات شعبية قوية، لكن راحَ الشمالُ القبلي المتخلفُ الفقير يحققها بمناوراتِ السلطةِ ذات الجيش الواسع الأمي، حتى وصلتْ إلى سلطةٍ مطلقةٍ فوق حُطامٍ وخرائب وثورانٍ شعبي في كل مكان!
زالتْ دولةٌ من الخريطة العربية، وتحطم الحزبُ الاشتراكي بالاغتيالات وقرار الانفصال المتشنج الذي هو تراكم لذات العقلية الانفعالية المغامرة، وبالحرب الشمالية التي كانت غزواً واستيلاءً على الأملاك العامة والغنائم.
هذا كله جعلَ الصراعات تنتقلُ للشمال كلية، وراح الفرقاءُ المتحدون لتذويب الجنوب يختلفون، وكل منهم يريدُ السلطةَ لنفسه.
في البدء وجدَ حزبُ الإصلاح المذهبي المحافظ ذو الشعبية الفضفاضة المكونة من القبائل والمثقفين الدينيين، ان الأرض قد خلت له، والكرسي في شوقٍ شديدٍ إليه، فجمعَ السحرَ واللغو السياسي، والجموع المسلحة، واندفع للسيطرة على الحكم الذي كان أشبه بالسراب إليه.
الإصلاح الذي استخدم شعارات الاخوان المسلمين وظهر نفسه المدافع الأوحد عن أهل السنة بخطاباتٍ مطلقة، حرك المشاعرَ الطائفيةَ النائمة، وأيقظَ النعرات الطائفية الأخرى غيرَ المسيسة والمؤدِلجةِ للصراع السياسي العنيف.
القوة الحاكمة الحقيقية وهي الضباط الكبار تبلورت قوتهم في الرئيس، الذي بدأ يقلد الرؤساءَ العربَ في الانقلابِ على الجمهورية وتحويلها لملكيةٍ، ولكن في وضعٍ رهيبٍ يخلو من أي أشكالِ الصلابة السياسية والاجتماعية لزملائه الآخرين الباقين، وفي بلدٍ مثل الجسد المقطع الذي ينزفُ من كلِ خليةٍ فيه دماً وجوعاً وفقراً وهجرةً وضياعاً.
الرئيسُ يؤسسُ مشروعَهُ التوريثي، ويكونُ فئةً مسيطرةً مهيمنةً على الاقتصاد والحياة الاجتماعية والسياسية، ويركزُها في الشمال فكان هدفها من الوحدة هو:
(السيطرة القبلية على نظام الدولة والإخلال بالأمن وتركين القانون واحتلال الجنوب وإلحاقه بالشمال والاستيلاء على ثروته النفطية والمعدنية والسمكية والزراعية والثروات الأخرى والقضاء النهائي على الحزب الاشتراكي اليمني وإنهاء نفوذه السياسي والعسكري وتحطيم مؤسساته بما فيها المؤسسات العسكرية وإنهاء القوى الوطنية والشخصية الجنوبية وسلب مواطنيه الحق المتساوي في المواطنة وتحقيق السيطرة والنفوذ للقيادة الشمالية على الجنوب، (د.عبدالله أحمد الحالمي: دراسة الأزمة) .
يقول أحد المواطنين الشماليين المعارض للحراك الجنوبي مقترحاً: إعادة الاراضي التي صُرفت للاخوان والأقرباء والمشايخ والسُراق ومحاسبة من أخذها ومن صرفها ومن استولى على أراضي عدن بالقوة (ومنهم قائمة الخمسة عشر في تقرير هلال باصرة) ومن لم ينفذ أوامر القضاء بإعادة الأراضي المنهوبة.
اضمنْ لي فقط تنفيذ هذه النقطة أضمنُ لكَ انتهاءَ الحراك الملعون الى الأبد.
إن عقليةَ الهيمنة على الثروةِ العامة من قبلِ الفئةِ العسكرية البيروقراطية التي تغلغلتْ داخلَ شيوخ القبائل وشيوخ الدين، وضعتْ حداً لشبه التماسك الوطني بعد الانتصار الدموي على الجنوب، فبدأ التمزقُ الشامل.

صحيفة اخبار الخليج
8 اغسطس 2010

اقرأ المزيد

الشعب البحريني ليس ملكية خاصة

نصبت الخيام، خيام الرفاهية وخيام الكادحين، فلكل خيمة وتد تاريخي وذاكرة شعبية، خيام بخمس نجوم وخيام بهموم، اقرب لهموم الشعب، كما دشنت المقرات الانتخابية، والتي تعكس نبض مرشحيها ورائحتهم وتوجهاتهم وتاريخهم وسيرة حياتهم الممتلئة بعطرها، الذي لم يتم تلويثه، مثلما تعمل تلك الشخصيات النأي بنفسها عن، مستنقع الكلام الآسن والرخيص .
بدأت عقارب الساعة الدعائية لجولة انتخابية ساخنة وحملات انتخابية – قد تكون اكثر من مسعورة في مناخ ابسط ما يمكن وصفه بالبهتان والكذب – انطلقت الحملات الانتخابية وهي تشير الى فضاء مفتوح قادم، يتسع ويتطور ايقاعه الانتخابي والدعائي بوتائر سريعة ومتنوعة واعلامية، مبتذلة تارة ورزينة ونبيلة وحضارية تارة اخرى، غير ان ما لا يمكن فهمه في كل تلك الالعاب الكلامية الاقرب لمهرج السيرك السياسي منه من رجل سياسة او جمعيات سياسية تحترم ما معنى الفروسية والاقتتال النبيل وجها لوجه، وكلمة بكلمة وحق بحق، بدلا من الاختباء خلف ستائر داكنة سوداء وكواليس تآمرية لا تليق بأي نوع من انواع الجمعيات. كتبنا في سنوات مضت عن طبيعة «النائب الجنتلمان» وهذا ما سعينا اليه عندما قررنا الدخول في جولة انتخابية اقل ما يمكن وصفها بانها لم تكن متوازنة ولا «نظيفة» بكل المقاييس، ومع ذلك فكل اناء بالذي فيه ينضح، وما كان منا الا احترام فكرنا وتاريخنا قبل أي شيء آخر، ولم نلتفت يومها لأولئك الذين ذهبوا ينقبون في السجلات وحسابات البنوك لعلهم يجدون ما يمس اخلاقنا، ولم يكتف بكل الفشل الاخلاقي لشعورهم باننا لم ندنس ايدينا في كل الاوساخ المالية والفساد المالي والاداري، ولا ممارسة اباطيل المشعوذين في ثوب كهان اعتقدوا ان المعبد وكهانه، هم الاجدى والاجدر من غيرهم في الدفاع عن مصالح الشعب. لم تجد يومها مثل تلك الابواق الا العودة للموروث الفكري والتاريخي لكي يقنعوا الناس باسم الدين ومجتمع الفضيلة – حسبما يتوهمون – فحاولوا اقناع العامة وكبار السن بأن هذا المرشح «شيوعي» وطبعا كبار السن ونصف الاميين لم يستوعبوا الكلمة واعتقدوا انها ماركة تجارية او مهنة كالطبيب والمهندس، فاختزلوا لهم التاريخ والسيرة الذاتية والمسألة الانتخابية ووظيفة النائب مستقبلا في مفردتين صغيرتين، انه مرشح «لا يؤمن بالله والدين» فاصيب الناخبون الاميون من الحي بنوع من القشعريرة والحساسية الجلدية، لعل المناخ لا ينقل لهم وباء هذا المرشح، اعتقد الخصوم ان الناس وتلك التهمة السائدة والرائجة وحدها كفيلة باسقاطك.
ومع ذلك كان هناك أناس بسطاء ونصف أميين لم تتلوث وطنيتهم ومحبتهم وذاكرتهم بطبيعة واخلاق مرشحهم. لا ننكر دور الدعاية المغرضة ولا اباطيل الاباطيل، فهناك مروق ومرجفون في المدينة مهمتهم التلاعب بعقول الناس والناخبين من اجل مصالح آنية، معتقدين ان المقعد النيابي هو المطاف التاريخي الاخير للانسان، لكونهم بلا مشروع سياسي او وطني وفكري وثقافي، اما نحن اليسار والديمقراطيون التقدميون، فان التاريخ وحده يشهد، والممارسات اليومية تشهد منذ ولادة المشروع الاصلاحي، والمنبر التقدمي كانت بوصلة عمله محددة وواضحة وكل اجندته لم تتعرض للتقلبات والاهواء والتراجعات، فعملنا ورؤيتنا المنهجية وانطلاقاتنا من ارضية فكرية لا تهزها رياح الانكسارات ولا التغيير بقدر ما تمنح من قوة على التعامل مع المستجدات بحنكة وتجربة مستمدة من موروث تاريخي.
دعك من هذا التطرف يمينا او يسارا، متزمتا او محافظا، فكلها لا تعكس توجهات المنبر التقدمي، دون ان ننكر ان هناك اخطاء سياسية طبيعية، تنتجها الممارسات، بفعل غياب تجارب سابقة في العمل العلني والديمقراطي وفهم طبيعة التنسيق والتكتيكات اليومية مع أي جمعية، بما فيها جمعيات من طراز ديني نجحت في اخفاء اجندتها باسم الاستحقاقات التاريخية، وتلبست مفردة «المعارضة !!» لكونها مفردة قادرة على تضليل شريحة شعبية واسعة. من رفعوا شعارات قديمة تآكلت واهترأت باسم المعارضة وتنوعها واختلافاتها، فعليهم ان يعيدوا حساباتهم، فما عادت كل المصطلحات القديمة عملة مناسبة للترويج ! من وصفوا جمعية المنبر التقدمي بأنها «جمعية حكومية !» يدركون جيدا اننا لسنا الطوفة الهبيطة، التي بامكانهم تجاوزها وتجييرها والقفز من فوق جدار قناعاتها الرفيعة والعميقة. مثل تلك الجمعيات التي وصفتنا «بالحكومية» تعي جيدا التاريخ – ولكنها تغالط الحقيقة – وتعلم طبيعة الافراد والجماعات فلكل انسان سيرة ذاتية واضحة، لا تحتاج لدجل الكذب ولا لترهيب الناس عن تلك الوجوه والشخصيات الناصعة.
لا يحتاج مرشحو المنبر لمن يزكي تاريخهم باعلان سينمائي او في شوارع الاحياء والقرى وقلوب الناس، فليس بالضرورة الحديث عن نفسك لكي تبدو ناصعا ونزيها، وانما دع الحياة تترك أنهارها تجري لتصب في حدائق الناس المجدبة، فاعضاء المنبر التقدمي ومرشحوه ليسوا بحاجة لبطاقة دعوة قادمة من جمعيات دينية وغير دينية لكي تزكيهم وتقدمهم بصك براءة، وبأنهم معارضون ومن جمعية غير معارضة، فمعارضتنا تختلف عن معارضتكم ونهجنا سيكون دائما مختلفا ومنسجما مع التوجهات الفكرية والسياسية النابعة من قناعاتنا.
كنا دائما داخل المنبر مدرستين ومنهجين في آلية التعامل مع انماط معينة من جمعيات دينية وشخصيات سياسية فيها تمارس «تقيتها» معنا ونجحت في اخفاء مساحيق الجدري على بعض الناس، ولكنها ظلت عاجزة عن خداع كل الناس، بما فيهم شخصيات ورموز سياسية في المنبر.
قلنا لهم كما قال لهم آخرون «السياسة خدعة ودهاء» لدى تلك المدارس الميكافيلية، فيما اصحاب المبادئ ينظرون للموقف الاخلاقي قبل اي شيء، فاخلاقيات الطبقة العاملة تظل مختلفة عن اخلاقيات البرجوازية الصغيرة الريفية وتلاقحها مع طبقات وسطى عقارية وتجارية، وجدتا نفسهما في جمعيات طائفية ودينية، اكثر انسجاما مع فكرها ومصالحها. سألني احد الاصدقاء تمثل من تلك الجمعيات الدينية من الوجهة الطبقية؟ اي الطبقات تدافع عنها ومن هي الطبقة الاجتماعية المعبرة عن تلك الجمعيات، التي بدت من النظرة الاولى بلا هوية طبقية وان عباءتها فقط دينية تمثل هذا المذهب او ذاك، ولكننا عندما نزيح القشرة الاجتماعية والسياسية لأية جمعية، فان هناك تبقى الحقيقة الايديولوجية للفكر، رجعيته وتقدميته، ليس في هذا الموقف او ذاك وانما في مجمل الرؤية الكونية والحياتية والسياسية والاقتصادية، لهذا تراهم يهربون من كل مناقشة جدية عميقة، ويحاولون الاختباء في اليوم حول ممارسات حقوقية ومطالب شعبية، بعضها مزايدات والبعض الآخر عمل دعائي يحاول دعاته ضخ حركتهم بالحيوية، كلما اصابها الركود والسبات. ما نراه اليوم من انياب الذئاب واظافرهم الطويلة المتعطشة للكراهية، هي نفسها التي تكشر عن نفسها عندما يبدأ الصدام الطبقي وتجلياته تبرز في ميدان من الميادين، ففي هذا المحك العملي المحسوس والهام، سنجدهم يسعون الى تدنيس سمعة الجمعية واعضائها ومرشحيها بعبارات سيئة النوايا.
فلماذا الهجوم على جمعية المنبر واتهامها «بجمعية حكومية» وهم يدركون في قرارة انفسهم عكس ما يقولون؟ هل لأننا نحاول اختراق معاقلهم لنهز شجرة يابسة وعجوز، نحاول اقتلاعهم من مواقع توهموا انها ابدية لهم، متناسين ان الشعب ليس ملكية خاصة بالامكان تملكها واحتكارها، فالشعب مفردة متنوعة جامعة، تحمل من التفسيرات اشكال عدة ففي داخل الشعب يكمن كل شيء وأي شيء الا الطائفي والفئوي والعنصري، متى ما صار شعبنا اكثر وعيا ونضوجا باهمية وحدة الوطن والشعب من اجل ومع من يدافعون عنه بمصداقية اثبتتها تجارب الزمن، فجبهة التحرير، ووريثها التاريخي مهما تلونت الظروف وتغيرت المسارات، تبقى تحكمها سلوكيات سياسية متباينة عن تلك الجمعيات، التي منحت نفسها حق امتلاك الشعب وحق ان تكون «جمعية معارضة» فاهلا وسهلا بكم ايها المعارضون الاشاوس!! في مناخ المضاربات السياسية وزمن الانتخابات.
 
صحيفة الايام
8 اغسطس 2010

اقرأ المزيد

إنه موسم تحريك القضايا‮ »‬الجنائية‮« ‬الدولية‮! ‬

ما كادت محكمة الجزاء الدولية قبل أيام تجيب مدعي‮ ‬عام المحكمة لويس مورينو اوكامبو إلى طلبه بإضافة تهمة الإبادة الجماعية إلى لائحة الاتهام التي‮ ‬وجهها إلى الرئيس السوداني‮ ‬عمر حسن البشير قبل نحو عام،‮ ‬حتى بوشر في‮ ‬تسريب فحوى القرار الظني‮ ‬الذي‮ ‬ستصدره المحكمة الدولية المشكلة للتحقيق في‮ ‬اغتيال رئيس الوزراء اللبناني‮ ‬الراحل رفيق الحريري‮ ‬والذي‮ ‬سوف‮ ‬يدين‮ ‘‬عناصر‮ ‬غير منضبطة في‮ ‬حزب الله‮’‬،‮ ‬حسبما صرح بذلك أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله نقلاً،‮ ‬كما قال،‮ ‬عن سعد الحريري‮ ‬رئيس الحكومة اللبنانيـة،‮ ‬والذي‮ ‬من الواضح أن جهة ما قد أطلعته على فحوى الحكم قبل صدوره‮ (!). ‬ويوم‮ (‬الخميس‮ ‬24‮ ‬يوليو‮ ‬2010‮) ‬أعلن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة انه شكل طاقماً‮ ‬من خبراء دوليين للتحقيق في‮ ‬دعاوى انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي‮ ‬خلال هجوم الجيش الإسرائيلي‮ ‬على أسطول الحرية في‮ ‬شهر مايو الماضي،‮ ‬وجاء في‮ ‬بيان المجلس أن ثلاثة خبراء سيشاركون في‮ ‬المهمة الدولية المستقلة لتحديد الوقائع والتحقيق في‮ ‬انتهاكات القانون الدولي‮’‬،‮ ‬وهم كارل هدسون‮ ‬‭-‬فيليبس‮ (‬من ترينيداد وتوباغو‮) ‬القاضي‮ ‬في‮ ‬المحكمة الجنائية الدولية من‮ ‬2003‮ ‬إلى‮ ‬‭,‬2007‮ ‬وديزموند دو سيلفا‮ (‬بريطانيا‮) ‬كبير المدعين في‮ ‬المحكمة الخاصة بسيراليون في‮ ‬عام‮ ‬‭,‬2005‮ ‬وماري‮ ‬شانثي‮ ‬ديريام‮ (‬ماليزيا‮) ‬من مجموعة العمل حول المساواة بين الجنسين في‮ ‬برنامج الأمم المتحدة للتنمية‮.‬
وفي‮ ‬نفس اليوم أيضاً‮ (‬الخميس‮ ‬24‮ ‬يوليو‮ ‬2010‮) ‬خَلُصت محكمة العدل الدولية‮ (‬ومقرها مدينة لاهاي‮ ‬الهولندية‮)‬،‮ ‬في‮ ‬رأي‮ ‬غير ملزم للدول،‮ ‬إلى أن استقلال كوسوفو الذي‮ ‬أُعلن في‮ ‬17‮ ‬فبراير‮ ‬2008‮ ‬من جانب واحد،‮ ‬أي‮ ‬من جانب ألبان كوسوفو،‮ ‬لا‮ ‬يشكل انتهاكاً‮ ‬للقانون الدولي‮.‬
إنها سيولة‮ ‬غير مسبوقة،‮ ‬كما هو واضح،‮ ‬في‮ ‬نشاط،‮ ‬أو بالأحرى تنشيط،‮ ‬جبهة أو سلاح القضاء الدولي‮ ‬من جانب من له اليد الطولى ومن له السطوة والنفوذ على مؤسسات القضاء الدولي‮ ‬لتحقيق‮ ‬غايات مصلحية بحتة لا علاقة لها البتة بتحقيق العدالة كما‮ ‬يزعم أصحاب السطوة والنفوذ على تلك المؤسسات ومعهم المتحمسون والواهمون اللاهثون وراء سراب تلك العدالة المغدورة‮.‬
لا اعتراض لدينا أبداً‮ ‬على ملاحقة المتورطين في‮ ‬ارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية أو جرائم إبادة جماعية،‮ ‬سواء بالمشاركة الفعلية المباشرة أو بإحدى صور التواطؤ،‮ ‬وسواء تعلق الأمر بأناس عاديين أو حتى رؤساء دول وحكومات إذا توفرت الأدلة المادية الدامغة على إدانتهم من قبل قضاء تتوفر له الاستقلالية والنزاهة‮. ‬فالعدالة لا تتجزأ ولا‮  ‬تحابي‮ ‬ولا تميز بين صغير أو كبير ولا تخضع للتسييس ولا تتأثر بنفوذ خارجي‮ (‬خارج نطاقها‮) ‬فتجيء أحكامها إما منحازة أو توفيقية تمرر جزء من العدالة لأحد المتداعين‮ ‬غير المستحقين‮.‬
لكن؛ أوليس لافتاً‮ ‬أن تندفع الولايات المتحدة الأمريكية بحماس لتأييد إجابة محكمة الجزاء الدولية لطلب مدعي‮ ‬عام المحكمة لويس مورينو أوكامبو الخاص بإضافة تهمة الإبادة الجماعية إلى لائحة اتهام صحيفة الدعوى التي‮ ‬كان رفعها أوكامبو ضد الرئيس السوداني‮ ‬و20‮ ‬من كبار المسؤولين العسكريين والأمنيين في‮ ‬النظام السوداني،‮ ‬ومطالبة واشنطن للبشير لتسليم نفسه للمحكمة والمثول أمامها للفصل في‮ ‬الدعوى المرفوعة ضده،‮ ‬وهي‮ -‬أي‮ ‬الولايات المتحدة‭-‬‮ ‬التي‮ ‬رفضت وترفض حتى اليوم الانضمام إلى هذه المحكمة وترتيباً‮ ‬الاعتراف بها؟ ثم أين هي‮ ‬هذه المحكمة عن جرائم إسرائيل التي‮ ‬لا تحصى ولا تعد والتي‮ ‬لن‮ ‬يعدم أوكامبو الوسائل والدلائل لو أرادلجلب كبار مسؤوليها للمثول أمام المحكمة لمحاكمتهم بتهم ارتكاب مجازر ضد الإنسانية والتطهير العرقي‮ (‬في‮ ‬القدس‮) ‬والإبادة الجماعية‮ (‬حصار سكان‮ ‬غزة وتجويعهم‮).‬
وفيما‮ ‬يخص التسريبات الموجهة عن قصد والمعنونة بمكر لأكثر من طرف إقليمي،‮ ‬الخاصة بمنطوق الحكم الذي‮ ‬ستصدره المحكمة الدولية الخاصة المشكلة للتحقيق في‮ ‬جريمة اغتيال رفيق الحريري،‮ ‬والتي‮ ‬ذهبت لحد الجزم أن الاتهام سيوجه إلى‮ ‘‬عناصر‮ ‬غير منضبطة‮’ ‬في‮ ‬حزب الله اللبناني‮ ‬‭-‬‮ ‬فيما‮ ‬يخص هذا الموضوع أيضاً‮ ‬فإن من الواضح أن التسييس فيه قد بلغ‮ ‬مبلغه،‮ ‬فقد بات‮ ‬يستخدم لتحريك‮ ‘‬اختناقات دبلوماسية وسياسية‮’ ‬شرق أوسطية ضد الطرف/الأطراف المتهمة‮ (‬أمريكياً‮) ‬بالمسؤولية عن هذه الاختناقات‮. ‬فبعد أن كانت سوريا موضوعة في‮ ‬دائرة ضوء الشبهات تلميحاً‮ ‬وتلويحاً،‮ ‬وبعد أن استنفذ التلويح‮ ‬غرضه بعد إصابته بالفشل الجزئي‮ ‬على ما‮ ‬يبدو،‮ ‬ها قد تحول‮ ‘‬سيف العدالة‮’ ‬إلى أقوى حليف شرق أوسطي‮ ‬لسوريا ألا وهو حزب الله،‮ ‬وفي‮ ‬توقيت اختير بعناية لأغراض المساومة والابتزاز بعد أن تعذر فك عقدة‮ ‘‬المباشرة‮’ (‬المفاوضات المباشرة‮). ‬أما وقد تحقق الغرض من التلويح بورقة المحكمة وحصل الأمريكيون والإسرائيليون على مبتغاهم في‮ ‬استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية المباشرة،‮ ‬فإن الراجح أن‮ ‬يعاد‮ ‘‬سيف العدالة‮’ ‬إلى‮ ‬غمده لحين الحاجة إليه مرة أخرى‮. ‬أما فيما خص قرار مجلس حقوق الإنسان القاضي‮ ‬بإنشاء لجنة دولية للتحقيق في‮ ‬جريمة الهجوم الهمجي‮ ‬الإسرائيلي‮ ‬على أسطول الحرية،‮ ‬فهو لا‮ ‬يعدو أن‮ ‬يكون ذراً‮ ‬للرماد في‮ ‬العيون وورقة صفراء لا قيمة لها،‮ ‬ذلك أن تقرير اللجنة سينتهي‮ ‬في‮ ‬مجلس الأمن الدولي‮ ‬حيث‮ ‬ينتظره الفيتو الأمريكي،‮ ‬ناهيك عن أن مرتكب الجريمة‮ ‘‬إسرائيل‮’ ‬رفضت قيام اللجنة من الأساس واحتقرت الجهة التي‮ ‬شكلتها‮. ‬ومع ذلك كان لابد من إنشاء هذه اللجنة لتحقيق أغراض دعائية وإظهار الأمم المتحدة بما هي‮ ‬ليست عليه‮. ‬أخيراً‮ ‬وليس آخراً‮ ‬فإن حكم محكمة لاهاي‮ ‬في‮ ‬خصوص إقليم كوسوفو،‮ ‬لا‮ ‬يعدو أن‮ ‬يكون تتويجاً‮ ‬للمخطط الغربي‮ ‬لتفتيت‮ ‬يوغسلافيا إلى دويلات صغيرة على أساس عرقي‮ ‬وديني،‮ ‬ولأن الحكم الصادر في‮ ‬هذه القضية‮ ‬يعد سلاحاً‮ ‬ذا حدين،‮ ‬من حيث أنه‮ ‬يفتح الباب أمام الأقليات المتحفزة للاستقلال داخل أوروبا الغربية نفسها مثل الأقلية الباسكية والكاتالونية في‮ ‬اسبانيا،‮ ‬فقد حرص‮ ‘‬مخرجو‮’ ‬الحكم على صياغته بطريقة تؤدي‮ ‬الغرض المتوخاة منه وفي‮ ‬ذات الوقت لا تحفز الآخرين على الخيار الكوسوفي،‮ ‬حيث نص الحكم على أن استقلال كوسوفو الذي‮ ‬أعلن في‮ ‬17‮ ‬فبراير‮ ‬2008‮ ‬لا‮ ‬يشكل انتهاكاً‮ ‬للقانون الدولي،‮ ‬متحاشياً‮ ‬الحكم الملزم بشرعنة هذا الاستقلال‮. ‬بهذا المعنى تكون القوى الغربية النافذة في‮ ‬مؤسسات صناعة القرار الدولي،‮ ‬قد اختارت الزج بمؤسسات القانون والقضاء الدولي‮ ‬في‮ ‬أُتون صراعاتها ومناوراتها المتصلة بمصالح شركاتها ومراكز رؤوس أموالها دون الالتفات إلى‮  ‬ما‮ ‬ينجم عن ذلك من إضرار بمصداقية ديمقراطيتها وشعاراتها الطنانة‮. ‬عُرف عن الديمقراطيين في‮ ‬الولايات المتحدة إجادتهم لما‮ ‬يسمى‮ ‘‬بالدبلوماسية الناعمة‮’ ‬التي‮ ‬قد تفوق في‮ ‬شراستها شراسة وعدوانية‮ ‘‬دبلوماسية البوارج‮’ ‬البوشية‮. ‬فالرئيس الأمريكي‮ ‬الأسبق عن الحزب الديمقراطي‮ ‬جيمي‮ ‬كارتر وإدارته،‮ ‬هما من اخترعا‮ ‘‬سلاح حقوق الإنسان‮’ ‬لاستخدامه في‮ ‬الصراع ضد الاتحاد السوفييتي‮ ‬آنذاك،‮ ‬سيما في‮ ‬عام‮ ‬1980‮ ‬لتحريض الدول على مقاطعة الألعاب الأولمبية التي‮ ‬أقيمت في‮ ‬موسكو عام‮ ‬‭.‬1980‮ ‬هذا‮ ‬يعني‮ ‬أننا من الآن فصاعداً‮ ‬سنشهد مزيداً‮ ‬من توريط القضاء الدولي‮ ‬واستخدامه أداة ابتزاز وإرهاب ضد الدول والأفراد سواء بالحق أو الباطل،‮ ‬متى ما اقتضت الأمور تصعيد الضغط على الهدف‮!‬
 
صحيفة الوطن
7 اغسطس 2010

اقرأ المزيد