نشير هنا إلى تطور مفهوم المواطنيّة في البحرين قبل فترة الاستقلال ولغاية فترة الإصلاح السياسي. أيّ من خمسينات القرن الماضي ولغاية عام 2002. إذ ظهرت خلال هذه الحقبة مواقف وطنيّة، اتسم فيها أغلب المواطنين بالإخلاص ومقاومة المستعمر أو برغبتهم في حياة سياسيّة كبقية البشر الذين ينعمون بالحريّة، لذلك توطدت أقدامهم على أرضيّة صلبة، وتوحدت مواقفهم واستطاعوا بفضل ذلك تحقيق بعض ما ناضلوا من أجله، وبخاصة في الفترة الممتدة من 1973 إلى 2000 هذه الفترة التي تعتبر من أصعب السنوات التي مرّت على المواطنين البحرينيين في مختلف المجالات لاسيما في المجال السياسي لأنّها تعتبر نتيجة حصاد كل تطورات السنوات السابقة. وسنستعرض في تسلسل تاريخي موجزًا لأهم محطات الأحداث والتطورات، التي نرى ضرورة تدوينها هنا لنفهم المواقف الوطنيّة ومدى توافر مفاهيم المواطنيّة، وهل كانت تلك المواقف الوطنيّة، عفوية لدى المواطن البحريني؟ أو أنها كانت ردات أفعال آنية؟ إنّ إشارتنا التاريخيّة، لا تعني أننا سنبحث عن التاريخ السياسي للبحرين، وهو ليس من أهداف هذه الدراسة. وعليه سنقسم الفترات التاريخيّة التي أمكننا أن نعثر على وجود مفاهيم للمواطنيّة فيها إلى خمس مراحل تقريباً.
لقد مرّت البحرين منذ بداية القرن العشرين بمحطات مضيئة في تاريخها السياسي. فقد شهدت البلاد بروز حركات سياسيّة طالبت بتطوير نظام الحكم وتطوير الإدارة فيها إبان عهد الحماية البريطانيّة، وكان لتلك الحركات أثرها الفاعل في تشكيل الهيئة الوطنيّة.
أما في ما يتعلق بالسنوات التي سنوردها، فلا تعنينا الفترة في عدد أيامها وأشهرها، بل يعنينا تاريخ البحرين السياسي السابق والتركيز على المرحلة المعاصرة.
فمن الناحية التاريخيّة توالت الحركات السياسية منذ عام 1919 مروراً بحركة الخمسينات في الفترة من عام 1954 إلى 1956. ومن مرحلة الاستقلال في عام 1971 وإصدار الدستور، وتأسيس البرلمان ما بين من 1972 و1975. والسنوات التي تلتها من الثمانينات وحتى بداية التسعينات. وتعتبر هذه الفترة من أصعب الفترات التي مرّت على المواطنين لأنها لم تؤدٍ إلى نتائج ملموسة أو معلنة من مظاهر المواطنيّة؛ وذلك للإحباط الذي أصاب أغلب الناس، إلى أن جاءت الفترة الإصلاحيّة في بداية عام2000 متمثلة في مشروع ميثاق العمل الوطني، وإصدار دستور المملكة، والانتخابات البلديّة والبرلمانيّة في عام 2002 في ظل مملكة دستوريّة.
أ- مفهوم المواطنيّة في المرحلة الأولى في الفترة من 1954- 1956
كانت حركة منتصف الخمسينات أكثر الحركات السياسيّة نضوجاً في تلك الفترة. فكان من نتائجها تأسيس هيئة الإتحاد الوطني، وما يهمنا هنا هو الهدف الذي قامت الحركة به وهو القضاء على الفتنة الطائفيّة التي عصفت بالبلاد حينذاك، إضافة إلى المطالب الإصلاحيّة. فبعد أن نشب الخلاف بين الطائفتين( السنيّة والشيعيّة) أثر قضايا خاصة، اتهم كل فريق منهم الآخر بإثارة الفِتن… )١( هنا برزت المواقف الوطنيّة لدى الأفراد المصلحين من الشعب من كلا الطرفين، فعقدوا لقاءات مشتركة وتم الاتفاق على إنشاء الهيئة الوطنيّة التي تضم مختلف الطوائف. ولولا الشعور الوطني من قبل تلك المجموعة التي ترأست الهيئة، لتأزم الوضع الاجتماعي وأدى إلى كوارث وطنيّة.
ففي فتنة محرم عام 1953 كانت البلاد تعاني نار الطائفيّة التي أشعلها الاستعمار البريطاني والتي أدت إلى استمرار أجواء التوتر الطائفي إلى أن عقد الاجتماع الأول وكان من أهدافه الإعلان عن نهاية الخلافات الطائفيّة، والالتقاء تحت شعار واحد وهو تحقيق مطالب الهيئة الوطنيّة. بعد ذلك التقت الأطراف الممثلة لكل فئات الشعب في أول اجتماع موسع في منزل أحد أعضاء الهيئة وكان هدف الاجتماع هو المصارحة بين الطائفتين لتنفيس الاحتقان وحتى لا تتصاعد الحوادث نتجَ عن هذا الاجتماع تشكيل الجمعيّة العموميّة للهيئة من 120 شخصاً، وتم انتخاب ثمانية كأعضاء لإدارة الهيئة. ومن أهم القرارات التي اتخذتها الهيئة تأسيس مجلس تشريعي ووضع قانون جنائي ومدني عام للبلاد، والسماح بتأليف نقابة للعمال، وتأسيس محكمة عليا للنقض والإبرام… لذلك رأينا بعض المفاهيم الجديدة والتي لم تكن متداولة قبل هذا التاريخ، كالاستقلال الوطني، والوحدة الوطنيّة، ووأد الطائفيّة البغيضة، والمصلحة العليا للوطن فوق المصالح الطائفيّة والفئويّة، وإزاحة المستشار البريطاني. وطرح أسلوب النضال السلمي من أجل تحقيق المطالب المشروعة… كل تلك المفاهيم والأهداف شكلت دافعاً لتعميق الوعي الوطني وترسيخ الوحدة الوطنية.
ما نخلص إليه انّ الهيئة قد أسست لقاعدة عريضة، سنرى امتداد أسلوب عملها الذي انعكس على العمل الوطني خلال السنوات اللاحقة. وقد ترسخت الوحدة الوطنيّة من أجل انطلاقة قوية للبحرين نحو المستقبل.
ب – مفهوم المواطنيّة في المرحلة الثانية في الفترة ما بين 1965- 1969
أطلق الشعب على هذه الفترة ( انتفاضة مارس 1965) وكان سبب تلك التسمية ما حدث لعمال شركة نفط البحرين( بابكو) من قرار الشركة بفصل 1500 عامل لن نتطرق لأسباب القرار ودواعيه. ولكن ما يلفت النظر هو وحدة العمال واتحادهم على أهداف محددة. وأنّ أولئك المطالبين بحقوقهم، كانوا خليطاً من المواطنين البحرينيين من مختلف الطوائف.
وبفضل الدعوات التي اعتبرت مفاهيم متطورة، وذات أبعاد فكريّة كالمطالبات الحقوقيّة،والإنسانيّة النابعة من وطنيتهم في مجال عملهم، ومن توجهات بعض قادة المنظمات التي كانت موجودة في تلك الفترة، فقد تم تحقيق بعض تلك المطالب مثل الموافقة على إنشاء اللجان العماليّة… ما يعنينا من هذه المواقف الوطنيّة التي سردناها أنها ولدت من شعور المواطن بالإحباط والتفرقة في المعاملة، خلافًا لما كان يلمسه من المعاملة المختلفة للموظفين والعمال الأجانب، ما أدى إلى توحيد الصفوف ورصها ونبذ الخلافات المذهبيّة والطائفيّة، فاجتمعت الكلمة على هذا المطلب الرئيسي.
هذا الموقف السليم هو مبدأ من مبادئ المواطنيّة وإن جاء بصورة مطالبات واعتصامات سلمية، لأنّ الظرف الموضوعي للناس لم يكن يسمح بطرح قضاياهم بأسلوب آخر، وإلا لم تكن الحاجة لمثل هذا الأسلوب لنيل الحقوق المشروعة. وما يدعو إلى العجب أنها جاءت عفويّة «بنت ساعتها». ما يعني أنّ بعض مبادئ المواطنيّة لا تمنح ولا توهب مجاناً وبخاصة إذا لم تكن الأرضيّة ممهدة ويمكن العبور منها بدون مشاكل. هذا ما حصل في تلك المرحلة من تاريخ البحرين.
ج- مفهوم المواطنيّة في المرحلة الثالثة في الفترة من 1970- 1975
هذه الفترة هي فترة إعلان الاستقلال الوطني، واجراء الإصلاحات السياسيّة. بدءًا من سَن دستور للبلاد وإقامة الحياة البرلمانيّة التي لم تستمر طويلاً. بعد أن حصلت البحرين على الاستقلال الوطني في 14 أغسطس عام 1971 وتحوِّل الاسم من إمارة البحرين إلى دولة البحرين، وتغير لقب الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة من حاكم البحرين إلى أمير دولة البحرين، وقد جاء هذا التحول إثر إعلان حكومة حزب العمال في بريطانيا الانسحاب من شرق السويس في 18 يناير عام 1968، وجرى تنفيذ هذا الإعلان نهاية عام 1971، وخلال تلك الفترة طالب شاه إيران ضم البحرين إلى إيران، إلا أنّ التقرير الذي رفعه مندوب الأمين العام للأمم المتحدة إلى المنظمة الدولية بعد لقائه العديد من الشخصيات والفعاليات البحرينيّة، أوضح فيه إجماع البحرينيين على أن تكون البحرين دولة مستقلة، وطالب أغلبهم بأن تكون دولة عربيّة. وقد صوت إلى جانب هذا القرار 12 دولة لصالح البحرين واستقلالها كدولة عربيّة وعضو في الأمم المتحدة والجامعة العربيّة في 14 أغسطس عام 1971.
إنّ 16 ديسمبر هو يوم ذكرى جلوس الأمير السابق وتنصيبه حاكماً للبحرين عام 1961. يتبين من تلك الأحداث ظهور نقلة نوعيّة في مفهوم المواطنيّة وهي مبدأ الانتماء والولاء. وقد أثبت الشعب انتماءه للوطن وولاءه له، ووقف صفاً واحداً نابذًا كل الخلافات والصراعات التي كانت قائمة بين الطرفين، فأصبح أعداء الأمس يدًا واحدة ترفع الصوت مؤكدة على عروبة البحرين وعلى استقلالها.
وبعد عملية الاستقلال طالب الشعب الحكومة بمطالب شرعيّة فلبَّتِ الحكومة من جانبها النداء وحققت بعض المطالب وأهمها تشريع دستور جديد لدولة البحرين فأُنشئ مجلس تأسيسي جزء منه مُعيَّن يعيّنه أمير البلاد وآخر منتخب، وقد ناقش المجلس التأسيسي على مدار ستة أشهر وضع دستور عام 1973 واعتبرت بعض القوى الوطنيّة الفاعلة أن هذا الدستور يتضمن مبادئ ديمقراطيّة وحقوقاً للمواطن البحريني، فجاءت بعد ذلك الدعوة إلى انتخابات المجلس الوطني (البرلمان) حيث شاركت فيه القوى الوطنيّة وقاطعتها بعض القوى الأخرى، فجاءت نتائج الانتخابات في 7 ديسمبر 1973 بنجاح كبير للحركة الوطنيّة. وطرحت في المجلس قضايا تهم حياة المواطنين بصورة خاصة وقضايا تهمُّ الدولة بصورة عامة. وصدرت بعض القوانين مثل: قانون العمل والقانون الجنائي والمدني، والمطالبة بتشكيل محكمة دستوريّة، وفصل السلطات الثلاث: التشريعيّة، والتنفيذيّة، والقضائيّة. كذلك وضع ميزانية عامة حديثة للدولة وتحديد وفصل أملاك الدولة من الأراضي عن أملاك الأسرة الحاكمة…الخ. وهنا نرى التطور في مفاهيم المواطنيّة التي طرحها النواب والتي أرادوا تعزيزها مثل تمهيد الطريق لبناء دولة مدنيّة عصريّة نصّ عليها دستور البلاد. وقد جاءت هذه الطروحات السياسيّة في ضوء تخفيف الضغوط البوليسيّة والقمع في تلك الفترة، وكان ذاك الوضع أشبه بالوضع الحالي (مرحلة الإصلاح الجديد) حيث تأسست النقابات وسمح بالإضرابات العماليّة وعقد المزيد من الندوات السياسيّة.ألا أن الوضع تغير بصورة عكسيّة وبرزت هنا صورة قاتمة، فحدثت اعتقالات ضد مناضلي القوى الوطنيّة في يوليو 1974. وقد تم تقديم مشروع قانون (أمن الدولة) الذي سرى على مدى ثلاثين عاماً بحجة أنّ الحركات الوطنيّة تقدم اقتراحات وتسعى إلى تشريع قوانين بشكل مغاير لتقاليد المجتمع العربي المسلم، إلا أنّها لم تفلح في هذه الجدليّة؛ وذلك لوعي الحركة الوطنيّة ونضالها من أجل رفع المعاناة عن المواطنين. ومن الطبيعي عند بعض الأفراد أن تتغير بعض المواقف وبالتالي تتغير المفاهيم الوطنيّة عندهم. فمنهم من استغل الوضع المتأزم وغيَّر نهجه تحاشياً لأي مكروه يصيبه، فظهر مفهوم معاكس للمواطنيّة وهو(الانتهازيّة). وبعضهم التزم الصمت( السلبيّة واللامبالاة). وآخرون واجهوا كل أنواع العقوبات… وفي ضوء هذه التطورات عاش المواطن البحريني خريف قانون أمن الدولة الذي استمر نحو ثلاثة عقود في حالة من الخوف والرعب من هذا القانون الذي منع كل تطلعات المواطن إلى الحريّة الشخصيّة وإلى حرية الصحافة وإنشاء الجمعيات والنقابات وغيرها.
ما نود التأكيد عليه هو أنّه لم يكن بإمكان أحد أن يُوَثِق لهذه المرحلة بصورة خاصة في حينها، وإلا أُعتُبِرَ من المناهضين للسلطة، لذا فإنّ ما تم جمعه هنا بناء على قراءتنا لتلك الأحداث، ومعايشتنا لجزء منها في فترة السبعينات، وما قرأناه في الصحف التي كانت تصدر في الخارج. ومن الصعوبة بمكان الحصول عليها الآن لتوثيقها. وعليه فقد شُلَّت الحياة السياسيّة في البحرين، وقامت الأجهزة الأمنيّة بالاعتقالات ومطاردة المواطنين ونفيهم، وتمّ حل المجلس الوطني عام 1975. الأمر الذي أدى إلى تفاقم الوضع الأمني وتردي الأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، فانتقل العمل السياسي الذي كان يعمل بصورة علنية إلى العمل السري في الداخل، وتوحدت المعارضة في الخارج، وعمدتْ إلى رصّ صفوفها وتنظيم حركاتها، رغم تباين توجهاتها العقائديّة والفكريّة، وهنا كذلك ظهرت ولاءات ومواقف من نوعآخر، ولاء للتنظيمات والطوائف. ومواقف انتهازيّة عند بعض الأفراد. ومنفوئد مسار التحول الديمقراطي والسياسي في تلك الفترة. وأن جرت محاولات للإصلاح ساندتها بعض المؤسسات ذات الصلة بالشأن السياسي ومنظمات حقوق الإنسان هذا بالإضافة إلى التطورات والتغيرات الدوليّة التي طرأت على المنطقة بصورة عامة و كذلك الرغبة الصادقة من لدن أمير البحرين الذي تولى الحكم بعد وفاة الأمير السابق، الأمر الذي دلّ على صدق الشعور الوطني.
د- مفهوم المواطنيّة في المرحلة الرابعة في الفترة من 2000- 2002
منذ أن تسلم أمير البحرين مقاليد الحكم بعد وفاة والده الأمير السابق، أعلن عن بدء المسيرة الإصلاحيّة التي بدأها بالقرارات التاريخيّة بتفريغ السجون، وعودة المُبعَدِين وإطلاق حريّة التعبير والاجتماع، وتشكيل الجمعيات السياسيّة، وما تلتها من قرارات وخطوات خاصة متعلقة بالانتخابات البلديّة والنيابيّة والتي تشكل الخطوات الأولى على طريق الديمقراطيّة والعمل المؤسساتي المستند إلى مؤسسات المجتمع المدني بكل هيئاته وطوائفه.
وبناء على الأمر الأميري رقم 36 ورقم 43 لسنة 2000م، )١( شُكلت لجنةٌ وطنيّةٌ عليا لإعداد مشروع الميثاق الوطني. كذلك صدر الأمر الأميري رقم 8 تاريخ 23 يناير2001 الذي دعا الشعب رجالاً ونساءً بتاريخ 14-15 فبراير2001 إلى الاقتراع على مشروع الميثاق الوطني، الذي أقرته اللجنة الوطنيّة العليا للميثاق بتاريخ 18 ديسمبر2000.
وقد صوت أغلب الشعب على الميثاق الوطني بنسبة 98,4% مما يدل على رغبة الشعب في التخلص من مخلفات الماضي وتبعاته. بعد ذلك صدر المرسوم الأميري رقم 5 تاريخ 24 فبراير 2001 )١( والذي تَشكّلت بموجبه لجنة سُميَت بلجنة تعديل بعض أحكام الدستور. فصدر دستور المملكة بعد أن تم تعديل بعض بنوده. قام الأمير بالتصديق عليه تحت مسمى” دستور مملكة البحرين”؛ رغبة في استكمال أسباب الحكم الديمقراطي؛ وسعياً نحو مستقبل أفضل ينعم فيه المواطن بمزيد من الرفاهيّة والحريّة في ظل تعاون جاد وبنّاء بين الحكومة والمواطن، يقضي على معوقات التقدم.
أخذ هذا التعديل بجميع القيم الرفيعة والمبادئ الإنسانيّةالتي تضمنها الميثاق والتي تؤكد أنّ شعب البحرين قد أخذ ينطلق في مسيرته إلى مستقبل مشرق، مستقبل تتكاتف فيه جهود جميع الجهات والأفراد، وتعمل فيه السلطات بصدق لتحقيق الآمال والطموحات. وقد انبثقت تعديلات الدستور من أنّ شعب البحرين راغب في الإصلاح والتجديد وينبذ التعصب والتقوقع والجمود. وتحقيقاً لذلك كان من الضروري أن ينفتح الحكم على كل تراث الإنسانيّة شرقاً وغرباً ليأخذ منه ما يراه نافعاً وصالحاً لشعبه وملائماً لقيمه وتقاليده ودينه، منطلقًا من أنّ النظم الاجتماعيّة والإنسانيّة لا تنتقل كما هي من دون توليف من مكان إلى آخر وإنّما هي خطاب إلى عقل الإنسان وروحه ووجدانه، تتأثر بانفعالاته وظروف مجتمعه ونمط حياته لذا جاءت التعديلات الدستورية ممثلة للفكر الحضاري المتطور فأُقيم النظام السياسي على الملكيّة الدستوريّة القائمة على الشورى وعلى إشراك الشعب في ممارسة السلطة. وهو الذي يقوم عليه الفكر السياسي الحديث، إذ يختار الحاكم عددًا من أصحاب العلم والمعرفة والاختصاص والخبرة ليؤلفوا مجلس الشورى كما يختار الشعب بالانتخاب نوابه ليتكون منهم مجلس النواب، وبذلك يحقق المجلسان معاً الإرادة الشعبيّة ممثلة في المجلس الوطني.
لا شك في أنّ هذه التعديلات الدستوريّة تعكس إرادة مشتركة بين الملك والشعب، وتحقق للجميع العمل بالقيم الرفيعة والمبادئ الإنسانيّة التي تضمنها الميثاق.
ما نخلص إليه أنّ مفاهيم المواطنيّة في هذه الفترة قد تطورت بصورة نسبية أفضل، وقد انتشرت المفردات التالية على كل شفة ولسان: الوحدة الوطنيّة، إنشاء مؤسسات المجتمع المدني، مشاركة الشعب في تشريع القوانين، الديمقراطيّة والشفافيّة، الانتخابات الحرة، حقوق الإنسان…الخ. هذا التطور في مفاهيم المواطنيّة، جاء من خلال تلاقي الإرادة الشعبيّة مع إرادة الملك، الذي قام بحركة إصلاح كبيرة في البحرين، وما الميثاق والدستور إلا ثمرة المطالب التي طالب بها الشعب والرغبة الصادقة من لدن الملك، لذلك فإنّ تلك المفاهيم والمبادئ المتعلقة بالمواطنيّة أصبحت اليوم من ممارسات المواطن الحياتيّة، وفي المقدمة العمل السياسي العلني، ونمو دور المرأة ونمائه في المجتمع، وممارسة دور فعاّل لحركة حقوق الإنسان والحركات الثقافية والأندية الفنية والجمعيات العلمية وما إلى ذلك.
وقبل أن ننهي هذا الفصل لنا رأي في كل ما ذكرناه. إنّ المواطنيّة على الرغم من التحديات الكثيرة لا تزال هناك ميول قويّة لنسق تفكير الدولة المشرقيّة الأبويّة التي تنظر إلى أفراد المجتمع كرعايا وإلى فترة قريبة كان المسمى الرسمي للمواطنين هو رعايا الدولة.
إنّ قضية المواطنيّة من أكبر الإشكالات التي تعيشها الدول العربيّة بصورة خاصة، لإنّ مسألة الانتماء تظهر في العديد من الدول العربيّة والخليجيّة على وجه الخصوص بشكل لا يشير إلى ترسخ مفهوم المواطنيّة الحقيقية؛ فالولاء لا يزال على العموم للحاكم أكثر مما هو للوطن.
لذا نرى ضرورة مناقشة مفهوم المواطنيّة في سياق تطلعنا إلى المستقبل أكثر من انشدا دنا إلى الماضي. إنّ جزءاً من التهميش في مفهوم المواطنيّة يعود إلى عوامل متعددة فبالإضافة إلى فكرة الدولة الراعيّة هناك الفكر الجامد «الستاتي» القائم على شعارات دينيّة هي بالأحرى تقاليد وممارسات عفا عليها الزمن لا تمت إلى الدين بصلة ومع ذلك فقد طغت على مفهوم المواطنيّة وطمسته إلى حدِّ ما. فالأفكار المذهبيّة والطائفية وللأسف أسهمت في تشويه فكرة المواطنيّة.
فهل ستعمد الدولة إلى مقاومة هذه الأفكار لاسيما في مجال التعليم والتربية؟ فترسِّخ مفهوم التربيّة على المواطنيّة في أساليب التعلم وطرائقه؟ ووسائله وأدواته؟
3- مضمون التربيّة على المواطنيّة في البحرين
ما يمكن أن نطرحه هنا في ما يخص تدريس هذه المادة ، ابتداء من المرحلة الأساسيّة أو المرحلة الثانوية، إنّ هذه المادة ليست من المواد التي تستدعي مستوى عاليًا من الإدراك والفهم والاستيعاب، لا تتوافر إلا لدى طالب المراحل العليا من التعليم، وبالتالي فإنّ الطالب في المرحلة الابتدائية لا يمكنه استيعاب هذه المادة، لكننا نؤكد على أنّ القضية لا تكمن في العمر الزمني، أو المرحلة الدراسيّة، وإنّما بإمكان القائمين على إعداد مناهج وإعداد محتوى المادة إدخال بعض المبادئ التي من مستوى استيعاب الصغار، وعلى المعلم الماهر أن يقوم بتوصيل تلك المبادئ بطرائق مشوقة، وأساليب تربويّة ناشطة، وإجراءات عمليّة مستساغة… فليس للمعلم أن يلقي محاضرة على الأطفال في المراحل الابتدائيّة حول حقوق الإنسان أو التفكير الناقد، كما يلقيها على طلبة المراحل الدراسية العليا.
أنّ تدريس المواطنيّة تتنوع وتختلف باختلاف سياسة كل دولة، وبصورة عامة نشير إلى أهم المرتكزات التي تطرحها أغلب وزارات التربيّة والتعليم.
– إنها تركز على اهتمامات سياسيّة حقوقيّة أو وطنيّة حزبيّة من أجل نشر الثقافة الوطنيّة وتأصيل مبادئ المواطنيّة. بينما يتم التركيز في بعض الدول غير العربيّة مثلاً على الترويج لمبادئ الحوار والتفاهم والاهتمام بالتنوع الثقافي وتوسيع الدائرة الإنسانيّة لدى المواطن.
– إنّ غالبية الدول تُدرّس بعض مبادئ المواطنيّة من خلال مواد المنهج كالمواد الاجتماعيّة، مثل: حقوق الإنسان، الحقوق الثقافيّة، والحقوق الاجتماعيّة، ودولة القانون والمؤسسات، وحقوق الأفراد، والديمقراطيّة، واحترام الفرد واحترام الآخرين…
– إنّ حاجات المجتمع والمستجدات السياسيّة والاقتصاديّة والعلميّة والتنوع الثقافي في دول العالم قد فرضت على المتخضِّصين في المناهج أن يوسعوا دائرة اهتماماتهم المحليّة ويبحثوا عن بدائل جديدة تساعدهم على معالجة موضوع المواطنيّة في إطار ثقافي منفتح على كل الآراء.
– إنّ الحقوق الإنسانيّة والتي هي جزء من مبادئ المواطنيّة مثل العدالة والحقوق والواجبات والمساواة والديمقراطيّة، فإنّ تدريسها من خلال منهج التربيّة على المواطنيّة كممارسات ونشاطات مدرسيّة ليس صعباً أو مستحيلاً، فمن خلال لجان الطلبة والخدمة المجتمعيّة، والزيارات الميدانيّة، والفعاليات الوطنيّة والدينيّة في المدرسة أو خارجها يمكن للمدرسة تنفيذ ذلك. صحيح إنّ هذا الوضع قائم في أوربا وبعض دول الشرق الأقصى، إلا أنّه من الممكن أن نطالب بإجراء ذلك في بلداننا العربيّة وذلك من خلال جمعيات المجتمع المدني، التي نطالبها أن تتبنى هذه القضية، وكذلك من خلال ممثلي الشعب في البرلمانات المنتخبة، وأيضاً، من خلال وسائل الإعلام بأنواعها، ومن خلال الندوات واللقاءات التربويّة الداخليّة منه والخارجيّة. أما أن نلتزم الصمت وننتظر مكرمات الآخرين، فمن الصعوبة بمكان تحقيقه من قبل الأنظمة، لأنها ترى أنّ هذا الوضع الذي تسير عليه لا يشوبه أي عيب. ولنا في مملكتنا، البحرين أنموذج على ذلك، فقد شرعت وزارة التربيّة والتعليم في تحسين مدخلات التعليم في ظل سياسة الإصلاح العام، ومن ضمن هذا الإصلاح، إصلاح التعليم. فقد تم تطبيق تدريس الحقوق الدستوريّة على جميع المراحل التعليميّة، ضمن تدريس مادة المواطنة )١( ومنذ العام الدراسي2000-2006. وتدريس التربيّة على المواطنيّة في مختلف المدارس. وفي العام الدراسي 2006 – 2007. طبقت الوزارة المرحلة الثانية من تدريس مادة التربيّة على المواطنيّة في المدارس الحكوميّة)1( وخٌصصت لهذه المادة حصة واحدة في الاسبوع. وقد تم الانتهاء من تأليف كتب هذه المادة التي أخذت في الاعتبار التغييرات والتحولات الديمقراطيّة في الدولة، وبما ورد في إعلان برامج الأمم المتحدة بشأن ثقافة السلام المحددة في المجالات الآنية:1- إشاعة ثقافة السلام من خلال التعليم والتنميّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة المستدامة. 2- احترام جميع حقوق الإنسان.)2( 3- المساواة بين المرأة والرجل. 4- المشاركة الديمقراطيّة. 5- التفاهم والتسامح والتضامن. 6- الاتصال القائم على المشاركة. 7- حريّة تدفق المعلومات والمعرفة. 8- أخيراً السلم والأمن الدوليان.
أما بالنسبة إلى المدارس الخاصة، فقد جاء في التوصية: ” أوصت لجنة الوكلاء في اجتماعها رقم (938) المنعقد بتاريخ 31 يناير 2007 تدريس مقرر مادة التربيّة على المواطنة في المدارس الخاصة وهي على النحو التالي:
1- تدريس مادة التربيّة على المواطنية في جميع المدارس الخاصة (للطلبة البحرينيين والعرب والأجانب)
2- تدريس مادة التربيّة على المواطنة في المدارس الخاصة يكون ضمن حصة تاريخ مملكة البحرين وجغرافيتها. وفي المدارس الرسمية ضمن مادة التربيّة على المواطنيّة.
3- ترجمة وثيقة المنهج وكتاب مادة التربيّة على المواطنة إلى اللغة الإنجليزيّة.
4- متابعة تدريس مادة التربيّة على المواطنة من قبل إدارة الإشراف التربوي.
5- تدريب معلمي المدارس الخاصة ومعلمي المدارس الحكوميّة في ما يتعلق بكيفية تدريس هذه المادة للطلبة.
إنَّ كل ما ذكرناه وما قمنا به من إشارات حول مضامين التربيّة على المواطنيّة في البلدان العربيّة والبلدان غير العربيّة، يؤكّد ضرورة الإفادة من الدول المتقدمة في هذا المجال، لأنّ البعد العالمي في موضوع المواطنيّة بات من الأمور الحتميّة، حيث قرّبت المسافات بين الدول جغرافياً وثقافياً، وإنّ إعداد المواطن لتفهم عادات الشعوب الأخرى وتقاليدها سيسهم في إشاعة ثقافة السلام التي تنادي بها الأمم المتحدة. وهنا أخص بذلك البحرين، باعتبار أنّ هذه الدراسة تتعلق بها، لذا وجب علينا الإفادة من هذا التوجه العالمي، وإلا سنظل نراوح في مكاننا وقد دخلنا القرن الحادي والعشرين من حيث الزمن، إلا أنّنا لا زلنا نُعلم أبناءَنا بطرائق قد تجاوزها الزمن وتخطاها.
تناولنا في القسم الأول من هذا الفصل مقومات التربيّة على المواطنيّة، كذلك الانتماء الوطني والولاء… وتطور مفهوم المواطنيّة في البحرين، وأهمية تدريس التربيّة على المواطنيّة وعلاقتها بالمناهج التعليميّة.
أما في القسم الثاني فسيتم التركيز على أهداف المناهج الدراسيّة ومحتوى الكتب المدرسيّة في البحرين والمتعلقة بتدريس اللغة العربيّة والجغرافيا والتاريخ في المرحلة الأساسيّة وسنشير إلى دور المناهج في تعزيز مبدأ التربيّة على المواطنيّة من خلال تلك المناهج والكتب. لذا يجدر بنا أن نشير بإيجاز إلى مفهوم المنهج ودوره في النظام التربوي. أضف إلى ذلك دور المدرسة في إعداد التلميذ للحياة وفي التربيّة على المواطنيّة.
المصادر:
)١( سعيد الحمد ، في ذكرى تأسيس هيئة الاتحاد الوطني، جريدة الأيام، العدد5692، [ ملحق خاص] الخميس 7/10/2004، ص1-32.
)١( مرسوم أميري رقم 36 لسنة 2000.
(1
) مشروع ميثاق العمل الوطني لدولة البحرين، ص5.
)١( لولوه الخليفة، “يطبق على جميع المراحل التعليمية: التربيّة، تدريس الحقوق الدستوريّة ضمن المواطنة في العام المقبل”، جريدة الأيام[العمود1-5]، العدد 5606، السبت22أغسطس2004، ص1 -26 .
(1 عبد الله المطوع، ” التربيّة تطبق أول منهج لتربيّة المواطنيّة “، جريدة الأيام [العمود2]،، العدد 6081، الثلاثاء 1/11/2005، ص1 -56.
(2 لآلئ الزياني، ” تطبيق المرحلة الثانية من مادة المواطنة ” ، جريدة أخبار الخليج [العمود5]، العدد 10554، الاثنين 26 فبراير 2007، ص1 -26 .