عن ما عُرف به السودانيون من تسامح يروي الراحل الكبير الطيب صالح حكاية معبرة فحواها أن السيد عبدالرحمن المهدي راعي طائفة الأنصار وجد الصادق المهدي رئيس الحكومة السودانية الأسبق, كان رجلا شهما كريما حتى مع خصومه في السياسة، ومن نبله انه كان يحترم كثيرا الشهيد عبد الخالق محجوب زعيم الحزب الشيوعي السوداني ويعامله كابنه، وحدث أن زار السودان وفد شيوعي سوفياتي، وسمع السيد المهدي بأمر هذا الوفد فاستدعى عبدالخالق محجوب، وسأله عن الأمر واستفسر عن الكيفية التي سيُكرم بها الشيوعيون السودانيون ضيوفهم، فأجابه عبدالخالق محجوب بأنهم لم يفكروا في موضوع الضيافة وقال انه على الأرجح سوف يقيمون لهم حفلة شاي.
فكان رد عبدالرحمن المهدي أن هذا لا يجوز، وقال لعبدالخالق محجوب نحن كسودانيين يهمنا أن يقول السوفيات أن الشيوعيين السودانيين أناس كرماء وأفاضل، لذلك قررت أن أوجه لكم ولضيوفكم دعوة لتناول العشاء في منزلي.
الطيب صالح الذي لم يكن حزبياً قط، ولو انه قرر أن يكون كذلك لاختار الحزب الوطني الاتحادي، قال انه كان معجبا بعبدالخالق محجوب كسوداني نابغة وبفاطمة احمد ابراهيم كإنسانة، وهي القائدة النسوية الشهيرة وأرملة الشهيد الشفيع أحمد الشيخ، وأول امرأة سودانية تفوز بمقعد في البرلمان.
وأمر يثير الغبطة أن يحتضن وطننا البحرين ملتقى الطيب صالح الذي أقيم على مدار أمسيات ثلاث بتنظيم من النادي السوداني بمملكة البحرين، ومركز عبدالرحمن كانو الثقافي، ففي ذلك تعبير عن البعد العربي الأصيل في تكوين الثقافة في هذا البلد، وفيه أيضاً تعبير عن مكانة الطيب صالح في وجدان المبدعين والمثقفين في البحرين وفي الخليج، هو الذي عرف هذه المنطقة جيداً، حيث عاش في إحدى مدنها، الدوحة عاصمة قطر.
وكان لي شرف المشاركة في هذا الملتقى بالتعقيب على ورقة الأستاذ طلحة جبريل عن الطيب صالح في كتابة المقال الصحافي، حيث نقل الطيب مهاراته في السرد إلى تجربته في كتابة المقال الصحافي، فحمل روحه المبدعة، ولم ينتقص منها وإنما أثراها، إذا ما أدركنا أن المقالة الصحافية، في نماذجها الراقية، هي الأخرى جنس إبداعي شأنه شأن القصة والرواية والمسرحية.
واللغة الأنيقة، المثقفة، وحتى المُفكرة للرجل، القائمة على العناية بجمال اللغة وسلامتها وتكثيفها، لم تمنعه من الانخراط الواعي والشجاع في مناقشة هموم الوطن، وأحسنت الورقة باختيار مقال «من أين جاء هؤلاء الناس»، نموذجاً لذلك، التي تضمنت تلك الفقرة التي يقول عنها الأستاذ طلحة بأنها دخلت تاريخ المقالة السياسة في السودان بل لعلها ستبقى في ذاكرة الأجيال جيلاً بعد جيل، وكتبها رداً على ما اقترفته الجبهة القومية الإسلامية من آثام بحق السودان فترة استواء رجالها في الحكم.
قال الطيب في المقالة: «من أين جاء هؤلاء الناس؟ أما أرضعتهم الأمهات والعمات والخالات؟ أما أصغوا للرياح تهب من الشمال والجنوب؟ أما سمعوا الأصوات القديمة، وأحسوا الأشواق القديمة، ألا يحبون الوطن كما نحبه؟ إذاً لماذا يحبونه وكأنهم يكرهونه، ويعملون على إعماره وكأنهم مسخرون لخرابه؟».
ثم يختم «من أين جاء هؤلاء الناس؟، بل مَن هؤلاء الناس؟».
صحيفة الايام
9 فبراير 2010
الطيب صالح في البحرين
أفغانستان والبحث عن الزمن الضائع!
كم ضاع من عمر أفغانستان السياسي والاجتماعي ونحن نعيش القرن الواحد والعشرين؟ ليس هذا السؤال الوحيد الذي بإمكاننا طرحه في وقت يجتمع في مؤتمر لندن من اجل هذا البلد الممزق بكل الأمراض والعلل، أكثر من 60 بلدا أوروبيا وإقليميا وعالميا ومنظمات دولية من اجل انتشال أفغانستان من مستنقعها الأمني وتدهورها التنموي وسقوطها في ارتباك داخلي وإقليمي واسع. ماذا يعني مؤتمر لندن من اجل أفغانستان؟ وما الغرض منه؟ بعد عدة مؤتمرات «أفغانية» عقدت بعد اجتماع بون 2001 اثر قيام الحكومة المؤقتة، ثم عادوا بعد عام لمناقشة ما جرى من تطورات واعدوا لفكرة عقد مؤتمر دولي في برلين 2004 وخرجوا «بإعلان برلين»، حيث وضعت ونوقشت فيه رؤية المجتمع الدولي للمستقبل السياسي لأفغانستان ومنحت في المؤتمر 8 مليارات.
في يناير 2006 عقد مؤتمر لندن، فانبثق عن المجتمع الدولي «اتفاق أفغانستان» وتمخضت عنه المبادئ العالمية للتعاون بين المؤتمرين، بالإضافة إلى وضع المعايير وجدول زمني ينتهي سقفه حتى عام 2010 بهدف متابعة فعالية الأمن والحكومة وعملية التنمية. ومن اجل أفغانستان همست الولايات المتحدة وبريطانيا للقوى الإقليمية والحلفاء بأن يعقدوا مؤتمرات من اجل عين أفغانستان، والتي حسب تعبير ساسة المنطقة الأتراك ان شأن أفغانستان هو شأن بالدرجة الأولى يهم دول المنطقة، وهذا ما تؤمن به أيضا الهند وإيران ومجلس التعاون، فيما تراقب الصين المشهد بحذر، رغم اتهام المجتمع الدولي لها بالتقصير والتردد. لهذا عقد في تركيا قبل عام اجتماع قمة صغير وبحضور منظمة المؤتمر الإسلامي، إلا أن إيران تغيبت عن المؤتمر الأخير في تركيا والمنعقد قبل أسبوع من مؤتمر لندن. اعتبر مؤتمر تركيا تمرينا وتحضيرا عاما لمؤتمر لندن لتقاطعهما وتلاقيهما في موضوعات عدة، غير ان الرؤية الهندية تجد أن ما لا يقل عن سبعة وعشرين بلدا سيحضرون مؤتمر لندن لديهم تباعد في الرؤى لكيفية معالجة ملف أفغانستان. ونتيجة لتطورات الأوضاع الأمنية في المنطقة وفشل حكومة أفغانستان في الداخل من حل المشكلة بنهجها الأمني والعسكري، ولدت رؤية رئيس الوزراء البريطاني غولدن براون في شهر نوفمبر من العام الماضي، والتي هندست لمقترح مؤتمر لندن الحالي معلنا عن أهمية ربط ومزج عملية زيادة القوات العسكرية في أفغانستان مع زيادة قوة الدفع والتحرك السياسي وتسليط الضوء للمجتمع الدولي عن الأولويات التي تواجه 43 دولة من تحالف الايساف، والسير بأقصى ما يمكن بالمجتمع الدولي لمساعدة أفغانستان في إدارة شؤونها الأمنية والسياسية.
وعولجت بحرارة في طقس لندن البارد، مسودة وأجندة المؤتمر التي تمحورت حول خمسة بنود أساسية، هو الأمن وإعادة توحيد أو دمج المعارضة مع الحكومة وثالثا بناء القدرة الاقتصادية لأفغانستان ومحاربة الفساد كبند رابع ثم أخيرا السياسة الخارجية، ولكن الجديد في المؤتمر هو إضافة المسألة اليمنية وما تشكله من قلق وخوف بانهيار الدولة واشتعال شبه الجزيرة العربية واهتزاز استقرارها المتأرجح. ويعتمد نجاح فعالية ذلك المؤتمر بخلق ثلاثة مرتكزات أساسية قوية هي السيطرة الأمنية ووجود حكومة مستقرة وثالثا التعاون الإقليمي. فكيف ستتم معالجة كل ملف ومحور وقضية داخل أروقة مشبعة برائحة الاختلاف والشك، في مواجهة دول كبرى استراتيجيتها متماسكة كما هي بريطانيا والولايات المتحدة، فقبل أسبوع من مؤتمر لندن أعلنت الولايات المتحدة على لسان حال رئيسها باراك وممثلها في أفغانستان وباكستان هولبرك، حيث تربط تلك الاستراتيجية عملية الاستقرار لكل من باكستان وأفغانستان معا. إذ ستبعث الولايات المتحدة 30 ألف جندي زيادة لتقوية وجودها العسكري، بينما الناتو من جانبه غير قادر إلا على 7 آلاف من تلك القوات، فيما تناقص عدد الألمان من 1500 إلى 500 جندي نتيجة الحوار الداخلي والمعارض للمساهمة القتالية، مفضلين تقديم عون لوجستي وفني لتدريب وتأهيل القوات الأفغانية، فيما ترى فرنسا أنها مستعدة فقط لإرسال فنيين خشية من فقدان الحكومة لشعبيتها المتراجعة. وفي نفس الوقت الذي يعلن فيه اوباما عن زيادة قواته فانه من الجانب الآخر يؤكد انسحاب بلاده مع نهاية عام 2011، مفضلا سياسة رفع القدرة الأمنية للقوات الأفغانية من 79 ألف إلى 171 ألف ليصبح الجيش الوطني الأفغاني قادرا على ضبط الاستقرار.
نتيجة إعلان استراتيجية الانسحاب المعلن عن زمنها يرى العسكريون في الناتو ان ذلك ضرب من «المستحيل» التنبؤ به ومن الصعب تقديرها إلا على واقع الأرض، لحظتها بالإمكان الانسحاب وترك الحكومة الأفغانية مع شعبها. لهذا يرى الأمين العام للناتو أندرس راسموسن أن انتشال أفغانستان من مأزقها ليس باحتواء طالبان ودمجها في وظائف ومواقع بعد تسليم أسلحتها والقبول بالعملية السياسية في المجتمع كما هي رؤية الرئيس الأفغاني، شريطة أن تفك حركة طالبان ارتباطها بتنظيم القاعدة.
ما طرحه راسموسن هو إعداد برنامج اقتصادي اجتماعي يوفر فرصا للعمل لكل الشعب الأفغاني وليس حركة طالبان وحدها. وتسعى الدول الغربية خاصة بريطانيا مع حكومة كارازي شق صفوف حركة طالبان عن طريق احتواء الكوادر الوسطى والدنيا، والتعامل بانتقائية مع العناصر العليا خاصة المحسوبين على تيار التوافق السلمي، والذين يرون أنهم لا يقاتلون في بلادهم من اجل القاعدة، وإنما التقت مصالحهم معها في الاقتتال ضد عدو مشترك. لهذا يصبح تكتيك التمزيق والاحتواء فنا بريطانيا قديما أو كما يقول وزير خارجيتها ديفيد بيلوند عن الحوار مع طالبان: «إن تقسيم العدو هو جزء هام من استراتيجيتنا، انه الأسلوب المقابل الموازي لاستراتيجية الحرب، وبأنه موضوع حيوي وفعال. بين رؤى متعددة ومتباعدة في المؤتمر، ستظل أفغانستان تفتش عن طريقها وزمنها الضائع، لعل الجميع يستوعب أن ثقافة وذهنية الأفغان مختلفة كثيرا عن ساحات قتالية، كالعراق واليمن والصومال وغيرها، فلكل شعب وبلد خصوصيته. يبقى أن شعب أفغانستان الذي يقبل أن يعيش بالفساد والأفيون والفقر والتخلف، له ثقافته الرافضة للمحتل، وموضوعه مختلف وشائك يتعدى الرغبات والكواليس».
صحيفة الايام
9 فبراير 2010
غـازات ملوثـة
كان اسمه “غاز المعامير “ ويقصد بها الغازات الملوثة المنبعثة من المصانع المحيطة بقرية المعامير، والتي تسببت في تدني الصحة أكثر من 12 مصنعا كبيرا وصغيرا وعدة حظائر وبحر ملوث يحيط بالقرية الصغيرة، ولا تبعد هذه المصانع أكثر من عدة أمتار عن البيوت السكنية، لكن بعد انتشاره في أرجاء مختلفة من البحرين يوم الاثنين الماضي صار اسمه “غاز البحرين”.
وكغيري من المواطنين القريبين من المصانع استشعرت الظاهرة واتضحت لي أهمية الإعلان عن الخط الساخن للبيئة للتبليغ عن مثل هذه الظواهر التي أصبحت متكررة في بيئتنا، قالت لي إحدى القارئات أنها اتصلت بالصحة، آخر هاتف قسم الطوارئ 999.
إن استمرار الإنكار والنفي من قبل الشركات الصناعية التي تحيط بها الشبهات لا يخدم مسألة تطويق الظاهرة ومعالجتها وتحديد المسؤولية والاعتراف بها حماية لصحة المواطنين، في البيئة لا تزال المملكة بحاجة إلى مزيد من الشفافية والمصارحة والدراسات البيئية الجادة والمستفيضة حول جودة الهواء والتربة والبحر، ورصد جميع الملوثات الضارة والمؤذية والمسارعة بانجاز القوانين والتشريعات الخاصة بها.
الظاهرة حسب تصريح مدير عام الهيئة العامة لحماية الثروة البحرية والبيئة والحياة الفطرية عادل الزياني ليست جديدة بل متكررة، ولم تعد بالتالي حكرا على المعامير، لكن أهل المعامير في السابق كانوا وحدهم أكثر المتضررين منها، أما وقد انتشرت في مناطق عدة فقد أصبحت قضية البحرين كلها، وستكون على قائمة أولويات التدارس والمناقشة لدى جلسة مجلس الوزراء.
لم يعالج غاز المعامير وفق المنهجية العلمية والبيئية الجديرة به، وبعيدا عن التسييس والتجييش والتطييف، مارس المسؤولون الرسميون في البيئة وعلى مدى سنوات وفي الشركات سياسة النفي والإنكار وتبرئة الشركات او مخاطبتها على استحياء، وفي كل مرة تنبعث الغازات الملوثة نعود إلى الموال ذاته، فمرة يقال انها تسرب ناجم عن خلل عابر في إحدى الشركات وليس خللا بنيويا متجذرا وقديما، ومرة يشار الى الانقلابات الحرارية المفاجئة في الطقس، لكن الا يدل هذا الانبعاث الجديد للغازات الملوثة والذي امتد الى مناطق جغرافية متاخمة وبعيدة عن المعامير على عدم التزام الشركات والمصانع بوضع المجسات الخاصة على مداخنها «احدى توصيات لجنة التحقيق البرلمانية» كي تعين البيئة على تحديد نوع الغاز المنبعث ومصدره الحقيقي في الحال بدلا من الانتظار عدة ايام واستنشاق مزيد من الغازات الى ان تعرف الجهة المتسببة؟
“غاز الملفوف” او “غاز الضربان” الاهم من التسمية التي لا يفهمها الا المختصون هو تحديد الجهة ووقف الغاز المنبعث وحماية صحة المواطنين على المدى القصير العاجل، فحسب تصريح الدكتور سعيد منصور نائب رئيس جمعية البحرين للبيئة للصحافة المحلية فإن رياح الجو الجنوبية او الكوس لم تكن هي السبب في انتشار الغاز بل ان هذه الغازات كانت موجودة دوما إنما جاءت الرياح الجديدة لتكشف المستور وتنقلها على نطاق أوسع، أما على المدى البعيد فلا حل الا بتوفير الاشتراطات والمعايير العالمية السليمة للمدن الإسكانية والصناعية وحماية الأولى من الثانية.
الأيام 8 فبراير 2010
الخطر الاجتماعي للمدن المسيجة
بعد أن كانت المجتمعات المسيجة لا تتعدى مجموعة من المنازل المحاطة بسياج ضمن ما تعارف عليه بالحدائق السكنية أصبحت الآن مدن بكاملها تحتوي على جميع الخدمات والأماكن الترفيهية, وبعد أن بدأ تشييد هذه المدن بعيدا عن التجمعات السكنية للمواطنين أصبحت الآن تغزو قراهم وتسد المنافذ البحرية عنهم بحيث لا يمكن للأهالي لا الاسترزاق مما يجود به البحر كما كان آباؤهم وأجدادهم ولا أن يستمتع أبناؤهم بمنظر البحر ويلعبون على شواطئه.
لقد انتشرت المجمعات المسيجة في البحرين منذ ثلاثينيات القرن الماضي عندما أنشئت مدينة عوالي ليعيش فيها موظفو إحدى الشركات الأجانب في مجتمع أقرب إلى وطنهم الأم منه إلى المجتمع البحريني المتخلف في وجهة نظرهم في ذلك الحين، وبعد مدينة عوالي انتشرت المجمعات المغلقة «الكامبونات» بشكل لافت في أغلب مدن وقرى البحرين لتفصل من هم داخل السياج عن من هم خارجه.
وبغض النظر عن ما يمكن أن تسببه المجتمعات المسيجة – التي غالبا ما تنشأ على الشواطئ أو في وسط البحر – من تدمير للبيئة البحرية وبغض النظر عن ما تستحوذ عليه من أراضي كان المواطنين أولى بها وبغض النظر عن استحواذها على الشواطئ العامة بحيث أصبحت البحرين دون شواطئ عامة وهي التي تتكون من أكثر من 30 جزيرة فإن آثارها الاجتماعية لا تقل تدميرا عن كل ما سبق.
علماء الاجتماع ينظرون إلى المجتمعات المسيجة على أنها ظاهرة مقلقة جدا فهي لا تعزز روح الجماعة لدى المواطنين، فوضع البوابات والأسوار على المدن الجديدة، مع الحراسة الخاصة للمداخل تؤدي إلى منع الوصول والتواصل وتؤدي إلى تفكيك المجتمع طبقيا ومناطقيا.
المدن المسيجة تختلف عن العمارات السكنية ذات الحراس أو البوابين، فهذا لا يعتبر ضمن هذه الظاهرة؛ ذلك لأن المجتمعات المسيجة هي تلك التي تستبعد عامة الناس من الوصول إلى الأماكن العامة مثل الأرصفة والشوارع؛ ما يمثل تراجعا عن المجال العام، وهو اتجاه مقلق للاجتماعيين الذين ينظرون إلى مفهوم المواطنة على أساس جغرافي ونفسي وثقافي.
ويرى المختصون أن المجتمعات المسيجة تطرح الانفصال المادي بين الناس كمنهج للحياة والرفاه، ويختفي بذلك معنى الجوار بالمفهوم المتعارف عليه تقليديا، وهذا الاستبعاد يفرض تكاليف اجتماعية ويقلل من عدد الأماكن التي يمكن أن يساهم ويتشارك فيها الجميع، وبالتالي تقل الاتصالات بين الناس من مختلف الفئات، هذه الاتصالات التي لولاها لما تكوّن مجتمع مترابط ضمن وطن واحد في الأساس.
ثم إن المجتمعات المسيجة، تزيد الانقسامات بين المدن والقرى والضواحي، وتخلق مناطق للأغنياء وأخرى مهملة للفقراء، وتخلق أنماطا جديدة من العزلة والتهميش وتضع خطوطا فاصلة على أساس الثروة، وتتكون مجتمعات «تملك» وأخرى «لا تملك»، وهو نمط من التفتت الاجتماعي الذي يمس الإحساس بالمواطنة.
خلال السنوات القليلة المقبلة سيوجد في البحرين العديد من المدن المسيجة بالكامل والتي لن يستطيع المواطن العادي النظر إليها ناهيك عن الدخول فيها والاستفادة من الخدمات التي تقدمها إلا إذا كان من أصحاب الثروات.
صحيفة الوسط
8 فبراير 2010
المصادر الثلاثة للأمة ( 2 – 2)
أعطي عصرُ النهضة العربية إمكانيتين كبيرتين لنمو الليبرالية والماركسية، بسبب غيابِ رأسمالية الدولة في الدول العربية، ودخلتْ النزعتان في تعاونٍ عبر فترةٍ وجيزة ثم في الصراع المفتوح.
وبهذا فقد حدثتْ تأثيراتٌ كبيرةٌ للماركسية بتلك المواصفات داخل الدول العربية والإسلامية، عبر تمدد الأحزاب الشيوعية والاشتراكية وامتلاء الساحة السياسية بهما بعد الحرب العالمية الثانية خاصة، وحدث ذلك التداخلُ بين نمو رأسماليات الدول العربية وتلك الفكرة، وإذا كانت الأحزابُ الشيوعيةُ العربيةُ قد أخذتْ كليةً هذه الفكرةَ بحذافيرِها الشرقية، من دون أن تقدر على تنفيذها في أي قطر عربي مهم وكبير، فإن الاتجاهات القومية العربية الإسلامية قامت باستيحاء جوانب منها، وطبقتها في بلدانٍ عربيةٍ كبيرة ومهمة.
وهنا تم تذويب الليبرالية العربية فنجد ان أحزابها كالوفد المصري والاستقلال والأهالي وهيئة الاتحاد الوطني، تزول أو أن تبقى مُهمشة، حسب طبيعة كل دولة وتجربتها، فالوفد يتلاشى والاستقلال في المملكة المغربية يبقى بضعفٍ حتى يستعيدَ مكانتَهُ حين تطورت الحريات والقطاع الخاص.
وعموماً كان صعودُ رأسماليات الدول مغذياً لصعود الماركسية في بعض الأقطار، ومهمشاً لليبراليةِ في هذه الدول، وجاء بعد ذلك صعودُ رأسمالياتِ الدولة في أقطار الخليج مكرسةً المذهبيةَ السياسية وتداخلتْ التطوراتُ والاتجاهاتُ في صراعاتٍ وتحالفات معقدة.
وفي هذه الفترة كانت التجاربُ العالميةُ لرأسماليةِ الدولةِ في المعسكر الاشتراكي تتعرضُ للتآكلِ وبدأت ترى أن هذا القطاعَ الكلي المهيمنَ يتوجه لأزمةٍ عميقة، وتم طرح حلول لها بجمودٍ وبأشكالٍ مجزأة، وعبر مقاربةِ القطاعِ العام للسوق، وقد تم ذلك لكن لم تُفلحْ هذه المقاربة مع السوق في حلِ التخلفِ التقني وتدهور قوى الإنتاج عموماً، كذلك كان المركزُ الرئيسي لرأسمالية الدولة عالمياً وهو الاتحاد السوفيتي، ينفقُ على الخارج الكثيرَ من فوائض إنتاجه، في دعم تجارب أخرى تقومُ على أسسهِ السياسية والفكرية.
ولكن بعض الدول التي تقومُ على هذه الأسس والموجودة في أوروبا وبمقاربةٍ كبيرةٍ للعالم الغربي الرأسمالي الديمقراطي، راحتْ تخرجُ من هذا السياق الشرقي الشمولي نظراً لمستوى تطور القوى الاجتماعية والبشرية فيها. ثم انتقلت الأزمة للمركز وكان الانفجار!
إن قوى الماركسية الشمولية المؤثثة بذلك الإنتاجِ الفكري الروسي والتي تشكلتْ في الدول العربية والإسلامية جاءتها ضرباتٌ عنيفة مختلفة من الأنظمةِ العسكرية ومن الدول التقليدية، والتي امتلأت خزائنها بالفوائض النفطية، فوجود قوتين سياسيتين شعبيتين شموليتين لا يمكن أن يستمر في أي نظام، ولا بد أن تكسر إحداهما الأخرى، فإذا كانت كلتاهما تحديثيتين خسرت الحداثة كما في مصر والعراق والجزائر والسودان وغيرها، وإذا كانتا تقليديتين توسعَ التخلفُ كما في اليمن. ولكن يمكن لقوى ليبرالية وماركسية وإسلامية، ديمقراطية كلها، سواءً كانت في الحكم أوالمعارضة أن تتعايش وتخلق تقدماً كبيراً.
أجهضتْ أغلبيةُ الأنظمةِ العربيةِ الليبراليةَ والماركسيةَ معاً، وكان حسابُ الخسائرِ يتمثلُ في غيابِ الليبرالية الوطنية، فحين رجعتْ بعد الدهس الطويل وبدء نهوضِ القطاعاتِ الخاصة والخفوتِ المحدود لنموذج رأسمالية الدولة، كانت الليبرالية هذه هزيلةً وذات قشور، قد دخلها الفساد، وعاشتْ على الأرزاقِ الحكومية، وأصيبتْ برعبٍ شديد فهي تخافُ الاستثمارات الصناعية الكبيرة والجرأة السياسية، وتلتصقُ بأي نشاطٍ اقتصادي سريع الأرباح، وتحولها إلى الخارج، وتلوثت بالوعي الديني التقليدي بدلاً من أن تعيد إنتاجه.
وكذلك تم فقدان الماركسية الوطنية، فبين السجون والقمع أو بين الاستيراد الفكري، ذَبُـلت الهياكلُ الفكريةُ الغائصةُ وسطَ قضايا الشعب، وعاشتْ على النصوصيةِ المجلوبة ولم تخلقْ ماركسيةً منتجةً تحليليةً تمدُ خيوطَها مع القوى العادية في المجتمع وتحاورُ الإسلامَ خاصة وتعيدُ إنتاجَهُ، كما تحاورُ الليبراليةَ وتعيدُ إنتاجَها في زمنٍ مختلفٍ وفي بناها المستقلة – المشتركة معها في المعركة الموحدة للنهضة.
إن الأداتين المنهجيتين الكبريين في الوعي العربي: الليبرالية والماركسية، تم شللهما لزمنٍ معين، عبر ذلك التنامي الواسع للشموليات المختلفة، وعبر هذه السوقية الاقتصادية غير الإنتاجية، وكان البديلُ الجاهز عبر العصور هو المذهبيات المحافظة، المذهبيات النصوصية الجافة التي هجنتَها القوى الإستغلاليةُ بعد إنتهاءِ عصرِ الخلفاء الراشدين.
ونجد في زمن ازدهار النزعتين السابقتين كيف أن المذهبيات المحافظة، كانت في عزلة، بسببِ ضخامةِ التخلف الذي أُحيطت به خاصة في عصر الدولة العثمانية، فظهرت قواها مفككةً شاحبة حسب تطور الاقطار ومستوياتها، وتجلى ذلك بتباين المواقف المذهبية، من محافظة صارمة إلى تجديدية خافتة، وصعدت أنظمةُ الدولِ المستقلةِ التي لم تتخل كلها عن هذه المذهبية المحافظة كأداةٍ أساسية في السيطرة على الشعوب، موجهةً إياها لإزالة النزعتين السياسيتين الكبريين الماركسية والليبرالية، بتدرج محسوب نظراً لخطورة الأولى وضعف الثانية، وأدى هذا إلى ظهور الأحزاب السياسية المذهبية لأول مرة في التاريخ العربي الإسلامي، حيث كانت (الفرق) هي الشكل البارز في التاريخ السابق.
كان ظهورُ الحزب الديني الإسلامي عامة مضاداً للتراكم الحضاري العربي الإسلامي السابق، عبر إنجازاته الماركسية والليبرالية، فهو رجوعٌ للوراء، وتفكيكٌ للشعوب والأمم الإسلامية التي توحدتْ عبر النضال السابق، وهدر للتراكمية الديمقراطية الضئيلة المتحققة، فيضع نفسه في خدمة القوى المحافظة والاستعمارية التي تريد ضرب التجارب العربية الإسلامية التحررية المتصاعدة، فدخلت المنطقة في مرحلة التفكيك والانهيارات الداخلية ومحاربة الميراث العقلاني المحدود السابق.
لقد توحدتْ المذهبياتُ السياسية مع أنظمةِ رأسماليةِ الدولة في كل بلد، أو غدتْ هي المعارضةُ المُفككة لوطنيةِ كل دولة، وأقامت حواجزَ مع المصدرين السابقين، ولم تستثمر المصدرين لتنامي التقدم في الأمة.
بطبيعة الحال لم تعِ المنظومتان الماركسية والليبرالية أهمية تصاعد العنصر الديني الإسلامي في هذه اللوحة المركبة، وأُخذ كمؤامرة بشكل مطلق.
في المرحلة الراهنة أخذتْ تتكشفُ الضرورةُ الموضوعيةُ لتلاقي هذه المصادرِ الثلاثة لتكوينِ العرب السياسي في العصر الحديث، وهي المعبرة عن أغلبية الطبقات العربية، وهي إذا كانت نتاجُ ثوراتٍ ثلاثٍ عبر التاريخ: الإسلام ،والليبرالية، والماركسية، فقد صادرتْ هذه العملياتِ الديمقراطيةَ فيها الهيمنةُ الإقطاعيةُ في ظرفٍ، والاستعمارُ المباشرُ في ظرفٍ آخر، ورأسماليةُ الدولِ في ظرفٍ ثالث.
وهذه أمورٌ تشيرُ إلى التعقدِ التاريخي لتكوينِ الأمةِ العربية، ولإسراعِها في العصر القديم للقفزة فوق الظروف الشديدة التخلف، ولإسراعِها في العصر الحديث للاستعانة بمصادر سريعةٍ جاهزة للتقدم والتوحد، من دون أن تمتلكَ قواعدَ قويةً لذلك، وهي اليوم قادرة على أن تجمع ما هو مُفكك، وأن تغتني بالصراعات الديمقراطية، حيث الوحدة أقوى من الاختلاف، لأحداث تراكمات نهضوية جديدة، في أبنيتها الفكرية الداخلية وفي علاقاتها المشتركة.
صحيفة اخبار الخليج
8 فبراير 2010
انفجار الهويات
لعل أبرز ملمح للتطورات السياسية الجارية في عددٍ من البلدان العربية هو انفجار الهويات الفرعية، ومخاطر تشظي ما تعرف بالدولة القطرية العربية إلى مجموعات عرقية ومذهبية وطائفية، بعد أن كان مشروع هذه الدولة القطرية بعد الاستقلال هو بناء الدولة الوطنية التي تدمج في نسيجها الواحد مجموعة هويات تتنازل عن بعض صور تضامنها لتغليب الانتماء الوطني العام الذي يوحد الكل في بوتقة أو نسيج الوطن الواحد.
بعض ما يجري حاليا تعود مسؤوليته بدرجة أساسية إلى هذه الدولة القطرية ذاتها التي لم تسعَ لإقامة التوازن بين الهويات الفرعية داخلها في اتجاه التداخل ما بينها على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات، وبلورة هوية وطنية واحدة تكون بمثابة المظلة التي ينضوي تحتها الجميع، على العكس من ذلك فإن هذه الدولة كثيراً ما سعتْ إلى تغليب منظومات من التضامن الفرعي، كبديل للتضامن الكلي أو الجمعي، مؤسسة على الولاءات.
ما أكثر البلدان العربية التي باتت عُرضةً لمخاطر التشظي الذي أشرنا إليه، فما أن انهارت السلطة أو تضعف إما تحت ضغط التدخل الخارجي أو فقدان أو استنفاد شرعيتها الداخلية بعد أن تآكلت بالتدريج، حتى وجدنا المجتمع يعود إلى صور التضامن الأولية السابقة لقيام الدولة، ولا يعود الحديث يدور عن إعادة بناء الوطن الذي يتساوى أبناؤه في كل شيء، وإنما عن توزيع حصص التمثيل الطائفي والسياسي، وتأمين طموحات كل فئة وطائفة على حدة، حتى لو تعارضت مع الطموحات الوطنية العامة أو المشتركة.
وهذه مسألة على قدر كبير من الخطورة والتعقيد، فالعديد من البلدان العربية تتسم بتعددية في تركيبها الإثني والمذهبي والطائفي، ودلت التجربة المريرة للحرب الأهلية الطويلة في لبنان، والتي سبقتها بالمناسبة حروب أهلية أخرى على مدى التاريخ الحديث والمعاصر للبلد، أن هذه التعددية ما لم تعالج في اتجاه إثراء الهوية الوطنية المشتركة وبنائها بهدف إقامة النسيج الوطني الواحد يمكن أن تنقلب إلى مصادر للبغضاء والفرقة والتوتر، وحتى للحرب في أكثر صورها دموية، خاصة إذا ما تضافرت مع الأمر عوامل وتدخلات ومصالح خارجية لا تريد بالبلد المعني وأهله الخير.
إن وضعاً جديداً تشكل في العالم ويتشكل في منطقتنا العربية أيضاً، ويمكن أن نتفهم بعض بواعث انبعاث الهويات الفرعية، خاصة في نطاقها الثقافي وفي نطاق المطالبات السياسية المشروعة، لكن هذه البواعث ما لم تعالج بحكمة وتبصر وروية وبُعد نظر يمكن أن تقود إلى مهالك للأوطان مجتمعة ولأهل هذه الهويات أنفسهم، خاصة إذا جرى الركون في هذا السياق على وعود أو تلميحات من الخارج بتبني أو دعم بعض المطالبات.
وهذا القول لا يعفي الدولة القطرية ذاتها من مسؤوليتها الكبرى في إزالة أو احتواء بواعث التذمر أو الشعور بالضيم أو الغبن من قبل ممثلي وأبناء هذه الهويات، بوصف ذلك شرطاً جوهرياً من شروط بناء الدولة الديمقراطية المستجيبة لروح الحداثة والمنفتحة على آفاقها.
صحيفة الايام
8 فبراير 2010
السيارة الصغيرة وأزمة ثقافتنا الاستهلاكية في الخليج
في فرنسا وإيطاليا، وهما دولتان تنتميان إلى أكبر سبعة اقتصادات في العالم، تغلب السيارات الصغيرة الحجم على ما عداها من السيارات التي تزدحم بها شوارع البلدين. وهذا ينطبق على إسبانيا وبعض الدول الأوروبية الأخرى المتقدمة اقتصادياً. في الولايات المتحدة الصورة معكوسة تماماً، إذ من النادر أن يرى المتجول في مدن ولاياتها سيارات صغيرة كتلك الموجودة في أوروبا. فالثقافة الاستهلاكية الأمريكية التي أنشأتها وشكلتها الرأسمالية الأمريكية تنحو نحو الشراهة وبالتالي الضخامة، وهذا ينطبق على السيارات مثلما ينطبق على المأكولات والعمارات والطرقات. ويِنبئنا التاريخ الاقتصادي الأمريكي أن كبر حجم السيارة الأمريكية قد أملته ظروف وملابسات اتفاق سري جرى بين شركات إنتاج السيارات وخصوصاً جنرال موتورز وشركات النفط الأمريكية الكبرى والذي تضمن تضخيم حجم محرك السيارة لاستهلاك كمية أكبر من البنزين. الوضع الآن تغير على مستوى العالم كله، بما يقتضي من كافة الدول العمل على تكييف نفسها مع هذا الوضع الجديد عبر اتباع سياسات مغايرة تماماً لما كان متبعاً حتى وقت قريب وذلك في ضوء الصعود الكبير والحضور الطاغي لما يمكن أن نسميه باقتصاد المناخ أو الاقتصاد الأخضر أو الاقتصاد الصديق للبيئة، في الحياة الدولية، الاقتصادية والسياسية والثقافية. ولذلك فان أكبر دولة في العالم شراهة استهلاكية بل صاحبة ريادتها.. الولايات المتحدة، على موعد مع استحقاق حتمي لتغيير ثقافتها (السيارة الكبيرة الفارهة وسندويتش البيرغر السوبر والمشروب الغازي الكبير الحجم، ووعاء تسالي الفشار وغيرها)، وتحديداً فيما يخص السيارة. فإضافةً إلى تزايد ضغط لوبي الاقتصاد الأخضر هنالك الأزمة المالية والاقتصادية التي عصفت يناير من العام الماضي بشركات صناعة السيارات في ديترويت وخصوصاً منها الشركتين العملاقتين فورد وجنرال موتورز اللتين أوشكتا على الإفلاس العام الماضي لولا تلقيهما إسعافات مالية عاجلة من الحكومة الأمريكية. وعادت الشركتان للسوق بمبيعات جيدة إنما بنماذج سيارات صغيرة غير معهودة للأمريكيين الذين كانوا يعتبرون السيارات الصغيرة بأنها سيارة الفقراء، وذلك تحت ضغط عدة عوامل أبرزها القواعد الصارمة المتصلة بالاقتصاد في الوقود وخفض الانبعاثات من ثاني أكسيد الكربون. وكان الرئيس الأمريكي باراك أوباما أعلن منتصف العام الماضي أن معايير اقتصادية تتعلق باستهلاك الشركات للوقود ستصبح نافذة اعتباراً من عام 2016 عوضاً عن .2020 وبدلاً من اعتراض كبريات الشركات الأمريكية (جنرال موتورز، فورد، وكرايزلر) كما هو معتاد فإنها اضطرت هذه المرة للموافقة على الضوابط الجديدة لقطاع النقل ثمناً لعمليات الإنقاذ المالي التي خصتها بها إدارة أوباما العام الماضي، خصوصاً في ظل المستويات المرتفعة التي بلغتها أسعار النفط وجعلت نموذج السيارات الذي ظل سائداً لحوالي ثمانية عقود، شيئاً من الماضي عملياً. وسيتعين على الأمريكيين تقبل شراء السيارات الصغيرة التي تنتجها شركات السيارات الأمريكية والتي ظلت حتى وقت قريب مخصصة للتصدير فقط إلى الأسواق الأوروبية والآسيوية. ولعل هذا ما يفسر إدراك جنرال موتورز بأن بيع ذراعها الأوروبية أوبل / فوكسهول Opel/Vauxhall كان سيعد، لو كانت نفذته الشركة، خطأً قاتلاً، واحتفاظ فيات بكرايزلر بعد أن كانت فكرت في التخلص منها. وقريباً ستعم السيارات الصغيرة خصوصاً لشركة فورد، الشوارع الأمريكية لتنافس منتجي السيارات الصغيرة في اليابان وأوروبا. ولأن أسعار هذه السيارات أخفض من أسعار السيارات الأمريكية الفارهة، فإن شركات السيارات الأمريكية التي لا تعتزم على ما يبـدو تخفيض أسعار سياراتها الجديدة بما يتناسـب وأحجامها الصـغيرة، تخشى أن لا يُقبل عليها الجمهور الأمريكي (إلا في حال خُفضت أسعارها) ما يضع جدوى الاستمرار في إنتاجها على المحك.
صحيفة الوطن
7 فبراير 2010
المصادر الثلاثة للأمة (1- 2)
إن نمو الدول العربية والإسلامية يؤدي إلى بروزِ خصائصِها التراثيةِ والهيكليةِ الاقتصاديةِ القديمة ولتلاقحِ هذه الخصائص مع المؤثراتِ الخارجيةِ العالمية، التي تعكسُ هي الأخرى تحولاتٍ إنسانية عميقة كونية.
وفي تاريخِها الحديث تصارعتْ المصادرُ الثلاثةُ لتكوينِ حركاتِها الاجتماعية وهي: الليبرالية والماركسية والإسلام، وهي المصادرُ التي ظلتْ متصارعةً ينفي بعضها بعضا، رغم كونها هي مكوناتُ التحولِ النهضوي لتبلورِها وتقدمها كشعوب.
علينا أن نفتحَ قوساً حول مسمى الدين وليس جوهره، فالشعوبُ العربيةُ الإسلامية تضمُ أدياناً أخرى، هي كذلك تدخلُ في مكونات المحتوى الديني بتاريخهِ الضاربِ في التاريخ خاصة الدينين المسيحي واليهودي.
رغم النفي في المراحل التكوينية الحديثة الأولى، وبفضله في مراحل أخرى، فقد كان للمصدرين الفكريين المستوردين الليبرالية والماركسية، دور في إضفاءِ ملامح جديدة على هذه الشعوب وتوجيهها لمساراتِ تقدمٍ كبيرة.
لكن كيف يمكنُ لجسمين فكريين مستوردين أن يلعبا هذين الدورين الخلاقين؟ وما هي الأسباب لهذا النمو ثم للانتكاسة التالية المروعة؟ هل هناك عواملٌ سحريةٌ جعلتْ منهما قوتي تغييرٍ ثم أرجعتهما إلى الخلفية السياسية؟
كيف تنموان في عصرِ التبعيةِ الاستعمارية ثم تخفتان في زمن “الحريات” القومية والوطنية؟ في حين يعكسُ الإسلامُ مسيرةً مختلفة، فهو على العكس منهما محجم في زمنِ تلك التبعية متنام في زمنية الاستقلال؟
كان زمنُ الاستعمار يفتقدُ الآلةَ الاقتصادية الاجتماعية الحكومية الشاملة المهيمنة على المجتمعاتِ العربية والإسلامية، فكانت المجتمعاتُ تبدأ بالنهوض من الصفر عبر تعددٍ للملكيات، وكان الغربُ المسيطر المباشر تفيدهُ عملياتُ نموِها الاقتصادية وتوسيعُ الإنتاجاتِ خاصةً للمواد الزراعية والخامات التي يشتريها بأثمان بخسة، وكانت هذه النهضاتُ التي تجري في العديد من هذه الأقطار بأشكالٍ متفاوتةٍ وبحسب مناطقها ودرجاتِ تطورها، تؤدي إلى ازدهارِ القوى الاجتماعية المختلفة، قياساً للعصر العثماني بطبيعةِ الحال، فكان توسعُ قوى التجار والعمال والمزارعين، وكانت الفيوضُ الاقتصاديةُ تنمي المدن، وتنشئ قوى تحديثيةً تستلهمُ النموذجَ الغربي سلباً أو إيجابا، محاكاة أو نقضا تجاوزيا.
كذلك تنامت الصلاتُ الثقافية بين الدولِ العربية والإسلامية والعالم الحديث، وتجددتْ الأشكالُ الفكريةُ والتعبيرية، وراحت هذه الأشكالُ تستعيدُ علاقاتِها بالواقع وتطرحُ عملياتِ تجديدهِ وتحرره.
كانت الصلاتُ مع الغرب المسيطر مفيدةً من جوانب عديدة، وأشاعتْ بعضَ أجواءِ الغرب نفسه، ونقلتْ بعضاً من ليبراليتهِ وحرياته.
وفي هذه الأجواءِ المشتركة، والتداخلاتِ التعاونية الصراعية، تمكنت الفكرتان الكبريان للعصر الغربي الحديث وهما الماركسية والليبرالية من التوغل في هذه الأقطار والحصول على عقول الكثيرين من المثقفين وبعض العمال مستندتين إلى ركائز اجتماعية ضعيفة لهما، في حين كان الإسلامُ يهجعُ تحت سيطراتِ الأجهزة التقليدية والدول التابعة المُهمشة.
إن النقلَ من الغرب استدعي من قِبلِ القوى الاجتماعية العربية الإسلامية التحديثية المتضادة، تجارا وعمالا، لهم مصالحٌ مختلفةٌ وأوضاعٌ متباينة، وفي أجواءٍ من تفاقمِ الصراعاتِ في الغرب نفسه، بين رأسماليين وعمال، وعبر انفصامِ جزءٍ من الغرب في تجربة تحولية مضادة لبنيتهِ وقيمهِ الفكرية والسياسية، تحت اسم “الاشتراكية” أو الفاشية. وهي الصراعاتُ التي تغلغلتْ في الأقطار العربية كذلك بحكمِ أن البنيةَ الغربيةَ الثقافيةَ الهشةَ التي دخلتْ وكونتْ شعاراتِها وطيوفَها في الأجسامِ العربية، تحركتْ وتمازجتْ مع قوى المثقفين والتجار والعمال العرب، ومع أوضاعِهم ومشكلاتِهم ومستوياتِ تلقيهم لها ولطبيعةِ ممارساتهم داخل المجتمعات العربية.
وهكذا فقد جرى في زمنِ التخاصبِ مع الغربِ الديمقراطي – الاستعماري، تكوين النزعتين الكبريين على درجاتٍ مختلفةٍ بين الأقطار العربية، وكانت الماركسيةُ والليبراليةُ تخضعان بدءًا من الآن لقوانين البُنى الاجتماعية العربية الشرقية، أكثر من الأصول التي أنجبتهما، وبالتالي فقد كانت تلك البُنى التقليدية تستعيدُ تكويناتها الاقتصادية – السياسية الماضوية، وتخضع تلك الشريحة الثقافية السياسية المستوردة لقوانين هذه البنى الاجتماعية المتجهة للاستقلال عن المركز الغربي.
إن النزعتين الليبرالية والماركسية العربيتين، حيث قدمتا من تلك المصادر لم تقطعا الوشائج كثيراً بتلك المصادر لأسبابٍ كثيرة، كما أنهما تصارعتا مضعفةً كلُ واحدةٍ منهما الأخرى، وهذا اعتمد على طبيعة النقل وجذوره المحلية وأدواته المعرفية الضعيفة.
إن الشحوب المتواصل لليبراليات العربية في ذلك التاريخ المتنامي استقلالاً وحركاتٍ شموليةً، سيصلُ إلى ذروتهِ فيما بعد حين تصلُ الليبراليةُ العربيةُ إلى ما يشبه الموت، وهذا سيجري في سياقاتِ هذه الأقطار كلاً على حدة، وعبر التداخل المفيد أو المضر.
إن الاستعمارَ والقوى الاستقلالية العربية الحكومية ونشوء “الاشتراكية” العالمية كنظام، كلها لعبتْ أدوارَها المختلفةَ المشتركةَ في إجهاضِ الليبرالية، وتصعيد القوى الفكرية والسياسية الشمولية من ماركسية ومذاهب دينية في ذلك الوقت بشكل متفاوت.
وفيما كانت الليبراليةُ والماركسيةُ تنموان في البداية على وعي ديمقراطي، أخذتْ الماركسيةُ تحتلُ المشهدَ التحديثي العربي وتزيحُ الليبراليةَ، وراحتْ القوى السياسيةُ والاجتماعيةُ في أغلبِ الشرق تنشىءُ دولَها الرأسماليةَ الحكومية، أي نماذج متعددة من رأسمالية الدولة، وهنا يحدثُ اللقاءُ بين المعسكرِ الاشتراكي والدول العربية المستقلة عبر تصعيدِ نموذجِ رأسماليةِ الدولة وتصعيد نموذج الدولة الشمولية.
إن احتلالَ الماركسية للمشهدِ السياسي المعبرِ عن الطبقاتِ العاملة العربية الإسلامية، كان يأتي من خلالِ الانزياحِ عن الثقافةِ الليبراليةِ سواءً كانت في مصادرِها الأصليةِ في دولِ الغرب أم كانت من خلالِ تأثيراتِها التي تكونتْ في الدول العربية، وبسببِ عجزِ الليبرالية عن تصعيد التنمية بسرعةٍ كبيرة ومواجهة التدخلات الأجنبية.
ولا نقصد هنا التأثيرات العابرة واللقاءات السياسية التكتيكية، كما سنرى لاحقاً من سيرةِ القائدِ الماركسي العربي خالد بكداش، بل نقصدُ عمليةَ التلاقحِ العميقةِ المفقودةِ بين الماركسية والليبرالية العربيتين، التي تتولدُ على إثرِها موجاتٌ من المعارفِ والنضالاتِ المشتركة.
فقد كان نموذجُ رأسمالية الدولة يصعدُ بقوةٍ عالميا تحت مُسمى الاشتراكية، وكان غيابُ الليبراليةِ الديمقراطية داخلهِ وغيابُ الحريات، يجعلانه رافضاً لأجسامِها السياسيةِ الغربية وتطبيقاتها وأطيافِها في بقية العالم. كان هذا تعبيراً عن عملقة البيروقراطية والتسريع الاقتصادي والنظرة الفكرية والواحدية المبنية على تلك الضخامة غير العقلانية لرأسمالية الدولة، ومن هنا حدوث التلاقي بين الشموليتين الروسية والعربية التقدميتين.
هذا الانفكاكُ العالمي بين الماركسيةِ والليبرالية لا يمنع من اللقاءات التكتيكية في ذلك الحين، فقد ظهرتْ نسخةٌ متوحشةٌ من الرأسمالية هي الفاشية، مهددة كلاً من الفكرتين الكبريين العالميتين، لكن على الرغم من التعاون الخلاق بينهما وتحطيم الوحش الضاري، فإن التعاون الحقيقي لم يحدث، وكان هذا التعاون ينتظر زمنية نشوء القطاع الخاص في رأسمالية الدول الشرقية لاحقاً، حين يتبين سراب الاشتراكية داخل رأسمالية الدولة الشمولية.
صحيفة اخبار الخليج
7 فبراير 2010
الرؤية غير واضحة عند البعض!
تصادفنا كل مرة غرائب الطباع، ومسالك عجيبة لا نجد لها تفسيرا في منطقة العقل. ففي الوقت الذي تتحرك عجلة التنمية في اتجاه البحث عن مشاريع واستثمارات خارجية، وتنفيذ مشاريع داخلية تنشّط عملية التنمية، بكل اتساعها الوظيفي والمالي، ومن ثم تطويرها بحيث تخدم الناس وتحسن أوضاعهم المعيشية، مهما كان حجم وطبيعة المشروع الاستثماري، حتى وان كان صغره سيوظف لنا عمالة بحرينية تنتظر عند بوابات وزارة العمل. إن الرؤية الاقتصادية تنتهي عند حدود عام 2030، ولكنها انطلقت منذ ولادتها في فهم رجال الساسة والاقتصاد والمال لأهميتها وتفعيلها، بشكل ينسجم مع الأماني والأهداف المنشودة في تلك الرؤى، طالما أن الهدف من كل تنمية هو الإنسان والوطن. من ينظر إلى مشروع منتزه دوحة عراد مجرد كونه مكانا للتنزه فهو صائب، ولكنه يخطأ إن اغفل أن تلك المشاريع الاجتماعية تنشّط حراكا آخر في الحياة الداخلية، فالمنتزهات مجتمع استهلاكي في نهاية المطاف، ويجذب معه وحوله مشاريع صغيرة مثلما يجذب سياحا من دول الجوار بعائلاتهم، وليس فقط سكان الدائرة الضيقة من عراد أو المحرق، فكلما نشطت المنتزهات بفاعلية عدة برزت حيوية الاقتصاد والمجتمع وعلاقاته بكل منظومتها المتداخلة، فليس في النهاية المنتزه مضمار للركض والمشي وحده. ومع ذلك يقفز لنا على خشبة الحياة صنف من الناس يرى في تلك المشاريع الإنسانية أولا والاجتماعية ثانيا والتنموية ثالثا، نوعا من اللهو والفجور أحيانا طالما ان الموسيقى ستترافق مع إيقاع مشي الناس وفرحهم. هؤلاء هم نفسهم الذين يتذرعون بحجج واهية ضد الموسيقى يعكسونها في عدائهم ورفضهم لإقامة مجمع تجاري في المحرق أو حتى غيرها، اليوم أو غدا، فهم يرون في مفردة الشريعة ملاذهم وقناعهم الجديد، وفي الأخلاق حجتهم المعادية لفكرة الفرح والاختلاط والتزاحم حسب مخيلتهم ووهمهم. وعندما يتم مناقشتهم إزاء رفضهم للمشاريع كالمجمع التجاري، تصبح مرة أخرى الإجابة ذاتها هو الشريعة الإسلامية!! مما يعني أن الشريعة هنا ليست محرقية أو مكانية، وإنما علينا أن ننسف تلك المجمعات التي شيدت وتشاد في البلاد ة نتيجة عملية الازدهار المستمر في اقتصادها وتنميتها. وطالما إن المشروع التجاري حرام بمنطق هؤلاء، فإننا بالضرورة علينا أن نحترم ديمقراطية الدائرة الانتخابية سكانيا وليس كما ينوي أو يرغب مجموعة من الناس، نجحت في تغرير بعض الأصوات برفع احتجاجها ضد اقتصادها الوطني، دون أن تدرك معنى وفلسفة الرؤية الاقتصادية البعيدة وغير المنظورة، إلا في ذهنهم لبعض الأنشطة الاقتصادية، والتي مرهونة بمنطق الحلال والحرام وماذا تقبله الشريعة وماذا ترفضه من وجهة نظر “شريعتهم” وليس الشريعة الرسمية للبلاد. وإذا ما كانت هناك “شرائع مناطقية!” فإننا سنجد أنفسنا محاصرين بذهنية هيمنة السواد الأعظم والأغلبية، حتى وان كان ذلك قمعا حقيقيا للاقتصاد والتنمية وللأقلية المحرومة من كل امتياز لمجرد أنهم باتوا أقلية. هذا القمع الجديد لمفهوم خاطئ لديمقراطية ناشئة يدفع بكل صنف من الناس، أقلية كانوا أو أكثرية، ممارسة أنماط القهر الاجتماعي على الناس وعلى بعضهم، ليس في بلدهم وحسب بل وفي محيطهم السكني الضيق. من يحاول باستمرار اجتثاث أو وأد مشاريع تنموية جديدة من الحجم الصغير أو المتوسط والكبير، عليهم إعادة قراءة الرؤية من زواياها المتكاملة، واستيعاب معنى إن ازدهار التنمية وتنشيط السوق الداخلية بشبكة من التسهيلات والاستثمارات الاقتصادية والخدماتية ومعنى توفير المستلزمات الضرورية للسكان وتفعيل حياتهم اليومية في مثل تلك الأنشطة الاقتصادية (المجمعات التجارية نموذجا). ويأتي اعتراضهم على الموضوع لبعد آخر هو خشيتهم من اللهو (وفق منطقهم) وتزاحم الناس (وفق منطقهم) فان مشروعهم في عزل المجتمع وتنقيب سلوكه الاجتماعي (وفق منطقهم) فهل هؤلاء المرعوبون من الاختلاط هم نفسهم المرعبون من المنتزهات والمجمعات كلها وليس في منطقة المحرق؟؟، والذين يخشون التحولات دون أن يمتلكوا شجاعة قولها ويهابون أن تمضي الأيام ليس لصالحهم “وسيادتهم المطلقة”، حيث كانوا قبل عشر سنوات من عمر الإصلاح يفتكون بكل من يفتح فمه معارضا ويضعون صناديقهم بالقوة حتى في عيادتك ويفرضونها في كل مجمع وبقالة ومكان تصله أقدام الناس، بعد أن دبغوها بدمغة “الصناديق الخيرية” وصيغ ملتوية كثيرة. هذا الخط التنازلي المستمر لسطوة التزمت تفسد عليهم اللعبة مثلما هم افسدوا على الناس دائما تحررهم الاجتماعي من قيودهم حتى في حق الاستماع للموسيقى واحتساء قهوة في مجمع تجاري في المناطق السكنية. فهل لمثل هؤلاء الناس فعلا رؤية واضحة للرؤية؟! اعتقد أنهم يحتاجون لرؤية جديدة للواقع تختلف عن رؤية هلال رمضان المختلفين حولها دائما فما بالكم الاختلاف على المنتزهات والمجمعات التجارية؟!
صحيفة الايام
7 فبراير 2010
الخصخصة.. هل هي قدرنا المحتوم؟!
عبثا نحاول جاهدين أن نفهم مغزى ذلك الاندفاع المحموم وغير المبرر نحو تخصيص قطاعاتنا الاقتصادية والصناعية المنتجة واحدا تلو الآخر من دون أن نعطي لأنفسنا ولو فرصة لمجرد التقاط الأنفاس، ومن دون أن نظهر أي نوع من المراجعة أو حتى التقييم لما تم من برامج تخصيص حتى الآن، لتصبح دعوات التخصيص نهجا وأسلوب حياة لا رجعة عنه، ودون أي مسوغ موضوعي أحيانا كثيرة، بل أن السمة الرئيسة لتوجهات الخصخصة لدينا، تكاد تخبرنا أن كل ما يمكن أن تقترحه الشركات الاستشارية الأجنبية في هذا السياق من مقترحات أصبح محل ترحيب دون أدنى مراجعات مطلوبة، خاصة إذا علمنا أن هناك مشاريع ظلت على الدوام ناجحة الأهداف والموارد، لكنها ربما تحتاج مع مرور الزمن إلى إعادة هيكلة أو حتى تخصيص إداراتها وليس أصولها بالضرورة.
من باب المسئولية الوطنية يجب أن توضع كافة الطاقات والإمكانات والخبرات الوطنية تحت تصرف مشاريع الإصلاح الاقتصادي، كإصلاح قطاع التعليم وقطاعات الصحة والاتصالات والموانئ وغيرها، فهي في المحصلة محفزات لابد منها لتنويع مواردنا الوطنية وعدم الاعتماد على النفط إلى ما لا نهاية، فذلك خيارنا نحو المستقبل، ولكن لنتفق قبل ذلك كله، حول ضرورة أن يكون ذلك على قاعدة برنامج إصلاح اقتصادي وطني مدروس بعناية، وبما ينسجم مع أسس وأهداف رؤيتنا الاقتصادية الوطنية 2030 من حيث العدالة والتنافسية والاستدامة، حتى لا نقع في المحظور حيث لا ينفع الندم حينها.
ويكفينا القول أن التوجهات العالمية لمشاريع الخصخصة كانت قد ابتدعتها حكومة رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجريت تاتشر وتبعها لاحقا الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان مستفيدين مما وفرته أجواء انتهاء الحرب الباردة بعد السقوط المدوي للاتحاد السوفيتي السابق، وتلاشي الثنائية القطبية لمصلحة نظام القطب الواحد، تلك السياسات وما خلفته وراءها من خراب اقتصادي واجتماعي هي الآن قيد النقد والمراجعة في كامل أنحاء المعمورة ولدى اقتصاديات قوية ومزدهرة أيضا، فلماذا تُدفع اقتصادياتنا الوطنية إذا للدخول متأخرة إليها دون أدنى مراجعة أو تريث، ودون أن نحدد ماذا تريد دولنا بالضبط من الأخذ بهذا النهج، وهل يكفي الاستناد إلى مبررات من قبيل تقليص تدخل الدولة في النشاط الإقتصادي وإعطاء الدور للقطاع الخاص، والاكتفاء بجعل الدولة منظما، وللعلم فان وجوه الخصخصة لا تقتصر فقط على نقل ملكية وإدارة مؤسسات الدولة وأصولها للقطاع الخاص، أو حتى بيعها أو تأجيرها أو مبادلتها بمديونيات عامة تثقل من كاهل هذه الدولة أو تلك، بل أن هناك أكثر من صيغة وأسلوب، ربما بشيء من المراجعة نستطيع أن نلجأ إليه مستندين إلى تجارب من سبقونا دون استنساخ لتجارب قد يكون بعضها ناجحا في دول بعينها، لكنها ليست بالضرورة نافعة لاقتصادنا بما يمتلك من مقومات وإمكانات هي في الحكم العام مختلفة في مقاييسها مقارنة عما لدى الآخرين من بدائل وقدرات! كذلك الحال مع القضاء على الاحتكار، وهو احد الأهداف المنشودة للخصخصة وهو مطلب اقتصادي رسمي وشعبي لا غبار عليه، شأنه شأن زيادة معدلات النمو وتحقيق الاستقرار الاقتصادي والقضاء على البيروقراطية الحكومية، والتخفيف من أعباء الدولة، وتحقيق كفاءة في الأداء العام لمؤسسات نعلم جيدا أنها لن تكون ملكا لنا بعد أن نستكمل بيعها لمن يستطيع أن يدفع، وهنا لا نريد التقليل من قدرة قطاعنا الخاص الذي هو بالفعل غير مهيأ بعد للقيام بمهمة إدارة تلك المشاريع الضخمة المعلن وغير المعلن عن تخصيصها ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر قطاعي الاولومنيوم والغاز والنفط وهذا الأخير يشكل ما يزيد على 85% من دخلنا الوطني! مما يعني تقديم أصولنا ومواردنا لتلك الشركات العابرة للقارات للهيمنة على اقتصادنا، مستفيدة مما توافر من فراغ في التشريعات، ونعني به تحديدا قانون التخصيص الذي بات يحتاج إلى إعادة نظر سريعة قبل فوات الأوان، ومن ضغوطات دولية اقتصادية ومالية على دولنا النامية، وذلك في مجمله يمكن مقارنته بحجم الفقد المتوقع في الأصول العامة وزيادة حجم البطالة ومؤشرات الفقر المتوقعة وتراجع الطبقة لوسطى، والإضرار بشبكة الأمان الاجتماعي، وضرب لنظام التقاعد والتأمينات، حيث قطعت الدولة أشواطا محمودة في ذلك، وحتى لا نكتشف متأخرين حجم التعارض بين كل ذلك وما تطرحه رؤيتنا الاقتصادية الوطنية.
نقول ذلك ونحن نرقب بخوف ما يجري الحديث عنه من مشاريع لتخصيص موارد أساسية في بنية اقتصادنا الوطني هي النفط والغاز والالومنيوم ومستقبلا التعليم والصحة وربما حتى ما تبقى من الثروة البحرية! ومصدر خوفنا يكمن في ما يستوجبه ذلك التوجه من تداعيات اقتصادية واجتماعية وأمنية وسياسية محتملة.