اختارت الأقدار لجليل عمران الحوري نهاية تليق بتاريخه النضالي الناصع، هو الذي ينتسب إلى رعيل المناضلين العماليين والنقابيين الذين كانوا قلة في زمن الجمر يؤسسون اللجان العمالية وينظمون الإضرابات ويقودون المسيرات والاحتجاجات دفاعاً عن حقوق العمال وفي سبيل إطلاق حرية العمل النقابي، ودفع جليل ورفاقه الضريبة الغالية لذلك بالسجن والتوقيف والمحاربة في الرزق.
في حياة ورحيل هذا المناضل النقابي ما يرتقي إلى مثابة العمل الروائي أو الدرامي .
عندما كنا لم نزل تلاميذ في المدرسة، كان اسم جليل عمران مضرب المثل في الشجاعة، حيث كان دائماً في مقدمة صفوف مسيرات العمال منذ ستينيات القرن الماضي مطالباً بحقوقهم، وفي مقدمتها حق تشكيل النقابات. يومها كانت الفرائص ترتعد من مجرد التفوه بكلمة النقابة، فما بالك بالدعوة إلى تشكيلها، لكن جليل عمران ورفاقه لم يأبهوا بالصعوبات، التي لم تثنِ من عزيمتهم أو تفت من عضدهم .
تغيرت أمور كثيرة في البحرين وأصبحت النقابات أمراً واقعاً يجمعها الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين، وكان جليل سعيداً برؤية بعض ثمار كفاحه تتحقق، لكنه لم يكفّ عن مواصلة العمل في سبيل المزيد، وحماية الحقوق المكتسبة من أي تعدٍ عليها، رغم تقدم السن به، وتدهور حالته الصحية التي حملته إلى رحلة علاجية إلى ألمانيا عاد منها منذ أسابيع فقط
كان زملاؤه يحرصون على المرور عليه في بيته، ليأخذوه بالسيارة إلى حيث يقام نشاط عمالي، هذه المرة حيث الاعتصام الذي دعت إليه نقابة المصرفيين احتجاجاً على التسريحات الجائرة في القطاع المصرفي، لم يفعل الرفاق الأمر نفسه رأفة بصحته، لكنه استقل النقل العام وأتى وحيداً، وقطع المسافة من موقف الحافلة إلى حيث التجمهر مشياً، وما أن تناهت إلى مسامعه هتافات العمال حتى استعاد لوهلة سنوات شبابه يوم كان في مقدمة الصفوف يهتف، وعلى محياه كما يقول أحد الحاضرين ارتسمت بسمة الرضا لأن جذوة النضال التي ساهم في إشعالها ظلت متقدة.
وفي حماس راح يجاري العمال الشباب في الهتاف بأعلى صوته، بذات الإيمان والحماس اللذين كان عليهما وهو لما يزل شاباً، لكن قلبَهُ المنهك خذلهُ هذه المرة، حين خرّ ميتاً بين أيدي رفاقه، كانت تلك تلويحة الوداع الأخيرة للرجل الذي مات شامخاً، بكل عنفوان المناضل وعزيمته.
المصور البارع والصحافي مازن مهدي التقط صورة لمكان الحدث: برجا المرفأ المالي بكل ما يرمزان له من سطوة للمال، حيث اعتصم المعتصمون، يبدوان شامخين صاعدين في اتجاه الأعالي، وفي أسفل المبنى على ساحة من العشب الأخضر جثمان الفقيد ملفوف بملاءة بيضاء محاط برفاقه الذين اغرورقت أعينهم بالدموع وهم يتبادلون التعازي.
هذه الصورة يجب أن تخلد، ليس لأنها شاهدة على زمن فحسب، وإنما هي تجسيد لاحتجاج مفعم بالرجولة والشرف والكرامة على نهج ضاعف ثروة الأغنياء وزاد فقر الفقراء فقراً.
نهاية رجـل شـجاع
أول مايو.. عيد العمال ألأممي
تحتفل شعوب العالم من دون استثناء بيوم الأول من مايو عيد الطبقة العاملة في كل مكان.. بحسب ما تحتفي بهذا اليوم المقدس طبقة البروليتاريا الأممية على وجه البسيطة.. ذلك إجلالا لتضحيات أولئك العاملين الكادحين الذين أقيمت على أكتافهم ركائز العملية التنموية بإبداعاتهم وعطاءاتهم ودعائم المنظومة الاقتصادية والاجتماعية بعقولهم ونضالاتهم ومحاور النهضة الإنتاجية والإبداعية بسواعدهم وعرقهم حتى نسج هؤلاء المناضلون أعظم الملاحم البطولية والمبدئية، تجسيدا لرسالتهم المبدئية والأخلاقية التي حملوها في عقولهم وقلوبهم، وناضلوا من أجلها بأشجع المواقف ضد الظلم الاجتماعي والاستغلال الطبقي وفي مواجهة جشع الرأسمالية البشعة والقائمة على فائض القيمة وتلك الأرباح الخيالية الطائلة..
ولعل التاريخ قد دون ما بين صفحاته المضيئة يوم الأول من مايو بأحرف من نور الذي بمغازي هذا اليوم ودلالاته قد أعطى تجسيدا حيويا لأعظم انتفاضة عمالية سطر أبطالها من العمال والنقابيين بدمائهم وتضحياتهم وشهدائهم أعظم الملاحم التاريخية العمالية والنقابية وهي انتفاضة عمال شيكاجو الخالدة عام 1886 التي بوهجها المضيء انتصرت على مافيا الرساميل الطائلة في انتزاع حقوقها العمالية والنقابية والإنتاجية والاجتماعية من رأسمالية الدولة الاحتكارية والمتمثلة في الكارتيلات والتروستات..
تمثلت تلك المكتسبات والإنجازات في تحسين ظروف العمل ووسائل الإنتاج والنهوض بالعمل النقابي والمهني وتحسين مستوى الأجور وتخفيض ساعات العمل وتوفير مختلف الأعمال والمهن والوظائف وبالتالي الاستقرار المعيشي والاستهلاكي والنفسي والأسري.
تحتفل شعوب العالم قاطبة بعيد العمال، بيوم الأول من مايو من كل عام جديد.. ولعل شعب البحرين المناضل هو أحد هذه الشعوب المناضلة قد حقق انتصارات عظيمة لطبقته العمالية البحرينية مثلما انتزع المكتسبات النقابية والعمالية بتضحيات مؤسساته المدنية والشعبية وفي مقدمتها الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين.. أهم تلك المكتسبات هو الاحتفاء بيوم عيد العمال وإحياء المسيرات العمالية والجماهيرية في يوم الأول من مايو وتنظيمها بما يليق بنضالات العمالة البحرينية خاصة وطبقة البروليتاريا الأممية عامة، وإشهار النقابات العمالية في مختلف مؤسسات القطاع الخاص طبقا لقانون العمل الصادر في عام 1957 وجعل يوم الأول من مايو إجازة وطنية اسوة بالإجازات الرسمية والوطنية الأخرى.
وبقدر ما ناضلت الطبقة العمالية البحرينية من أجل أهدافها وأمانيها التي تحقق البعض منها فإنها تواصل نضالاتها من أجل تحقيق مطالبها العمالية والنقابية وأهدافها المعيشية والاسرية التي مازال بعضها مصادرا وخارجا عن دائرة الضوء والتطبيق وهي كالآتي:
- 1 اعتصام عمال نقابة بابكو ومطالبتهم بحقوقهم المشروعة
بمناسبة الذكرى الخامسة والأربعين لحركة مارس المجيدة التي شجبت سياسة شركة بابكو التعسفية بفصل 400 عامل آنذاك نفذ عمال نقابة (نفط البحرين) بابكو اعتصاما أمام بوابات الشركة احتجاجا على تحويل الشركة 350 موظفا وعاملا إلى شركة تطوير كدفعة أولى في تعميم أصدرته يوم 25 نوفمبر 2009 في خطوة مفاجئة من قبل الشركة لم تأخذ بالاعتبار شراكة النقابة ودورها الحقيقي.. بحسب ما جاء في بيان نقابة عمال بابكو.
هذه الخطوات التعسفية التي تبنتها الشركة بحق العمالة البحرينية تأتي تجاوبا لنظام هيئة تنظيم سوق العمل وشركة مكنزي الساعيتين إلى تقليص حجم العمالة الوطنية وتجاهلا للدستور والميثاق والاتفاقيات الدولية بحسب ما تجسد هذه الأساليب للشركة إنزال عسف الحيف على كواهل العمالة البحرينية لديها.. ناهيك عن إهمال شركة بابكو أهم المطالب لنقابتها العمالية التي وصلت إلى 52 مطلبا.
– 2 ارتفاع حجم العمالة الأجنبية وهبوط حجم العمالة الوطنية
طبقا لآخر الإحصائيات الصادرة عن هيئة تنظيم سوق العمل فإن “حجم العمالة بشقيها البحريني والأجنبي في مملكة البحرين بلغ 599 ألفا و17 عاملا.. منهم 138 ألفا و665 عاملا بحرينيا.. و460 ألفا و352 عاملا أجنبيا مع نهاية الربع الثاني لعام 2009،. مما تعني هذه الظاهرة المؤسفة أو هذا الواقع المحزن هبوطا ملحوظا للبحرنة إلى أدنى وأسوأ مستوياتها.
3 - رزوح قانون العمل ما بين أدراج مجلس الشورى والسلطتين التشريعية والتنفيذية
لقد طال انتظار رزوح قانون العمل ما بين أدراج مجلس الشورى والسلطتين التشريعية والتنفيذية حتى كاد هذا القانون أن يتكلم شجبا واستياء.. ولعل إحالة مجلس الشورى مؤخرا إلى مجلس النواب التعديلات التي أدخلها مجلس الشورى على قانون العمل وفي مقدمتها المادتان (110 و111) لا يعني أن البرلمان سيفرج عن هذا القانون .. طالما النواب الإسلاميون من عاداتهم التأخير في سن وتشريع القوانين المهمة وذلك من أجل توظيفها لدعاياتهم الانتخابية.. ومن هنا سيظل قانون العمل مؤجلا إقراره إلى الفصل التشريعي الثالث أو حتى الفصل التشريعي الرابع.
4 - غياب النقابات العمالية في القطاع العام
بحسب التعميم رقم (1) لسنة 2003 الصادر عن ديوان الخدمة المدنية وما يتمخض عن استغلاله (المادة العاشرة) وإخضاعها لصالح الحكومة بمبررات تسويفية فقد حرم أكثر من 40 ألف موظف وعامل من حقوقهم المشروعة بعدم السماح لهم بتشكيل نقاباتهم العمالية والمهنية لدى القطاع العام.
وفي نهاية المطاف يمكن القول إن مؤسسات المجتمع المدني في مملكة البحرين من جمعيات سياسية ومهنية ونقابية ونسائية وعلى رأسها النقابات العمالية والاتحاد العام لنقابات عمال البحرين.. هي جميعها بقدر ما ترفع راية اليوم الأول من مايو خفاقة في سماء الحرية فإنها تناضل من أجل تحقيق أهدافها المنقوصة والمهمشة كالبحرنة وتوظيف العاطلين وخاصة الخريجين وإقرار قانون العمل وتوفير العدالة الاجتماعية وتعديل قانون النقابات للسماح بتشكيل النقابات العمالية لدى القطاع العام.. وبالتالي إعطاء المكانة الاعتبارية للنقابات العمالية بحق المشاركة الحقيقية والجماعية في كلا القطاعين (العام والخاص).. ذلك بما ينسجم وتاريخ الطبقة العاملة البحرينية ويتماشى وفاعلية عيدها المجيد في اليوم الأول من مايو.. عيد طبقة البروليتاريا على وجه البسيطة.
أخبار الخليج 30 ابريل 2010
سيناريو العودة للوراء
ليس لدى الدينيين برنامج تحول للحداثة، وانسداد الآفاق هذا يؤدي بهم إلى المغامرات العسكرية وإلى تأجيج صراعات المنطقة وإلى تمزيق حال العرب بصفة خاصة، فهم الأمة المحاطة بمشروعات الهيمنة الإسرائيلية والإيرانية والغربية.
في نموذج البداوة على طريقة القاعدة أو نموذج القرية المهيمنة على المدينة على طريقة إيران، فإن العسكرة وفي نهاية المطاف الحروب الكارثية هي التتويج المُنتظر.
الدينيون أناس غير قادرين على الاندماج في الحضارة الحديثة وتقبل سماتها، ويجلبون القوى البدوية أو الريفية المتخلفة ويفرضونها على الحياة، ويجعلون العامةَ الجاهلةَ تتصدى للحداثة.
إن الحوزات أو جماعات علماء الدين غير قادرة على تطوير الحياة الاجتماعية للمسلمين بالسرعة المطلوبة، في ظل حداثة متسارعة، وبتدخلات أجنبية عسكرية وسياسية وثقافية حادة.
لقد قامت هذه المؤسسات الدينية المذهبية خلال القرون السابقة بعد غياب الاجتهاد بالسير البطيء في فهمِ النصوص وعدم القدرة على تكييف حياة المسلمين للتطورات الخطرة التي ستجرى.
لم تتملك بعد نظر لإعادة تحليل الماضي الإسلامي وقراءة تجارب الخلفاء الراشدين والأئمة المناضلين والخلفاء المصلحين النادرين بعد ذلك كعمر بن عبدالعزيز ويزيد الناقص وعمليات الإصلاح المجهضة في عصر بعض الخلفاء العباسيين المتنورين، وعجز الفقه عن معالجة التناقضات الكبرى للمسلمين وهي هيمنةُ الرجال على النساء، وهيمنة الحكام على المحكومين، وهيمنة الاقطاعيين على الفلاحين، وهيمنةُ النصوص على تطورات الحياة.
وقد قام الآيات العظمى وعلماء الدين السنة بذلك المشي الفقهي البطيء الحذر المحافظ بسبب عدم قدرتهم على المراجعة التحليلية النقدية لتراث هائل ينقسم بين المذاهب والنحل والقوميات المختلفة، لكن كان حذرهم ومشيهم الوئيد أفضل من المغامرات السياسية التي تم زج المرجعيات والمعاهد الكبرى كالأزهر فيها بعد ذلك.
كانت الأفكار السياسية المغامرة الدكتاتورية للجماعات السياسية الدينية والقومية واليسارية، تدفع بهذه الاتجاهات المحفوفة بالمخاطر فوق مصائر الشعوب التي تتحمس للقفزات وهي وقودها وحطب تنورها.
إن التدخلات الأجنبية والانقلابات العسكرية كلها تطيح بالاعتدال وتغيّب النمو الليبرالي الديمقراطي الطويل وبقيام هذا النمو بحل مشكلات الفقراء وأزمات الريف الخانقة، وترفض توزيع الأراضي على الفلاحين المعدمين، وتغيير معيشة الملايين من العمال أو تغيير أنماط فئاتهم الأمية والمتدنية المعرفة.
لم تستطع المرجعيات المحافظة الرزينة ولا قوى الاعتدال الديني في إيران والعراق وسوريا ومصر والجزائر وغيرها أن تمسك خيوط السياسة المندفعة الهائجة التي جثمت في أحضان الجيوش وقوى المغامرة السياسية وولاية الفقيه وقيام استبداد مجالس قيادات الثورات المزعومة.
إن مجيء أغلب قيادات هذه القوى من الأرياف أدى إلى المحافظة في المدن، وكشط مستويات من الحداثة، وهيمن الضباط المتخلفون فكريا وفقهاء التخلف والأمية الدينية والصعاليك والمجرمون وخبراء التعذيب على أساتذة الجامعات ومفكري الشعوب وعلماء الدين الكبار، وأجنة الأحزاب الديمقراطية. لقد أعطت سياسات الاضطرابات هذه النوعيات من الجنون السياسي.
وفيما استمر الفقه المحافظ، وتشكلت منه قشور ايديولوجية تبريرية لسياسات الحكومات، فإنه لم يستطع أن يقوم بالتحليلات المطلوبة للوعي الديني، وبمقاربة إسلامية للحداثة، وقفزت السياسات الدينية المغامرة بالشعوب إلى أتون هوات الموت الواسع، والإعداد للحروب والمجازر الكبرى.
لقد حوصرت المرجعيات بشتى الأشكال وتم إيجاد أجيال مسيسة محدودة الفهم، وزج بها في الصراعات السياسية والمذهبية والعسكرية بين المسلمين.
إن الحكومات الإسلامية جميعاً رفضت قوانين الحداثة المطلوبة والسابق ذكرها، أي القيام بتجاوز الاستبداديات الاجتماعية والسياسية والثقافية، وتمت عمليات التغيير التكتيكية الجزئية لمصالح الطبقات الحاكمة في كل البلدان، بهذه النسب أو تلك حسب تطورات وظروف كل بلد.
إن المراجعة التحديثية للشريعة، هي ذاتها المراجعة والتجاوز لظروف القهر والاستغلال للملايين، رجالاً ونساء، محكومين وعمالاً وعلماء عصر ودين. ولكن بدلا من ذلك يحدث العكس.
فإن ازدياد تقارب علماء الدين المحافظين والعسكريين معاً هو نقل المسلمين إلى حافة الهاوية، فرجال الحكمِ المدنيين أقل خطورة إذا واصلوا التغيير لصالح الناس وإلا عادت مفاتيح الأمور للتحالف القاتل السابق، في الأولى تصبح الأسلحة هي التي تقرر المصائر العامة، وتتحول الأوهام الطائفية والأساطير الدينية إلى واقعٍ يومي كابوسي مسلط على الناس، الذين يعجزون عن الهروب من السلخانة والمحرقة المعدتين لهم.
لهذا فإن في كل ضربة عسكرية كبرى، تحطم فيها مثل هذه المشروعات، تعود بالشعوب للوراء على مختلف الأصعدة، فالمشكلات الكبرى السابق ذكرها تتفاقم وتتفسخ مظاهرها، وتغدو أزمات أشد. ويغدو الهروب لانفتاحية عيش غير كريم وانهيار للقيم الوطنية والنضالية المنفوخة الريش الملاذ السيئ.
تقود عملية التراجع السياسي الديني إلى حكم المجانين السياسيين، الذين خطفوا الطائرات الوطنية نحو مطارات الكوارث الكبرى!
أما لهذا التجريب الظلامي من آخر؟!
صحيفة اخبار الخليج
30 ابريل 2010
كوميديا سوداء
«التقى رجلان عند موقف الباص ، لم يسلم أي منهما على الثاني، ولم يبتسم أي منهما للآخر، كان كل منهما يروزالثاني بنظرة حادة. إذا جلس أحدهما على المقعد قام الثاني ونظر نظرة شزرة، ولا يلبث الواقف أن يتعب، فالشمس حارة وطاقة الصبر والأناة استهلكها العمل فيجلس، ويقوم الجالس وينظر نظرة قاسية ويدير ظهره. لم يصل الباص إلا وكان كل منهما يتمنى في سره سحق الآخر، كما يسحق صرصور تحت قدم حانقة «.
هذا ملخص قصة قصيرة للكاتب السوري محمد إبراهيم الحاج صالح، وهي بامتياز قصة عن سيكولوجيا الإنسان المقهور الذي يعوض عن القهر الواقع عليه بابداء كراهية، أو قهر مبطن ضد نظرائه من الناس المقهورين أيضا. وهي فيما نرى سيكولوجيا المواطن العربي البسيط على امتداد رقعة هذا الوطن الكبير، المواطن الذي تسحقه الأزمات المعيشية وتطحنه دوامة الحياة القاسية، وتهدر كرامته وهو يريق ماء وجهه مرات في اليوم الواحد جريا وراء تأمين لقمة العيش له ولأطفاله ، في أوطان تبدو الآفاق أمامها مسدودة، حيث تتدحرج نحو هاوية المزيد من الأزمات.
هذا نوع من الكوميديا السوداء، ولكنها كوميديا مأخوذة من هذا الواقع، مترعة بمآسيه ومتشربة بطعم العلقم الذي ينضح به. إن ما فعلته التحولات العمياء التي شهدتها المجتمعات العربية على مدار عقود قد أدت إلى سحق هذا المواطن وتغييبه وإهدار كرامته، وتفريغ عالمه الروحي وتجويفه.
علينا بعد رؤية هذه التحولات أن نفهم هذا الحال من الخيبة واللامبالاة واليأس والحياد الواضح من قبل هذا المواطن تجاه ما يجري حوله من أحداث جسام. ما الذي يستطيع هذا المواطن العربي أن يفعله وقد فقد هو نفسه الإرادة والإحساس العالي بالكرامة، وعلينا بعد هذا وذاك أن نفهم ، وربما نتفهم ، طبيعة ردود الفعل العفوية على هذا الوضع، حين تأخذ الطابع العبثي وتبدو من غير رؤية أو هدف أو مشروع ، وان وجد هذا الهدف فانه غالبا ما يكون معلقا في الهواء، معزولا عن الزمان والمكان.
الهزيمة ليست هي تلك التي تتكبدها الجيوش في معارك القتال. الهزيمة الحقيقية، الكبرى، هي الهزيمة الداخلية، هزيمة الإنسان الفرد حين تنخر النفوس واحدة بعد الأخرى وتصيبها بالخراب وفساد المعنويات. وجوهر كل ما يجري هو الوصول بهذا المواطن البسيط إلى هذا المآل البائس، وان تحقق ذلك، لا سمح الله، فان الظلام سيطبق علينا من كل الجهات.
ألا يفسر لنا ذلك هذا الحنين، الذي يبدو في بعض مظاهره رومانسيا لذاك الزمن الذي وان كانت الناس فيه مثقلة بالفقر، لكنها كانت مفعمة بالأمل والكرامة والعزة. لقد كان ذاك زمن: «ارفع رأسك يا أخي»، أما اليوم فقد حل علينا زمن طأطأة الرؤوس ..!
صحيفة الايام
29 ابريل 2010
جليل الحوري.. وداعا
لا أعرف حقيقة لماذا يراودني الإحساس ويلازمني بأن عامنا الحالي 2010م هو عام الأحزان، هذا مع أننا لم نعش أعواما سعيدة منذ حقبة بعيدة، ولا يراودني هذا الشعور بسبب تفاقم الأوضاع سوءا على مختلف الأصعدة الدولية والعربية والمحلية، بل بسبب هذه الكوكبة من الرموز الفكرية والثقافية والعربية والنضالية الفذة التي تغادر دنيانا سريعا وفجأة واحدا تلو الآخر على الساحتين العربية والمحلية، فلم تمض سوى أسابيع قليلة على رحيل المناضل والمبدع العبقري الموسيقي مجيد مرهون حتى صدمنا مؤخرا برحيل المناضل النقابي جليل الحوري.. آمل أن يكون إحساسي التشاؤمي ليس في محله إذا ما جاءت الأيام المتبقية القادمة من ثلثي العام هي أجمل من الأيام التي سبقتها أو على الأدق أقل سوءا.
لقد كان المناضل النقابي الصديق جليل الحوري من النقابيين البحرينيين والعرب النادرين الذين يحق للحركة النقابية البحرينية والعربية أن تفتخر بهم حقا بعد مسيرة أربعة عقود طويلة نضالية نقابية حافلة بالتضحيات الجسام ونكران الذات في سبيل مطالب وحقوق الحركة العمالية النقابية ومن أجل نهضة وتقدم شعبه ووطنه.. بيد أن ما يميز المرحوم الحوري عن نقابيي الأمس ونقابيي اليوم أنه نسيج وحده من القلة النادرة من النقابيين في عصرنا الذين ظلوا متشبثين بقوة وصلابة بمبادئهم الوطنية والفكرية والنقابية ولم يفت في عضد عزيمتهم أبدا كل ما جرى خلال العقدين الماضيين من طوفان التحولات الهائلة والانهيارات والانكسارات وتبديل الجلود بالجملة والانهزامات الداخلية، فقد ظل محتفظا مدافعا لا يلين عن المثل والأفكار التي ناضل وآمن بها طوال حياته وظل حتى الرمق الأخير من حياته محتفظا بينبوع حماسه المتدفق الذي لا يعرف الكلل أو الجفاف.
اشتهر النقابي الحوري بجرأته وبحماسته الشديدة الحارة منذ شبابه كما يؤكد كل أترابه من معارفه وأصدقائه ورفاقه، لكن هذه الدفقة من الحماسة المتفجرة ظلت خصلة يتميز بها حتى وهو كهل إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة، فلكأنك حينما تستمع إليه حتى الأيام الأخيرة من حياته تستمع إلى رجل في عنفوان الشباب الأول لا إلى رجل قارب السبعين، ورحيل مثل هذا المعدن من الرجال والرموز النقابية والوطنية يصعب حقا في زمننا الرديء تعويضها.
لم ألتق الفقيد الراحل جليل منذ نحو عام أو عامين لكنني كنت حريصا دائما على السؤال عنه وعن أحواله من معارفه وأقاربه، وفي كل مرة عند ذهابي إلى مبنى صحيفة “أخبار الخليج” أسأل عنه ابن عمه الزميل محمد موظف البدالة، وفي مساء يوم وفاته نفسه صدمني الأخ محمد صدمة كبيرة حينما سألته: ما هي أخبار “أبومنير”؟ هل أبلغته تحياتي؟ فأجابني بنبرة حزينة “لقد تلقيت مكالمة منذ قليل بأنه سقط متوفيا إثر نوبة قلبية في اعتصام المصرفيين، وانني بصدد مغادرة الدوام الآن”.
وكررت عليه مذهولا: ماذا تقول؟ لكنه أعاد عليّ تأكيد الخبر.
لا أعتقد أنني بحاجة إلى إعادة اجترار ما هو معروف عن النقابي والوطني الفقيد عبدالجليل الحوري من خصال ومناقب وما قدمه من تضحيات، لكن في تقديري ثمة ثلاث خصال وطنية ونقابية ظلت تميزه: أولاها إخلاصه الشديد للمثل والمبادئ الوطنية التي ظل مؤمنا بها حتى الرمق الأخير من حياته، وثانيتها الجذوة الحماسية الثورية المتدفقة التي ظلت متقدة في صدره لم تفتر ولم تخمد قط منذ فتوة وعيه السياسي والطبقي المبكر، وثالثتها محافظته على بساطته الشعبية في كل شيء لباسا وحديثا، وقد عاش طوال حياته عاملا معدما ومات عصاميا معدما.
فرحم الله الفقيد عبدالجليل الحوري.. وألهم ذويه الصبر والسلوان.
صحيفة اخبار الخليج
28 ابريل 2010
تحولات في الكوكب
بعد نحو عقد ونصف العقد من سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي، فإن أفكار العدالة الاجتماعية والبحث عن خيار آخر للعالم تعود لتطرح نفسها بقوة، حتى تلك القطاعات من الناس التي صدقت أن البديل أصبح من الماضي ولن تقوم له قائمة بعد اليوم، بدأت تدرك وبالمعاينة الميدانية زيف ذلك ، فالديمقراطية كأي شي آخر لا يمكن أن تأتي على دبابات الغزو والاحتلال.
هذا إذا جرى الحديث على مستوى المجتمعات، كل مجتمع على حدة، أما إذا دار الحديث عن المستوى الكوني، فلنا أن نرى في الحروب التي تعمل شركات ومافيا السلاح على إشعال فتيلها مظهرا من مظاهر الأصولية الاقتصادية التي لا تتورع على الدفع بعشرات ومئات آلاف وحتى ملايين البشر إلى الموت، طالما كان استمرار الحروب يؤمن عائدا دائما متناميا من الاتجار بالأسلحة، وعلى المرء ألا يفتش في الدوافع الاقتصادية أو الاجتماعية للحروب ، وإنما يفتش أيضا عن شركات ومافيا السلاح الدولية التي لها مصلحة في تسعير هذه الحروب وإدامتها، لتظل سوق السلاح منتعشة.
ويمكن لآليات العولمة الاقتصادية والثقافية وغيرها تؤمن سبلاً فعالة لتحقيق الأهداف التي يمكن للقوة العسكرية المباشرة أن تؤديها من خلال إضعاف الدول وتفكيكها، لتحقيق انسيابية أكبر في تدفق رؤوس الأموال والسلع التي تبحث لها عن أسواق وفرص جديدة للاستثمار والتصريف لا تحيط بها أسوار الحماية، ولا تتدخل الدولة فترهقها بالضرائب العالية، وعن عمالة رخيصة غير محمية بفرض حد أدنى لأجورها، أو بوضع الشروط القاسية لفصل العمال. ولكن يظل باعثاً على الاهتمام أن الغرب لم يعد يجد غضاضة في اللجوء إلى الأساليب التقليدية بما فيها الغزو والاحتلال.
بعض الدراسات تقول انه يكفي اقتطاع أقل من 4% من الثروة المتراكمة لما لا يزيد على 225 رجلا فقط هم أثرى أثرياء العالم، للوصول إلى تلبية حاجات كل العالم في الصحة والتعليم والغذاء، والتي لا تزيد كلفتها على ثلاثة عشر مليار دولار، أي بالكاد ما يصرفه سكان الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي سنويا على شراء العطور.
إن بدا أن ذلك يعني في الظاهر إخضاع العالم، فإنه في الجوهر يستنهض قوى عديدة على مدار الكوكب لن ترضى بأن يقاد العالم نحو هذا الخيار المدمر للبشرية وللبيئة ، نتيجة استشراء نفوذ ما بات يدعى “الليبرالية الجديدة” التي تستعير من الرأسمالية، أدواتها القديمة القائمة على تسييد مبدأ الربحية كحاكم أوحد، وتعيد النظر في الضمانات الاجتماعية والمكتسبات التي نالتها الفئات الكادحة في صراعها المديد مع أصحاب رؤوس الأموال، وتطال إعادة النظر هذه حقولاً مهمة كالتعليم والصحة والإعانات المعيشية والاجتماعية والخدمات الثقافية والترفيهية وإلغاء الدعم على الأسعار وتجميد الأجور وتحرير التجارة الخارجية وبيع القطاع العام.
إن ما يجري في أماكن مختلفة من العالم يقدم مثالاً عن طبيعة التحولات الدائرة في هذا الكوكب علينا تأمله ملياً، لأنه يؤكد وجود خيار آخر ، هذا طبعا إذا أحسنت القوى الديمقراطية تدبر أمورها على نحو مختلف .
صحيفة الايام
28 ابريل 2010
الموت وقوفاً.. شهادة
” مت وقوفاً كنخيل بلادك فالموت وقوفاً في هذا الوطن شهادة “
كانت هذه كلمات الشاعرة فوزية السندي قبل ثلاثين عاما وهي ترثي المرحومة فتحية رضي التي ماتت على خشبة المسرح أثناء دراستها الأكاديمية في مصر.
وبالأمس غادرنا واحد من أكثر النقابيين صلابة وإيمانا بمبادئه وقيمه “عبدالجليل عمران الحوري” الذي مات صلبا عنيدا حتى آخر رمق في حياته، متضامنا مع إخوته ورفاقه في القطاع المصرفي الذين نظموا احتجاجا على عمليات الفصل التعسفي من العمل دون أن تبدو حلول في الأفق المنظور. التسريح والفصل التعسفي من العمل هي محطات عاشها الحوري قبل رحيله، دافعا بذلك ثمن إيمانه بقضيته العمالية والنضالية، فنال نصيبه من السجن والاعتقال إلى جانب رفاقه العمال والناشطين السياسيين.
قبل التعرف على جليل الحوري، كان اسمه يتردّد في أدبيات الحركة الوطنية البحرينية، باعتباره واحدا من القيادات النقابية التي أسست اللجنة التأسيسية لاتحاد عمال وأصحاب المهن الحرة في البحرين إلى جانب مجموعة من رفاق دربه أبرزهم عبدالله مطيويع وعباس عواجي، وذاق الثلاثة ومعهم العشرات من كوادر الحركة العمالية البحرينية سوءات السجن والمطاردات والحرب ضد لقمة عيشهم، فكانوا نماذج ورموزا للحركة النقابية التي كانت تمارس نضالاتها بسرية قبل صدور قانون النقابات العمالية مطلع الألفية الثالثة، وتأسيس الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين ليشكل امتدادات لما أنجزه الحوري ورفاقه.
لم أجد الحوري إلا صلبا متحمسا للقضايا العمالية والوطنية العامة. ورغم معرفتي الحديثة به منتصف التسعينات، إلا أنه طبع شخصيته بتميّز في الأوساط التي يتواجد فيها وخصوصا في المسيرات العمالية والمطلبية التي لا أظن أنه غاب عن إحداها، بل كان يحرص على أن يهتف بما يؤمن به ويفتخر بقناعاته الطبقية دون مواربة، ما فرض احترامه على محدثيه حتى وإن اختلفوا معه في وجهات النظر. كان رجل موقف، ويؤمن بأن الحياة وقفة عز، والكلمة بالنسبة له موقف يفصح عنه دون أن يرتجف، رغم معرفته لما تسببه هذه المواقف من حرب ضده وضد لقمة عيشه.
لا نعرف إذا كان الفقيد قد سجّل وأرّخ الحقب التاريخية من النضال الوطني في البحرين التي أسهم فيها، كونه كان يملك تفاصيل كثيرة أهمها مرحلة المفاوضات بين قيادة اللجنة التأسيسية، وبين ممثلي الحكومة مطلع سبعينات القرن الماضي، قبيل وبعد الإضرابات العمالية الشهيرة التي قادتها اللجنة التأسيسية.
رحل الفقيد جليل الحوري وهو مؤمن بوحدة الحركة النقابية، إذ لم يشارك في اعتصام أو تجمّع إلا وكان يهتف “الوحدة الوحدة يا عمال” ، ولا شك أنه كمناضل منذ الستينات سيكون أكثر رضا لو أن الحركة العمالية البحرينية تتمتع بحالة متقدمة من الوحدة الداخلية، وبمراكز قوة تمكّنها من الدفاع عن مصالح العمال وحقوقهم، حيث أفنى حياته في الدفاع عن مطالبهم.
الوقت 26 ابريل 2010
كيف مر يوم المرأة العالمي؟
من أكثر أعياد مجتمعنا الدولي المعاصر التي تكتسب أهمية ودلالات محلية وعالمية عيد المرأة العالمي وعيد العمال العمالي، إذ لا تكاد دولة من الدول أو مجتمع من المجتمعات الدولية لا تحتفل بكلا العيدين بالشكل المناسب الذي يليق بهما وبما يعكس التطور والمكتسبات التي حققتها المرأة والطبقة العاملة في الدولة.
العيد الأول، ألا هو يوم المرأة، مر كما نعلم في الثامن من مارس الماضي، لكن كيف مر؟ وكيف احتفلت به البحرين والدول العربية والعالم؟ أما الثاني، يوم العمال العالمي، الذي يصادف عادة الأول من مايو سنويا، أي سيحل بعد أيام قلائل، فلا أحد يعلم أو يستطيع التكهن مقدما كيف سيمر محليا وعربيا وعالميا؟ وان كان من المؤمل ألا يكون حاله كحال الاحتفالات التي صاحبت يوم المرأة العالمي في الثامن من مارس الماضي وهو موضع حديثنا في مقال اليوم.
فقد كان من المفترض على مختلف الأصعدة المحلية والعربية والدولية أن يكون الاحتفال هذا العام بيوم المرأة مميزا أي غير عادي لعدة اعتبارات، منها على سبيل المثال، لا الحصر، ان هذا العام يصادف مرور قرن منذ اقرار وتدشين مجتمعنا الدولي المعاصر هذا اليوم يوما عالميا، وذلك حينما أقر المؤتمر الثاني للنساء الاشتراكيات في كوبنهاجن عام 1910 برئاسة المناضلة الالمانية كلارا زايتكين ومجموعة من المناضلات من بلدان عديدة مختلفة جعل الثامن من مارس من كل عام يوما عالميا لتوحيد وتضامن النساء في كل العالم من أجل حقوقهن المشتركة.
ومثلما انطلقت فكرة تحديد الأول من مايو من كل عام يوما أو عيدا للعمال من الولايات المتحدة على خلفيات وتداعيات اضراب عمال شيكاغو الذي انتهى بنهاية مأساوية بسقوط عدد من العمال المضربين برصاص البوليس، فإن فكرة جعل هذا اليوم العالمي (يوم الثامن من مارس) انطلقت أيضا من الولايات المتحدة وذلك على اثر خروج النساء العاملات في النسيج والخياطة في احد المعامل الكبيرة بنيويورك في مظاهرات احتجاجية على الظروف غير الانسانية التي يجبرن العمل في ظلها ومنها العمل لساعات عمل طويلة وتشغيل الأطفال والمطالبة بحق النساء في الانتخاب. وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير مصرع مائة امرأة حرقا في احد أقسام المعمل من جراء الاهمال وغياب شروط السلامة.
جرى اعتماد هذا الاحتفال في البداية من قبل ألمانيا والدنمارك وسويسرا والنمسا، لكن الثامن من مارس لم يتسع الاحتفال به كيوم عالمي للمرأة الا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية على اثر اعتماد هذا اليوم ودعمه من قبل اتحاد النساء الديمقراطي العالمي، ثم تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا يدعو دول العالم كافة إلى الاحتفال بالثامن من مارس كل عام كيوم عالمي للاحتفال والتضامن مع المرأة.
ومن المؤسف انه في الذكرى المئوية للاحتفال بيوم المرأة ان نرى حقوقها عربيا تراجعت قرونا الى الوراء عما كانت عليه قبل ثلاثة عقود فقط.
وعلى سبيل المثال فالمرأة اليمنية في الشطر الجنوبي التي كانت تتمتع بقانون متطور يحمي الحد الأدنى من حقوقها وأسرتها والاحوال الشخصية المتعلقة بالزواج والاسرة تم نسفه بعد دمج جمهورية اليمن الديمقراطية في الشطر الجنوبي مع الجمهورية العربية اليمنية في الشطر الشمالي بدولة موحدة.
والقانون المتطور، الى حد ما، الخاص بالأحوال الشخصية والمرأة الذي كان سائدا في العراق منذ ثورة 1958 تم نسفه على أيدي الحكومة التي يغلب عليها الاسلام السياسي الشيعي والتي جاءت بعد الاحتلال الامريكي للعراق.
أما في أقطار الشام، وعلى الأخص سوريا والأردن، فإن ما تسمى بـ “جرائم الشرف” تحصد كل أسبوع أو أشهر عددا من ضحاياها من الفتيات الصبايا في عمر الزهور في قضايا أغلبها تقوم على الشك والوسواس الخناس.. ومازالت السلطات العربية المعنية عاجزة أمنيا وقضائيا واجتماعيا عن وضع حد لهذا النوع من الجرائم وعدم التساهل أو المرونة مع مرتكبي هذه الجرائم من أهل الضحية.
في مصر جرى القبض في الخريف الماضي على 25 مأذونا لتورطهم في تزويج قاصرات لرجال أعمال كبار مصريين وعرب بعد تزوير أعمارهم نظير مبالغ كبيرة وواحد من هؤلاء المأذونين تورط في عقد قران 114 فتاة قاصرا لكن لم يحكم عليه بالسجن سوى عامين. وفي اليمن لقيت طفلة زوجة حامل مصرعها على اثر تداعيات مرض الحمل المبكر جدا، وأخرى في السن نفسها لقيت مصرعها على اثر تداعيات اجبارها على الرضوخ بقبول معاشرة زوجها لها الذي يكبرها بثلاثة أضعاف. لكن كل ذلك يجرى في ظل صمت غريب من قبل المؤسسات الدينية العربية المعنية حول مدى جواز اقرار هذا النوع من الزيجات الخطيرة في عصرنا.
حينما كان هذا النوع من الزيجات مباحا في عصور الاسلام الاولى لم يكن الوعي الصحي والاجتماعي متطورا كما هو اليوم، ولم تكن الفتاة الطفلة القاصر منتظمة في دراسة ابتدائية أو اعدادية ينبغي لها إكمالها بل إكمال دراستها الجامعية التي لن يقل عمرها بعد إكمالها عن 21 عاما، وإلا فإن الحياة العائلية والاجتماعية لن ترحمها إن هي تزوجت من دون إكمال مسيرتها الدراسية. فهل هذا من أسباب اعتراض بعض الجهات الدينية على سن قانون للأحوال الشخصية لانه جرؤعلى “شرع الله” بقانون “وضعي” يحدد سنا للمرأة للزواج؟ مجرد سؤال نطرحه على أهل الحل والربط.
في خريف العام الماضي رفعت نخبة كبيرة من المفكرين والمثقفين السوريين رسالة إلى رئيس الجمهورية يناشدونه ايقاف مسودة قانون الأحوال الشخصية لما ينطوي عليه من تراجعات عن حقوق المرأة وإصدار قانون أسرة جديد يلبي حاجات العصر وتشكيل لجنة مؤلفة من هيئات حكومية ومؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات حقوقية وممثلين من كل الطوائف لإصدار قانون الاسرة.
وغداة الاحتفال بيوم المرأة صرحت الناشطة النسائية مريم الرويعي بأن الشق الثاني من قانون الأسرة أو الأحوال الشخصية مجمد، ولم ير النور، وذلك بعد ان دخل نفق التسييس هذا مع العلم انه حتى الشق الأول الذي صدر هو دون الحد الأدنى من طموحات المرأة لنيل حقوقها، لكن وجوده على الأقل في اطار تشريعي خير ألف مرة من تركه لتقديرات القاضي أو في ظل الفوضى القضائية والتشريعية الراهنة التي تدفع ثمنها المرأة في المذهب الشيعي في المقام الأول.
صحيفة اخبار الخليج
27 ابريل 2010
ظلمتَ الشمالية يا غانم
يستعرض النواب عضلاتهم وخطاباتهم في كل شاردة وواردة، إلا إن الماء قد سكب على أبدان بعضهم حين تمت مناقشة تقرير لجنة التحقيق في المدينة الشمالية.
الأمر يعود إلى سببين لا ثالث لهما، الأول أن البعض لا يتحمس لمثل هكذا ملفات تطرح تحت البرلمان التي يجب أن تحل مشاكل وملفات لها علاقة بالحياة المعيشية للمواطنين، بدلا من مناقشة، إطلاق اللحى، والفصل بين الجنسين، وغيرها من الأمور، التي لا تغني ولا تسمن من جوع.
الأمر الآخر، هو أسلوب إدارة الجلسة التي تمت فيها مناقشة التقرير، حيث ترأس الجلسة في حينها الأخ النائب الأول لرئيس مجلس النواب غانم البوعينين، ومع تقديرنا للبوعينين ولجهوده الواضحة داخل البرلمان، إلا انه بات علينا أن نوجه له تنبيهًا أو انتقادًا صادقًا نابعًا من مشاعر الحب والإخلاص، لأننا نريد لتجربتنا البرلمانية أن تتطور وتتعزز وتتجه إلى المسار الصحيح في القضايا ذات الاهتمام الوطني والشعبي.
إن الطريقة التي أحكمها البوعينين خلال مناقشة تقرير التحقيق في المدينة الشمالية غير صائب، فالناس الذين يحملون آمالا على هذه المدينة بان ينالوا وحدة سكنية فيها، ينتظرون من البرلمان وأعضائه صوتا مسموعا يدافع عنهم، فضلا عن التوصيات التي كانت يجب أن تكون أكثر حزمًا في هذا الملف بالتحديد.
النواب يلقون خطبهم الطويلة الرنانة ويضربون بأيديهم على الطاولات ويعلقون اللافتات، ويكسرون الميكرفونات في قضايا بعيدة عن هم الوطن والمواطن، فلماذا لا يتم ذات التعاطي مع ملف الإسكان الموجع، ولماذا لا تدار الجلسة كما تدار بعض الجلسات خلال مناقشة الملفات البعيدة.
الحزم في الإدارة لا يعني ظلم الناس وملفاتهم، وأنا اعلم أن الأخ البوعينين ليس هذا تفكيره وليست هي منطلقاته، ولكن هو تنبيه نرسله عبر ومضتنا إليه.
الأيام 27 أبريل 2010
عندما كانت تمطر في كوالالمبور
لم اكن متخيلا انني سأعود الى كوالالمبور عاصمة ماليزيا بعد اربعة عشر عاما خلت ’ ففي اكتوبر من عام 1996 اخترتها عندما كانت لتوها خطوط طيران الامارات تقدم اسعارا مغرية فمن لارنكارالى مطار دبي كان السعر معقولا في حينها ولكن الاكثر معقولية واغراء هو اضافتك 70 جنيها قبرصيا لكي تمتد الرحلة من كوالالمبور حتى لارنكا مرورا بدبي . كان موضوع السعر استفزازيا لشخص مصاب بوباء السفر مثلي فاستهوتني المدينة والبلاد حيث يومها كانت ماليزيا مثار اعجاب دول العالم الثالث واقتصاده المنكوب .
اتذكرها في ذلك الوقت ماليزيا وتحديدا كوالالمبور التي منحتني شعورا بأنها مدينة مملة ’ محافظة ’ تشعرك بنفس البوليس الخفي والكتمان المريع للناس في حقهم في التعبير عن مكنوناتهم . كان يومها لتوه لم يبلغ عنان السماء البرجين التوأمين ’ باعتباره انجازا ماليزيا في المعمار والتجارة والاستثمار ’ الا ان اللون الرصاصي ظل حاضرا حتى القمة التي لم تكتمل بعد . التقطت صورا للبرجين وهما في مسارهما نحو الفضاء لعلني يوما اعود اليهما دون رغبة مني او ارادة مخيرة ’ فقد كان الهدف هو العبور نحو فيتنام اما من بوابة تايلند او من خلال بلد مثل ماليزيا فوقع الاختيار على كوالالمبور كونها تقع في المركز القريب للمشروع السياحي الذي خططنا له . في المرة السابقة اي قبل اربعة عشر عاما زرت مالاكا البرتغالية بكل ما فيها من مميزات للمدينة المختلفة عن بقية المدن ’ حيث بات الصينيون الاوائل في هذه المدينة ماليزيين قح ! فنسوا لغتهم الاصلية ’ فيما ظلت نواقيس الكنائس والمعمار الاوروبي والقنوات المائية والبيوت ذات الطراز الاوروبي تذكرك بالمدفع الهولندي والبرتغالي القديم ’حيث يقف ذلك المدفع وتلك القلعة القديمة عند شاطئ مالاكا قريبة من جزيرة سومطرة الاندونيسية . لقد نسى العالم حروب التوابل في الهند الصينية وكيف تصارعت القوى الاوروبية في هذه المنطقة ’ حتى لحظة صعود القوى العالمية الجديدة ونيل هذه البلدان استقلالها الوطني ’ ولكن دون ان تنساها السياسات العالمية فمارست عليها التمزيق والتفتيت ’فانفصلت جزر الملايو لكي تولد هنا دولتان الاولى سنغفاورة والثانية ماليزيا ’ ومع ذلك ظل في ذاكرة السكان الاصليين المنحدرين من الابوجوريين الاقرب لسكان واقوام استراليا الاصليين ’ بينما شكل الماليزيون الجدد القادمون من الارخبيل المجاور لها حجر التكوين القادم لماليزيا . هكذا يتعايش ثلاثة اعراق رئيسية هم الهنود والصينيون والماليزيون ’ بل ويشكل الصينيون والهنود المعادلة السكانية في مواجهة الملاويون ’ فيما تبقى ارقام صغيرة لا تشكل اية اهمية سياسية واقتصادية . تقاسم الاعراق الثلاثة مجالات مختلفة ’ ففي الوقت الذي يسيطر فيه الملاويون على الجيش واجهزة الدولة والامن وجزء من الاستثمارات الكبيرة ’ فان الصينيين هم من يسيطر على حركة التجارة والسوق والاعمال المصرفية دون ان يمنعهم حاجز اختراق مواقع مراكز القرار السياسي عبر هيمنتهم المالية ’ فيما بقى الهنود – كما حدثني الدليل السياحي الهندي- بانه ينتمي للجيل الثالث من الهنود الذين جاؤوا من مدراس مع مرحلة الانكليز فشيدوا سكك الحديد وعملوا في مجالات زراعة المطاط وامتهنوا مهنا مكتبية ومهنا بيروقراطية مع زمن الانكليز ’ ولهذا من الطبيعي ان تجد اليوم ان الهنود يعملون في مهن عدة كمصرفيين واطباء ومحامين ومهندسين ’ بل وصار الوضع الاجتماعي والاقتصادي في هرم مثلث.
المجتمع الماليزي يتيح فرصا لصعود رموز مالية عدة ومن الطوائف جميعها مع تطور المجتمع المستمر والمتبدل . بقي السكان الاصليون وهم اقلية صغيرة من الابورجيين الاوائل يعملون في مهنهم القديمة كصيادي اسماك ’ بل ومازالوا يعيشون في مناطق مغلقة يعيشون عزلة نسبية وفي داخل الغابات الكثيفة في جزر ماليزيا ’ ولهذا ستجدهم بكثرة في منتجعات جزيرة لانكاوي يعملون في مهن البحارة ’ الذين ينقلون السياح في تطواف جميل نحو الجزر الصخرية المرجانية والمائية الخضراء ’ بل ويلاحظ المجتمع الماليزي ان طبائع الابورجيين الاصليين تغيرت مع عالم السياحة ’ اذ اصيبوا بلوثة الجشع المالي لكونهم اكتشفوا ’’ حلاوتها ’’ مؤخرا مع قدوم السياح للمنتجعات التي تطورت خلال الخمسة عشرا عاما الاخيرة .
في كوالالمبور الرتيبة اكتشفت بين المرحلتين ’ ان هناك متغيرا كبيرا في القيم الاجتماعية فرضتها الحياة السياحية ’ فاذا ما كان في عام 1996 العالم الماليزي مغلقا ولا يمكن ان تجد مشهد الاوروبية الحسناء بشورتها القصير والمحلات المفتوحة التي تقدم كل اشكال الكحول والاطعمة ’ تاركة للناس حرية الاختيار والتمتع بوقتهم دون مضايقات . لم تكن ماليزيا الاسلامية المغلقة يومذاك تدرك الى اين سيقودها الانفتاح السياحي ؟ ولكنها على الاقل عرفت كيف تتعامل مع المتغير بمرونة كافية محاولة الحفاظ على هويتها وشخصيتها المحلية والعرقية في انسجام كامل مع الطبيعة العالمية والاممية للسياحة والتفاعل مع اللغات والثقافات المنهمرة في فضاء ماليزيا وجزرها الجميلة . كانت يومذاك كوالالمبور ممطرة ولكنها هذه المرة كانت تمطر عند الثالثة بعد الظهر او مع الخامسة مطرا خجولا ينعش الحياة ’ فترى زرافات السياح يفتشون عن مظلات صغيرة في الامكنة المريحة ’ حيث تلتقي الثقافات العربية والاسلامية المنغلقة والمحافظة جنبا الى جنب مع الثقافات الاوروبية المفتوحة على كل النوافذ ’ دون ان يفرقها ذلك المطر المنهمر في سماء كوالالمبور ’ حيث الحياة بدت مختلفة تماما عن الرحلة القديمة ’ ولكنها ظلت بالنسبة لي مدينة لا يمكن العيش فيها طويلا لأكثر من ثلاثة ايام عابرة ’ فالرحيل نحو الجزر ودول الجوار هو الاهم كثيرا من مفردات متناثرة ’ تذكرك بعبارة الحلال والحرام وبأنك في النهاية سائح في مجتمع اسلامي مهما حاولت نسيان تلك الحقيقة !
صحيفة الايام
27 ابريل 2010