لا نعرف إلى أي مقدار يمكن أن نصف الحركات الاجتماعية الواسعة في عالمنا العربي، التي تبرز على شكل تيارات دينية أو مذهبية، بأنها تشكل مجتمعا مدنيا. هل يجوز اعتبار حركات واسعة، فضفاضة، خالية من الضوابط والقواعد المؤسساتية، التي تتحرك بإرادة مرشد روحي أو زعيم قبيلة أو عشيرة بأنها داخلة في خانة ما يطلق عليه في الغرب المجتمع المدني؟
فيما نحن نعلم أن المجتمع المدني هو في المقام الأول مؤسسات ومنظمات وجمعيات وهيئات مستقلة عن الدولة، ومستقلة أيضا عن الأطر التقليدية القائمة في المجتمع، أو هكذا يجب أن تكون. ولأنها كذلك، أو لأنها يجب أن تكون كذلك، فعلينا اشتراط صفة الحداثة فيها، بمعنى أن عليها أن تعبر عن أفق مستقبلي، لا أن تكون خاضعة للكوابح الاجتماعية والسياسية القائمة في مجتمعاتنا والتي تعيق فكرة الحداثة أو ترفضها جملة وتفصيلا.
هذا السؤال يرد على الخاطر عند رصد مظاهر الحراك السياسي الاجتماعي في البلدان العربية الذي لم تعد الأحزاب التي بشرت بفكرة الحداثة أو رفعت رايتها هي المؤثرة والفاعلة فيه، وان دورها قد تراجع كثيرا لمصلحة قوى أخرى لا يمكن أن نصفها بأنها جديدة، رغم حداثة انخراطها في مثل هذا النوع من النشاط السياسي. انه على الأرجح نوع من التقليدية الجديدة، أو التقليدية، منبعثة في ظروف اليوم، حاملة معها خصائص هذه الظروف.
وإذا ما استعرنا مفهوم المجتمع المدني الآتي من سياقات غربية في الأساس، وحاولنا إدخال مظاهر الحراك السياسي الاجتماعي في بلداننا في إطاره، فإننا سنرى انه يستبعد قطاعات اجتماعية مهمة، وهناك من يقترح مفهوم الحركات الاجتماعية ليكون بديلا عن مفهوم المجتمع المدني، ذلك انه يعطي توصيفا أدق وأشمل للقوى الناشطة حاليا، والتي يرى البعض أنها حركات قابلة للانحسار فيما لو جرى تنفيذ بعض مطالبها.
وأنها يمكن أن تفسح في المجال لبنى المجتمع المدني، في صورة مؤسسات واتحادات تعبر عن القوى العصرية، ولكن ببناء ديمقراطي يتجاوز الصور المسخ التي ظهرت عليها مثل هذه الاتحادات، التي كانت الأجهزة في الأنظمة العربية الشمولية تقيمها للوصاية على القطاعات الجماهيرية مثل النساء والطلاب والعمال والصحافيين وسواها.
ويبدو مأزق بعض الحركات الاجتماعية الناشطة حاليا مأزقا حادا، نتيجة للتناقض بين جدية وجذرية المطالب المعيشية التي تفرضها طبيعة الفئات الواسعة من السكان المنخرطين فيها، وبين «محافظة» وتقليدية التوجهات التي يدفع قادة هذه الحركات باتجاهها، الذين يريدون تصميم مستقبل آخر مختلف، فيما يشبه ردة الفعل القوية على ما أتى به التحديث العشوائي لمجتمعاتنا، والذي زعزع البنى التقليدية وأفقد رموز هذه البنى مكانتهم ودورهم، حيث يسعون جاهدين لاستعادتهما، متكئين في ذلك على القاعدة الاجتماعية الواسعة التي تلتحق بهم في الظرف الراهن ومستخدمين إياها وقودا لبلوغ هذا الهدف.
من شأن نقاش كهذا حول المعني بمفهوم المجتمع المدني وأشكال تجليه في بلداننا أن يفتح آفاقا واسعة لدراسة وتحليل طبيعة تلك القوى والعوامل المؤثرة في التطور السياسي الاجتماعي الراهن في مجتمعاتنا العربية.
صحيفة الايام
17 مارس 2010
مجتمع مدني أم حركات اجتماعية؟
المحرمات الهامشية والأصل المنسي
لكل عصر عربي إسلامي مستوياته، فالعصر السابق، عصر تشكل القبائل والدويلات الإسلامية، بعد زوال حكم الخلفاء الراشدين، كانت المعايير فيه هي الحلال والحرام، مقاربة مع مستوى معين لذلك الزمن ومستوياته الفكرية، وقطعاً للجذور النضالية السابقة التي تكرست في عصر المسلمين الأوائل، الذين كرسوا حكم الأغلبية العامة، وجعلوا الفوائض الإقتصادية موزعة على الناس، فكانت التحريمات جزءًا من هذا البناء الاجتماعي، لكن هذا الأساس تم إلغاؤه بسيطرةِ الأسرِ الغنية، التي صار تاريخُها مضاداً للقيم الإسلامية، ولكن الفقهاء التابعين للسلطات واصلوا الفقه السابق نفسه بعد أن أُلغيتْ جذورهُ!
فجعلوا مسائلَ الحلال والحرام مقطوعةً عن جذورها ومعلقة في فضاءٍ مجردٍ يحكمهُ السلاطينُ وكبارُ الأغنياء المتنفذين الذين أحدثوا نهضات مع هذا، ولكن الأساسَ الاجتماعي كان فاسداً. ثم أوصلوا الأممَ الإسلامية إلى ما وصلت إليه من تدهورٍ وتبعية ومازال تلامذتهم يريدون مواصلة المشوار الشكلاني وليس قراءة المضامين وتجديد الروح!
لقد أُلغي الأساسُ القرآني الدستوري لهذه المرحلة المديدة بعدمِ جوازِ حكم الأغنياء للمسلمين، ولم يستطعْ شيوخ الدين مصارعةَ هذا التحول طويلاً، فانضموا إليه واستفادوا من خيراته، وتوجهوا للأحكام الفقهية الجزئية التي لا تعارضُ سيادةَ الأغنياءِ وسطوتهم، مثل منع الخمر والميسر والربا، التي تطبقُ على ناس دون ناس، وعاشوا على فتاتِ هذه الدولِ بكلِ ألوانِها المذهبية ونفاقِها السياسي، خداعاً لعامةِ المسلمين بكونهم المحافظين على الملة ونقائها.
وكان لتلك الأحكام في زمن الدعوة ثم السلطة النبوية ظروف موضوعية، فكان زمنُ التأسيس يتطلب انضباطاً وابتعاداً عن الفوضى التي يسببها الأدمان خاصة في مركز الدعوة، وكذلك هدماً لسيطرة المرابين اليهود خاصة على مركز الخلافة الوليدة، ثم تغيرت الظروف، وعلت الأممُ الإسلامية بفضل التطور السياسي الحر، وشاعتْ الحرياتُ المختلفة الشخصية، وازدهرتْ الأعمالُ المصرفية والعيش الفرح، لكن انقلب الهيكل الأساسي للحكم بعد أن سادتْ الأسرُ وجعلتْ المواردَ بساتين لها وأفلست الميزانيات.
والغريب أنهم في كل حالة أزمة اقتصادية يلتفتون إلى هذه (المحرمات) ويتعكزون عليها للمزيد من الحصول على الأموال والتضييق على الحريات!
كان التركيزُ في هذه الأحكام الجزئية غير مضرٍ كثيراً في زمن النهضة الإسلامية في العصر العباسي خاصةً، لأن المسلمين كانوا سادة العصر، وكانوا النهضويين البارزين في العالم، لكن هذه الأحكام في زمن التدهور لعبتْ دوراً كبيراً في عرقلة تطور الأمم الإسلامية، وتخلف مدنها وتعميق الحروب في صفوفها، لأنها تركز في قشور القضايا والعادات وليس في التوجه للعلوم والصناعات والحريات التي تجعل المسلمين يواصلون السيادة والتقدم.
ومنذ ذلك الوقت صعدت القراءاتُ السطحية المتعصبة للإسلام، مركزةً في الأشكالِ المقطوعة السياق، وفي الممنوعات وكأن الهجوم على الممنوعات هو الحل لأزمة جذرية تغلغلت في الأمم الإسلامية!
فالأحكامُ الفقهية الجزئية المقطوعة السياق بالهيكل العام المنشود المنصوص عليه في القرآن، ظاهرُها تطبيقُ الأحكام وباطنها خدمة الحكام وخاصة المتخلفين منهم. ولكن من دون السياق الكلي للأحكام، تغدو هذه خطرة، لأن السياسيين يستخدمونها لفرض أحكام استبدادية، وهيمنة على العامة، وبعدها يظهر مزايدون آخرون يغالون أكثر فأكثر، ويظهرون خاصةً في القرى والبوادي التي يسودُها التخلفُ والقراءات السطحية للإسلام، فيفرضون إراداتهم بالقوة الجبرية وبالسيوف مما يدمر النهضات الإسلامية في العديد من الدول.
في العصر الحديث صارت معاييرُ المواطنة هي التي تحكم، فالمقياس هو مدى مواطنية الفرد في هذه الدول العربية الإسلامية، ومدى مساهمته في تحررها وتقدمها والدفاع عنها، وماعدا ذلك من مسائل هي أمورٌ ثانوية وقضايا شخصية تعود للمؤمنين وقراءاتهم للدين.
ومعايير الحريات للأسف جاءتْ من خارج هذه الأمم في زمن الحداثة، وفُرضت عليها، وتبنتها نضالاتٌ شعبية تجاوزتْ الأنظمةَ القديمة البائدة وحركاتها التقليدية التي عاشت في ثقافة النصوص، ولكنها كذلك تعود إلى جذور الأمة العربية وتكونها في عهد السلف غير المرئي في وعي الحركات الشعبية الجديدة المُقلدة للغرب ولنهضتهِ المركزية في العالم.
صحيفة اخبار الخليج
16 مارس 2010
المدينة المأزومة
لن ندرك فداحة الانفجار الديموغرافي في المدن العربية، إلا إذا تذكرنا أن سكان مدينة كالقاهرة، على سبيل المثال، لم يزد في أوائل القرن العشرين على نصف مليون شخص، ومع استمرار معدل النمو الذي ساد في العقود الثلاثة أو الأربعة السابقة، فان كل المدن العربية الرئيسية تحذو حذو القاهرة في التوسع الديموغرافي العشوائي.
نحن بصدد ظاهرة تتطلب فحص وتحليل الآلية التي يتم بها تضخم المدينة العربية، ففي فترة معينة كانت الزيادات في عدد سكان العواصم العربية نتيجة لأزمة التشكيلات السابقة للرأسمالية، مما دفع قُدماً بدور العاصمة كمركز للنشاط السياسي والاقتصادي والإداري للبلاد كلها، وأدى تغيير خطوط التجارة وتدهور الحرف التي تخصصت فيها بعض البلدات، تمييزا لها عن الريف، إلى هجرة أبنائها إلى العاصمة.
لعبت مؤسسة الخدمة العسكرية الإلزامية دوراً مهماً في ترييف المدينة، فكل قوة العمل الجديدة أخذت تمر بهذه المؤسسة، وبعد أن تقضي فترةً من حياتها في العاصمة أو المدينة، فان جزءا كبيراً منها يرفض العودة إلى الريف الخامل، بعد أن ألف حياة المدينة، حتى وان كانت هذه الأخيرة، ستؤدي إلى سحقه وتهميشه وتهشيمه أيضاً.
إن التخطيطات النظرية الفقيرة والمحدودة لم تنجح في متابعة الانقلاب الذي جرى في حياة المدينة المشرقية خاصةً، وإذا كان صحيحاً أن المدينة العربية، حتى بدون الهجرة إليها من الريف، منقسمة اجتماعياً، فان ترييف المدينة من خلال النازحين إليها، أدى إلى نشوء تمايز حاد بين سكان المدينة الأصليين وهؤلاء «الغرباء» القادمين إليها، والذين لم تكن، وهي المأزومة أصلاً، قادرة على أن تستوعبهم، وتدمجهم في قطاعاتها الحديثة، فكان أن حولتهم إلى جيش من العاطلين السافرين أو المقنعين.
في النتيجة نشأت حول العواصم مستوطنات وضع اليد، حيث يتكدس المهاجرون من الريف، الذين يظلون يشعرون بالغربة في المدينة وسط ظروف سكنية ومعيشية صعبة.
يكفي أن نستذكر أو نعيد قراءة المنتج الإبداعي العربي عن صورة المدينة العربية في مطالع القرن العشرين: عن القاهرة والاسكندرية في الثلاثينات، ودمشق وبغداد في الأربعينات والخمسينات، أو عن بيروت في عز تألقها في الستينات يوم كانت هذه المدن مصهراً للأفكار والتطلعات الجديدة.
كانت المدن نفسها أكثر نظافة وأناقة وتنسيقاً وذوقاً في شكل بنائها وفي تصميم شوارعها، قبل أن يجتاحها النمط القبيح من أشكال العمارة، حيث البنايات متفاوتة الارتفاع والمتنافرة الألوان، والمتراصة بدون فسح للضوء، حتى البيئة في مدننا كانت أكثر عذرية، قبل أن يداهمها هذا التلوث المهول من سحب الغازات وعوادم السيارات والناقلات، وهذا التطور العشوائي في البناء الذي خلق تكدسات بشرية مهولة، تعيش في المدن لكن لا علاقة لها بنبضها الحقيقي.
كانت الحداثة فكرة أصيلة وعميقة حتى وهي تمر بمخاضها العسير في مواجهة المحافظة والتزمت لأنها كانت تتكئ على قوة اجتماعية حقيقية صاعدة تغطي اهتماماتها ساحات واسعة من الاقتصاد والتعليم والثقافة والفن وصولاً إلى الفكر نفسه الذي كان يتحلى بشجاعة يندر وجودها اليوم، وكان رواده يقارعون بقوة الحجة والإرادة، كوابح التغيير.
صحيفة الايام
16 مارس 2010
الجراخيات السياسية!
لا أحد يعرف من جيلنا كيف تبدأ الألعاب النارية في شهر رمضان المبارك، ومن الذي يبدأ بها أولا في الأحياء، فهي تنطلق تلقائيا دون أن يكون هناك أي قرار رسمي بإطلاقها وتوقيتها، ولكن الذاكرة الشعبية وحدها تخرج بمخيلتها عن المألوف، فيبدأ صبية صغار بلعبة الجراخيات، والتي سرعان ما تنتشر في كل أرجاء الحي، فيفرح التجار البهرة لكون بضاعتهم تنتظر موسمها المفضل.
ورغم عدم ارتياح الحكومة للشرر المتطاير خوفا على بيوت السعف من الحريق أو يتم توظيف المسموح في عالم الممنوع، لهذا كثيرا ما سعت السلطات بالتحذير وبمعاقبة من يكسر تلك التعليمات، بين شد السلطات الرسمية ومحاذير الكبار وخوف بيوت السعف، تظل الجراخيات تفرقع بين أيدي «الصبية العابثين» وهم يفرحون بلعبة قد تبدو مريحة ومحببة، غير انها قد تنتج حريقا هائلا في بيوت الفقراء المستكينين لرمضان والأعياد وفرحها المنتظر.
بعد انتهاء رمضان يدخل الصغار والمراهقون بفرح العيد فنشهد عودة الجراخيات بقوة ثم تختفي نهائيا من ساحات الأحياء والقرى. اليوم تذكرني اللعبة والجراخيات بمجموعة من الساسة والمثقفين وأصحاب الأقلام الذهبية والاسفنجية، حينما يضخون للشارع كلاما مثل تلك العملات الكاسدة والبضائع الأكثر كسادا في السوق السياسية المضحكة، فهي مضحكة لأنها تأتي في موسم الاستعداد للانتخابات، والترويج الدعائي لوطنية بعض النواب ولمزايدة بعض الجمعيات، فيصبح في النهاية الشعب هو «المراقب العام»، وصاحب سلطته وقراره المهدور والمسلوب في مرحلة ما قبل صناديق الاقتراع، فما تفعله الجراخيات السياسية حاليا، هي محاولة تزييف الوعي لدى الناخب بحقائق الأمور وكواليس الصفقات والمساومات والتكتيكات المكشوفة والخفية، إذ بدا الصوت، صوت الجراخيات أعلى من مدى وحجم مسافة الضوء والإضاءة التي تخلقه في فضاء المكان، فتلك الفرقعات هي المثيرة بفعل صوتها المدوي بينما يظل الشعاع محدودا للغاية، وإذا ما كانت حوله إنارات أوسع لا يمكننا حتى رؤية تلك الشرارات المتطايرة، بينما بدت لنا في أحياء الأمس المعتمة كتلة من الإضاءة الجميلة ونحن نطاردها من مكان لمكان. جراخياتنا السياسية بدت منذ أسابيع، وكنت ألهث لمعرفة الدوافع لذلك الضجيج، حيث الواقع والحقيقة اقل بكثير من الأصوات والأبواق والجراخيات الضائعة في المكان، إذ دخلنا في جولة الجراخيات مع تقرير هيومن وتش حول مسألة التعذيب، وبدلا من التعامل مع التقرير بحنكة وهدوء وجدنا الباحثين عن فشلهم النيابي هم أول من تدافع للاحتجاج المقبول وغير العقلاني أيضا، فيما كان الخطاب الرسمي أكثر هدوءا في تعامله مع منطق التقرير فسمعنا رأيا مسؤولا لصوت الدولة بينما مجتمعنا المدني حاول القفز على الحقائق عن طريق قذف الجراخيات علينا لإقناعنا بتعسف ولي الأذرع بقوة كما يقولون. ثم دخلنا بعدها ببرهة مع مؤتمر الوفاق، وإذا بالجراخيات تأتي من داخل القاعة ومن أصوات وأقلام كتابية غريبة وعجيبة، فنحاول مسك الخيوط فلا نجد أمامنا إلا الظلام الدامس لحقيقة مغيبة، جمل طنانة وأصوات احتجاجية لا تقدم ولا تخدم الهدوء السلمي، بقدر ما تدفع في الاتجاه المعاكس والنقيض، فليس كل الجراخيات السياسية التي انطلقت نجحت في إقناع جمهور محايد وهادئ ويتفرج على حلبة «الجراخيات».
وكان واضحا غاية يعقوب وشعار المعنى في قلب الشاعر، لكن الشاعر مختلف عن الشارع، فابتعد الثاني عن صوت الأول لكون صوت الشاعر كان ضخما وأكثر امتدادا من الواقع ومساحته السياسية، فماذا كان رجل الشارع يردد في كل الأمكنة «هذي دعايات انتخابية معروفة!» بكل هذه البساطة حمل الناس ردودهم على تلك الجراخيات، ولو كلف أصحاب الاستبيانات أنفسهم بأسئلة بسيطة لربما وجدوا جوابا شافيا على تلك الجراخيات العجيبة المصنوعة محليا، إذ ما عاد تجار البهرة يعرفون ما هي طبيعة الجراخيات الجديدة، التي انتشرت في الأحياء فجأة فليس الموسم موسم رمضان ولا الأعياد، ولكنهم اكتشفوا ان في البحرين هناك مواسم أخرى اسمها مواسم انتخابات البلدية والمجلس النيابي، والجميع بدأ يعد جراخياته للناس، لعله يذكّرهم بحضوره ووجوده فمقعد البرلمان الوثير وامتيازاته صارت «حالة سياسية مرضية» لدى نمط من النواب.
وفيما نحن منشغلون بجراخيات الوفاق وما نتج عنها من تداعيات، وجدنا أنفسنا ندخل في لعبة جراخيات السفارة البريطانية وسفيرها، هناك قنوات رسمية للمعالجة وهناك شخصيات منطقية وعاقلة وتدرك مصالح البلدان والشعوب وهناك شخصيات مولعة بحرق البخور والجراخيـات الانتخابية.
وفي الوقت الذي كانت تتحرك جراخيات السفير البريطاني ونظرائه ومناهضيه نحو الهدوء التدريجي، فإذا بنا نشهد فصلا نيابيا وجلسة مدوية حول الفساد والخمور والتحريم، حتى كدنا نشعر ان البحرين تدخل مرحلة انقلاب كوني، ولكن مع هدوء العاصفة الطارئة من وراء قاعة البرلمان نكتشف ان الأصوات العالية تود أن تبعث برسالتها للجمهور الذي انتخبها، ووعدته بالكثير ولكنها لم تنجز قيد أنملة في مشروع أو قانون هام يحقق ولو جزء من برنامجه، غير تلك الجمل المكرورة والدعوة للصحوة الأخلاقية!! حتى صارت مسألة السياحة هي الحمار الذي يجلد كل يوم. النائب الهمام يشعر انه ربما لن ينجح في الدورة الانتخابية القادمة، ولهذا عليه أن يقول ها أنا دافعت، وبرأت نفسي، فإذا لم يتحقق ذلك، فانا أنجزت وعودي الفاشلة! دخل المجلس فقط من اجل محاربة الخمور، وكأن موضوع الشعب عندهم مجرد نكتة سياسية في الانتخابات ياللعجب في نوابنا؟!! لهذا كان رد فعل الناس إزاء جراخيات التحريم انها دعاية انتخابية.
صحيفة الايام
16 مارس 2010
صندوق النقد الأوروبي شبيه الدولي أم نقيضه؟
في دراسة أجراها ‘معهد ما بعد الأزمة’ وشارك فيها 223 خبيراً من 51 بلداً حاول اقتصاديون ومحللون ماليون وصحافيون ورجال أعمال وعلماء وسياسيون ومسؤولون حكوميون الإجابة على التساؤل حول مستقبل الاقتصاد العالمي. تناول غالبيتهم الأزمة الاقتصادية الراهنة على أنها بداية لمرحلة طويلة من عدم الاستقرار. والاستنتاج الرئيسي الذي توصلوا إليه هو أن العالم سيواجه أزمة جديدة لا مفر منها في 10 – 51 سنة المقبلة. لكنها ستكون هذه المرة أزمة جيوسياسية. لن يمكن إصلاح اختلال التوازن الاستثماري والسياسي العالمي بالإجراءات الاقتصادية وحدها. والتوازن الجديد يمكن أن ينشأ بنتيجة إحدى حالتين: إما محادثات كونية وإما صدامات وحشية. وقد أجمع الخبراء على حقيقة أن الأزمة الاقتصادية الراهنة ستتمخض عن قيام معمار مالي جديد.
المتغيرات الطبيعية بعد الأزمة تبين أنه سيتوجب على من يطمح للقيادة العالمية أن يقدم للعالم أفكاراً جديدة. فسوف تظهر بلدان قيادية جديدة ونماذج جديدة للتنمية، وربما حدود دولية جديدة. فالسياسة المالية التي اتبعتها الدول المتقدمة لم تبرر نفسها، وغدت هناك حاجة لقادة أقوياء جدد. وعليه رأى الخبراء أن مراكز مالية عالمية جديدة ستنهض في مواجهة نيويورك ولندن. وستحتل جمهورية الصين الشعبية المكانة الأولى بلا منازع. يليها بقية بلدان مجموعة BRIC التي تضم إلى جانب الصين روسيا، الهند، والبرازيل، ثم الاتحاد الأوروبي. أي أن مركز ثقل القدرات المالية العالمية سينحاز من الدول المتقدمة إلى الدول النامية.
جمهورية الصين الشعبية تتباهى اليوم محقة بأفضلية نظامها المالي النقدي على سواه في العالم، حيث جنبها الأزمة المالية التي تتخبط فيها الاقتصادات الكبرى وتوابعها. أما الاتحاد الأوروبي فيتلمس الطريق للخروج من ربقة النظام المالي النقدي الذي تقوده الولايات المتحدة. ويرجع كثير من الاقتصاديين والسياسيين أسباب أزمة اليونان إلى المضاربات على سنداتها في أسواق المال الأميركية. لقد أزعج ذلك الأوربيين كثيراً ودفعهم إلى التحرك من أجل تعزيز الحماية ضد ألاعيب المضاربات حول الديون السيادية. وقد طلبت فرنسا، ألمانيا، لوكسمبورغ واليونان من رئيس المفوضية الأوروبية مانويل باروزو أن يجري تحقيقاً فورياً في مدى تأثير تسويات ‘ديون – عجز’ على المتاجرة بالسندات السيادية، ولماذا أصبح الاقتراض مرتفع السعر إلى هذا الحد، هل لنقص في السوق ذاته أم بسبب المضاربات الكبرى حول ديون الدول. وإذا كان الأخير هو الصحيح فإن من الضروري اتخاذ إجراءات فورية لتشديد الرقابة والتنظيم. كما طالبت هذه الدول المفوضية الأوروبية بوجوب التقارير الإفصاحية حول المضاربات بالمشتقات، والتي تربك الأوضاع في سوق السندات الحكومية وأوضاع اليورو.
من الجهة الأخرى يبدو الاتحاد الأوروبي بسبب نظمه الحالية عاجزاً عن تقديم مساعدات مالية مباشرة للبلد العضو الذي يصبح على مشارف الإفلاس. يتعين على هذا البلد البحث عن الإعانة من مصادر خارج الاتحاد الأوروبي، ما يعني مساسا بهيبة الاتحاد ككل، والأسوأ من ذلك الوقوع في التبعية للدائن الخارجي الذي يمكن أن يملي شروطه. هذا ما حدا بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للقول ‘إن علينا أن نحصل على إمكانية حل مشاكلنا مستقبلا دون الحاجة إلى صندوق النقد الدولي’. وقد أيدت المفوضية الأوروبية في بروكسل مبادرة ميركل، وأبدت استعدادها للانخراط في عملية إنشاء صندوق النقد الأوروبي كبديل لدول الاتحاد عن صندوق النقد الدولي.
بالطبع لن يكون مخاض ولادة الصندوق سهلاً. فالمستشارة الألمانية تؤكد على أن إقامة الأمر سيحتاج إلى إبرام اتفاق دولي جديد أو تغيير جوهري في الاتفاقيات السارية في الاتحاد الأوروبي، خصوصا اتفاقية ماسترخت. وهي تعتقد بصعوبة اتفاق الجميع حول ذلك. أما فرنسا التي رحبت بفكرة إنشاء الصندوق فغير مرتاحة لفكرة إعادة النظر في ماسترخت، وترى بأن الصندوق هو مشروع للأمد البعيد.
غير أن الأمور تسير إلى أعمق من ذلك. ففرنسا وألمانيا تدعمان فكرة إنشاء حكومة موحدة للاتحاد الأوروبي كما صرحت بذلك المستشارة ميركل بعد محادثاتها مع رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا فيون. وقد تصبح المقترحات حول تشكيل هذه الحكومة ومهامها الرئيسية جاهزة مع بداية أبريل/ نيسان المقبل. ويرى الجانبان أنه من أجل ذلك لا ضرورة لإدخال أية تعديلات على الاتفاقيات المبرمة سابقاً.
وهكذا فإن الهرم المالي العالمي الواحد الذي يعتبر صندوق النقد الدولي أهم أعمدته لم يعد قابلا للبقاء، وأنه حان للنظم المالية الإقليمية أن تطرح نفسها بديلا موضوعيا عنه ولو بعد حين.
صحيفة الوقت
15 مارس 2010
بدأ يعزف فاتسعت الزاوية.. وصارت الصور كثيرة بالموسيقى
وهو أنّي التفَتّ.
وأنّ الرحيل أخفّ من الالتفاتة، غير أنّي التفتُ إلى غدر نزل بملفات بعض الصور كان أهمها صور بيت مجيد مرهون التي التقطتها في الثاني عشر من شهر يناير/ كانون الثاني 2006 . غياب إلكتروني سريع، خفيف، فادح، لا أعرف كيف حدث، ولم يتبيّن لي إلاّ بعد رحيل مرهون مباشرة. ركضت ملهوفاً بأنّ صوره صار لها معنى آخر الآن، وهي التي تهب الراحل مكاناً بيننا ولو كان على جدار.
فتحت الأرشيف كلّه على البصر: أين صاحب الشاي الفارسي اللذيذ؟ الآن هي في هذا الملف، لا في هذا الملف، لا.. الأكيد أنّها أكثر من سبعين صورة.
الأكيد الثاني أن لكل زاوية في بيته صوراً وخصوصاً زاوية الضوء خلف الباب، جهة الشرق.
الأكيد الثالث أن مرهون كان يودّ لو يكون في كلّ صورة، في كلّ مكان.
الأكيد الرابع ظنّ أكثر من مرّة أنّي لم أكن أصغي إليه.
الأكيد الخامس أنّ الصور ليست في واحد من ملفات الأرشيف المغدور، المنتظر خطأً بشرياً، أو لا بشرياً يفنيه، بقصد أو بغير قصد كلاهما فعل منجز لديه. الأرشيف الالكتروني هو المكان الوحيد فيه الموتى لا يحتاجون إلى سعة. والراحل في فهم الجهاز لا تتجاوز هويته رقماً مكرراً.
مؤقتاً.. لقد فقدتُ الصور إلا ثلاثاً لا أعرف أيضاً كيف نقدت نفسها.
يطوف بي في بيته الصغير في مدينة حمد من ذكرى إلى أخرى، بينما ترعى زوجته فاطمة لنا الشاي. صوت مرهون العالي جداً أفضل علامة على مكان تواجدنا. كان يريد أن يقول لي كلّ شيء لو استطاع، أن يقرأ كلّ وثيقة حتى لو كانت مرسومة، وأن ينافس حركة الكاميرا على كلّ حركة لها في البيت. ما كنت أريد أن أستمع مثلما أصوّر، لكنه كان يتأكد من إصغائي وانتباهي كلّ لحظة بسؤاله: عرفت؟ اللحظة الوحيدة التي تمكنت فيها منه عندما حشرته في زاوية خلف باب جواره نافذة، هي مصدر الضوء الوحيد في البيت في تلك اللحظة.
– هنا.. هنا
– في الزاوية؟
– إيه.. في الزاوية، نحتاج الضوء قبل أن..
– أعزف في الزاوية؟
– أكثر سعة من السجن..
قبل أن يعزف بآلة الساكسفون الذي كرر مراراً أنّه يدلعها، سرد بعض تاريخها معه، وكاد يسمّي لي أجزاءها، لولا أنّي طلبت منه العزف أولاً قبل أن يعزف عنا الضوء. فلما بدأ يعزف واتسعت الزاوية، وصارت الصور كثيرة بالموسيقى، واطمأننت قلت له: يمكنك الآن أن تقرأ شيئاً من كلام السجن:
‘الكورس: من بين ضباب الأجداث، ومن وراء الحجب، تمرّ أصداؤنا الأثرية تنادي.. تنادي نحن السابقون وأنتم لاحقون نحن السابقون وأنت لاحقون.. لاحقون.. لاحقون. هذه كأس الكلّ شاربها.. رحيقها إكسير الفناء ولا عدم.. تعالوا.. تعالوا’
قرأ كثيراً، وأصغيت قليلاً فالمصور يصغي لإشارات عينيه، وعينايّ في تلك الزيارة عليه. قطعت فاطمة كلامنا بالشاي. قال: هذا شاي.. أكيد ما شربت مثله قط.. شاي ثقيل ‘سنكين’.
بدأ بحديث موسيقي آخر.. الآن سوف أصغي إليك، وأن شاي فاطمة لذيذ بك، وأنّها بيت مرهون.
مكان صغير
* ” كلما صادفته يعبر الطريق بين زنزانته وأطراف جزيرة “جده” يسير مثل المسحور، يتحرك وينتقل كمَن يذرع المسافة بين حركة وأخرى في سيمفونية لا يسمعها أحد سواه. رشاقته في المشي لا علاقة لها بما يفعل الآخرون في سيرهم، لقد كان يرقص”
- قاسم حداد
* ” في دار الملحنين السوفيت في موسكو، وضمن أنشطة مهرجان الشبيبة والطلبة العالمي في صيف 1985 كنا قد اخترنا السجين مجيد مرهون، رئيساً فخرياً للجنة التحضيرية الوطنية البحرينية للمهرجان بغية لفت نظر شباب العالم وقواه الديمقراطية إلى معاناة هذا الفنان الشاب الذي يؤلف الموسيقى من وراء القضبان”
– حسن مدن
* ” على الفنان مجيد مرهون أن يعترف بولائه للسجن الذي احتضنه ليبدع فنه، وعلى السجن أن يدين بالعرفان لنزيل مثله ”
- حسن كمال.
* ” وفي السجن كانت موسيقاه على الكلارينيت تحمل سكان تلك الجزيرة بعيداً إلى حيث يحلم الناس دون خوفٍ من عقاب ”
– عبدالهادي مرهون
الوقت 13 مارس 2010
النساء و”الديمقراطية” الدكتاتورية الذكورية
الديمقراطياتُ في الشرق العربي الإسلامي تُعلن على عجل، وهي نتاجُ ظروفٍ سياسية طارئة غالباً، وليستْ نتاج تطوراتٍ حضارية طويلة، وتُرفع فيها الشعاراتُ البراقةُ والوعودُ بتحولاتٍ مستحيلة.
النخب الذكورية المنتمية إلى قوى الاجتماعية المحافظة هي التي ترتفع وتسود، وبين هذه النخب وبين النساء عداوة طويلة عميقة!
هذه النخب المحافظة الدينية أقلية ضئيلة في المجتمع ومع هذا تقف ضد النساء نصف المجتمع، فكيف تكون هنا ديمقراطية؟
إذا كنتَ سوفَ تقفُ ضد أمك وأختك وزوجتك فكيف سوف تحقق حقوقَ من لا تعرفهم؟
الدول تقول للنساء هذه هي فرصتكن للتعبير عن أنفسكن والأدلاء بأصواتكن.
كلامٌ سياسي مجردٌ يُطلقُ في الفضاء الفارغ السياسي.
كيف يمكن ذلك أيها المشرع الحكيم؟ النساء خلال قرون حبسن في البيوت، وكرسن للولادات الكثيرة، وبين كل حمل وحمل أمراضٌ وتعب مرهق وانفصال عن المجتمع وتغذية للمواليد وتربية لهم، واهتمام بأعباء البيت خاصة الطبخ وإدارة شؤون البيت، والزواج فيه طلاق وانفصال ونفقة تافهة وعيال ومدارة شؤون الزوج ومدى انتمائه إلى بيته وإلى عياله، أو هو أناني صاحب لهو وخروج دائم، أم هو مضح مهتم؟
والنساء موجهات للانفصال عن السياسة والثقافة، مكرسات للداخل البيتي، يفضل أن يكن أميات، ولتتفرغ أغلبية الرجال لشؤونهم الخارجية.
وبعد هذا تأتي وتقولُ إن هناك مساواةً بين النساء والرجال في الانتخابات والفرص متاحة للجميع.
حتى في هذه الفرص المتاحة للجميع والمساواة المجردة الشكلية، تشكلتْ الجماعاتُ السياسية على هيمنة ذكورية ولا يقوم الساسةُ الأعضاءُ بجلب نسائهم أو بناتهم لهذه التجمعات، ولا يقومون بتعريفهن على هذه الفاعليات، وإذا حدث أن جُلبن للفاعليات الاجتماعية انفصلت النساء عن الذكور، وعدن لعدم الاختلاط وعدم معرفة ما يجري في المجتمع.
الرعب من الاختلاط ليس مسألة شيخ محافظ يفتي بمنعهِ وقتل من يدعو إليه، بل هو مسألةُ خوفٍ ذكوري عام، ودكتاتورية ذكورية لا تطور النساء في البيوت ولا تتحمل الأعباء المنزلية سواءً بسواء مع النساء، وتحرض الأولاد على أخواتهم، وتراقب ما يقرأن واتصالاتهن وتقطع ألسنتهن فكيف بعد ذلك يستطعن أن يشكلن أصواتا سياسية تتفجر بين الجمهور العام؟
وما كان ذلك شأن الصحابيات في صدر الإسلام اللاتي كن رموزاً نضالية كبيرة في تاريخ الأمة، والآن هي ليست مسألة دينية بل مسألة ذكورية أنانية.
والأخطر من كونهِ تخلفا اجتماعيا هو تخلفٌ سياسي بالدرجة الأولى، وهو تركٌ للأمم الأخرى تغزونا في عقرِ دارنا، وتلتهمُ الوظائفَ من رجالنا ونسائنا، وتخطفُ المصيرَ من أمتنِا، لتغدو هذه الأمم الآسيوية سيدةَ بلداننا، وملتهمة الأعمال حتى مواقف السيارات منا، بعد أن التهمت الأممُ الغربية ثرواتَنا، وما عادت السيطرة علينا مجزية، ثمينة لها، فتتركنا لهذه الأممِ التابعةِ بدرجةٍ ثانية أو ثالثة، توجهنا وتتحكم فيما بقي من ثرواتنا.
صحيفة اخبار الخليج
14 مارس 2010
مجيد مرهون حبيب الشعب.. وداعاً
لم يكتب سيرته الذاتية بل تركها لنا ومضى، ربما لم تسعفه الخطوب وتبعات برودة الغرف الموحشة وأمراضها وقسوتها وعوادي الزمن الجاحد، الذي لم يحتمل أناساً بحجمه وصلابته وقوة تحمله وإيمانه بحتمية انتصار قضيته ورسالته التي أفنى لأجلها جل عمره، رغم قسوة الزمان ووعورة الدروب وشح الأمطار في الصحاري المقفرة، يكفيه انه كتب السطر الأخير دامع العينين ومضى مترجلا؟ لعله ترك فينا أسئلة حائرة ستظل حتما تبحث لها عن إجابات حتى يحين زمن غير هذا الزمان وربما أناس غير أناسه!! مجيد مرهون ذلك المرهف الشجاع الذي رحل مؤخرا عن دنيانا بصمت وتواضع لا يملكه إلا الكبار من أمثاله رغم قلتهم، رحل سريعا وقد شاخت أوتار الزمن، لكن أوتاره هو ستظل شامخة لا تشيخ لأنها تحمل كل شموخنا في وطن يزدهر فيه الحب والأمل يافعا في دروب خضراء لا تعرف الكراهية والحقد، انه رحيل من نوع آخر قد لا نجده يتكرر كثيرا، إلا عندما تأتلف كل ألوان القسوة والعذاب لتمتزج بصور شتى ومعاناة في شخص هو من عامة الناس يعيش بينهم ومعهم، فقد أذبلت الهموم والظلامات زهرة شبابه، بعد أن حاولت مرارا قبلها أن تنتزع روحه العصية على الانتزاع، ليظل هو الجسد والروح والضمير العصي على الكسر والتلون، لشعب تناسلت من روحه شذرات وسواقي وشموع ستظل تنير دروبنا نحو التقدم في زمن بوركت فيه الخسة وحوربت فيه الوطنية.. إنه رحيل يشبه في وحشته وقسوته تلك الغربة التي عاشها بطل فذ شجاع من أبناء أرضنا، ممن انصهروا عميقا في ترابها وتشربوا محبتها مع أول درس ساقه معلموهم الأوائل، فتشرب الفتى اليافع حبا لا يجاريه شيء آخر، مهما جهد إلى ذلك أحد ممن حاولوا بيأس أن يكسروا عزيمته في مهدها الأول، سعيا منهم لإجهاض معنوياته المفعمة ومعه طابور طويل من محبي الشمس والحرية والتسامح، من أولئك المؤمنين بحب هذه الأرض وأهلها، ممن تمرغ مجيد كثيرا في حواريهم وأحيائهم وخاض في مستنقعاتها حتى الركب دون وجل أو خوف، وكان زاده الوحيد وهو الفقير الجائع المحروم، عزيمة رجال ورفقاء درب صنعوا من ضمائرهم عمودا لخيمة كان عليها أن تظلل الوطن كل الوطن، وكان ذلك أملا ووعدا صنعته السواعد السمراء لوطن يود أن يعيش بسلام ليحتضن كل أبنائه في طمأنينة وصفاء.
ها هو يكتب السطر الأخير من حكايته ويمضي، غير أن الحكاية لم تكتمل بعد، فتفاصيلها ستظل اكبر من أن يكتبها قلم أو أن تحكيها رواية، وسيظل فينا أبدا يرسم بعبقريته عناوين ملأى بالخبز للفقراء وللفرح الآتي الذي حلم به كثيرا في أشهر الصيف القائضة في حي العدامة، وفي برودة الحجر المهترئة وأنين الأصفاد وقسوتها.. ها هو كعادته يودعنا بقبضته محدقا فينا واحدا تلو الآخر بعينين غائمتين أنهكهما الزمن الجاحد، وكأنه يقول لنا بصوت متعب إلا من روحه ووهجه الجميل، وقد شكّلته قسوة السجان ورطوبة المكان المفعم بالوحشة والعزلة، إلا من ناي يئن وموج لا يمل معاودة الشواطئ الضائعة في التيه والظلمة… لن تسقط الراية طالما بقيت فينا قطرة دم تنبض بمحبة أوال وشعبها، سيروا قدما رغم وعورة الدروب ومنعرجاتها فانتم أولى بها… وأراه يمضي بعيدا ضاحكا مقهقها ساخرا، ممن أمعنوا في قفل الحديد وأحكموه بغلظة في الجزر النائية متيقنين أنهم بذلك سيهزمون الحقيقة التي تمثلت في روحه التي ستظل وثابة فينا أبدا.
لم يكن مجيد مرهون مجرد فنان أو حتى مجرد مناضل عادي، فقد رفض أن يكون إنسانا عابرا في ذاك الزمن المشحون بالخوف والعتمة، وهو الذي ترك بصماته محفورة بعناد على تلك الجدران المهترئة المليئة بالخوف والظنك، لتفعل فعلها بحق جسد منهك لفنان امتلأ حبا وإخلاصا وعبقرية وصلت بنا بعيدا لكننا عجزنا عن أن نلتقطها رغم أنها في متناولنا، فكم نحتاجها اليوم لنداوي شيئا من جراحات زمن أغبر لا يريد أن يغادرنا.
مجيد مرهون… نستميحك عذرا لتقصيرنا وقصورنا أيها الراعف في جبين الوطن وضمير الناس، وستظل فينا رمزا وأملا وغابة ياسمين وفرح ينتظره كل أبناء أوال ممن أحبوك يا حبيب الشعب والوطن.
صحيفة الايام
14 مارس 2010
امرأة من عجينة 8 مارس
احتفل العالم في اليوم الثامن من مارس باليوم العالمي للمرأة’ فبدت رائحة العطور في القاعات تذكرني برائحة العرق الذي سكبته عاملات النسيج في نيويورك من عام 1857’ من اجل انتزاع حقهن في العمل لمدة عشر ساعات بعد ان كن يشتغلن لأكثر من ستة عشر ساعة في ظروف قاسية للغاية’ ومع رائحة عرق النساء في العالم وعطر النساء الرائع اليوم في قاعات الاحتفالات المتنوعة في فنادق الخمسة نجوم والجمعيات السياسية المطحونة’ يرتدين النساء ملابسهن الزاهية ويرقصن فرحا بانتصارهن لما حققنه خلال المائة عام’ إذ تم سنة 1910 انتزاع الحق باحتفاء النساء بيوم عالمي’ فصارت خطوات الألف ميل حقيقة دامغة بعد إضراب عاملات النسيج في معـــقل الرأسـمـالية الكــبيرة القــادمة لكــوكبنا’ ومسافة اقرب بقليل هي المئوية لهذا العام 1910- ’2010 ’ وبين رائحة عرق النساء العاملات في مصنع الحياة ورائحة العطر الباريسي اليـوم ’ يرفعن ولا زلن النساء رايات ’’ النضال ’’ في كل بقاع العــالم وعلى كل المستويات والأنشطة’ من اجل تعزيز حقوقهن وانتزاع حقوق لم تنجز ومســلـوبة حتى هذه اللحظة’ فليس أوضاع النساء في العالم واحدة وليس وعيهن بمستوى ودرجة واحدة في صيغته وحركته السياسية والنسوية’ ففي الوقت الذي تناضل النساء في بقاع فقيرة من اجل تطعيم لأطفالهن وقطرة ماء لمطابخهن وكسوة متواضعة يتدثرن بهــا’ فان الحــركة النسائية في الغرب المتطور بلغت مطالبها وحقوقها سقفا عاليا بعد ان صرن هناك يتقلدن ارفع المناصب في الدولة والبرلمان والمؤسسات كافة’ غير ان الحركة النسائية مفعمة بحماسها ولن تتوقف من اجل مواقع أوسع وارفع في المجتمع’ حيث لا تتوقف طرقات المطارق أبدا ولا يتوقف عطرهن الفواح عن انتشاره في فضاء الحياة.
لم تكن كلارا زيتيكن’ النائمة في قبرها بسلام تدرك ان التاريخ سينصفها لاحقا ويجعلها تمثالا من الرمزية والدلالة لكل نساء العالم. نساء كثيرات مع زيتيكين مثل كروزا لكسمبورغ وكولنتاي وكوربسكايا وغيرهن الكثيرات انخرطن في الحركة الثورية الناهضة من القرن التاسع عشر’ حينما بدأت الحركة العمالية والمجتمعية ترفع راياتها من اجل حقوقها وقضاياها.
القضية في بلدنا تبدو أصعب من زمن زيتيكن’ فهناك جذور استبدادية مجتمعية’ حيث النساء يقفن ضد النساء والرجال تمتلكهم ذهنية رجعية تغرق في الظلام’ وتردد مقولات عفا عليها الزمن’ بتقليل مكانة ودور المرأة وقدرتها على العطاء والقيادة’ في هذا اليوم وفي هذه اللحظة من 8 مارس تغيب عنا نحن ’’مريم’’ التي كانت معجونة من طينة 8 مارس’ فـقد كرسـت بصـمتـهــا ومواقـفها كل شبابها وحياتها من اجل قضية المرأة والوطــن’ في مثل هذا اليوم تغيب عنا امرأة من طينة روزا ومن معدن كلارا ومن صلب كروبسكايا’ فكل الأسماء كانت مسكونة في قلبها ودمها وحياتها.
مريم التي قالت وداعا للأحبة’ تركت بريقها خلفها في كل ملامح من ملامح الأشكال النسائية المقاتلة من اجل الحرية’ يكون أبرزها الثامن من مارس’ فهو بيتها الجميل وذاكرتها الأبدية. تغيب مريم عن الثامن من مـارس هــذا الـعام’ ولكـنـهـا لن تـغـيــب عن مــارس الأبدي’ الذي حفرته كل نساء العالم على جــذوع أشجار غابات الحرية والإنسان. فهل تخون كل النساء أنفســهــن في معركة الانتخابات القادمة ولا يمنحن أصواتهن لنساء أكثر استحقاقا من رجال صعدوا بالخطأ مقعدا نيابيا؟ بحجة الشرعية الذكورية والانتقاص من النصف المكمل والمشروع والدستوري في بلدنا.
من أقصوا المرأة عن حقوقها الكاملة والمتساوية هم أنفسهم الذين يستجدونها بصوتها في صناديق الاقتراع’ غير أنهم في قاعات المجلس النيابي ينسون حقوقها وقضاياها ووحدتها من اجل أحوال شخصية واحدة وموحدة’ حيث للنساء قضية نضالية ومطلبية وحقوقية واحدة ولا يمكن تقسيم إرادتها وحركتها النسائية بتلك السكاكين الخائنة. المرأة في الثامن مارس صارت تنطلق في هذه الاحتفالية بشعارات جديدة ودفعة أقوى ورؤية أوسع للموجات المائية المندفعة في النهر’ نهر النساء القادم شئنا أم أبينا فحركة التاريخ – وان تعطلت وتعثرت – فانها في نهاية المطاف تتحرك في الاتجاه الصاعد والمتقدم. هل نعيد للنساء شعار زيتيكين القديم ’’يا نساء العالم اتحدن’’ يا نساء البحرين اتحدن’’ أم نقول بأكثر من ذلك يا نساء البحرين لا تتوقفن عن المسيرة المستمرة لزيتيكين ورفيقاتها في كل بقاع العالم. ومن اجل كل ’’مريم’’ من عجينة الثامن من مارس نرفع راية المجد لكل النساء’ ونحيي طموحهن وحقوقهن العادلة’ فمن أصوات نساء النسيج وآلاتهن في نيويورك تصحوا المنامة كل عام لتستنشق عطرها وفرادتها وخصوصيتها الخليجية’ حيث النساء الأوائل من دلمون المعاصرة قلن الكثير وخلال أكثر من ستة عقود عملن من اجل المرأة’ حين كانت المرأة سجينة لكل الأشياء’ وحبيسة لكل القيم الظلامية’ بينما اليوم نراها تقاتل من اجل كل شيء يمس حقوقها وكرامتها’ من قاعات المحاكم حتى قاعات الدراسة والمؤسسات والمجتمع.
تبقى المسيرة طويلة لم تنهها زيتيكن بعد فهناك صفحات متبقية لم تقرأ من كتاب المرأة ’فإذا لم تستطيع انجازه زيتيكن هناك ولم تنجزه مريمنا هنا ’ فان على النساء ’ نساء الحرية أن يواصلن حمل الراية حتى الرمق الأخير’ فلكل ساحة من الحياة معركتها اليومية الدؤوبة’ المستمرة’ الصعبة والمملة’ ولكنها حتما ستنجز برنامجها الذي تم تعطيله زمنا طويلا. هل أقول لكل النساء أسعدتن صباحا بماء الورد والرازجي في ربيعكن’ فللحروف رونقها الوردي قبل الأحمر وللقلب حرارته قبل الكلام.
صحيفة الايام
14 مارس 2010
استهداف المسيحيين.. وجه آخر للأزمة في منطقتنا
مئات من المسيحيين العراقيين خرجوا في نينوى وبغداد في يوم الجمعة الموافق للثامن والعشرين من فبراير الماضي، للتظاهر احتجاجاً واستنكاراً لعمليات القتل التي تستهدفهم، والتي أودت خلال النصف الثاني من فبراير الماضي فقط بحياة 10 منهم، وتهجير 250 عائلة مسيحية، تاركة منازلها في مدينة الموصل باتجاه سهل نينوى، فيما أُرغم الطلبة الجامعيون المسيحيون على التوقف عن متابعة دراستهم بسبب التهديدات المتواصلة، وقتلهم على الهوية واختطافهم من بيوتهم.
في مصر أيضاً خرج المسيحيون قبل حوالي شهرين في تظاهرات احتجاجاً على أعمال القتل وتدمير الممتلكات التي يتعرض لها أقباط مصر على يد الإسلاميين المتشددين. وكان المسيحيون في الجزائر قد تعرضوا إبان الحرب التي اندلعت بين الدولة الجزائرية والجماعات الإسلامية الإرهابية خلال العقدين الأخيرين، إلى أعمال قتل وإرهاب راح ضحيتها العشرات، بخلاف المئات الذين هُجِّروا من ديارهم.
فماذا عسى المرء أن يقول وهو يصعق بهذه الأنباء المفزعة، بدلالاتها البليغة المؤشرة لمستوى الانحدار الذي آلت إليه أوضاعنا العربية العامة، وبضمنها أنساقنا القيمية والثقافية بالمجمل، وقد أضحت ضيقة الصدر، طاردة للآخر لعدم احتمالها تقبل العيش المشترك معه، بل واللجوء إلى أبشع الوسائل وأكثرها خسة لمطاردته ومضايقته في عيشه والنيل منه ومن أقاربه وممتلكاته.
الأمر الأكثر سوءاً أن هذا ‘الآخر’ الذي نعنيه هنا ليس سوى نحن أنفسنا، من حيث أن هؤلاء المسيحيين المستهدفين هم أبناء جلدتنا، الذين لا يختلفون عنا سوى في العقيدة، التي لم تكن يوماً خيارنا أوإياهم، ولا حاجزاً بين كافة مكوناتنا الدينية والمذهبية، فالنزق والعدائية دفعت بأوساط نافذة متمادية التجاسر، بتسهيل وتمرير أحياناً من المستوى السياسي الأعلى، لاستهداف حتى هؤلاء الإخوة الذين يسكنون معنا البيت عينه. في كل يوم جمعة، تصدح أصوات كثير من خطباء صلاة الجمعة في العواصم والحواضر والنواجع العربية، مطالبة بالتهجم على النصارى والدعاء عليهم بالهلاك والدمار، وهي دعوات صريحة لإثارة الكراهية والبغضاء، وتحريض رواد هذه الجوامع والمساجد على اللجوء للعنف لإحداث ‘الهلاك والدمار’ المقصود من لدن خطباء ميكروفونات الفتنة.
وهنالك مشايخ لا يتورعون عن إصدار فتاوى تحرِّم التعامل مع النصارى، وتهنئتهم بأعيادهم وما إلى آخره من محظورات، يحرص هؤلاء ‘الدعاة’ على إشاعتها بين الفينة والأخرى، كي يضمنوا استمرار وترسخ جذوة الحقد والكراهية في الصدور، وتحفيز أصحابها للانتقال من القول إلى الفعل، من خلال التوظيف الماكر للدين، بالمداومة على محاولة تفعيل ما يسمونه فريضة الجهاد، سواء ضد ما يسمونه ‘بالحكومات الباغية’، أو المجتمعات الفاسدة، أو ‘الطوائف الكافرة’.
هذا بالذات ما يفسر انتشار واندلاع موجات التعصب والتطرف الديني في غير بلد إسلامي، عُرفت حتى وقت قريب بهدوئها وتسامحها الديني وسلامها الأهلي.
فلقد كانت مفاجِئة بحق موجة العنف والتعصب الديني، التي اجتاحت ماليزيا في الآونة الأخيرة بين المسلمين والمسيحيين، حيث جاء ذلك على إثر قرار المحكمة الماليزية العليا بالسماح للمواطنين غير المسلمين باستعمال كلمة ‘الله’ إشارة إلى الرب، متمثلاً في هجمات شنها في السابع من يناير الماضي شباب مسلحون متعصبون ومشحونون من قبل مشايخ التحريض على إقصاء واستئصال الآخر، حاولوا خلالها إحراق ثلاث كنائس كاثوليكية في العاصمة كوالالمبور بواسطة قنابل المولوتوف. وقد أحدث هذا التطور في الاحتقان الديني الناتج -كما قلنا- عن الشحن والتعبئة الأسبوعية المنظمة، صدمة سياسية واجتماعية في بلد ظل حتى وقت قريب يعتد بتسامحه الديني وتعايشه العرقي السلمي، (يبلغ عدد سكان ماليزيا 28 مليون نسمة، 60٪ منهم مسلمون، فيما تمثل النسبة الباقية أقليات صينية وهندية بوذية أو هندوسية ومسيحية). وفي نيجيريا البلد الأفريقي مترامي الأطراف بمساحته البالغة 924 ألف كيلومتراً مربعاً، وعدد سكانه المتعاظم (حوالي 150 مليون نسمة) وتنوعه العرقي السكاني (حوالي 250 مجموعة عرقية أبرزها وأكثرها تأثيراً قبائل الهوسا والفولاني بنسبة 29٪، واليوروبا بنسبة 21٪، وايبو 18٪، وإجوا 10٪) وتوزع انتماءات سكانه الدينية ما بين المسلمين بنسـبة 50٪، والمسيحيين بنسبة 40٪، وأصحاب الديانات المحلية بنسبة 10٪، في هذا البلد الأفريقي غير المستقر أصلاً، بفعل صراعات أصحاب المصالح الذين أغرقوا البلاد في الفساد حتى أذنيها، وقعت في الثاني والعشرين من يناير الماضي مصادمات عنيفة ودامية بين المسلمين والمسيحيين في مدينة جوس الواقعة في وسط نيجيريا، تخللها إطلاق نار متبادل، وحرائق لمحلات وممتلكات، حتى قيل إن القسم الشمالي لمدينة جوس قد أُحرق بالكامل، والنتيجة أكثر من مائتي قتيل ومئات الجرحى وآلاف النازحين الذين أُحرقت منازلهم، وقبل أيام عادت الاشتباكات وأعمال القتل والتدمير من جديد بين المسلمين والمسيحيين، مخلفة مزيداً من الضحايا من الطرفين. هذه الحوادث، ومثلها وأسوأ منها في باكستان والعراق، حيث وصل ‘فيض الضغائن والأحقاد’ إلى مستوى التكفير واستحلال القتل، وإلى مجازر يرتكبها مسلمون ضد مسلمين آخرين باسم فريضة الجهاد إياها، التي يُنَظِّر لها خطباء الجمعة على الدوام. والواقع ليس خطباء المساجد والمشايخ وحدهم من امتهن المداومة على نثر هذه السموم في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فهنالك وسائط إعلامية تم الزج بها في أتون هذه الفتنة البغيضة.
الأدهى والأمر أن كل هذا التنفير والاستعداء والتحريض، لم يستدع ردود فعل مناسبة من جانب بقية أعضاء الجسم العربي والإسلامي، التي لم يطلها العطب، إذ يكاد الصمت يطبق على أفواه الجميع، فلا يكاد المرء يسمع همساً احتجاجياً على هذا الولوغ الخطير جداً في التيه، حتى من جانب المثقفين والنخب النافذة!
فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
صحيفة الوطن
13 مارس 2010