حرصت من باب الفهم بالشيء ليس إلا، أن أتابع الفضائيات العراقية لمعرفة خطوات التصويت في انتخابات 7 مارس /آذار التشريعية، فوجدت أن المسألة ‘جد بسيطة ومعقدة في آن’، بسيطة: لأنه ما على الناخب إلا أن يؤشر مرتين، مرة على رقم القائمة التي يفضلها بين القوائم، ومرة أخرى، على رقم مرشحه الأفضل، وإذا لم يرغب في كل الكتل والكيانات والأحزاب والشخصيات، ويتوجب عليه واجب المشاركة الوطنية، ما عليه إلا أن يضع علامة () كبيرة على الورقة الانتخابية، ولا يضع الورقة خالية حتى لا يستفيد أي كيان من ملئها بما يشاء؛ فيما إذا كان الناخب وضع علامة واحدة فقط على القائمة، فإن رئيس القائمة هو الذي يعطي صوته لمن يشاء، أما إذا وضع العلامة على رقم المرشح، ولم يضع على رقم القائمة، فإن صوته يعتبر لاغياً، أو هكذا فهمت.
ويبدو مما تقدم أن لكل مرشح صوتين: صوت للقائمة، وصوت لمرشحه المفضل، الذي يعتقد بأنه ‘النزيه، الشريف، العفيف، الشجاع، المقدام’ إلى آخره من الصفات الحميدة.
أما بالنسبة للتعقيدات في الاختيار السليم للمرشحين، فهي كثيرة ومتشعبة في الانتخابات العراقية، وباختزال شديد، أن هذه الانتخابات وإن كان، وفق ما يطرحه السياسيون، اعتمادها ‘القائمة المفتوحة’، لكنها تبدو، نصف مغلقة ونصف مفتوحة، أو ‘قائمة مغلقة بنهايات مفتوحة’، كما جاء في أحد العناوين التحليلية.
وكما هو معروف، أن مجلس النواب العراقي، وبعد جدل عراقي ـ عراقي، وتدخل المرجعية الدينية بـ’النصح’، وبعد مخاضات قاسية، تبنى مجلس النواب قانون انتخابي جديد مختلف عن قانون انتخابات 2005 (القائمة المغلقة)، فظاهر هذا القانون الجديد (القائمة المفتوحة) برّاق، لكن باطنه سيئ جداً، وربما أسوأ من قانون ,2005 فلو أن الناخب العراقي أعطى صوته، للمرشح فلان، وترتيبه الرقمي ,11 في قائمة تحمل رقم (363) مثلاً، وتعذر على هذا المرشح أن يجمع أصوات تؤهله للانتقال من مرشح إلى نائب، ففي هذه الحالة عند فرز الأصوات، فستقوم المفوضية العليا بمنح الأصوات التي حصل عليها المرشح، إلى قائمته، ثم يعاد ترتيب إعطاء هذه الأصوات إلى مرشحين آخرين من نفس القائمة، وهذا يعني أن الناخب قد أعطى صوته لمرشح لم يرشحه، وهنا يأتي دور الكتل الكبيرة، التي ستستفيد من ملايين الأصوات من الكتل الصغيرة، التي ستتبعثر أصواتها لأن أصحابها لم يحصلوا على الحد الأدنى من الأصوات التي تؤهلهم، وكأنك يا زيد ما غزيت.
فالقائمة المفتوحة ستصبح نصف مفتوحة لقائمة مغلقة بنهايات مفتوحة، كما جاء في تحليل الكاتب الصحافي مهند حبيب السماوي المنشور على موقع ‘صوت العراق’ في 1 مارس/ آذار الجاري.
صحيفة الايام
3 مارس 2010
انتخابات العراق.. الـ «بسيط والُمعقَّد»
عَشَق الموسيقى فعشِقه الوطن.. مجيد مرهون
مسكون ام معجون باللحن البحريني القادم من الازقة القادرة على الفرح في ذلك الزمن الصعب الذي ولد فيه مجيد مرهون الذي تطهر في نهر الموسيقى فلم يعرف حقداً ولا كراهية وهو صاحب اطول محكومية سياسية قضاها في السجن الذي خرج منه بعد اكثر من عقدين وقد ارتفع وتسامق كنخيل بلاده فوق الالم والجراح واحتضن الوطن بعشق متجدد لم يتحدث ببغض ولم ينبس بكره احد وهو درس اخر لقننا اياه مجيد الذي رحل باسماً كما جاء باسماً لانه احب الموسيقى ومن يحب الموسيقى لا تعرف الكراهية طريقاً إلى قلبه وروحه.. فهل نتعلم منه درس الحب ونتصالح مع زمن كنا محظوظين معه وفيه اكثر من الراحل مجيد الذي عاش في زمن آخر كان وعراً وكان قاسياً ولكنه لم يكرهه ولم يحقد عليه!!
في مسرحية شكسبير وعلى لسان يوليوس قيصر جاءت هذه العباره الدالة والموحيه «احذره.. انه لا يحب الموسيقى» ولذا احببنا الراحل مجيد ولم نحذره ولم يحذرنا وانفتح قلبه الفائض باللحن الشجي وبالموسيقى على الجميع وبمحبة نادرة.. فهل عرف الذين لايحبون الموسيقى ويطاردونها في زاوية وطريق لماذا يكرهونها؟؟
لانها «الموسيقى» رسول المحبة ورسالتها.. هكذا عرفها عاشقها البحريني مجيد مرهون وهكذا ارسلها لنا من داخل سجنه لتعلمنا درس التسامي والارتفاع على الجراح والآلام والبدء من جديد دائماً.
لست المؤهل تخصصاً لاتحدث عن موسيقاه ومؤلفاته وألحانه ولكنني ساتحدث عن الموهبة البحرينية او المواهب البحرينية الجديدة القادمة على طريق لا ينضب من الابداع الموهبي.. وأحداها هذه المواهب الصغيرة والجديدة محظوظة لانها تفتحت في عهد حمد بن عيسى.. عهد الاصلاح والانفتاح والحرية.. فموهبة بلاحرية مكتوب ومحكوم عليها بالموت المبكر وقبل ان تتفتح براعمها الاولى.
محظوظة مواهبنا الصغيرة الجديدة لانها جاءت في هذا العهد الجميل حيث تستطيع الحراك دون ان «تحذر» مصير الراحل مجيد مرهون فتخسر وتفقد عقدين من عمرها هناك خلف الاسوار.. وهذه نقطة مضيئة تحسب للعهد الجميل والوطن الجميل.. لكن السؤال ما هو دورنا وما هو واجبنا تجاه المواهب والابداعات الصغيرة التي تلوح هنا او هناك في الفرجان والاحياء البحرينية البسيطة وكيف ومتى ولماذا لا نكتشفها ولا نفتح الطريق امامها.. وهل هي مسؤولية رسمية تتحملها الجهات الرسمية المعنية ام انها مسؤولية مجتمعية مشتركة نتشارك في تحملها كل الجهات الاهلية والرسمية والمدنية والمؤسساتيه الاخرى المختلفة لالتقاط المواهب البحرينية واحتضانها ورعايتها والدأب عليها حتى تنمو وتعطي للوطن.
«مثلاً» لماذا لا تتأسس جمعية اهلية مدنية باسم «جمعية مجيد مرهون للمواهب البحرينية» متخذة من اسم الراحل الموهوب مجيد عنواناً لوفاء بحريني مازال قادراً على الوفاء.. لتبدأ مشواراً آخر تعنى فيه بالمواهب وتعمل تنسيقاً مع الجهات لاحتضانها.
و«مثلاً» آخر لماذا لاتبادر جهة رسمية بمالها من امكانيات للاعلان عن خطة او استراتيجية وطنية لرعاية المواهب الجديدة في عهد قادر على الرعاية والاهتمام بالمواطن.. المواهب كنز لا يتكرر والبحرين كغيرها عامرة بكنوز المواهب المدفونة التي تحتاج يداً خبيرة في الحفر لاستخراج الدرر كما استخرج الغواض البحريني القديم لؤلؤ البحرين من قاع «الهيرات» ذات يوم بعيد.
رحيل الموهبة خسارة ما في ذلك شك لكنه حكم القدر الذي لا مفر منه ولا مهرب عنه.. لكن الخسارة ستتضاعف حين لا نعوضها وحين ننسى المواهب ونهملها هناك بلا رعاية مستحقة منا جميعاً وبلا استثناء.. نقول بلا استثناء حتى لايعتمد فينا الواحد على الآخر ويلقي بالمسؤولية في ملعبه ونتبادل الشماعات حتى تضيع المواهب وتتسرب من بين ايدينا لا سيما وان مساحة الاصلاح في بلادنا قادرة على ان تستوعب مشروع احتضان المواهب البحرينية باستراتيجية جادة ومسؤولة.. فقط نحن بانتظار خطوة تؤسس لمشروع كبير في حلم المواهب.. وليس السؤال من يبدأ الخطوة ولكن السؤال متى تبدأ الخطوة.. «هل نحن بحاجة للتذكير بالحكمة الصينية الكونفوشية.. الخطوة ومشوار الألف ميل»!!
اما الذين لا يحبون الموسيقى بغض النظر عن نوعها وعن ايقاعها وعن الحانها فسنحذرهم كما حذر منهم شكسبير..!!
صحيفة الايام
3 مارس 2010
متاهة العقل
خاض الإنسان كفاحا مريرا في سبيل تحرير عقله من الخرافة والقيود، لكن حرية العقل لم تؤكد دائما أنها على صواب، لان ما قادت إليه العقلانية في بعض صورها المتطرفة من أهوال يكاد يفوق تلك الأهوال التي عانى منها البشر وهم يناضلون في سبيل حرية العقل.
وإذا كان القرنان الثامن عشر والتاسع عشر قرني المطالبة بالعقلانية منهجا وفلسفة ونسق حياة، فان القرن العشرين قد شهد صورا لسيادة هذه العقلانية وانتصارها خاصة في عقوده الأولى، غير أن البشرية ودعت هذا القرن وهي أميل إلى الكفر بالعقلانية.
وكما في كل الحالات فان تعثر فكرة أو إخفاقها غالبا ما يقود إلى تطرفٍ مضاد، أي إلى نقيضها، وهكذا بدأت مراجعات عديدة تخطئ العقلانية وتدعو لتجاوزها، وتُحملها وزر كل ما عرفته البشرية من مآسٍ.
لكن المشكلة ليست في العقلانية ذاتها، فبدون الاحتكام إلى العقل ستظل البشرية أسيرة الضلالات المختلفة، ولكن المشكلة تكمن في التطبيقات العدوانية لقدرات العقل البشري، وهي قدرات مدهشة، وما تنفك تزيدنا ادهاشاً عن الآفاق التي يمكن أن تلجها.
والأمر لا يُقارب من هذه الزاوية الجافة وحدها، وإنما أيضاً من الجانب الأكثر رهافة المتصل بعلم النفس خاصةً، حين تُطرح على بساط البحث تلك الثنائية التقليدية الحادة بين العقل والنفس، وهي ثنائية أقرب إلى الصراع منها إلى التكامل، لأن النفس لا تُسلم بمنطق العقل بسهولة.
وللباحث العربي سالم القمودي كتاب أسماه: «الإنسان ليس عقلاً»، وهو عنوان يستفز ما استقر في أذهاننا من أن ما يميز الإنسان عن بقية الكائنات هو عقله، فاذا جاء احدهم ليفند هذه الأطروحة فذلك ليس برغبة التقليل من أهمية هذا العقل، وإنما للقول بأنه ليس بالعقل وحده يحيا الإنسان.
وليلفت النظر إلى أن الصراع بين النفس والقلب لا يلبث أن يشتد بين الحين والآخر، خاصة إذا ما كانت النفس قلقة وتتمتع بذكاء حاد متوقد لا يهدأ، مما يزين لها أمر الهروب من قيود أوالانفلات من هديه وحججه وبراهينه، ويوفر لها، فوق ذلك تبريراً لكل سلوك ومخرجاً لكل مأزق.
الحكمة ليست الذكاء، فالحكمة تكمن في السلوك أكثر من تمثلها في المعرفة، لأن الإنسان قد يكبو ويتعثر ضحية طغيان ذكائه على حكمته ورشاده وعلى فعله وسلوكه.
ان بدا مثل هذا النقاش تنظيراً بعيداً عن الواقع، فان الخلل ناجم عن طريقة بسطنا للفكرة، لا عن الفكرة نفسها، لأن كثيراً من مظاهر التردي والخلل والتدهور في حياتنا العربية، بدءا من الثقافة والسلوك اليومي، وصولاً إلى طريقة إدارة الحكم وثيقة الصلة بمثل هذا الأمر.
إن أشكال الجنون التي يعرفها علم النفس جيداً، كجنون العقل وجنون الذكاء وجنون العظمة وجنون الطغيان، وهي أمراض متفشية في ثنايا حياتنا: في السياسة والثقافة والسلوك قادتنا إلى الخراب.
ولا يتصل الأمر بدرجة أعلى من الذكاء، بقدر ما يدور عن نرجسية مَرضية تُبرر لأصحابها، خاصةً حين يكونوا في موقع القرار أو السلطة، اقتراف الجرائم، لأنهم لا يرون في ذلك سوى أداء لواجبٍ مناط بهم، وسيان إن كان هو في قرارة نفسه موقناً من ذلك أم لا، فانه يوظف آلة دعائية معقدة لإقناع الجمهور بصواب ما يفعل.
صحيفة الايام
3 مارس 2010
عن أمنية د. حسن مدن
تمنى الامين العام للمنبر التقدمي د. حسن مدن ان تدخل القوى السياسية الانتخابات المقبلة (متفقين لا مفترقين)، خلال الكلمة التي ألقاها نيابة عن الجمعيات السياسية في المؤتمر العام لجمعية الوفاق.
مدن وغيره من القوى السياسية لهم امنياتهم ان يكون داخل قبة البرلمان صوت ديمقراطي ليبرالي، ولنا نحن ايضا مثلهم في القلب أمنية ان نرى برلماننا تساهم فيه القوى الديمقراطية بالعقل والمنطق، بما لها من تاريخ وخبرة تستطيع من خلالها ان تكون جسرا بين الطوائف، فيقل كل احتدام مذهبي لا يعود بالنفع الا على مصالح المذهبيين و(المتطأفنين).
ان امنية مدن لا يمكن لها ان ترى النور ولا ان تتحقق الا اذا استطاع هذا التيار الديمقراطي ان يعيد حساباته، وينظم صفوفه، وان يتجاوز عبارات التنسيق، وان تتحول (التنسيقات) الى (تحالفات استراتيجية) بين مكونات هذا التيار.
ان الاحتفالات المشتركة التي تقيمها جمعيات التيار الديمقراطي وان كانت جيدة في حد ذاتها، إلا انها لا تمثل حتى ادنى الطموح، فمجرد ان ينتهي (التصفيق الحار) بعد كل فعالية، يعود التشتت والفرقة كلما اقتربت انتخابات لجمعية مهنية او نقابة عمالية يكون للجمعيات الديمقراطية اعضاء فيها.
إذا كان هناك من مصلحة للتيار، بأن يكون قوة في قبال قوى (الاسلام السياسي) فعليه ان يكون (استراتيجيا حصيفا) في خياراته المفصلية، ليس فقط عند الانتخابات النيابية، بل في كل المحطات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
صحيفة الايام
3 مارس 2010
عازف السكسفون يقول لكل الأوجاع وداعاً
قبل ثلاثة أيام من الخبر المفجع كنت انظم مكتبتي الموسيقية ’ وكانت ابنتي تساعدني لمعرفة ما في هذه المكتبة من اسطوانات قديمة صارت اليوم في حالة الانتيك فعمرها تجاوز الثلاثين عاما ’ خاصة وانها تذكرني بحقبة الاتحاد السوفيتي وهنغاريا وبلغاريا وبراغ ’ التي كانت تبيعنا أحسن القطع الكلاسيكية بسعر زهيد ’ فكنت احمل في كل سفرة من تلك الدول مجموعة كبيرة لأشهر المؤلفين العالميين. كان من بين المكتبة اسطوانة مجيد البلاستيكية الصغيرة التي أنتجتها ألمانيا الديمقراطية ’ تضامنا مع الموسيقار السجين ’ أو بتعبيرنا السياسي اسطوانة لمانديلا البحرين ’ سألتني ابنتي من هذا يا أبي فقلت لها ’’ انه مجيد مرهون ’كان مع عمك في أول دفعة تتخرج من الصف السادس ابتدائي في مدرسة القضيبية ’ غير انه أيضا رفيقنا الذي كابد السجن ومعاناة الحياة ’ فليس بسيطا يا ابنتي أن تموت أختك بين يديك ’ وتعيشين طفولة البؤس والفقر المعدم وحرمان عاطفة نبيلة لولا عاطفة أم كادحة كرست حياتها من اجل أطفالها . لم يكن مسار حياة مجيد فرحا ورغدا ’ ولكنه كان يصنع الحياة بطريقته ويركض نحو مدن الفرح البعيدة ’ ويفتش عن الجزر الجميلة والأحلام الكبرى ’ كان رومانسيا وثوريا في ذات الوقت ’ كان عاملا وموسيقيا رهفا أيضا ’ ولكنه كان الأكثر من كل ذلك إنسانا مشحونا بطاقة الموسيقى الخفية في داخله . عرفته موسيقيا مجنونا بآلته قبل أن اعرفه مناضلا وألتقيه ’ فقد كان مشاغبا وكوميديا مرحا ’ حتى في فناء المدرسة ’ وعندما يعتلي خشبة المسرح كمونولوجست فانه رائع فقد أضحكنا كثيرا على منولوج مدرس الحساب عندما كان يردد ’’ أما مدرس الحساب يا ليته ما دش من الباب كل يوم يجينا بحاله … ’’ فنضحك من القلب فقد كانت كل المدرسة تعرف ذلك المدرس وحالته ’ وكان الأستاذ عتيق معنيا بتوريط المدرس مع طالبه المشاغب. في اليوم الآخر سيلتقي المدرس بطالبه حانقا ’ وغاضبا وسيقول له لا اعرف لماذا أرسلوك اهلك للمدرسة فأنت جدير بهناك – وكانت هناك هو حي العدامة – مع فرق المدندون ’ وهي الفرق الزنجية التي عزفت أجمل أغاني الغوص والفجري والليوة ’ عزفت معاناة تاريخية طويلة لكل أولئك القادمين من زمن العبودية . كنت هناك بينهم تنشد أجمل أغانيك وموسيقاك ’ فقد كان إنسان هاتيك الأزمنة هو إنسانك الداخلي ’ وكان عليك أن تكافح من اجله ’ فوجدت ان الانتصار لكل الكادحين وزمن المعاناة هو الانتماء لفكر يدافع عن الكادحين ’ فاخترت أن تكون ماركسيا يحمل قلبه بين أصابعه ’ مثلما حمل فكره بين الشبيبة العاملة في بابكو ’ مثلك لا ينساه الوقت ’ ومثلك يبقى في الذاكرة الوطنية والشعبية والموسيقية ’ فقد تركت لنا أعمالك كمجدك ’ وتركت لنا سلمك الموسيقي كسلم أحلامك نحو الآفاق ’ فما قيمة الأشياء إن لم تكن تمجد الإنسان والحياة . كنا نراك في المدرسة تعزف ’ وفي طرقات الحي تعزف ’ وعند سكون الموج ورحيله تغازل البحر وتحلم وأنت تعزف ’ دون أن تغادر أحلامك بيتكم الصغير المعدم . عشت بفرح وغادرتنا بفرح ’ ومن التقاك لم ير فيك إلا ذلك المهووس بالموسيقى وبروح النكتة والمرح ’ فتثير فينا أسئلة الفضول ’ كيف يقاوم هذا الإنسان معاناته ؟ كيف يحمله بين ضلوعه دون كلام ’ وكأنه يقول لنا’ كانت الحياة جميلة رغم آلامها ’ فتحلق روحك كما تحلق موسيقاك ’ فقد جعلت للوطن معنى وحملت له موسيقاك ’ وفتحت لنا ’’ الطريق ’’ منارا بنغماتك فأنت راحل مثل كل الذين رحلوا ’ وأنت مسافر في زمن لا يتوقف ’ ولكنك وحدك هناك في موسيقاك التي تحلق مثل روحك . هناك أناس كثيرون سيسألون عنك ’ فمثلك لم يمض من الحياة عبثا . عشت مناضلا وكنت إنسانا . ها أنت ترحل لتقول لنا الحياة تستحق أن نعيشها مرة واحدة ’ أخيرا ’ عازف السكسفون يقول لكل الأوجاع وداعا.
صحيفة الايام
2 مارس 2010
مجيد مرهون وتاريخنا
رحيل المناضل الوطني والفنان الموسيقي الكبير مجيد مرهون يطرح للنقاش مجددا قضية سبق أن تعرضنا لها غير مرة خلال السنوات الماضية، حدث ذلك عند رحيل القائد الوطني أحمد الذوادي والمناضلة ليلى فخرو والمهندس هشام الشهابي وغيرهم من وجوه الوطن المضيئة التي كانت لها بصماتها الواضحة في صوغ تاريخنا الوطني، ولا أعني بذلك تاريخ الحركة الوطنية وحدها، وإنما تاريخ البحرين كلها.
مكانة هذه الوجوه الوطنية محفوظة في وجدان الناس وضمائرهم وعقولهم، فتضحياتهم الجليلة ومآثرهم في العمل الوطني ذوداً عن الأفكار والقيم والمثل التي آمنوا بها هي محل تقدير كبير، وبفضل هذه التضحيات، التي هي جزء من تضحيات أجيال من أبناء وبنات هذا الوطن ضد الاستعمار وأعوانه وفي سبيل الديمقراطية والاستقلال الوطني والتقدم الاجتماعي تحقق ما تحقق من انجازات.
ما نحن بصدده هو حث الدولة على ترشيد النظرة إلى التاريخ الوطني، من زاوية أن تاريخنا، بما له وما عليه، لا يمكن تجزئته، ويجب التعامل معه من جوانبه المختلفة، فالمعارضون الوطنيون الذين واجهوا العسف على مدار عقود هم أيضاً صناع لصفحات مهمة من تاريخ الوطن، وبين هؤلاء المعارضين شخصيات من الوزن الثقيل تخطى عطائها الجانب النضالي على الجبهة السياسية، ليشمل مجالات أوسع وأشمل، خاصة حين يدور الحديث عن صناعة الوعي الجديد، وعي الحداثة والتنوير والعصرنة.
وهؤلاء انطلقوا من مقدمات التحديث في البحرين منذ مطالع القرن العشرين، التي أرساها رواده من رجال الفكر والأدب والتعليم الذين افتتحوا المدارس والمكتبات ودور السينما والمسرح وجلبوا المطبعة للبلاد.
المنسبون لتيار الحركة الوطنية الديمقراطية امتداد لهذا التراث، وفي حالات كثيرة مطورون له، وبالتالي آن الأوان لكي يجري النظر إلى تراث الحركة الوطنية ورجالها ونسائها بصفته تراثاً للوطن كله، وأن يعاد الاعتبار، رسمياً، لعطاء المبدعين من وجوه الحركة الوطنية، لا من باب الانتصار لآلامهم وعذاباتهم المريرة في السجون والمنافي وسواها وحسب، وهذا أمر بالغ الأهمية، ولكن أيضاً من باب تأكيد حقيقة أنهم مكون رئيسي لحركة الإبداع الثقافي والفني والنهضة الفكرية في البلد.
لو احتجت لضرب الأمثلة بأسماء بعض هؤلاء لضاق المكان عليها، ولكني أكتفي هنا بالوقوف أمام اسم مجيد مرهون الذي فجعنا برحيله مؤخراً. ان معاناة هذا الإنسان الصلب كالفولاذ والرقيق كوردة أو فراشة، العظيم في إبداعه ونبوغه الموسيقي والوديع في شخصه كطفل مسكون بالبراءة هي التعبير الأكثر بلاغة ودراماتيكية عن الثمن الباهظ الذي دفعه جيله من تضحيات، ابتدأت في عهد الحماية البريطانية واستمرت للأسف بعد انتهائها.
لكن مجيد حول سنوات سجنه الطويلة إلى ورشة إبداع تثير الذهول، فخلف لنا مئات المقطوعات الموسيقية التي ما زال الجزء الأكبر منها لم يعزف بعد، وحسب المايسترو خليفة زيمان لو أن يوماً واحداً من مهرجان البحرين الموسيقي السنوي خُصص لتقديم لأعمال مجيد، لغطت هذه الأعمال ما يتراوح بين ثلاثين إلى أربعين دورة قادمة من دورات المهرجان.
هذا التراث العظيم لا يمكن أن يجحد. نريد موسيقى مجيد تحلق في سماء هذا الوطن وخارجه. نريد مدرسة أو شارعاً يحمل اسمه، ونريد سيرته الحافلة مادة تدرس لتلاميذ المدارس. نريد نظرة أكثر رشداً للتاريخ.
2 مارس 2010
صحيفة الايام
مجيد مرهون.. لك المجد مرهون
قرابة العاشرة والنصف من صباح الثلثاء 23 فبراير/ شباط 2010 توقف عن الخفقان قلبُ موسيقيٍ فذ لم تلد البحرين مثله، لكنها لم تقدِّره حق قدره، ومناضل جسور أقدم على تنفيذ إحدى أخطر عمليتين ضد ثاني أخطر من بطش بشعبنا أيام الاستعمار البريطاني، وأشهر نزيل لسجون البحرين التي قبع فيها لاثنين وعشرين عاما حتى اكتسب حق اسم مانديلا البحرين. إنه صنو نلسون مانديلا ليس بسبب طول فترة السجن أو سواد بشرتهما وسواد السنين التي عاشاها، ولا بسبب الشبه الشديد لوجهيهما شكلا وملامح فقط، بل ولأنهما أيضا إنسانيان عالميا الأبعاد، أمميان تتخطى أفكارهما وإبداعاتهما الحدود الوطنية إلى العالمية. إنه مجيد حميد مرهون، مجيد.. المثقل بالموسيقى والحديد.
في ذلك اليوم تجلببت بسواد الحزن أسرته المكونة من زوجته الصابرة فاطمة، ابنه الوحيد رضا، وأخوات رضا اللاتي خلَّفهن مجيد من غير صنف البشر: أزميرالدا، نستالجيا وبقية أخواتهما من المقطوعات الموسيقية التي شُدَّت إليها إعجابا آذان وقلوب وعقول موسيقيين كبار في برلين وستوكهولم والقاهرة وغيرها من عواصم الثقافة، الألحان الكربلائية الحزينة التي أدخلها مجيد لتتقدم مواكب العزاء الحسينية أيام عاشوراء، وأخيرا نشيد ‘طريقنا أنت تدري’ ذو الوقع الحماسي الخاص الذي ظل يلهب مشاعر مناضلي جبهة التحرير الوطني البحرانية ومن ثم المنبر الديمقراطي التقدمي ومحيط واسع من الأنصار والأصدقاء منذ عقود من السنوات.
كيف تسنى لهذا الذي أفقده ضنك العيش والفقر المدقع حاسة السمع ليصبح أصما أن يُسمِع شعبه والعالم كل هذه الموسيقى دون أن يسمعها هو؟ كان ذلك هو الحال مع الموسيقار الألماني الشهير لودفغ فان بتهوفن ‘1770 – 7281م’، الذي كتب أعظم أعماله الموسيقية بعد أن داهمه الصمم في أوائل القرن التاسع عشر. لكن بتهوفن كان يتعرف على موسيقاه أثناء لعبها عن طريق ما عرف بالاتصال العظمي. أما كيف تسنى لمجيد القابع في السجن أن يؤلف موسيقاه دون وجود أية آلات لديه أصلا لاختبار ما كتب؟ ذلك سر آخر فوق الصمم. أَوَ نعجب بعد هذا أن كان موسيقيو جمهورية ألمانيا الديمقراطية آنذاك هم أول من أولى إبداعات مجيد الموسيقية اهتماما؟.
لعل السر في ذلك هو تعلق مجيد بالحياة وإيمانه بأن فجر الحرية سيبزغ يوما، وأن المحن مهما عظمت هي مجرد اختبار للإرادة. بعد أن أهيل التراب على جسد مجيد، حدثني رفيق دربه السيد إبراهيم مكِّي متذكراً يوم أُخذ مجيد من الزنزانة لسماع النطق بالحكم ضده. عاد إليهم بابتسامته المعهودة: – بَشِّر مجيد؟!.. أجاب بكل هدوء: ‘مؤبد’. انخرط الجميع في بكاء على مستقبل مجيد، إلا هو، ظل يهدئ الجميع: ‘أليس هذا طريقنا، أليست هذه ضريبته؟’. بعدها ظل مجيد مُدخِلا السكينة في قلوب أفواج تعاقبت على السجن. علَّم بعضهم الموسيقى، وبعضهم أدب السجون وبعضهم الآخر الصبر والتنظيم والمطالبة بالحقوق. ولبطولته وإبداعاته ذاع صيت مجيد واشتدت في كثير من عواصم العالم حملات من أجل إطلاق سراحه. حينها عُرض عليه أن يخرج من السجن مقابل التوقيع على وريقة ‘براءة’. بهدوء طبعه وهدير صوته أجاب بأن المقبل قليل بالذي قد مضى، وأنها لصفقة خاسرة.
هل كان مجيد الذي بدا مرحاً دائماً، نشطاً ومنشغلاً بموسيقاه وبالآخرين قبل نفسه قد اعتبر السجن عالمه الأبدي فسلم الأمر ليتكيف معه على أنه حياته الأبدية؟ لقد قرأ النقاد في موسيقى مجيد عكس ذلك تماما. لاحظ بعضهم أن صوتا غريبا خافضا يمر عبر ألحانه كخط أحمر. صعُب تفسيره في البدء، لكن سرعان ما اتضح أنه صليل سلاسل القيد الذي تسحبه قدماه فتنسحب عليه حزنا عميقا يخفيه عن رفاقه ليصبَّه في موسيقاه. لكن موسيقاه لم تكن أسيرة الواقع الذي عاش، بل رسالة إلى العالم الصغير والكبير خارج السجن، وأكثر من ذلك كانت رسالة مجيد للمستقبل.
من يدري، ربما كانت مبادرة وزيرة الثقافة والإعلام الشيخة مي بنت محمد آل خليفة، بعد أن تعذرت محاولات مع جهات كثيرة أخرى، بإصدار الجزء الأول من قاموس الموسيقى لمجيد مرهون أثناء حياته رمية نحو المستقبل باستكمال إصدار ما تبقى بعد رحيله؟ وبداية لتخليد ذكرى هذا المبدع والبطل الأسطوري كمكون مهم في السياسية الثقافية على المستوى الرسمي؟ من يدري، ربما قد يلهم الفراغ الذي سيتركه مجيد في عالم الموسيقى البحرينية أحبته وزملاءه الموسيقيين والفنانين البحرينيين لإنجاز أعمال فنية كبيرة تحمل وتخلد اسم مجيد؟.
أما أولاً وأخيراً، فسيبقى تاريخ مجيد مرهون النضالي، صورته كبطل وطني، إنتاجه الفكري – الفني، أسرته الصابرة أمانة في أيدي رفاق مجيد من المنبريين والديمقراطيين قبل غيرهم. فعسى أن يكون يوم أربعينية مجيد التأبينية مؤشراً جدياً على حمل وتسليم الأمانة للأجيال المقبلة.
صحيفة الوقت
1 مارس 2010