الإصلاحيون الإيرانيون (4)
صبية الحي تطل من شرفة الذاكرة
كثيرة هي الاشياء التي يصعب تفسيرها في الحال ، خاصة عندما يتعلق الموضوع بقدرة الذاكرة على الاسترجاع والتخزين والاستحضار الغريب للتفاصيل، واعادة طي تلك الصور والقصص مرة اخرى في ارشيف الذاكرة، لكي يتم استدعاؤها وقت حاجاتنا الروحية والانسانية.
من تلك الصور الجميلة من ذاكرة الايام ورائحة الزمن العتيق تأتيك القصص والحكايات الصغيرة، التي في سردها ونثرها وشعريتها الحكائية ما يجعلنا ندخل في لحظات ان لم نقل في «برهة» الدهشة والانبهار في فرح غامر عميق وبهيج.
ما يبعث على الراحة النفسية هو تلك الصور العتيقة لصبايا الحي اللاتي اصبحن امهات وجدات وهن في وقت مبكر!!، ففي الوقت الذي ذهبن زميلاتهن في المدرسة للجامعة وجدن انفسهن ينشغلن بزواج مبكر فرضته الظروف والذهنية الاجتماعية والتقاليد وصعوبة الحياة ولقمة العيش ، فماتت الاحلام عند عتبات المرحلة الاعدادية او الثانوية، فيما غردن الاخريات نحو فضاء الله الواسع وجامعات الدنيا، يفتشن عن الشهادة والمهنة والتخصص ، بينما جلسن صبايا الحي مشغولات بغزل نسيج الحكايات عن من هو تزوج وطلق وخان ورحل ومات دون أسف عليه غير كلمة «رحمه الله» بتلك المفردات الشعبية والدينية تحدثن صبايا الحي العتيق في الحورة عن ذاكرتهن الطيبة والاليمة الا من فرح الحياة وبساطتها ، فمن منا يستطيع مصادرة الضحكة في بيت الفقراء، وهو الامتياز الوحيد بين بيوت الناس وخلقها على هذه البسيطة، وان لم تكن النكتة والابتسامة حاضرة فان بيوت الامس في الحي العتيق قادرة على صنعها لكي يوزعوا البسطاء فيما بينهم خبز الهم اليومي بينهم بعدالة، تتساوي وحجم تلك الافنية والحجر والحاجات اليتيمة من بؤس المعيشة الا ثراء الروح والكرامة.
للفقراء محبتهم وللبسطاء طيبتهم في ذاك الزمن، فهم اكثر حنانا ومحبة ببيوت الجيران وهمسها، وهم من يبعث لكل بيت بصحن من طبق المحبة ، هذا الحنين المختزن بقوة في عمق الذاكرة ايقظته منذ ايام قليلة ابنة حينا وهي تتابع خطوك في المنفى والحضور والغياب، تتابع كلماتك المنهكة بالزمن والحياة فتعيش هي ماضيها في حاضر أمومة مبكرة، لولا تلك الضحكة الذهبية التي جاءت بصوت طفولي كالامس عبر هاتف عمره يقترب من النصف قرن ، يا لله كم تهز مشاعرك لحظة جميلة وتنسف لديك قناعات عدة بغموض الحياة وسرها.
لم اكن اتصور ان ابنة الجيران في حينا الشعبي محاط بحكايات وذكريات سقطت من ذاكرتي ولكنها ظلت في ذاكرتها نحتا جلموديا كالزمن الطيب والطفولي . لم اكن اتخيل انها – تلك الصبية – التي بكت على سقوط نعلها في ماء البحر خوفا من عقاب والدتها ، ستظل تحتفظ بحكاية ذلك الصبي الذي غطس تحت الماء واحضر نعالها وهدأ من روعها وخوفها، فذهبت مطمئنة البال، سعيدة بفردة النعال، التي تآكلت مع الزمن، فيما ظلت الحكاية تتحرك عند ذاكرة ذلك البحر وشاطئه، بقت هناك كموج يتمدد ويعود كل مساء او فجر نائم برطوبة الليل.
للنساء في الحي حكايات ولكن لم اكن اعرف ان صبية الحي ستطل من شرفة الذكرة بهذه الروح الجميلة والنبيلة والمشاعر الانسانية الرهيفة، لعلاقات انسانية تبخرت من فضاء الحي وجدرانه ولكن الذاكرة تحمله وحملته معها اينما تمضي، فتتناقله الايام بمودة لا يمكننا تخيلها ابدا الا في تلك المفاجأة الغريبة والعجيبة ـ صوت يأتيك بعد نصف قرن ـ . كنت اتصور ان اتحدث مع كثير من الناس افتقدتهم الا تلك الصبية ، التي كبرت وعبرت ازقة الحي دون صوت الا عيون ناعسة واسعة جميلة وابتسامة تشبه ابتسامة الممثلات الايطاليات من ريفها الجنوبي المعجون بسمرة البحر المتوسط.
ظلت صبية الحي بمريولها وطلتها عند الباب وانتقالاتها بين الجيران والخباز والحاجات الصغيرة للبيت ، والتي تمارسها كل فتاة كخادمة طوعية وابنة مطيعة للام وحنتها المعتادة في روتين بيوتنا بالامس واليوم. عشت يوما جميلا تعلمت منه درسا في عمر متقدم اذ لم اتصور ان هناك معادن من الناس ممتلئة طيبة انسانية رائعة، شخصيات بسيطة تقرأ بصمت وتعيش الحنين بمتعة الصمت، وتضحي وتعمل بصمت وتحب وتحزن بصمت، وعندما تحتاجهم سيكونون هم اول الناس حزنا وتعاطفا وجدانيا معك. الحكايات لم تتغير من بيتنا في الامس الغريب ولا صبايا الحي الامهات والجدات، ولا تلك الاغاني التي تسقط في المساء، ولا زعيق امرأة ازاء طفلها المدلل او ابنها العاق، فلكل بيت حكاياته ولكل حكاية اسرارها ومسارها وتعرجاتها الشبيهة بتعرجات الزقاق الضيق وباب اتكأ على زجاجة خضراء جاءت من مزبلة قريبة في شماله يوازيها حوطة في جنوبه اتحفتنا ليلا ونهارا بنهيق اصدقائنا «الحمير» في تلك الحوطة، التي ترعرعت بجوارها شجرة جميلة من الحياة وصبية عاشت مع حلمها كل يوم، في بيت الذاكرة، الذي يخضّر في داخلنا بمحبة لا تقاس ولا تنتهي على مدى العمر.
صحيفة الايام
13 يونيو 2010
عـبـدعـلـي الـخـبّــاز ..راحــلاً…!
أيها الراحل المكافح، أيها الفقيد الكبير، كثيرون هم الذين شيعوك إلى مثواك الأخير في موكب مهيب مهابة غيابك وخسارتك، حضروا وفي دواخلهم حسرة وانكسار وفي عيونهم ومض ووفاء وفي قريحة شاعرهم أبا ضياء كلمات تنبض لوعة واسى وتقول طبت حيا بمسيرتك الوطنية والإنسانية الصادقة فلقد أعطيت حياتك كلها وقواك كلها لقضية شعبك لتحريره من الجهل والتخلف والاضطهاد.
عـبـدعـلـي الـخـبّــاز ..راحــلاً…!
قـد أتــانــا…
نـعـيُ مـن عـاش نــبــيـــلا…
إذ قـضـى…
قـلـبٌ مـضـى…
إتخذ الـعـشـقَ إلـى الـفـجـر ِسـبـيــلا
إنـه عـبـدُ عـلـيِّ الـمُـبـتــَلـى…
بـالـمـلـمـات وبـالـسـقـم طــويــــلا
إعـتـلـى الـهـمّ وقـد كـانـت بـه…
ولـــه…
تـحـلـو تـواريــخُ السـُـرى…
ومـصـاديـــقُ الـــورى…
والـمـقـامـات الـتـي أبــدعــهـــا
وبـه كـلُّ طـيــوفٍ لــم تــزلْ…
تـرسـم الــدرب شـفـيــفــاً .. وبــه…
حــومــة ُالـصـدق ِزهـت فـعـلاً وقـيــلا
وبـــه أثـرى رؤانــا قــلــــــمٌ…
مـانـحـاً مـن وعـيــه جـيــلاً فـجـيـــــلا
وبـــه لاح هـــلالٌ مــشــرقٌ…
فـي ســمــاوات الــدجــــــى…
بــدلالات الــحـــجــــى…
لـنـفــوس تـبـصـر الآتـي جــمــيـــــــلا
إذ نـمـتــه لـلـمـعــالــي والــمــنــــــــى…
وعــلــى رغــم الــضــنـــــى…
جـبـهـة الـتـحـريــر فـامـتــاز أصـيـــلا
هــا هــو الــيــــــــوم…
وقـــد غــــــادرنــــــا…
يُسمـِعُُ الـصـُمًّ نــداءات الــصــدى…
شـــقَّ أكـــفـــــان الــــــــــــــردى…
وبــعــيــنــيــه عـلـى الـجـمـع مُـجـيـلا…
ويـــنــــــــــــــادي :
– يـــــــا رفـــــــاقـــــــــــي…
يـــا نــجــوم الــدار عــودوا لــلــحــمــى…
إمــلأوا الأفــقَ قــلــوبــاً وقــبــيــــــلا
عبد الصمد الليث
12 يونيو 2010 م
أيها المكافح.. وداعاً!
رحل الرفيق عبدعلي “ابوأنس” من غير أن يري حلا لقضية شعبه التي طرحها طوال تاريخ نضاله المجيد حتى يومنا هذا، فلقد طوى صفحاته و سكت قلمه ، ورحل!
رحل بدون وداع ، رحل بعد أن دك المرض عافيته دكا وهو لا زال يتابع طريقه الذي اختطه طوال مسيرته النضالية، طريق الصدق والإخلاص لوطنه وحزبه، وواصل المسيرة في الطريق الشائك حتى آخر نسمة في حياته.
رحيله المباغت كان صدمة لكل محبيه، وفاجعة كبيرة لأهله، ولرفاقه في المنبر التقدمي ففي ظهيرة هذا اليوم السبت 12 يونيو 2010 شيع رفاقه في المنبر التقدمي وأصدقاؤهم وأهله شيعوا جثمانه إلى مثواه الأخير بعد موت خاطف غادر.
وداعاً.. أبا أنس، خسارتنا كبيرة بفقدانك، أيها الغائب عنا، والباقي فينا!
قضيتنا هو عنوان موضوعه الأخير الذي نشر في نشرة التقدمي عدد يونيو 2010
قضـيتنـــا
قضيتنا لها شرح بسيطٌ واحدٌ
لنا وطنٌ كما للناسِ أوطانُ
وأحبابٌ وجيرانُ
وكنا فيه أطفالاً وفتيانا
وبعض صار يكتهلُ ..
مظفر النواب
منذ العشرينات من القرن الماضي والعرائض الشعبية تحمل مطالب المواطنين ولم تكن الاستجابة لهذه المطالب سهلة بل كانت شبه معدومة وكانت تتجدد بموجب الظروف وهي في النهاية أمانٍ شعبية لتحسين أوضاع المجتمع . ومرورا بالأحداث السياسية نرى أنّ حركة الهيئة كانت تطرح هذه المطالب بشكل واضح وجريء خاصة عبر الصحافة في ذلك الوقت وبعد ضرب الهيئة كاد الصمت يخيم إلى أن جاء برنامج جبهة التحرير مجسداً هذه المطالب عبر نقاطٍ واضحة ومحددة.
و قد كان طرحه للجماهير مكلفاً، فبدلاً من الاستجابة، كانت هناك الضربات الموجعة إلى أن حلت أحداث عام 65 فظهرت المطالب من جديد وبشكل واسع مكلّفةً سقوط شباب شهداء وسيلان دماء بالرغم من وجود حلول أفضل لا تكلف السلطة هذا العنف المنفرد ولو حاولت الأخذ بهذه المطالب في أوقاتها لعمت الفائدة فبرنامج الجبهة مثلا، لم يحتوٍ على هدم النظام القائم أو تهديده بل كان تقويم الاعوجاج هو ما سعى له.
وكذلك برنامج القوى السياسية الأخرى ومطالبها التي حملتها بيانات انتفاضة مارس وكل الأحداث التي سبقت أو أعقبت تلك الفترة ولقد جاء المجلس الوطني بما يبشر بالخير ولكن من لم يتعود على العطاء يجد صعوبة في تقديم التنازلات.
حُـل المجلس الوطني وكان لحله ضحايا وكل هذا لم يكن له داعٍ لو كان هناك رغبة في الإصلاح بدلاً من التحدي والمواجهة من قبل قوة كبيرة تملك الأجهزة والمعدات وهي قوة السلطة.
حتى لا نطيل في الموضوع سندخل فيه مباشرة فمطالب الشعب في هذه الفترة تكونت نتيجة لثقل ما ينوء به ظهره فالتجنيس خلق مشكلة في كل مكان، فأسرة المستشفيات أصبحت غير كافية والبطالة زادت وأصبح الحصول على عمل معجزة، والأمِّر من هذا أن المواطن يجد الأجانب والمتجنسين يحلون محله في الوظائف، أما الإسكان فإن سنوات الانتظار طالت، فالمال غير متوفر لأنه يرقد بملياراته في بنوك خارجية، كما أن المتجنسين صاروا شركاء في كل شيء بل لبعضهم الأولوية، وهي سياسة عجيبة وغريبة لم يحدث مثلها إلا في البحرين. ويزيد الطين بلة أن هناك من حصلوا على سكن سريع لأن فلاناً أمر بذلك .
وهناك عشرات الآلاف من البيوت الآيلة للسقوط بانتظار أن تسقط على أصحابها تحتاج لبعض الوقت حتى تسكتهم عن المطالبة، والرواتب في البحرين هي الأخرى غريبة، فإلى جانب المتدني منها تجد رواتب بآلاف الدنانير، وليس شرطاً أن يكون صاحب هذه الآلاف صاحب وظيفة ذات أهمية. مثل هؤلاء تزخر بهم وزارات الدولة مثل الإعلام، وفي أمور النقابات هناك جهات لا تعرف العمل النقابي وليس من حقها ممارسته ولا يمكن أن تكتمل الحقوق النقابية إذا اقتصرت على البعض وحُرم منها البعض الآخر. وفي بلادنا كثيرة هي النواقص و الممنوعات.
إن الفساد المادي والإداري والأخلاقي ضارب بجذوره في أرض البحرين؛ لان كل الأوضاع تشجع على ذلك. و في بعض البلدان تظهر فئات تسمى أغنياء الحرب أما عندنا فيوجد أغنياء الفساد. حتى البيئة في بلادنا تلحق الضرر بالمواطن وإذا احتج ووصل صوته إلى الصحافة لا يوجد من يتأثر بذلك من رجالات الدولة، خاصة عندما يكون التلاعب بالبيئة فيه مصلحة لمن يستولون على أراضي الدولة بالمجان .
أراضي الدولة وأملاكها معلقة في الهواء يقتطع منها الكبار ما يشتهون بدلاً من مواجهة المشاكل وحلها يجري التفكير في مواجهة الأفراد والجماعات أما الديمقراطية فتظل ناقصة لأن الدستور ليس هبة من الشعب والنظام البرلماني فيه من الاحتيال الشيء الكثير، فممثلو المناطق غير متساوين في عدد السكان.
باختصار أن العوز والفقر في بلادنا غير طبيعي، فالمداخيل ضعيفة والأسعار مرتفعة.
ومن هنا القول إن قضيتنا لا يراد لها الحل.
السعداوي والحوري
في نهاية شهر ابريل نيسان الماضي كنا على موعد مع البروفة النهائية لعرض مسرحية (الصفحة الأولى من الجريدة) للمخرج عبدالله السعداوي، السعداوي لم يتصل متابعاً ومذكراً بموعد العرض!، كنت قد عرفت قبل أيام بتاريخ البروفة النهائية وتوجهت تلقائياً لمكان البروفة في الصالة الثقافية.
قلت في نفسي أن السعداوي على الأرجح مشغول بمرض أخيه لذا لم يتصل بي. توجهت إلى مكان العرض وأجريت اتصالا بالفنان محمود الصفار و أنا في طريقي لأتأكد أن موعد البروفة النهائية ما زال قائماً، أكد لي محمود ذلك -” وقال دريت؟” -قلت: لا – قال” أخو السعداوي توفى اليوم لكنه قادم بعد قليل لم يتأخر يوماً عن موعده” انتهى الاقتباس.
ذهبت إلى الصالة كان الكل في انتظار السعداوي الذي أتى مفعماً بالحيوية كأن شيئاً لم يكن، رأيت في إيماءاته وحركاته ألماً دفيناً لكنه لم يعبر عنه بدمعة أو صرخة أو ربما تنهيدة بل كان يصرخ ويرقص ويدق على الأرض ويفجر كل مفصل في جسمه وهو يوجه الممثلين للتعبير الحقيقي عن حالاتهم المسرحية، رأيته وأدركت أن الألم يكويه لكنه يطفئه بجدول المسرح المتدفق في أحشائه.
السعداوي شخص من الزمن الجميل كما يقال، لا أعلم إذا ما كان هنالك من زمن جميل أم أن لكل الأزمان سيئاتها وحسناتها! لكني متأكد أن السعداوي لا يشبه أي شيء عرفته أو سأعرفه، أنه شخص مسالم، ودود، مؤمن بخياره، معتزل عن كل مغريات الحياة، نقي، وفنان قبل كل شيء.
أتذكر أن أحد وكلاء الثقافة طلب من السعداوي أن يعتني بهندامه وهندام “شلته التسعينية” بعد أن حصل على جائزة أفضل مخرج في العالم خلال مشاركته في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي عام 1994م، قال السعداوي للمسؤول: ” يافلان لما كنت صغير أرتجف من البرد كان أبوي أيفصل لنا لثياب من الخيش ويلبسنه إياها لأنه ما كان عنده فلوس يشتري لنه قماش وأنت ياي اليوم أتقولي خل ربعك أيغيرون ثيابهم وأهتم بهندامك وأحلق لحيتك وبنخليك تتولى مركز ثقافي مهم، شكراً يا……”
حين حصل السعداوي على مكافئة أفضل إخراج مسرحي التي تقدر بسبعمائة أو ألف دينار ربما، كتب السعداوي لكل واحد منا بخط يده رسالة شكر مرجعاً فضل حصوله على الجائزة لمجهوداتنا طالباً منا نحن فريق العمل الذي يتجاوز العشرة أشخاص أن نقبل منه جزءا من المكافئة (50) دينار لكل شخص أي 500 دينار على أقل تقدير!.
أقارب بين السعداوي والحوري لسببين الأول يعود إلى الحدث التاريخي، فبعد أيام معدودة تناقلت الجرائد خبر سقوط الحوري وإنتقاله إلى العالم الآخر خلال مشاركته في اعتصام تضامني مع المصرفيين المسرحين من أعمالهم، ودعنا الحوري كما بدأ مسيرته هاتفاً تحيا نضالات الطبقة العاملة. الحوري قطع رحلته العلاجية في الخارج رغم كل المحظورات الصحية على حياته التي كانت تتشبث بشرايين مهترئة للمشاركة فيما يجده حياته الحقيقية – نضالات الطبقة العاملة -. الحوري من مناضلي الحركة النقابية في السبعينيات، دفع الحوري ضريبة نضاله اضطهادا وسجناً وفصلاً من العمل. لم يتوارى عن الأنظار كما فعل الكثيرون ولم يلعب أدوار البطولة الإعلامية، ظل محافظاً على شخصيته وإيمانه الصلب بحقوق الكادحين وفي كل مرة يحكي لي فيها عن ذكرياته السبعينية أرى في عينيه بريقاً يدعو إلى الاعتزاز.
مما أتذكره أن جليل إنفعل ذات مرة على إحدى المنتديات في المنبر لأنه أحس في كلامها ما يشبه التخويف فوقف صارخاً ومتوجهاً للتلفاز الذي كان يبث المحاضرة في النصف الثاني من قاعة مقر المنبر القديم في الزنج وقال” أحنى الاستعمار ما خوفنا، أمن الدولة ما خوفنا، و ما في أحد اليوم بيخوفنه”.
السعداوي والحوري يشبهان بعضهما كونهما عملتين نادرتين في هذا الزمن أخشى أنهما لن يتكرران.
الإصلاحيون الإيرانيون (3)
يتجمد وعي الإصلاحيين الإيرانيين في المسائل الحداثية الكبرى للعصر وخاصةً في مسألة العلمانية. فيقومُ بمناوراتٍ ايديولوجية وسياسية حولها.نتابعُ أفكارَ السيد بهزاد نبوي المسئول السياسي الكبير السابق الذي حُكم عليه بالحبسِ خمس سنوات في الثورةِ الخضراء، يقول:”أود أن أقول أولاً إنني لستُ من العلمانيين، بل اعتقدُ بالحكومة الدينية، ونظام ولاية الفقيه هو أحدُ وجوهِ الحكومة الدينية. في الفقهِ الشيعي هناك بعضُ الفقهاءِ وعددهم ليس كبيراً ممن يؤمنون بنظرية ولاية الفقيه وكان الامامُ الراحلُ الخميني واحداً منهم. ونظراً الى انه كان قائدُ الثورة ونظرةُ ولاية الفقيه كانت نظرته حول الحكومة فإننا بسببِ إيمانِنا به وبسياساته، قبلنا بولايةِ الفقيه في إطارِها الدستوري”، السابق.
تحددُ هذه العبارة تاريخيةً مبهمةً لكننا نستطيعُ أن نوضحَ أشياءَ فيها، فتشيرُ كلماتُ الضميرِ الجماعي في (قَبلنا) وغيرها، إلى الكتل التحديثية (الثورية) و(اليسارية) و(الليبرالية) التي قَبلتْ بقيادةِ الإقطاع الديني، بعد الضرباتِ الموجهةِ للبرجوازيةِ الوطنية بعد مصدق، حيث غدا هذا الإقطاعُ هو الجسم السياسي المتنامي في حضن المجتمع الذي له تاريخٌ سابق طويل، وحاولت قيادة الخميني الجمعَ بين المحافظين الدينيين وأولئك الليبراليين الرافضين خاصة للعلمانية، وتم التحاقُ هذه النخبِ بهذه القيادةِ الدينيةِ التي جذبت الجسمَ الديني الواسعَ للسيطرةِ على أجهزةِ الدولة والحياة الاجتماعية.
لقد عبرتْ الكتلُ الليبراليةُ واليسارية واليسارية المتطرفة عن هذا الفشلِ في تثقيفِ الشعبِ وتنويرهِ وعدم اتخاذ مواقف صائبة عميقة خلال العقود السابقة، عبر اعتمادِها على نقل “الموديلات” النظرية السياسية الخارجية، والأخطر كان اعتمادُ بعضِها على العنف المسلح المغامر، مما أدى إلى حرق وتحجيم هذه الكتل على درجاتٍ مختلفة.ولهذا كانت ولايةُ الفقيه هي تعبيرٌ عن إفشالٍ لإصلاحية آيات الله العظمى المتدرجة وقفزٌ عليها، كما أنها تذويبٌ للمنظماتِ الليبرالية واليسارية وعدم الاعتراف بها عمليا، أي هي شكلُ الدكتاتورية الايديولوجية السياسية الحاكمة.
وبطبيعةِ الحال لابد أن يكونَ هذا الشعارُ السياسي غيرَ مقبولٍ للغالبية من شيوخ الدين الشيعة نظراً إلى جرهِ إيران إلى مغامراتٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ محفوفةٍ بالمخاطر كما أثبت التطورُ ذلك، لكنهم لم يناقشوه ويحللوه.ويشيرُ تعبيرُ السيد نبوي هنا إلى ذيليةِ هؤلاء الليبراليين الدينيين في العمليةِ التاريخيةِ، وقبولهم بالدكتاتورية الصاعدة، وعدم فهمهم للعملياتِ التاريخيةِ التي جرتْ للإيرانيين وللمسلمين عامة.
إن لحظةَ قيادةِ البرجوازية الصغيرة من قبل دينيي الثورة، للصراع الصعبِ المفتوحِ والمجهول تدفعُها إلى مقاربةِ الليبراليين، إنها لا تُظهرُ هنا في لحظةِ التشكيلِ المتلهبة كلَ شخصيتها، فهي لا تزالُ في القاع الاجتماعي ولم تتناثرْ عليها الثرواتُ بعد، وهي بحاجةٍ إليهم، ويمكن أن تتقاربَ مع سماتٍ معينة كالحرية والشعب والدستور وغيرها لكنها تؤسسُ الدولةَ وبناءَها الاقتصادي، فترتفعُ الفئاتُ الوسطى الكبرى عن تلك البرجوازيةِ الصغيرة التي تجسدتْ في الأئمةِ البسطاءِ الفقراءِ، وفي المثقفين الشعبيين المضحين، ولكن حراكَ الحداثةِ لديها لا يجعلها تنطلقُ في الحرية والعلمانية والديمقراطية الحقيقية، فلجامُ الإقطاعِ يوقفُها ويضغطُ على فمِها وعقلها، فهي تنتفخُ عبرَ مؤسساتِ الرأسمالية الحكومية التي يحددُ خطوطَها العريضةَ الإقطاعُ الديني بأهدافه.
والليبراليةُ الدينيةُ تريدُ الاستمرارَ في هذا التحول البنائي الرأسمالي الحكومي نحو الرأسمالية الحرة والانتخابات الحقيقية والديمقراطية والحريات، لكنها وقعتْ في القبضةِ العامةِ للمؤسساتِ المعبرةِ عن القوةِ الأساسية في هذه الطبقة الحاكمة وهي قوة المحافظين المعبرين عن ذلك الإقطاع الديني التاريخي الموروث الذي خنقَ الثورةَ الإسلاميةَ الأولى وشكل الدولَ العضوض على صفحات التاريخ الواسعة.
الحبلُ الأولُ من ذلك اللجامِ هو إلغاءُ العلمانية في دولةِ المحافظين، وهي المعبرةُ عن حاجاتِ الأغلبيةِ الشعبيةِ المسلمةِ خاصةً في الانفكاكِ من “سيطرةِ” الإقطاعين السياسي والديني، الموسومة باسم الإسلام. يقول السيد نبوي:”وبالطبع فان مبدأ ولاية الفقيه في الدستور يجب ألا يكون في التناقض مع بقيةِ المبادئ والاصول الدستورية. أي ألا يأتي فوق الاستقلال والحرية والجمهورية الاسلامية.
إن ولاية الفقيه التي نقبلُ بها ليستْ سلطةً فوق سلطة القانون والدستور. إن المادة الـ 110 في الدستور حددتْ بشكلٍ واضحٍ حدودَ وابعاد صلاحيات وسلطات الولي الفقيه) السابق. إن مبدأ ولايةِ الفقيه لم يكن في تضاد مع الدستور بل هو رتبَ موادهُ لتكريسِ ذاتهِ فيه، وجعلَ الولي الفقيه مهيمناً عبر مؤسساتٍ خاضعةٍ له، وهي كلها تعبرُ عن هذه البيروقراطية الدينية العسكرية المالية الحاكمة، وليستْ عن هذه التعبيرات المجردة: الشعب، والأمة والمسلمين …الخ.
يفهم الليبراليون الدينيون الحقبة الراهنة كما تشاء إسقاطاتهم الفكرية، وأمانيهم الحالمة، لكن مفردات الواقع الحقيقية لها أسنان قوية سوف تعضهم بقوة شديدة.
أخبار الخليج 12 يونيو 2010
الصعود والهبوط في ” أسهم ” الملف النووي الإيراني
قضية البرنامج النووي الإيراني تشبه إلى حد بعيد حالة بورصات الأسهم العالمية، فملفها الذي أصبح من الملفات المسجلة (Registered Cases) والمعتمدة قيد التداول في بورصة العلاقات الدولية ثنائية ومتعددة الأطراف، مثله مثل ‘ملف’ أسهم الشركات المسجلة (Registered companies) والمعتمدة قيد التداول في البورصات المحلية والإقليمية والعالمية. فأسهم هذا ‘الملف’ تطلع وتهبط، تماماً كما هو حال أسهم الشركات المسجلة في البورصة ضمن وتيرة التداول اليومية الاعتيادية الجارية. وفجأة تحدث انعطافة ما سرعان ما تجد تجسيداتها في حجم التداول الحاد والعصبي الذي يخيم على أجواء بورصة ‘الملف’ إياه.
أكثر من مرة شهد فيها الملف النووي الإيراني انعطافات حادة تصاعدت وتسارعت وتيرتها في سرعة متناهية ووصلت في عديد حالاتها إلى حافة شن الحرب الأمريكية على إيران، حتى صار من البديهيات أن تترافق موجات التصعيد المفاجئة التي يشهدها هذا الملف بين فترة وأخرى، مع ظهور سيناريوهات بحبكات عجيبة حول الحرب المُحَتَّم وقوعها (في أي لحظة من وقت بدء إطلاق التكهنات والسيناريوهات)، وبعضها لا يخلو بالمناسبة من موضوعية متكئة على ظاهر وطبيعة التحركات والمعطيات ذات الصلة مباشرة بالموضوع.
إنما وعلى حين غرة أيضاً، سرعان ما تختفي تهديدات الحرب ويتوقف دق طبولها.
حدث ذلك إبان ولاية الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش التي استمرت ثمان سنوات والتي نشأت خلالها أزمة البرنامج النووي الإيراني وتحولت إلى إحدى أهم القضايا التي تتصدر أجندة السياسة الخارجية الأمريكية.
وكما أسلفنا فلقد كانت قضية الملف النووي الإيراني قيد التداول الاعتيادي بين الفرقاء الأساسيين المعنيين بها، وهم هنا الولايات المتحدة الأمريكية التي تحرص دائماً حين التحدث عن هذه القضية أن تتحدث باسم الأسرة الدولية (رغم أن أحداً لم يكلفها أو يخولها بذلك)، وبعض الدول الأوروبية الرئيسية الحليفة للولايات المتحدة في شمال الأطلسي (الناتو) مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا، والوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وفجأة حدث تصعيد مفاجئ في الموقف من جانب الولايات المتحدة تجاه إيران، حيث شهدت الأسابيع القليلة الماضية تحركات دبلوماسية وضغوطاً سياسية أمريكية في كل الاتجاهات من أجل تحقيق إجماع دولي في مجلس الأمن الدولي الذي يضم بالإضافة إلى الأعضاء الخمسة الدائمين (أي القوى النووية العظمى: الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا)، عشرة أعضاء غير دائمين يمثلون، بالتناوب، مجموعة الدول النامية الأعضاء في الأمم المتحدة، لفرض حزمة جديدة من العقوبات الاقتصادية والعسكرية ضد إيران.
إنما هذه هي أول مرة يشـهد فيها الملف النووي الإيـراني تصعيداً بهذا المستوى.. بما في ذلك إعادة إطلاق الحرب النفسية وحرب الأجهزة المخابراتية، اللتين اقترنتا ببدء الطرق الخفيف على طبول الحرب، من خلال تكثيف التسريبات الصحافية حول التموضع الميداني والجاهزية القتالية لفرقاء التصعيد، وصولاً إلى الشروع الفعلي في إجراء المناورات العسكرية في المناطق المرشحة لأن تكون ميادين القتال الفعلية.
ولقد التقطت تركيا والبرازيل بسرعة مغزى ومخاطر هذا المنعطف الحاد والجديد في ملف المواجهة بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة وإيران، فسارعتا لاحتواء الموقف عن طريق تتويج الجهود الدبلوماسية والسياسية التي بذلتها كل منهما باتجاه طهران في الشهور القليلة الماضية، باتفاق ثلاثي يلبي المطالب الغربية والمتمثل أساساً في تبادل الوقود النووي الإيراني منخفض التخصيب بآخر خارجي عالي التخصيب.
إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الأوروبية الحليفة لواشنطن رفضت هذا الاتفاق وسارت قدماً في مسعاها لفرض حزمة جديدة من العقوبات الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية ضد طهران من خلال استصدار قرار في مجلس الأمن الدولي بذلت واشنطن جهوداً سياسية وتحركت آلتها الدبلوماسية شرقاً وغرباً وجنوباً من أجل حشد التأييد المطلوب لهذا القرار. لقد ساء واشنطن أن يبرز لاعبون جدد مثابرون ينافسونها في ‘حرفتها’ المتمثلة في احتكار التحركات السياسية والدبلوماسية الدولية لبلورة وصياغة مواقف دولية من مختلف القضايا العالمية. وهي لذلك ‘شكرت’ على لسان رئيسها باراك أوباما الرئيس البرازيلي لويس أناسيو لولا داسيلفا ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من نجحا في إنجاز الاتفاق الثلاثي سالف الذكر، إلا أنه رفض قبول الاتفاق الذي توصلا إليه مع طهران بدعوى أن إيران لم تتخل عن تخصيب اليورانيوم بنسبة 20٪. إنما الأمر المستجد واللافت في هذه الموجة الجديدة من تصعيد الملف، هو الخلاف الروسي الإيراني الذي خرج من الكواليس إلى العلن معبَّر عنه من الطرفين بتراشقات لاذعة بدأها الرئيس الإيراني أحمدي نجاح باتهامه روسيا بأنها اختارت الوقوف مع أعداء إيران نزولاً للمشيئة الأمريكية، فرد عليه في اليوم التالي مساعد نائب الرئيس الروسي بكلمات أقسى حين دعا إيران للتوقف عن الخطابات الدوغمائية.
تفسير ذلك، على ما نرى أن روسيا ليست أقل براغماتية من إيران، ومادام طريقها أصبح سالكاً باتجاه التعاون مع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ومع واشنطن بعد تجديد اتفاقية ستارت لخفض الرؤوس النووية لدى الجانبين، فلابد لها أن تفاضل بين مصالحها لدى الجانبين الغربي والإيراني. وهذا ما أثار حنق طهران التي أرادت أن تعبر عن غضبها من الموقف الروسي المتحول بإجراءات قاسية مثل طرد شركة ‘روس نفط’ الروسية من إيران قبل حوالي شهر والتلميح إلى إمكانية قطع الروابط مع ‘غازبروم’، ما استدعى بدوره حنقاً روسياً وجد تعبيره في الموقف من حزمة العقوبات الجديدة.
وأما بشأن الأسباب التي أملت حدوث التصعيد الجديد في الملف النووي الإيراني فنعتقد أن مردها التالي:
– التوتر العاصف الذي أحدثته نتائج الانتخابات الإيرانية التي جرت قبل نحو عام بين الغرب والنظام الإيراني.
– تغيير المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، حيث إن المدير العام الجديد الياباني يوكيا أمانو الذي خلف المدير العام السابق للوكالة محمد البرادعي في ديسمبر من العام الماضي، يتخذ موقفاً أكثر صرامة تجاه إيران فيما يتعلق بالشفافية والإفصاح.
– استنفار إسرائيل بجميع لوبياتها حول العالم لتكثيف الضغط على إيران وفرض عقوبات صارمة ضدها إذا لم يكن بإمكانها الحصول على دعم ومساندة واشنطن السياسية والعسكرية لمهاجمة المنشآت النووية الإيرانية.
– فشل محادثات مجموعة الخمسة+واحد (الولايات المتحدة، فرنسا، روسيا، بريطانيا، الصين + ألمانيا) مع إيران التي جرت آخر جولاتها في جنيف مؤخراً من أجل التوصل إلى اتفاق على مبادلة الوقود النووي الإيراني منخفض التخصيب بآخر عالي التخصيب.
الوطن 12 يونيو 2010
كيف صدرت «الأهرام»؟
في 5 أغسطس من سنة 1876 صدر العدد الأول من جريدة «الأهرام». صدرت الجريدة في الإسكندرية وليس في القاهرة كما قد يتوارد إلى الأذهان. إلى المدن الساحلية عادة تأتي الأفكار الجديدة والمشاريع الجديدة، وكان إصدار صحيفة يومية في بلدٍ مثل مصر وفي ذلك الزمن المبكر خطوة جديدة، لا بل حاسمة في اتجاه الذهاب للمستقبل.
ستغدو «الأهرام» بعد عقود، واحدة من أهم الجرائد العربية على الإطلاق، وإن لم تكن أهمها، وسيتعاقب على إدارة مؤسستها ورئاسة التحرير فيها كتاب مرموقون في تاريخ الصحافة في مصر، ومن على صفحاتها ستبرز أسماء لامعة تشكل علامات بارزة في تاريخ الصحافة والثقافة في مصر.
وقد وقعت يدي مرةً على صورة من العدد الأول من «الأهرام»، فإذا به عدد بسيط يقع في أربع صفحات من القطع المتوسط، يكاد يكون خلواً من التبويب، ليس على النحو الذي نعرفه اليوم في صحافتنا وإنما حتى بمعايير زمن مضى، لكن هذه الصفحات الأربع القليلة عنت في حينه انقلاباً مهماً في اتجاه التأسيس لظاهرة جديدة لم يألفها المجتمع بعد ولم يعرف ما الذي تعنيه.
والطريف أن محرر الجريدة كتب في مكان ما من على صفحتها الأخيرة ما يشبه الافتتاحية، رغم أنها لم تأتِ تحت هذا العنوان ولا على الصفحة الأولى كما هو متوقع، ولا داخل إطار أو «برواز» يلفت إليها الأنظار، وفيها يقول المحرر: « بما أن البعض في هذه المدينة «المقصود هنا الأسكندرية» يرغب أن يرى في لغتنا العربية جريدة يومية تجارية، نحن نعد الجمهور بأنه متى وجد مشتركون وافون للأيام بإدارة الجريدة اليومية لا نتأخر عن إنشائها وتقديمها كل يوم جامعة جميع الحوادث البرقية اليومية وأخبار البورصة وسائر الواردات والصادرات بأثمانها وما شاكل ذلك».
ولم يكن ما في ذهني سليم تقلا وبشارة تقلا، صاحبا ومؤسسا الجريدة القادمان من لبنان، مقتصراً على إصدار جريدة وإنما أيضاً إقامة مؤسسة تقدم خدمات طباعية، بدليل أنهما يعلنان للجمهور في المكان ذاته بأن المطبعة التي تطبع «الأهرام» مستعدة لطبع ما يرد إليها من كتب علمية وأدبية وقصص ونوادر وخلافها، وكذلك تطبع بالحرف العربي والإفرنجي جميع أوراق الأفراح وضدها نظماً أو نثراً من تأليف مدير الجريدة».
حوى العدد إلى ذلك أخباراً دولية، لم تقتصر على السياسة وحدها، وحوى مقالاً أقرب إلى التأملات الوجودية الفلسفية ومتفرقات محلية، غالبها يتصل بمدينة الإسكندرية ذاتها حيث صدرت الجريدة، وبقضايا المحاكم والقضاء فيها، كما أفردت حيزاً لتتحدث فيه عن تاريخ أهرامات الجيزة، التي منها استوحت اسمها.
إن تلك السطور التي حوتها الصفحات الأربع يمكن أن تقرأ كاملة في نحو نصف ساعة. وربما لن يجد القارئ فيها ما هو مثير إذا ما حاكم الأمور من زاوية النظر للأمور كما عليه الآن. ولكن تلك السطور كانت تؤسس لعهدٍ جديد، لتاريخ جديد في مصر وفي المنطقة العربية.
أسئلة وإجابات حول الإسلام السياسي وظاهرة العنف
وفق المنهج التحليلي العلمي العقلاني ناقش المفكر «محمود أمين العالم» وفي أكثر من موقع مشكلة الإسلام السياسي وظاهرة العنف التي ولأسباب عديدة استفحلت منذ ما يزيد على عقدين من الزمان، مبيناً آفاقها الإيديولوجية وصراعاتها الأساسية التي خاضتها من اجل الحفاظ على موروثات السلف والسلطة الدينية المتزمتة بخلاف بعض المفكرين في البلدان العربية والإسلامية الذين تناولوا هذه الظاهرة بخطاب تبريري توفيقي.
في إحدى مقابلاته الصحفية أجاب على أسئلة أساسية تتعلق بهذه الظاهرة تضمنها كتابه «من نقد الحاضر الى إبداع المستقبل تحت عنوان « أسئلة وإجابات حول الإسلام السياسي وظاهرة العنف» وكان في مقدمة هذه الأسئلة تعيش الأصولية الإسلامية حالة من حالات المد.. فهل يرجع هذا إلى تخلف القوى الفكرية والسياسية الأخرى في المجتمع.. أم يرجع إلى أسباب أخرى؟
حول هذا السؤال تحدث «العالم» منتقداً البلاد العربية لكونها لا تقدم بدائل صحية لكل الأوضاع السلبية، اذ يعتقد ان هذه الأنظمة تفتقر إلى المشروع الاستراتيجي الشامل سواء كان مشروعاً قومياً او اشتراكياً او حتى ليبرالياً رأسمالياً اي فهي أنظمة بلا مشروع، اللهم إلا تقديم بعض الحلول الجزئية لإدارة أزمة واقعنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وان هذه البلدان لا تزال تعيش التبعية الاقتصادية مع الدول الرأسمالية.. ولكنها تفتقد الى الرؤية الموضوعية الشاملة «الإرادة الوطنية» المجتمعية، لذلك برزت الأصولية الإسلامية ليس بمعنى استلهام اصولنا.. وانما لتثبيت وتمجيد بعض هذه الأصولية وبحسب تفسيرها الخاص ومحاولة فرض هذا التفسير الخاص فرضاً على مجتمعاتنا بما لا يتفق مع مستجدات الواقع والحياة والعصر وهي لا تقدم بديلاً اللهم إلا البديل الروحي الأخلاقي العام أي الدين.. بدون أي رؤية موضوعية لمتطلبات الواقع او حلول عملية لمشاكله.. اللهم إلا السعي لإقامة سلطة دينية ولهذا السبب يتحقق هذا المد الأصولي الأخلاقي المتزمت كرد فعل للجزر السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تفاقمه الأنظمة السائدة ولكن هذا المد يعجز عن أن يقدم بدائل موضوعية واستخدام بعض فصائله لعملية الاغتيالات وأشكال الإرهاب المختلفة للمثقفين والسائحين ورجال الأمن والمؤسسات المالية.. لا يستطيع ان يقيم دولة.
وفي رده على سؤال: يربط البعض بين الأصولية كمصطلح والإرهاب كمصطلح.. فهل هناك بالضرورة علاقة بين المصطلحين؟ يقول: هناك ارتباط بغير شك.. فالأصولية الإسلامية تعبر عن الجمود والاطلاقية وفرض رؤية ماضوية خاصة على الواقع هي النظرية العامة وان كانت لها تفريعاتها واجتهاداتها النظرية المختلفة.. والإرهاب ليس إلا التجلي العملي لهذه النظرية، ولما كانت النظرية فيها اجتهادات مختلفة فالإرهاب ايضاً الذي هو تجلٍ لها له تجلياته العملية المختلفة كذلك.. فالارهاب لا يقتصر في عمليات الاغتيال والقتل الفردي والجماعي فحسب بل في الاغتيالات المعنوية ايضاً مثل التكفير، تنفيذ الحدود وفرض الحجاب وتحريم الفنون والتفريق بين الازواج خلاصة الأمر، أن الإرهاب الفكري والعملي هو التجلي لجمود الأصولية النظري وان اختلفت وتنوعت أشكاله ومظاهره.
وثالث هذه الأسئلة: يرى البعض ان تصاعد تيار الإسلام السياسي يمثل خطراً على بنية المجتمع المدني.. فهل ترى ذلك الرأي؟
وحول هذه الإشكالية يجيب قائلاً: نعم أرى هذا الرأي تماماً.. لان هذا التيار يعتقد انه يحتكر الحقيقة ويسعى الى إقامة سلطة دينية بمقتضى هذا الاعتقاد.. وبالتالي ستكون المشروعية في المجتمع مشروعية صادرة عن تصور خاص محدد للدين ومعالجته لمختلف الأمور الدنيوية بمقتضى هذه الرؤية الدينية المحددة وهذا يتحقق بالضرورة بفرض متعسف باسم من؟
باسم الدين.. ما يعني الخطر على المجتمع المدني.. بل والقضاء على إمكانية المجتمع المدني الذي يجب تنميته وتطويره على أساس حرية الاختلاف وحرية النقد وضرورة المشاركة الديمقراطية وحرية الإبداع وضرورة التجديد. وان هذا الفرض من أعلى لمفهوم معين للدين سوف يعطي للسلطة سمة مقدسة وبالتالي فان كل اختلاف معها سيكون اختلافاً مع الدين بحسب فهمهم وهذا ليس خطراً على المجتمع المدني فحسب ولكنه خطر على المجتمع نفسه في بنيته الأصلية.
أما بالنسبة للسؤال: يرى البعض ان الدعوة لتطبيق الشريعة تعتبر نقيضاً للتعددية الدينية والسياسية والثقافية في المجتمع.. فهل ترى ذلك مع مراعاة ان الدستور في مصر مثلاً ينص على أن دين الدولة الرسمي الإسلام.. والشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع؟ يقول: انا لست من أنصار القول بان الشريعة هي المصدر الأساس والوحيد للتشريع.. لان هذا قد يحد من حرية التشريع بما يقتضيه تجدد الحياة وتغير وتجدد المصالح والأفكار والقيم، ان الإسلام بغير شك «بُعد أساس» من ابعاد وعينا الثقافي.. وبل وثقافتنا عامة ولابد ان نستلهمه في اتخاذ مواقفنا من مختلف قضايانا لكن لا ينبغي ان نقف عنده وحده وإنما من الواجب أن نستلهم العديد من الخبرات الدينية وغير الدينية الأخرى التي تمخضت عن خبرة الحياة والتي تتجدد بالضرورة بتجدد الحياة من حولنا، وأنا من أنصار الدولة المدنية التي لا تعني تناقضاً مع الدين وإنما تعني التفتح على الدين عامة فضلاً عن الخبرات والمصالح المتجددة مع تجدد الحياة.
الأيام 12 يونيو 2010
جليل الحوري ..يالدنيا…!
أقام المنبر الديمقراطي التقدمي بالتعاون مع نقابة المصرفيين حفل تأبيني بمناسبة أربعينية فقيد الحركة النقابية جليل الحوري والذي غادرنا واقفاً شامخاً في اعتصام المصرفيين أمام المرفأ المالي في 24/4/2010م.
وخلال الحفل أتحفنا الشاعر عبدالصمد الليث بقصيدة مؤثرة ومعبرة تعددت فيها الصور البلاغية هذا نصها:
جليل الحوري ..يالدنيا…!
المقدمــة
مجداً لذكرى جليل الكادح الحـوري فهو المضيء لنا في درب ديجور ِ
قد خاض عمـداً غمـار الفعل ملتزماً لـم يـثــنـه خطـرٌ أو قـيد مذعور ِ
لولا الـتـصـبـّر لابـيضت نـواظـرنا وحـسـبـنـا ثـاكـلٌ يـرقـى بـمـأثـور ِ
(هـوّن عـلـيـك فـلـلأحــزان آونــــة ٌ وما الـمـقـيم على حــزن ٍبـمعذور)
عـزاؤنـا أن تـأريـــخ الـرفـيـق لـنـا درس ..ومـفـخرة من خيرمـبرور ِ
لـلـمُخـمَلـيـيـن قـولـوا:أن فـارســـنا بحومة الـمـوت عـرّى كلَّ مستـور ِ
المرثيّــة
نــطــرنــا تـلـمـلـم جــروحـك…
تـجـيــنـا بـقـلـبــك الـلـهـفــان…
شـايــل مـشـيــة سـنــيــنــك…
وصـرخــات الأمــل والـهــمّ
نــطــرنــا تـشـيــّّم بـروحـك…
وَعِـيــنـا بـدربـك الـولـهــان…
حــادي والـنــدى يــزيــنــك…
بـنـغـمــات الـعـمــل تـحـلــم
نــطــرنــا ولاح يــالــحــوري…
وجــهــك فـي مــدار الـنــاس…
يــالــغــالـي ..نــجــم أحــمــر…
يــضــوّي فـي سـمــا الـمـلـحــان..
بـــحـــر و بـــــرّ
چـفــّك نـبـضـة الإحـسـاس..
لـلـتــالـي مــطــر أخــضــر…
يـسگـي فـي ظـمــا الأوطــان…
بــــرد و حــــرّ
يـــا بـــحّــــار…
مــا شـــگ الـهــوا شــراعــه…
مــا خــاف الـبـحــر والـمــوج…
ولا لـسِـيـف الـمـذلـه هــان واسـتـسـلــم
تــشـــوف آلاف…
فـي عـيـــشــة شــِــگـا…
وطــوّاش يــتــنــعـــم
وفـي ديـــرة هـَــلـَـك …
جـيــش الـجــراد الـغـــُرب…
يــاكـل مـن سـنــابــل خــيـــر…
وبــگــلـبـك ..تـعـيــش..تـشــوف
كـان الـرابـع وعـشـريــن مـن أبـريــل…
ســبـــت الــغـــــمّ
عـبـرت الـشـارع الــمــزحــوم…
مــــال وراس…
ظــلـم وسـاس…
عـشـگ ونـــاس
وصــلــــــت…
وعـيـنـك الـلي مـا طـفــاهـا الـلـيــــل…
تـرسـم بـسـمــة الــچـلــمــــات…
حـبّــك صـافـح گــلــوب الــرفـــاگــه…
والـوفـا مـن زودك إتــعــلـّـــــــم
سـمـعـنـا اوتـار صـدرك تـنـصـر الـمـظـلـوم…
ولـــغـــيـــرك تــريــد حـــگــــوگ!!!
وبـلـحـن الـمـطـالــب دوم تــتــرنــــّم :
(إســمــع إســمــع يــا مـسـئــول
فــصــل الـعــامــل مـو مـقـبــول)
تــهــــــزّ إيـــــــــــــدك…
طّـــگـّـــة مــــطــــرگـــه…
فـي طــوفــة الــنــســيـــان…
تــوگـــّـظ غــفــلــة الــبــيــبــان
لــجــل الــعــامــل تــنـــادي:
(الــوحــده الــوحــده يــا عــمـّــال
الــوحــده الــوحــده يــا عــمـّــال)
لــحــظـــــــه…
وتـذبــل ورود الــشــفــايـــف…
تــســكـــت الأوتـــــــــــار
لـــحــظــــــه…
وبـيــرگ الـنـخـوه…
يـمـيـل وتـرفــعــه الـشـهــگـــات
لــحــظــــــه…
وخـيـّـــم الــمــوت الــقــهـــر…
فــوگ (الــمــنــامـــه)…
و(حــورة الــحــدّاده) حــزن ودمّ
لــحــظـــــه…
تــغــافــل ظــنــون الشــــوارع…
وبــجــنـــاح الشـــــــوگ…
تــصــعــد فـي ســمــا الـبــحــريـــن…
طــيــرالــنــورس الــمــغـــدور…
و( الــمــرفــأ) ســهــام بــســــــمّ
عـشّـك فـي نـخـيــل الـصـبــروالــمـيــدان…
إســمــك غــنـــوة الــتــاريـــخ
جــلــيــل الــحـــوري يـالــدنــيـــا…
يـعـيــش إف كـل قـصـيـــدة حـــبّ
گــــول وفـــعـــــل….
مـن أجــل الــفــجــر يــحــلـــــم…
أبــــد مــا مـــــــــات
عبد الصمــد الليــث
6 يونيو 2010م