وجد الزعماء الإصلاحيون الإيرانيون أنفسهم عبر مواقعهم المختلفة وأثناء الحراك السياسي الملتهبِ في وحدة ليست راسخة وقوية، ومع هذا فإنهم يقودون حراكا جماهيريا كبيرا ذا طابع ملحمي.
كلهم أبناء النظام الجمهوري الديني القومي الفارسي، الذي هو تتويجٌ لتطور هذه الأمةِ الكبيرة نحو التحديث، وإدماجها لقوميات أخرى، تخضع لمسيرتها.
وبهذا فإن وحدة القوى السياسية للقوميةِ المركزيةِ مسألة ذات أهمية كبيرة، وهي تعني ان التغييرات التي تتم بها لن تكون على حساب سيطرتها على الأمم الأخرى، وهي سيطرةٌ تتمُ بوسائل غير ديمقراطية، ومن هنا فإن سيطرةَ الطبقةِ الحاكمة على الأمةِ الفارسيةِ نفسِها تتمُ بوسائل غير ديمقراطية.
ولهذا فإن ظهورَ الزعماءِ الإصلاحيين الحاليين يجيءُ من داخل الطبقة الحاكمة، التي أقصتْ أيَ رؤى من خارجِها عبر السنوات الثلاثين الأخيرة، وهي استمراريةٌ إقصائيةٌ لنظام الشاه السابق، مما يعبرُ عن هواجسِ خوفٍ عميقةٍ لدى هذه الأمة من التمزق والذوبان في الأمم الأخرى، وهو أمرٌ له الآلاف من السنين، فتبلورُ هذه الأمةِ بين العصر الوسيط والعصر الحديث فقط اقتضى إلغاء السيطرات العربية والمغولية والروسية والتركية والإنجليزية والأمريكية، مع كل ما عنى هذا الإلغاء من ثوراتٍ وحروبٍ ونضال سري وتقيات وحوارات ونمو ثقافي عبر الغزاة وضدهم.
ويلعبُ المذهبُ الاثنا عشري دورا مهما في بلورةِ هذه القومية، وفي جعلها متماسكةً بصلابةٍ من الداخل، وبرفضِ أي تأثيرٍ تفكيكي لها، وبإذابة القومياتِ المختلفةِ لغةً المتوحدةِ مذهباً في كيانها هذا.
ولكن هذا التوحدَ المتصلبَ للقوميةِ الفارسية الذي تبلورَ في كيانٍ سياسي شمولي عسكري صار مُهدداً لمصير هذه الأمة نفسها، لما يسببهُ من مخاطر كارثية على إنجازاتها التي حققتها خلال العقود السابقة، وعلى وجودها البشري المحض، حيث لم تعد المخاطر العسكرية المتصاعدة تغدو احتلالاً بل فناءً.
من هنا فإن زعماءَ الإصلاح انبثقوا من الطبقة الحاكمة نفسها، عبر صراعاتِها المختلفة، حيث قامت بتصعيد القوى العسكرية – الدينية صاحبة لغة المجابهة المناطقية والعالمية، وتنحية الأصوات السلمية والليبرالية الخافتة، فكلُ الأصوات الديمقراطية والعلمانية والليبرالية منذ بدءِ الثورةِ تمت تنحيتها بأساليب مختلفة، وكان هذا تعبيراً عن العودة إلى الذات القومية المتصلبة، ولجمودِ الهياكل الاقتصادية للطبقة الحاكمة، ولرفضِ عتق القوميات الأخرى، ثم التمدد على الجيران، وهو يعني سياسيا تصاعد الدكتاتورية بكل احتمالاتِها الخطرة.
وكانت التنحيةُ الأخيرة للمعتدلين داخل الطبقة الحاكمة نفسها ذروةَ التصلبِ القومي، وعدم القدرة على المرونة السياسية وعلى عدم قبولِ التعددية داخل صفوفها.
لم يطرح زعماءُ الإصلاح أي هدف جذري في هذا الحراك الشعبي، مركزين في تغيير نتائج الانتخابات المزيفة في اعتقادهم، مما يؤكد رغبتهم القوية في الحفاظ على النظام السائد.
لم يعرفوا ماذا يريدون بالضبط، تائهين في الأدلجة الدينية، وكان الهدفُ بسيطاً وهو صعودُ القطاع الخاص بما يناسبهُ من حرياتٍ وتعدديةٍ وانفتاح على العالم.
إن أزماتِ الرأسمالياتِ الشمولية الشرقية تحدثُ بسببِ تضخمِ القطاع “العام” وبأشكالٍ شموليةٍ مفيدةٍ في البداية، مضرةٍ مع تعقد التطور الاقتصادي وعدم المرونة والتعاون بين القطاعين، فلم يعملوا على توسيع القطاع الخاص، وكان موسوي أكبر الحالمين بذلك، عبر مقولات “اليسار الإسلامي”.
ثم بعد أن تنامت العمليةُ الصراعيةُ لم يعتبرْ زعماءُ الإصلاح أن السيد خامنئي هو مفتاحُ حلِ الأزمةِ، عبر التقرب إليه، وطرح التجديدات المنتظرة عليه، بل تركوه للقوى العسكرية تلتفُ حوله، لقد اعتبروه مجردَ ظلٍ باهت للخميني، وليس شخصيةً قيادية مركزية في النظام، وإذا كان الساداتُ قد تحلل من ميراثِ عبدالناصر بشكلٍ فوضوي ليبرالي، فإن السيدَ خامنئي رفضَ ذلك، وقادَ إلى “تصعيد” مبدأ ولاية الفقيه ومجابهة القوى الغربية الاستعمارية ورفع مبدأ الولاية إلى المستويين الإيراني والمناطقي، ومسخها نجادُ حتى الكونية، وكان زعيمُ الإصلاحيين موسوي معتزلاً مدة خمسة عشر عاما، لم يقل ولم يكتب شيئا علنيا، وكان خاتمي مهتما بالمسائل الثقافية المجردة، ورفسنجاني يناضل في دهاليز الدولة متصوراً انه قادر على العودة للمسار الليبرالي، أما كروبي فلم أعرفْ موقعَهُ بالضبط.
لم يوجد حل وسط، وربما يتشكل في مخاض الثورة الخضراء الراهنة، وأن تظهر قوى سياسية وعسكرية تؤيد البديل “الصيني” لموسوي، وهو بديل مختلف عن الأساس “الروسي” الذي اعتمده في مرحلة قيادته للوزراء سابقاً، أما الهدم الكامل الذي يقترحه مجاهدو خلق فهو خيار مغامر كخياراتهم عادة.
صحيفة اخبار الخليج
13 فبراير 2010