إذا كان العراق يتمزق ويتدمر فهو كذلك ينمو ويتشكل جديداً.
قامتْ التصوراتُ التقدمية الأخيرة على القطع البنيوي المطلق مع الآخر الرأسمالي، وطنياً كان أو غربياً.
أعطى الاحتلال سلسلةً من التضاداتِ الحارقة، التي أظهرتْ تداخل الغربي والوطني، الديمقراطي المعلب والمحافظ الحقيقي في عظام البلد.
وإذا كان الوعي التقدمي القديم يقوم على الميتافيزيقا الفكرية أكثر من الجدل، فلم يعدْ مثل هذا الوعي قادراً على قراءةِ الألوانِ المختلفةِ والتداخلات المعقدة، وتكوين النضالات المُركبة.
وفيما الغربي المسيطرُ يهدمُ إستبداداً فهو يخلقُ إستبدادات جديدة، وبين لحظةِ هدمٍ شموليةٍ تتدفقُ شمولياتٌ، وبين ظهورِ حريةٍ تنزلُ فخاخٌ شمولية كثيرة.
وفيما تتعاونُ مع غربٍ ديمقراطي تصارعُ غرباً متدخلاً يُلحقكَ بعربتهِ ذات السكك الخاصة، ولا يجعلكَ تصنعُ سكتك الحرة.
وفيما تعتز بنضالك الثوري السابق تنقدهُ بصورةٍ موضوعية ولا تحيلهُ إلى مآتم جديدة أو خرابة يأس.
وفيما كنتَ تناضلُ لإزالةِ الرأسماليةِ عليكَ أن تشجعَ صعودَها الوطني الإنتاجي الآن وتصارعها في بخسِ أجورِها وفي بذخية أشكالها وطفيلية أعمالها!
وفيما كنتَ تقدسُ الطبقةَ العاملة وتحيلُها إلى أسطورةٍ خارجَ الزمانِ والمكان عليك أن تضعَها فيهما، وترى بذورَ العلوم والنضال والوطنية والديمقراطية الصغيرة فيها وترعاها!
الأممية، الوطنية، القومية، المذهبية، وشائجٌ متداخلة، الوعي المادي الجدلي يضعُ بينها جسوراً، ولكلٍ منها تركيب، فالأمميةُ هي الخيمةُ الكبرى التي تضمُ البشرَ منتجين ومالكين، هي التاريخُ الأساسي للشعوب وصانعةُ التشكيلات والتداخلات الكبرى، وتصيرُ مجردةً وقاتلة إذا تناقضتْ مع القومية والوطنية، ففي التوحيد الوطني طوبة للأممية، وفي تفكيكِ المذهبية عن التعالقِ مع الشمولية السياسية الحاكمة تطويرٌ للدين، وفتح الآفاق أمامه للتجديدِ العقلاني.
النسخُ الأولى القديمةُ من التقدميةِ هي طيرانٌ فوق التضاريس، هي موديلٌ مجردٌ موحدٌ يُركبُ على كلِ التضاريس، لا يَعرفُ المركِبون خصائصَ الموديل وتاريخيته وصلاحيته وكيفيته، لا يفككون العلاقات بين أمميته، ووطنيته، وقوميته، ومذهبيته، وطبقيته.
الآن تغدو القراءاتُ والدراسات مواكبةً للانتخابات والعمل اليومي الدعائي النشط، هنا يجري فحص موديلَ الرأسمالية الديمقراطية المجلوب عبر القوة العالمية، وتفكيك أجزائه، حيث لا أن يكون بدون الصناعتين الحرة والعامة المتداخلتين لخلق قوى إنتاج وطنية متحررة، تعيد إحياء وتطوير القوى الشعبية المنتجة من رأسمالية وطنية وعمال وفلاحين ومثقفين.
هذه هي الشبكةُ التوحيديةُ العابرةُ للنسيح المُفكك المذهبي والسياسي القومي الانعزالي.
من الضروري تجاوز التناقضات العدائية بين الوطني والمذهبي والعالمي وبضرورةِ رؤيةِ البذور المفيدة في كلٍ منها، وصفها بطريقةِ التحام الوطنية والعلمانية والأممية الديمقراطية الجديدة في العالم، لتغدو نضالاً عراقياً مركباً، يلغي من الأمميةِ التبعيةَ والتجريدَ الشكلاني والذيليةَ لعولمةٍ إستهلاكية، نازفةٍ للموارد، ومفككة لعرى الوطن وتاريخه الإنساني وصعوده الوطني!
ومن الضروري تجاوز المذهبيةَ الشمولية المعرقلة لتطور الإسلام، ولتحررِ المسلمين ووحدتهم، وهذا لا يحدث إلا بعلمانية ديمقراطية ثقافية تنويرية طويلة تحررُ العامةَ والخاصة من أوهام الطائفيات، وتعيدُ قراءات الإسلام بصورٍ ديمقراطيةٍ لتأسيسِ حضارات إسلامية ديمقراطية جديدة تضيفُ للإنسانية ولا تكونُ توجهاً إنتحارياً سائراً نحو الماضي عبر المجازر والخرائب.
إن العقولَ والإرادات التقدمية التي لديها كنوز من التاريخ والتراث والعلاقات العالمية لم تعد حكراً لجهة جغرافية، أو لموديل لا يقبل التعديل والنقد والتجاوز، فالماضي النضالي لم يمت لكن الاشتراكية تغيرت ولم تعد شعارات آنية مباشرة، وما تكرس من قطاعات عامة وقوى سياسية يتطلب مشاركة ومراقبة البشر، وسوف تكون لها مخاضات وتحولات جديدة في المستقبل، فلم تذهب التضحيات عبثاً، ولتطورها تتطلب تقدميين أكثر وعياً وتبصراً بالقادم على المستويات القومية والمستويات العالمية معاً، يعبدون الصلات بين الشعب وبين الشعوب، ويؤثرون في مرحلةٍ جديدةٍ من هزيمة الرأسماليات الحكومية الشرقية الشمولية نحو شراكةٍ ومكانة أكبر للعاملين.
كان صراعُ العراق مع شموليتهِ الحكومية الدموية وصارت مع شموليات حكومية جارة، تريدُ إلحاقَهُ بمشروعاتِها، ووقف مشروع الديمقراطية الوطنية الذي هو مؤثر ديمقراطي على شعوبها المحبوسة، مستخدمةً شعارات الوطنية والمذهبية والقومية في تفكيكِ العراق علها تلحقُ أجزاءً منه بها، أو تجعلهُ يدورُ في حلقةٍ طائفية مفرغة.
إن توسيع حضور الوعي الديمقراطي عند كافة أجزاء الشعب، عبر جبهات وقوى أهلية واسعة تجذر هذا التحول وتدعمه بإجراءاتٍ إقتصادية لصالح الأغلبية الشعبية هو المسار الطبيعي، بدلاً من العزلة والمطالبات ببرامج إشتراكية وثورية كاسحة وغيرها من الكلمات الرنانة بدون فعل على الأرض.
أو أن يجري الحديث عن الصفاء الوطني المطلق، والنقاء الطبقي الجوهري، في حين يتطلب الوطن كل ذرة من نضال، والأستفادة من أي شعاع في الحطام، وخلق تراكم ديمقراطي صعب في كل الطبقات والمذاهب والسياسات والمناطق.
لا شك أن مرونة الرؤى لدى التقدميين العراقيين ستلعبُ دوراً ليس لصالح الشعب العراقي بل لصالح شعوب المنطقة كذلك.