ربما غياب الإنسان مدة من الزمن عن وطنه يعلمه خبرة مختلفة في مكان ما، بل ويسأل الإنسان نفسه بعد هذه المدة كم هو صبور الإنسان البحريني ومقهور أيضا بفعل نمط من الأوراق البيروقراطية والقرارات الإدارية البليدة، بل ونجد أنفسنا في حالة سخرية كوميدية من نمط سخرية موليير أو العالم السفلي الغريب والمجهول.
ما واجهته في البحرين لمعاملات يومية علمتني لماذا فعلا يغضب المرء أو يصمت في تلك المؤسسات؟ علمتني لماذا يمتص الإنسان المواطن معاناته مع تلك المواقف التي فقدت المنطقية وعلاقاتها في أية معاملة حكومية وغير حكومية، مما يربك المسار اليومي لفلسفة ما نتوق له كلاميا وحلما عن عالم «الحكومة الالكترونية والإنسان الآلي والتقني»، حيث الدقة والسرعة والانجاز قبل أي شيء آخر. دون شك المسؤول البليد لديه إجابات جاهزة والموظف الصغير النصف محكوم بعقلية النخاسة هو الأخر يجيبك «أنا عبد مأمور» وهذه تجعلني أكثر غيظا عندما أرى مواطنا لا حول له ولا قوة محتارا وحائرا في ترديد «خطاب الببغاء» لا الإنسان المرن والديناميكي في مواجهته أية مشكلة تحتاج لمعالجة واقعية ومنطقية.
بين المسؤول صاحب المرتبة المتوسطة والكبيرة وصاحب القرار والموظف الصغير «المشبع بالروح الإدارية البليدة» هو الآخر نسخة مشوهة من آلة يومية نتعامل معها إلى حد الإمكان إن تدفعنا لجريمة محتملة كما فعل الممثل الايطالي فرانكو نيرو في فيلم «المواطن الصالح» عندما قرر الانتقام لنفسه دفاعا عن كرامته وحقه المسلوب بقوة السلاح عندما وجد مركز الشرطة عاجزا عن استرداد المبلغ الذي جمعه طوال حياته، وضاع منه سدى في سطو مصرفي عندما كان يزمع إدخال مبلغه في حسابه الخاص، لحكاية ذلك الفيلم أبعاد سياسية في ايطاليا الغارقة في فسادها وبيروقراطيتها التي استشرت في المؤسسات جميعها وفي السلم الوظيفي برمته وبكل مراتبه الوظيفية والوظائفية، فليس بالضرورة الموظف الصغير فاسدا عندما يسرق مبلغا صغيرا تافها أو يقبل برشوة بين أوراقه، ولكنه أيضا يكون موظفا متواطئا عندما يصبح شريكا من لعبة كبيرة يخفض فيها رأسه عن مدار الريح الفاسدة ويغض عينيه عن مناخ عام فاسد من تحته وفوقه وحوله. بهذه المشاعر وتلك الرائحة تواجهك «مافيا وظيفية» صغيرة تبدأ من القسم الأصغر وتنتهي إلى أقسام اكبر حيث تشعر فيها حالة «المجتمع المغلق» مهنيا بين أصحاب القسم الواحد والمهنة الواحدة. ما لا افهمه أبدا في البحرين حالة تلك الازدواجية في تضارب العلاقة بين جواز السفر كوثيقة مواطنة وكونها وثيقة سفر صالحة للسفر والفيزا لا غير، حيث في الأولى لا يعني انتهاء صلاحية الجواز للسفر الغاء حقك الدستوري والمواطنة، إذ إن جوازك هو هويتك الرسمية. هكذا لم يصرف لي الموظف معاملتي لكون جواز سفري منتهيا، فجادلته ما علاقة المواطنة التي يحددها الجواز فيما لو إنني قررت أن لا أسافر أبدا وتركت جوازي معي في الخزانة؟؟ لماذا يتم مزج العلاقة بين صلاحية الجواز للسفر وصلاحيته كوثيقة رسمية من حق أي مواطن يمتلكها، حتى في حالة تجميد الجواز امنيا وقضائيا، فان هناك نسخة عن الجواز كفيلة بتأكيد حقه كمواطن حتى وان كانت لديه قضايا في المحاكم، إذ لا تلغي تلك القضايا كونه مواطنا؟ حاولت إدخال الموضوع في رأس الموظف فاحتار وقبل، ثم دخل على المسؤول وعاد بنتائج سلبية هي لغة الرفض والتشدد الوظيفي الأعمى مع أنني واثق أن ذلك التشدد لن يكون مع شخصيات ذات نفوذ سياسي أو مالي أو غيره بل وسيتخطى كل اللوائح بابتسامة كبيرة لذلك الشخص قائلا له «سامحنا عطلناك !!»، لقد ضاع مني اليوم كما تضيع مياه كثيرة في مجتمع استهلاكي لا يدرك ما معنى الثروة المائية الناضبة؟!! حدث هذا في مكان ما من أمكنة الوطن، المتطلع لعالم الحكومة الالكترونية ولا اعرف إن كانت تلك الحكومة ستصر علينا أن نجدد جوازاتنا لكل معاملة حتى وان قررنا البقاء عشرين سنة داخل البلد وصلاحية جوازنا لخمس سنوات! هذا فقط على سبيل المثال وليس الحصر.
مثلما لن أتحدث عن البطاقة الذكية مستقبلا وما بها من إشكاليات عدة في تبدل المعلومات. غير إن المشكلة تعدت المؤسسات الحكومية إلى القطاع الخاص والمصرفي، والذي اعتقدت انه أكثر فهما لمعنى البزنس حتى وان طفحت الأوراق داخل الأدراج بمحاذير الأموال وغسيلها، فانعكست علينا نحن الصغار والشرفاء في ذمتنا وأخلاقنا فصرنا عملة واحدة ومعاملتنا واحدة سواء بسواء، كمعاملة الجاني والمتهم والفاسد والموبوء مع نقيضه المستقيم خلقا وسلوكا. حقيقة قيل من لا يعرفك يجهلك، وهذه الميزة الأخلاقية اندثرت فكل الذين يعرفون اليوم عالمهم هو تلك الأوراق المالية والذهب الرنان. لهذا نحتاج وقفة مع حكاية المصرف وعالمه الغريب في تعامله مع البطاقة الشخصية المنتهية!!.
صحيفة الايام
30 مايو 2010
ما لا أفهمه في البحرين ؟! (1-2)
دلالات تَسَوُّل بيل كلينتون عبر الإنترنت
ثمة مظاهر وتجسدات شيئية وقيميّة تميز الرأسمالية الأمريكية الفظة، ونظامها السياسي، وجهازها البيروقراطي المعقد، عن الرأسماليات الناضجة في الغرب الأوروبي، من ذلك مثلاً ما خرج به قبل أيام الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون على مواطنيه الأمريكيين، من دعوة عاطفية استجدائية، لمساعدة زوجته وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون على سداد ديونها الناجمة عن خوضها معركة الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والتي خسرتها لصالح الرئيس الحالي باراك أوباما.
في التفاصيل فإن الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون وجه رسالة إلكترونية إلى مناصري زوجته وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون يدعوهم فيها للتبرع، لمساعدتها في تسديد ديون حملتها الانتخابية الرئاسية الفاشلة عام ,2008 وهي ديون تبقى منها، بحسب صحيفة وول ستريت جورنال’ في أبريل الماضي 771 ألف دولار تدين بها لشركة ‘بين شوين وبرلاند’ الاستشارية التي قدمت المشورة لهيلاري كلينتون، وهي شركة يملكها مدير حملتها السابق مارك بين.
ولكي يحفز بيل كلينتون أنصار حملتها الانتخابية السابقين على دعم حملة التبرعات هذه، فإنه عرض عليهم أن يسافر المتبرعون (لاحظ على حسابهم الخاص) إلى نيويورك لقضاء اليوم معه، إذا تبرعوا بخمسة دولارات أو أكثر من 11-18 مايو .2010 وهذه ثاني مرة يتقدم فيها بيل كلينتون لطلب المساعدة المالية لزوجته، لتسديد ديونها الناتجة عن ترشحها لانتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة.
ولكي يكتمل مشهد ‘اللؤم’ الاستجدائي، فإن الموقع الإلكتروني للوزيرة هيلاري كلينتون، دعا الأفراد للتبرع بمبلغ أقصاه 2300 دولار، وذلك لتفادي دفع الضرائب في حال زاد المبلغ عن الرقم المذكور.
وكانت ديون السيدة كلينتون المترتبة على إدارة حملتها الانتخابية قد بلغت 2,25 مليون دولار، تم دفع الجزء الأعظم منها في حملة جمع التبرعات الأولى التي نظمها الزوجان، ولذا فقد كان سؤال الرسالة الإلكترونية التي وجهها الرئيس الأمريكي السابق للمتبرعين هو ‘إن حملة هيلاري مازالت عليها ديون متبقية، أعرف أنها تود أن تراها مسددة بالكامل، فهل تتقدم اليوم لمساعدة هيلاري مرة أخرى هي الأخيرة’؟.
ولك أن تعلم عزيزي القارئ أن السيدة كلينتون نفسها قد أقرضت من مالها الخاص حملتها الانتخابية 13 مليون دولار استردتها بالكامل.
والأدهى من ذلك أن الزوجين كلينتون كانا قد كسبا 109 ملايين دولار منذ أن غادرا البيت الأبيض عام 2007 من إلقاء المحاضرات والخطابات، ونشر المذكرات، والتي تصدرت قائمة أكثر الكتب مبيعاً.
ونسجا على منوال الموروث الرأسمالي الأمريكي، الذي أحالته الممارسة التراكمية عبر السنين إلى تقاليد، تشكل جزءاً لا يتجزأ من الثقافة السياسية الأمريكية السائدة، فلقد اعتمدت السيدة كلينتون اعتماداً تاماً على الأثرياء من المتبرعين الذين دفع غالبيتهم أقصى ما يسمح به القانون من المال.
ولذا، وكما نقول نحن في الخليج بلهجتنا الدارجة ‘صار ما لهم عين يفتحوا وجوههم’ على هؤلاء مرة ثانية، فكان لابد وأن يوجها حملة تسولهما نحو عامة الناس، الذين لولاهم ولولا أصواتهم لما استطاع المال السياسي أن يرفع من يشاء ويذل من يشاء من الساسة الأمريكيين، ومن أولئك الطامحين الجدد لتسلق قمم المجد والشهرة والنعيم والعيش الرغيد.
ماذا يعني هذا وما هي دلالاته؟
إنه يعني ببساطة أن السياسة الملعونة، وخصوصاً باعتبارها أحد مكونات الثقافة الأمريكية البنيوية الفوقية السائدة، تفترض إباحة كل شيء.. ودلالات ذلك عديدة لعل أبرزها:
(1)التكسُّب والتسول السياسي ممارسة أمريكية اعتيادية، يمارسهما كبار الساسة وصغارهم على حد سواء. فعندما يتحول ‘مذهب’ ‘إذا لم تستحِ فافعل ما شئت’ إلى مكوِّن عضوي في أنساق قيم و’مناقبيات’ الوسط السياسي الأمريكي، التي تغذيها لوبيات المصالح النافذة وتمويلاتها المشرعنة والأخرى غير المشروعة للسياسيين وحملاتهم الانتخابية، ناهيك عن استخدامها الواسع للمال السياسي للتأثير على قرارات وتشريعات الكونجرس المتصلة بمصالحها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة - فإن ذلك يؤذن بتفسخ الأساس الأخلاقي للرأسمال الاجتماعي الذي يشكل الحاضنة الأساس للنظام ككل.
(2) رغم الخاصية الفريدة، ‘الغريزية’ إن شئتم، التي يتمتع بها النظام الرأسمالي مقارنة بالأنظمة الاقتصادية والاجتماعية التي سبقته، والأخرى المنافسة له، من حيث قدرتها على تجديد نفسها باستمرار لمقاومة سنن شيخوختها وتهالكها، وذلك بفضل ديمقراطيتها المؤسسة على سيادة حكم القانون - رغم ذلك إلا أن مثل هذه وغيرها من التكهنات التي نالت كثيراً من بنية الديمقراطية الأمريكية العريقة، تشير بأنها قد أدت غرضها واستنفدت خزينها القيمي والتنظيمي، وذلك نتيجة للتداعيات والآثار التي أفرزتها الأطوار الفوضوية التي اجتازتها الرأسمالية الأمريكية، واندفاعها المحموم من طور الرأسمالية المغامرة إلى طور الرأسمالية المقامرة (GAMBLING CAPITALISM). وهما طوران تَطَوُّريان، ينطويان بالضرورة على إحداث ندوب غائرة في البعد الأخلاقي للديمقراطية الأمريكية، وأن تحيل هذه رويداً رويداً إلى ديمقراطية نخبوية يتحكم فيها كبار الأثرياء، ويسيطر على سلطتها التشريعية نواب وشيوخ من نفس الطبقة.
ومن المؤكد أن الوسط السياسي الأمريكي قد أصبح مدركاً لهذه التداعيات ومخاطرها على مستقبل الديمقراطية الأمريكية، وهو لذلك يحاول جاهداً العمل على تجديدها وإعادة بث الروح في أطرها التنظيمية وأنساقها القيمية، ولعل الإصلاحات التي يقوم الآن الرئيس باراك أوباما بتنفيذها والتي شملت بصورة رئيسة حتى الآن نظام الرعاية الصحية، بجعله أكثر شعبية ‘وشمولية’، والنظام المالي والمصرفي بوضع ضوابط صارمة على أعمال المقامرة بالأموال التي تميز ممارسات ‘وول ستريت’، والتي تسببت في العديد من الأزمات الهيكلية للاقتصاد الأمريكي، آخرها وأخطرها الأزمة المالية الأخيرة - لعل هذه الإصلاحات تصب في هذا الاتجاه.
صحيفة الوطن
29 مايو 2010
عالم جديد يتشكل
احتاج الأسلوبُ الرأسمالي للإنتاجِ إلى عدةِ قرون لكي ينمو ويتبلور ويتصارع ثم يقاربُ وحدةً عالمية متنافسة كذلك.
منذ الكشوفات الجغرافية وهذا الأسلوب يتشكل في الغرب، في أوروبا الغربية بقوة كبيرة، ثم يتمدد إلى أمريكا الشمالية التي وجد فيها قارة بكراً.
إن الدولَ الرأسمالية القيادية كبريطانيا وفرنسا وألمانيا تركت هذه القيادة للولايات المتحدة الأمريكية، التي أهلتها السوق الجغرافية الهائلة، وغياب الجذور والمشكلات الإقطاعية، وحضور قوى عاملة بكر، والتمدد في قارة أمريكا الجنوبية، لكي تصبح القوة الرأسمالية الكبرى الأولى، وظهر ذلك في ميادين السياسة عبر الحرب العالمية الأولى ثم الثانية التي حسمتها مع الاتحاد السوفيتي.
كان حضورُ الرأسماليات الشرقية متأخراً في عمر التشكيلة الرأسمالية العالمية، واستعانَ هذا الحضور بأدواتِ الدول، وبفضاءِ الايديولوجيات الشرقية الدينية والتعاونية، ثم تنامت المضامين المتوارية لهذه الرأسماليات.
وبعد عملياتِ التوحيد الرأسمالية العالمية التي تمت قسراً بإنهاك المعسكر “الاشتراكي” ودفعه نحو التغيير، وبالاعتماد على المعسكر القديم المراكم للرأسمال الكوني، تصاعدت عملياتُ النمو الرأسمالية بفوضوية واشتباكات بين مختلفِ أقسامِ الرأسماليات الكبرى: الولايات المتحدة الأمريكية، أمريكا الجنوبية، أوروبا الغربية، أوروبا الشرقية، اليابان، روسيا، الصين، جنوب شرقي آسيا، الهند، استراليا، جنوب افريقيا.
تفوقتْ أمريكا على غيرها بسببِ الأسبقية التاريخية في قارة ذات موارد كبيرة وبلا عوائق سوى الهنود الحمر الذين قضت عليهم الأسلحة الحديثة بسرعة، ثم تنامتْ عملياتُ العنفِ السياسي الأمريكية الشمالية من أجلِ حيازةِ الأسواق، مما وسمَ الطابعَ السياسي الحكومي الأمريكي بالاجرام، وهو أمرٌ شكل حزبين عنيفين لطبقةٍ واحدة ذات ولايات متشابهة.
إن غيابَ فعل الطبقات العاملة الشعبية الأمريكية هو بسبب هذه الفوائض الضخمة التي انهمرت على السوق الأمريكية الداخلية خلال قرنين، وهذا المستوى المتطور للإنتاج.
ولهذا نرى عقوداً طويلة من خفوت الفعل الشعبي داخل أمريكا، خاصة مع انتشار العصابات الاجرامية السياسية، وقوانين الكبت، ووجود المعسكر الاشتراكي السابق الذي كان يُبرر هذا القمع.
لكن نمو الأسلوب الرأسمالي للإنتاج أقوى من الأشكال السياسية التي تتمظهر بها علاقات الإنتاج، فهو يندفعُ ليشكلَ توحيدا عالميا لذاته، فوق فسيفساء الأمم والشعوب والأديان والأنظمة، بسبب انه أسلوب إنتاج توحيدي رغم تفكيكه وتمزيقه.
أطاحتْ قوةُ البخار والقاطرات بالممالك الإقطاعية في أوروبا، وأطاحتْ الثورةُ التقنية والمعلوماتية بدول المعسكر الاشتراكي، وقادتْ هذه الثورة لتوحيد الكرة الأرضية عبر جسور الإنترنت والسلع، وستؤدي إلى المزيد من التغيير في دول الأسواق الشرقية المحتكرة، ويقود دول الشرق لثورات صناعية تقنية بشكل متسارع يغير علاقات الهيمنتين الذكورية والسياسية والتخلف الزراعي ومستويات القوى العاملة المتخلفة.
لقد وضعت موازين القوى الولايات المتحدة في مركز القيادة في هذا الوضع التاريخي المضطرب المتسارع النمو، واستغلت القوى المتنفذة ذلك في التهام الفوائض النقدية من العالم النازف.
تدعو برامج المحافظين الأمريكيين إلى إلغاء كل حماية، وإلى فتح كلي للأسواق وتغييب الملكية العامة، لكن هذه تؤدي إلى مزيد من الاضطرابات وفوضى الإنتاج، مثلما أن بقاء الملكيات البيروقراطية العامة، لا يقود إلى تطور قوى الإنتاج في الدول الشرقية وتحرير القوى العاملة من الهيمنات الحكومية.
وجود الأمم المتحدة في أمريكا، ظهور قيادات من حكومات عالمية، تطور منظمات الأمم المتحدة المختلفة، كلها يشير لضرورة حكومة عالمية أو تعاون دولي وثيق يتجه نحو حل تناقضات العالم المعاصر الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وتشير عملية الإزاحة للمحافظين الأمريكيين ونهوض الطبقات العاملة والمفكرة في الولايات المتحدة وتنامي تأثيرها في السياسة العامة، ومجيء رئيسين ديمقراطيين إصلاحيين داخليا وخارجيا: كلينتون وأوباما، وتصاعد حكومات اليسار في أمريكا الجنوبية، وهيمنة القوى الشعبية على البلديات في أوروبا الغربية، وعودة اليسار الديمقراطي لأوروبا الشرقية، حتى باتت رأسمالية النزيف العالمي وتوجه الفوائض نحو العالم الرأسمالي المتطور محل إعادة نظر عميقة.
فقارة مثل افريقيا تحتاج إلى عمليةِ إنقاذ كبرى، بدأت الكثير من الدول تقترحها.
كذلك ظروف العالم الإسلامي والعديد من دول الشرق تحتاج إلى تغييرات اقتصادية واجتماعية وليس إلى تكديس الأسلحة والفقر والحروب.
لم تعدْ مقبولةً الآن نظرية السوق الحرة الكاملة، وعدم تدخل الدول كإشراف وتخطيط، خاصة على المستوى العالمي، فعملية التغيير في الأسلوب شرقية، وعملية التآكل في الأسلوب غربية، وعملية التداخل بينهما على المستوى العالمي؛ صراعاً وتكاملاً، تتطلب الخروج من العفوية المحضة، ومن غياب التخطيط، إلى العملية الاقتصادية التعاونية المشتركة التي سوف تظهر مع تصاعد أصوات الأغلبية المنتجة في كل بلد وعلى المستوى العالمي.
وتظل القوى المالكة هي المسيطرة بطبيعة الحال لكن الأزمات وانهيار بعض الاقتصادات الشرقية، واختناق الأسواق تدريجيا بسببِ تحول كل الدول إلى مصدرة للسلع، هو أمرٌ يجعلُ من التبادل من أجل التبادل يمضي في طريق مسدود.
هذا منظورٌ مستقبلي بطبيعة الحال.
صحيفة اخبار الخليج
29 مايو 2010
نحن وثقافة العصر
احد الموضوعات المهمة التي ناقشها الكاتب تركي الحمد في بحثه نحو اطار معرفي جديد للثقافة العربية والذي تضمنه بالاضافة الى بحوث اخرى اصداره القيم الثقافية العربية في عصر العولمة.
«نحن وثقافة العصر» يثير اشكاليات كثيرة فرضتها شروط تطور المعرفة عبر سياقها التاريخي.
واذا كانت حركة التاريخ كما يقول الباحث د. سمير امين في مؤلفه «نقد روح العصر» ليست تنقلاً على خط مستقيم له اتجاه ثابت ومعروف مسبقاً بل تتكون هذه الحركة من لحظات متتالية بعضها يمثل خطوات تقدم في اتجاه معين وبعضها بين التوقف والمراوحة عند نقطة معينة وبعضها يمثل ردات الى الوراء والى الانغلاق.. فان الحمد في بحثه هذا ينظر الى الثقافة في بعدها المعرفي والتاريخي والحضاري كما يتعاطى معها كمنجز يخضع تطوره للشروط الموضوعية والذاتية وللتفاعل المعرفي والحضاري.
من هذه الرؤية، يتحدث عن الحداثة الغربية وما انتجته من ثقافة عقلانية وتقنية في طريقها الى ان تصبح ثقافة عالمية شاملة، فثورة المعلومات والاتصالات المعاصرة انجاز كبير حوّل العالم الى حارة صغيرة وامام هذه الثقافة المسلحة بوسائل وامكانيات قادرة على اختراق الغرف المغلقة والاصقاع النائية، انهارت الحدود وتلاشت وسائل الحماية وبالتالي ماذا يمكن ان يقال اليوم امام العفريت التقني الجديد الذي يطل علينا ونحن لا نزال اسرى ذات العقل وآلياته؟
فالمشكلة الاساسية هنا كما يقول الحمد هي ان ثقافتنا الذاتية المتصورة هلامية الشكل زئبقية المضمون نخبوية الانتاج والاستهلاك ببنية لفظية بيانية لا تتواءم مع عملية وعلمية ومحسوسية الثقافة العالمية المعاصرة، وعلى هذا الاساس يتساءل: كيف يمكن لمفاهيم قائمة على سحر البيان ان تنافس مفاهيم قائمة على دقة المعلومات؟
هناك من يعتقد انه من الممكن ان نلج حضارة العصر دون التخلي عن ثقافتنا الذاتية اي وفق المبدأ التوفيقي، ان نأخذ افضل ما عندهم وافضل ما عندنا وكأننا مخيرون في ذلك. قد يبدو هذا الحل جميلاً وموفقاً نظرياً ولكن هل يصبح هذا الحل ممكناً من حيث الواقع العملي والمعرفي؟ وهل يمكن ايجاد اتفاق بين التحدي المعاصر للثقافة العالمية المعاصرة وبين طرقنا في النظر الى الاشياء؟ وبمعنى ادق هل من الممكن التوفيق بين التقنية وثقافتها وبين التقليد وموروثه؟
هذه التساؤلات الاساسية تقودنا كما يقول الى سؤال اكثر اهمية وهو هل ثقافتنا وذاتيتنا المنبثقة عنها محكوم عليها بالاندثار والسقوط؟ الجواب في نظره هو نعم ولا في الوقت ذاته، فاذا كانت الثقافة المتحدث عنها وما توحي به من ذاتية ثابتة هي تلك المفارقة لاطر الزمان والمكان فان الزوال هو المصير في النهاية، واذا كانت متغيراً اجتماعياً ضمن متغيرات فان الاستمرار هو النتيجة.
وحول شكالياتنا الثقافية يتحدث قائلاً «ان اشكالياتنا الثقافية الدائرة حول هاجس الهوية والنقاء الثقافي هي اشكالية ذهنية مبالغ فيها ونوع من آليات الدفاع عن النفس الجماعي المستفزة بحالات الاحباط والفشل وعدم القدرة على التوافق مع تحولات المكان والزمان بغرض اعطاء نوع من التوازن للذات المنحرجة حتى وان كان ذلك على حساب الواقع المعطى وتجاهله بوعي او دون ذلك كما انها – اي هذه الاشكاليات الثقافية المفترضة هاجس نخبوي خاص قبل ان يكون هماً اجتماعياً عاماً».
وفي ضوء هذه القضية، ينتقل الى اشكالية تتعلق بالمثقف العربي ذاته وهي ان غالبية المثقفين العرب المهتمين بقضايا الثقافة التي افرزها اكتشاف الغرب الحديث المعاصر لا يحاولون تحليل اشكاليات الثقافة في متغيرات التاريخ والمجتمع ولكن عبر نماذج «افلاطونية» ثابتة وهنا تتفاقم اشكالية المثقف العربي عندما يحاول الدعوة الى هذا النمط النموذجي من الثقافة او ذاك، فيربك متلقي الخطاب من حيث عدم القدرة على المواءمة بين مقولات النموذج – وفقاً للمنطلق الايدلوجي للمثقف – وما هو ممارس ومعتقد فعلاً في المجتمع، فخلاصة القول على حد تعبيره ان النماذج الثقافية المفارقة لن تؤدي في احسن الاحوال إلا الى تجذير الازدواجية الثقافية في حياتنا، حيث يكون هناك نماذج غير قادرة على النزول الى ارض الواقع ومتغيرات عاجزة عن ايجاد من يرفعها الى سماء النظرية وتكون النتيجة هذا الانفصام الشنيع بين المثقف والمجتمع فيلوم المثقف المجتمع على عدم تقديره له، ويلوم المجتمع المثقف على عدم اهتمامه بقضاياه الفعلية.
صحيفة الايام
29 مايو 2010
السنة العالمية لانطون تشيخوف
السنة العالمية لانطون تشيخوف
تراجيديـــا توافـــه الحيـــاة
|