ألم يعد لدى الولايات المتحدة الأمريكية وإدارتها الحالية ما تقدمه لعملية التسوية الهزيلة والظالمة للصراع العربي الإسرائيلي، سوى التصريح من آن لآخر ‘أن واشنطن مازالت ملتزمة بحل الدولتين’ على نحو ما فعلت قبل أيام هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية وغيرها من المسؤولين الأمريكيين؟.
كم تحتاج الولايات المتحدة، ونظامها السياسي الحاكم تحديداً، من المندوبين المعيَّنين خصيصاً لمتابعة قضية الشرق الأوسط، كي تتمكن في نهاية المطاف (الذي لم ولن يأتي أصلاً) من إنجاز تلك التسوية البائسة؟.
من وليم روجرز وزير خارجية أمريكا في عهد الرئيس الأمريكي الراحل ريتشارد نيكسون الذي أطلق مبادرته المعروفة بمبادرة روجرز في 9 ديسمبر 1969 لإعلان فترة لوقف إطلاق النار بين القوات الإسرائيلية والقوات المصرية التي كان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر قد جهزها لشن حرب استنزاف ضد إسرائيل توطئة لتحرير ما احتلته إسرائيل في حرب يونيو 1967 من أراض مصرية وعربية. يومها قال روجرز’سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تهدف إلى تشجيع العرب على قبول سلام دائم وفي الوقت نفسه تشجيع إسرائيل على قبول الانسحاب من أراضٍ محتلة (لاحظ ‘من أراضٍ محتلة’ وليس من الأراضي المحتلة) بعد توفير ضمانات الأمن اللازمة، وإن ذلك يتطلب اتخاذ خطوات تحت إشراف كونار يارنك (السفير الذي عينته الأمم المتحدة مندوباً لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242) وبنفس الترتيبات التي اتخذت في اتفاقية الهدنة برودس عام ,1948 وكمبدأ عام فإنه عند بحث موضوعي السلام والأمن فإنه مطلوب من إسرائيل الانسحاب من الأراضي المصرية بعد اتخاذ ترتيبات للأمن في شرم الشيخ، وترتيبات خاصة في قطاع غزة مع وجود مناطق منزوعة السلاح في سيناء’.
… من روجرز إلى هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي أولاً ووزير الخارجية تالياً، الذي جاء بما تسمى سياسة الخطوة خطوة.. إلى.. إلى.. وصولاً إلى المندوب الأحدث جورج ميتشل.. وأمريكا ‘مازالت’ تحاول ‘إقناع’ (!) أطراف ‘التسوية’ إياها ‘وتشجيعها’ (!) على القبول بإطار التسويق المُقتَرَح من قبلها والمتحرك من محطة إلى أخرى، من كامب ديفيد إلى أنابوليس (ولاية ماريلاند الأمريكية) في نوفمبر 2007 وهي جولة من المفاوضات استهدفت التوصل إلى حل نهائي بحلول عام .2008 وقبل ذلك كانت هنالك محطات أخرى نسردها، للذكر فحسب، على النحو التالي: اتفاقات أوسلو (1993)، وقمة كامب ديفيد (2000)، وقمة طابا (2001). كما تتقافز (التسوية إياها) من صيغة إلى أخرى وصولاً إلى ما يُعرف اليوم بخطة خارطة الطريق.
كلنا يعلم أن مؤسسة النظام الرسمي العربي قد جنحت للسلم مع إسرائيل، ليس قولاً فقط، وإنما هي طرحت عدة مبادرات سلمية آخرها المبادرة العربية للسلام مع إسرائيل التي وافق عليها القادة العرب في قمة بيروت عام .2002
ولمَّا لم تُرفد هذه المبادرات وتُدَعَّم بأوراق ضاغطة، فإنها بقيت مجرد حبر على ورق، حيث رفضتها إسرائيل بل ازدرتها ولم تُعرها أدنى اهتمام يذكر.
الغريب والطريف في آن، أن ‘البضاعة’ العربية مازالت معروضة للبيع على ‘المشتري’ الإسرائيلي، وذلك على الرغم من أن المشتري قد أبدى سلفاً عدم اهتمامه حتى بالسؤال عن هذه البضاعة ومواصفاتها وميزاتها، ناهيك عن عدم رغبته الواضحة في ‘شرائها’.
ولكن المفارقة الغريبة هنا أن هذه المقاربة العربية الخاصة بكيفية تعاطي مؤسسة النظام الرسمي العربي مع قضية احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية والعربية واستمرار استعمارها واضطهادها للسكان العرب الواقعين تحت احتلالها، تكاد تتكرر بنفس المواصفات والمضمون في طريقة تعاطي الولايات المتحدة الأمريكية مع قضية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية، والتي تحتكر الجهود الدولية المبذولة منذ أكثر من ستة عقود لإيجاد حل للصراع العربي الإسرائيلي، ولكأنهما وجهان لعملة واحدة.
فالولايات المتحدة، كما مؤسسة النظام الرسمي العربي، قد اختصت نفسها بكامل الجهود الدولية الرامية إنفاذ التسويق السلمية للصراع العربي الإسرائيلي واحتكرتها لنفسها -(لا يغرنك وجود اللجنة الرباعية الدولية التي أنشأتها واشنطن في مدريد في عام 1992 إثر تأزم الوضع في الشرق الأوسط، حيث أوعزت إلى رجلها رئيس الوزراء الإسباني آنذاك خوسيه ماريا اثنار للتقدم باقتراح تشكيلها من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة وأوكلت لرجلها الآخر رئيس الوزراء البريطاني السابق، العاطل حالياً، توني بلير للقيام بأعمال المندوب التنفيذي للجنة. فهذه اللجنة شكلية أنشأتها واشنطن لأغراض دبلوماسية وسياسية تكتيكية ليس إلا)- نقول الولايات المتحدة كما المؤسسة الرسمية العربية، تطرح المبادرات، الواحدة تلو الأخرى لتسوية القضية، وتتزعم التحركات الدبلوماسية على هذا الصعيد، إلا أنها تمتنع امتناعاً كلياً عن رفد هذه المبادرات والتحركات بأية أوراق ضاغطة على الطرف الإسرائيلي الرافض بشدة لهذه المبادرات انطلاقاً من رفضه القاطع إعادة الأراضي والحقوق العربية التي نهبها إلى أصحابها.
فالذي يحدث أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة، تطرح مبادرات جديدة بزعم تسوية القضية (الشرق أوسطية)، فتشرع إسرائيل في مراوغتها والتحايل عليها باستخدام عامل الوقت الذي تُقدِم خلاله على أعمال منسقة ومبرمجة لاستهلاك المبادرات وتبديد زخمها قبل الإجهاز عليها نهائياً .. بما يمكنها من التملص من استحقاقاتها. تساعدها في ذلك بطبيعة الحال واشنطن التي تسايرها تماماً في تكتيكاتها الاحتيالية المفضية لمآل التملص إياه.
في يوم الجمعة 30 أبريل 2010 أعلنت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية أن مفاوضات التسوية بين إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية ستستأنف الأسبوع المقبل وأنها لذلك تطالب الحكومات العربية بإبداء المرونة والتعاطي الإيجابي مع إسرائيل من خلال ‘اتخاذ خطوات بناءة’ تجاه الدولة العبرية. بمعنى أن المنطق الأمريكي الأعوج هو هو لا يتغير بتغير الزمن والأفراد، فالضحية هي المطالبة بتقديم المزيد من القرابين لجلادها علَّ ذلك يشفع لها عنده وعند سيده. وما قالته هيلاري كلينتون ما هو في الواقع سوى تأكيد لذلك الالتزام بالنهج الأمريكي الثابت المتمثل في إطلاق بالونات المبادرات ولكن من دون تعضيدها بأدوات الضغط حال عرقلتها من قبل إسرائيل فتطويها الأيام والسنون.
وكل ذلك بقصد إخضاع الحقوق الفلسطينية والعربية المغتصبة في الأرض والمياه والمشردين من ديارهم، للتآكل والتلاشي والضياع.
وكما قلنا مراراً وتكراراً، ونعيد تأكيده من جديد، فإن العلة في كل ذلك لا تكمن في إسرائيل وحاميتها الولايات المتحدة بقدر ما تكمن في مؤسسة النظام الرسمي العربي التي سمحت لهذه المهزلة الاستمرار كل هذا الوقت.
الوطن 8 مايو 2010